لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

يوثر العديد من الدّارسين في مقارباتهم النّقديّة للنّصوص السّرديّة إلى تبنّي مصطلح “الفضاء” بدل مصطلح المكان، انطلاقا من تصوّر مُفاده أنّ مفهوم الفضاء في الرّواية أوسع من مفهوم المكان وأشمل. إذ يمثّل الفضاء مجموع الأمكنة التي تسهم في تنامي الحركة الرّوائيّة، وفي ديناميّة مسار الحكي بأكمله سواء ما تمّ تصويره ونقله مباشرة أو ما تمّ تمثّله بطريقة ضمنيّة مع كلّ حركة حكائيّة. والذي يمكن إدراكه من دون شرط تتبّع المسار الزّمنيّ. إنّ الفضاء الرّوائيّ في حدّ ذاته لا يعدو أن يكون مجموعة من العلاقات المتواشجة الموجودة بين الأماكن والمحيط ومختلف عناصر الدّيكور التي تجري ضمنها أحداث النّصّ الإبداعيّ وما تقوم به الشّخصيات كالتّردّد على أماكن معيّنة أو عن طريق التّنقل والاسترجاع. أمّا المكان فهو جزئيّ لكنّه لا ينفصل عن بنية الفضاء. لذلك عمد المنظّرون الألمان في السّرديّات إلى التّمييز بين مفهومين متعارضين للمكان في الرواية؛ الذي تضبطه مجموعة من الإشارات الإجرائيّة كالمقاسات والأعداد. أما النّمط الثاني فهو ما أطلقوا عليه “الفضاء الدّلاليّ” الذي يتم إدراكه من خلال الأحداث والحالة النّفسيّة والعاطفيّة للشّخصيّات في الرّواية. إنّ الأمكنة والشّخصيّات في الرّواية، كما يذهب إلى ذلك ثلّة من النّقّاد السّرديّين ليست هي ذاتها الأمكنة القائمة في الواقع، وخاصّة عندما يوظّف الرّوائيّ أسماء مدن و شوارع، ممّا يجعل تواتر الأمكنة في الرّواية يخلق فضاء شبيها بالفضاء الواقعيّ، وهذا يعمل على إدماج الحكي في نطاق المُحتمل والممكن. ولعلّ الأعمال الرّوائية التّأسيسيّة لنجيب محفوظ أوضح مثال على هذا التّداخل بين الواقعيّ والمتخيّل في درجاته القصوى. إلا أنّ هذا الإيهام لا ينفي اعتبار الفضاء مكوّنا حكائيّا هامّا من مكوّنات البناء الرّوائيّ مثله مثل العناصر الأخرى (الأحداث، سواء في الواقع أو من خلال وسائط وإرشادات كما في العرض المسرحيّ والسّينمائيّ. فإنّه لا يتأتّى إلاّ من خلال الألفاظ والكلمات المطبوعة في الكتاب، . عموما إذا كان عالم الأشياء في “الواقع” هو عالم الصّور الملموسة، فإنّ نقل تلك الصّور أو بعضها إلى عمل إبداعيّ سيجعلها شيئا مغايرا تماما عن الأصل. أو على الأقلّ إضافة شيء أو تعديل إلى/في ما هو موجود في الواقع بالفعل. والرّواية في أدنى مستوياتها فنّ ـ مثل الفنون الأخرى أي أنّها شكل من أشكال الإبداع والتّخييل. بل هو إنتاج وابتكار في الوقت نفسه. فقد تستعير الرّواية من الحياة لكنّها تحوّل ما تستعيره إلى شيء مغاير عن صورته ووجوده الأصليّين. ومن خلال وعي فردي ّ(أو جماعيّ) يخصّه دون غيره. وصياغة أسلوبيّة يتميّز به عمّا سواه. فكلّ عمل هو نتاج أصيل وميلاد أنطولوجي مغاير في عالم الخطاب. والأهمّ في كل ذلك أنّ الرّوائيّ إذا ما نقل شيئا عن الواقع والوجود الخارجيّ، فإنه ينقله بوساطة رمزية ألا وهي اللّغة ولا يتاح للكلمة في أيّ حال أن تكون بديلا عن الواقع، ومن ثمة سيحرص القارئ على تمثّل الفضاء الرّوائيّ المتخيّل تمثّلا ذهنيّا، ومن خلال ما يوفّره له هذا الأخير من معلومات فحسب، للتأكّد من أسماء الشّوارع والأحياء، كما أنه ليس بحاجة للتأكّد من هويّة الشّخصيّة في الرّواية، سواء وُجد من يشبه تلك الشّخصية أم لم يوجد. ولهذا تظل الرواية بكل أبنيتها ومستوياتها الخطابية إبداعا وتخييلا، لا يمكن إسقاطها على العالم الواقعيّ. وهكذا لكي نتمثّل بعض خصوصيّات الفضاء المتخيّل وحدود علاقته بالعالم الخارجيّ الذي يسعى الكاتب إلى نقله وترجمته، سنعمد إلى مقاربته في رواية “فرانكشتاين في بغداد”، 2- تخييليّة الأماكن المغلقة: يمثل المكان المغلق “غالبا الحيّز الذي يحوي حدودا مكانيّة تعزله عن العالم الخارجيّ، ويكون محيطه ضيّقا بكثير بالنّسبة إلى ا المكان المفتوح، فقد تكون الأماكن الضّيّقة مرفوضة لأنّها صعبة الولوج، وقد تكون مطلوبة لأنّها تحتلّ الملجأ أو الحماية التي يأوي إليها الإنسان”[1]. وقد تضمنت رواية أحمد سعداوي عدّة أماكن مُتخيّلة أسبغت طابع التّخييل على النّصّ الرّوائيّ أوّلا وعلى الأحداث ثانيا. 2- 1- الخرابة اليهوديّة : فهي متصدّعة ومهدّمة. فأغلب ما فيه مهدّم، وليس هناك سوى غرفة في العمق ذات سقف متصدّع حوّلها هادي العتّاك مع زميل له اسمه ناهم عبدكي قبل ثلاث سنوات تقريبا إلى مقرّ لهما”[3]. ويضيف قائلا: “بعد الاحتلال وشيوع الفوضى، شاهد الجميع كيف عمل هادي وناهم على إعادة ترميم “الخرابة اليهوديّة” كما كانت تسمّى، لا شمعدانات ولا نجمات سداسيّة و لا حروف عبريّة”[4]. حرص هادي على ترميم الغرفة لتصبح صالحة للسكن:” أعاد هادي بناء السّياج الخارجيّ للبيت من ذات المواد الموجودة، أزاح الأحجار عن الحوش ورمم الغرفة السّليمة الوحيدة وترك الجدران النصفيّة و السّقوف المتهاوية الباقية للغرفة على حالها…”[5]. لكي يجمعها في بيته ويخيطها فيما بعد “دخل إلى سقيفة خشبيّة صنعها من بقايا الأثاث والقضبان الحديديّة والكناتير المخلعة (…) قرفص هادي عند طرف منها. كانت المساحة المتبقّية مشغولة بشكل كامل بجثة عظيمة، بقع صغيرة من دم يابس على الذراعين والسّاقين، (…) تقدم هادي أكثر داخل الحيز الضيق حول الجثة، كان موضع الأنف مشوّها (…) فتح هادي الكيس الجنفاصيّ المطويّ عدّة طيّات، آه. كان المكان الذي يعيش فيه هادي مخيفا ومرعبا، وعناصر هذا القياس ـ كما يبدو لنا ـ تتمثل في: المقدّمة الكبرى): باتت أعضاء الضحايا متلاشية ومهملة في الشّوارع العراقيّة. المقدّمة الصّغرى): العتاك يجمع كلّ المهملات والمتلاشيات من الأغراض والأعضاء البشريّة. الاستنتاج): الأعضاء البشريّة المتلاشية = الأغراض المهملة. وهكذا فبعد أن كانت غرفة هادي العتاك قبل أن يرممها و يقطن بها مجرّد خرابة متصدّعة مهدّمة، ستعود إلى هذه الحال مرة أخرى لتكون نهايتها دائريّة؛ وقد نُقل على إثره العديد من السّكّان إلى المستشفى لإصابتهم بجروح بليغة وتهدّمت العديد من منازل أهل الحيّ ومنها غرفة هادي العتاك. إنّ هذه النّهاية المأساويّة التي آل إليها “حيّ البتاويين” تقوم في تشكيلها التّصويريّ على (الاستراتيجيّة التّلميحيّة) التي تُعدّ من الاستراتيجيّات الإقناعيّة التي يعمد إليها المتكلّم إيمانا منه بأن العناصر الإيحائيّة/المجازيّة تسعف ـ بل وأكثر من اللّغة العادية ـ في اطّلاع المتلقّي على وجهة نظر محدّدة، عبر الانفجار الذي رجّ حي البتاويين، 2-2- دائرة المتابعة والتّعقيب: وهي عبارة عن وحدة معلومات خاصّة مرتبطة جزئيّا بالإدارة المدنيّة لقوات الائتلاف الدّوليّ في العراق تتمثّل مهمّتها في متابعة كلّ الجرائم التي تحصل في العراق ومتابعة الأساطير والخرافات التي تنشأ حول حوادث معيّنة من أجل الوصول إلى أحداث القصّة الواقعيّة. لقد قام مديرها بتوظيف العديد من المنجّمين وقارئي الطّالع والسّحرة والمشعوذين من أجل توقّع التّفجيرات قبل وقوعها والقبض على المجرمين، وقدّموا خدمة كبيرة بهذا المجال خلال السّنتين الماضيتين، وهم يقومون بذلك كلّه من خلف غطاء. ولا تتمّ الإشارة أبدا إلى دائرة المتابعة والتّعقيب حفاظا على سرّيتها وأمن العاملين فيها”[11]. نلمس في الجانب الحكومي خيالا فانتازيّا ساخرا. وتحديد مكان القاتل والمجرم؛ صراع يدور بين المنجّم الأكبر والمنجّم الأصغر، وفتح تحقيقا في الموضوع. وتبيّن له أنّ الانتحاريّ سائق سيّارة الأوبل البيضاء كان ينوي في الأصل التّوجه إلى كلّية الشّرطة لتفجير نفسه داخل حشد من الضّبّاط الجدد، وأنّ هناك ما غيّر تفكيره وقراره وجعله يدلف إلى أزقة البتاويين. ساد هرج وتبادل اتّهامات بين المنجّمين (…) لا يوجد احترام كاف للعميد سرور مدير الدّائرة وتجاهلوا وجوده وهم يتبادلون الشّتائم (والاتّهامات) “[12]. وممّا يؤكّد ذلك قول السّارد “عند منتصف اللّيل انتهت عمليّة البحث والتّطويق،


النص الأصلي

يوثر العديد من الدّارسين في مقارباتهم النّقديّة للنّصوص السّرديّة إلى تبنّي مصطلح “الفضاء” بدل مصطلح المكان، انطلاقا من تصوّر مُفاده أنّ مفهوم الفضاء في الرّواية أوسع من مفهوم المكان وأشمل. إذ يمثّل الفضاء مجموع الأمكنة التي تسهم في تنامي الحركة الرّوائيّة، وفي ديناميّة مسار الحكي بأكمله سواء ما تمّ تصويره ونقله مباشرة أو ما تمّ تمثّله بطريقة ضمنيّة مع كلّ حركة حكائيّة. لذلك فإنّ بناء الفضاء في الرّواية محكوم بتتابع الأحداث في حدّ ذاتها. ومن ثمّ تتبّع سيرورة الخطّ الزّمنيّ للقصّة، على عكس المكان المحدّد، والذي يمكن إدراكه من دون شرط تتبّع المسار الزّمنيّ.


إنّ الفضاء الرّوائيّ في حدّ ذاته لا يعدو أن يكون مجموعة من العلاقات المتواشجة الموجودة بين الأماكن والمحيط ومختلف عناصر الدّيكور التي تجري ضمنها أحداث النّصّ الإبداعيّ وما تقوم به الشّخصيات كالتّردّد على أماكن معيّنة أو عن طريق التّنقل والاسترجاع. فيصبح مفهوم الفضاء وفق هذا التّحديد بانوراميّا يغطّي الرّواية بأكملها. أمّا المكان فهو جزئيّ لكنّه لا ينفصل عن بنية الفضاء. لذلك عمد المنظّرون الألمان في السّرديّات إلى التّمييز بين مفهومين متعارضين للمكان في الرواية؛ يتمثل النّمط الأوّل في ما أسموه بـ”المكان الجغرافيّ المحدّد”، الذي تضبطه مجموعة من الإشارات الإجرائيّة كالمقاسات والأعداد. أما النّمط الثاني فهو ما أطلقوا عليه “الفضاء الدّلاليّ” الذي يتم إدراكه من خلال الأحداث والحالة النّفسيّة والعاطفيّة للشّخصيّات في الرّواية. إنّ الأمكنة والشّخصيّات في الرّواية، كما يذهب إلى ذلك ثلّة من النّقّاد السّرديّين ليست هي ذاتها الأمكنة القائمة في الواقع، حتّى وإن كانت كذلك، فللفضاء الرّوائي سمات مائزة تؤكّد عجزه على محاكاة الواقع وإن كان يشبهه أحيانا، وخاصّة عندما يوظّف الرّوائيّ أسماء مدن و شوارع، وحتّى أسماء أزقّة موجودة بالفعل في الواقع، ممّا يجعل تواتر الأمكنة في الرّواية يخلق فضاء شبيها بالفضاء الواقعيّ، وهذا يعمل على إدماج الحكي في نطاق المُحتمل والممكن.


ولعلّ الأعمال الرّوائية التّأسيسيّة لنجيب محفوظ أوضح مثال على هذا التّداخل بين الواقعيّ والمتخيّل في درجاته القصوى. إلا أنّ هذا الإيهام لا ينفي اعتبار الفضاء مكوّنا حكائيّا هامّا من مكوّنات البناء الرّوائيّ مثله مثل العناصر الأخرى (الأحداث، الشّخصيّات الزّمان، الوصف، السّرد، الحوار…). فالفضاء السّردي المتخيّل، هو قبل كلّ شيء، فضاء لفظيّ (Espace Verbal) يختلف عن الفضاءات التي يمكن إدراكها بالبصر، سواء في الواقع أو من خلال وسائط وإرشادات كما في العرض المسرحيّ والسّينمائيّ. ففي مثل هذا العرض سواء المقدَّم عبر الرّكح، أو من خلال الشّاشات الفضّية والّصغيرة، يتم إدراك الأمكنة والفضاءات عن طريق حاسّتي البصر والسّمع. أما إدراك الفضاء الرّوائيّ وتمثّله، فإنّه لا يتأتّى إلاّ من خلال الألفاظ والكلمات المطبوعة في الكتاب، لذلك فهو ذو طابع ذهني مجرّد. .


عموما إذا كان عالم الأشياء في “الواقع” هو عالم الصّور الملموسة، فإنّ نقل تلك الصّور أو بعضها إلى عمل إبداعيّ سيجعلها شيئا مغايرا تماما عن الأصل. كما أنّ الإبداع في عمومه هو تجاوز للواقع، أو على الأقلّ إضافة شيء أو تعديل إلى/في ما هو موجود في الواقع بالفعل. والرّواية في أدنى مستوياتها فنّ ـ مثل الفنون الأخرى أي أنّها شكل من أشكال الإبداع والتّخييل. والفن كما يرى ريكور لا يمكن أن يكون محاكاة للحياة بمعنى تصويرها وتمثيلها، وليس إعادة إنتاج للواقع، بل هو إنتاج وابتكار في الوقت نفسه. فقد تستعير الرّواية من الحياة لكنّها تحوّل ما تستعيره إلى شيء مغاير عن صورته ووجوده الأصليّين. وحتى لو زعمنا أنّ الرّوائيّ سعى إلى ترجمة الواقع كما هو ونقله بمختلف تفاصيله كما يزعم الواقعيون كافةـ فإنّه لا محالة سيصوّره بدرجة متفاوتة من الاختلاف وعدم التّطابق، حيث سينقل فضاءات الواقع من خلال وجهة نظره الخاصّة، وتصوّره الذّاتيّ حوله، ومن خلال وعي فردي ّ(أو جماعيّ) يخصّه دون غيره. وصياغة أسلوبيّة يتميّز به عمّا سواه. فكلّ عمل هو نتاج أصيل وميلاد أنطولوجي مغاير في عالم الخطاب.


والأهمّ في كل ذلك أنّ الرّوائيّ إذا ما نقل شيئا عن الواقع والوجود الخارجيّ، فإنه ينقله بوساطة رمزية ألا وهي اللّغة ولا يتاح للكلمة في أيّ حال أن تكون بديلا عن الواقع، ولا تتمكّن من نقله كما هو، أو تقدّم صورة حقيقيّة عنه. ومن ثمة سيحرص القارئ على تمثّل الفضاء الرّوائيّ المتخيّل تمثّلا ذهنيّا، من خلال عمليّة قراءة ذاتيّة للنّصّ، ومن خلال ما يوفّره له هذا الأخير من معلومات فحسب، فهو ليس بحاجة للرّجوع إلى خرائط المدن، للتأكّد من أسماء الشّوارع والأحياء، كما أنه ليس بحاجة للتأكّد من هويّة الشّخصيّة في الرّواية، في علاقتها بعالم الأشخاص في الواقع، سواء وُجد من يشبه تلك الشّخصية أم لم يوجد. ولهذا تظل الرواية بكل أبنيتها ومستوياتها الخطابية إبداعا وتخييلا، لا يمكن إسقاطها على العالم الواقعيّ.


وهكذا لكي نتمثّل بعض خصوصيّات الفضاء المتخيّل وحدود علاقته بالعالم الخارجيّ الذي يسعى الكاتب إلى نقله وترجمته، سنعمد إلى مقاربته في رواية “فرانكشتاين في بغداد”، لنميز فيه بين الأماكن المغلقة والفضاءات المفتوحة.


2- تخييليّة الأماكن المغلقة:


يمثل المكان المغلق “غالبا الحيّز الذي يحوي حدودا مكانيّة تعزله عن العالم الخارجيّ، ويكون محيطه ضيّقا بكثير بالنّسبة إلى ا المكان المفتوح، فقد تكون الأماكن الضّيّقة مرفوضة لأنّها صعبة الولوج، وقد تكون مطلوبة لأنّها تحتلّ الملجأ أو الحماية التي يأوي إليها الإنسان”[1].وقد تضمنت رواية أحمد سعداوي عدّة أماكن مُتخيّلة أسبغت طابع التّخييل على النّصّ الرّوائيّ أوّلا وعلى الأحداث ثانيا. فتحوّلت اللّغة من وصفيّة تواصليّة إلى “إشارات مختلفة، يمكن أن تحيل إلى عوالم أخرى غير واقعيّة، فإنّنا نلاحظ أنّه يتجلّى في فضاءات معيّنة ولا يتجلّى في أخرى بشكل يجعل الأماكن المغلقة أكثر ملاءمة لانبجاس الظّواهر والصّور العجائبيّة بدلا من تلك المفتوحة التي يمكن أن تُعَدّ مرتعا للعجيب الرّائق الذي يثير الرّعب”[2].


2- 1- الخرابة اليهوديّة :


اتّخذ هادي العتّاك من الخرابة اليهوديّة غرفة له وهي غرفة تختلف عن بقيّة غرف/وبيوت الشّخصيّات الأخرى؛ فهي متصدّعة ومهدّمة. يقول السّارد: “بيت هادي العتاك ليس بيتا على وجه الدقة. فأغلب ما فيه مهدّم، وليس هناك سوى غرفة في العمق ذات سقف متصدّع حوّلها هادي العتّاك مع زميل له اسمه ناهم عبدكي قبل ثلاث سنوات تقريبا إلى مقرّ لهما”[3]. ويضيف قائلا: “بعد الاحتلال وشيوع الفوضى، شاهد الجميع كيف عمل هادي وناهم على إعادة ترميم “الخرابة اليهوديّة” كما كانت تسمّى، رغم أنهم (كذا!) لم يروا فيها أيّ شيء يهوديّ، لا شمعدانات ولا نجمات سداسيّة و لا حروف عبريّة”[4].


حرص هادي على ترميم الغرفة لتصبح صالحة للسكن:” أعاد هادي بناء السّياج الخارجيّ للبيت من ذات المواد الموجودة، وثبت الباب الخشبيّ الكبير الذي كان مغطّى بركام الطّابوق والطّين، أزاح الأحجار عن الحوش ورمم الغرفة السّليمة الوحيدة وترك الجدران النصفيّة و السّقوف المتهاوية الباقية للغرفة على حالها…”[5].


كان العتاك يقوم بجمع ضحايا التّفجيرات التي تشهدها بغداد، إذ يلتقط أشلاء من أجساد الضّحايا الممزّقة والملطّخة بالدّم في كيس الجنفاص، لكي يجمعها في بيته ويخيطها فيما بعد “دخل إلى سقيفة خشبيّة صنعها من بقايا الأثاث والقضبان الحديديّة والكناتير المخلعة (…) قرفص هادي عند طرف منها. كانت المساحة المتبقّية مشغولة بشكل كامل بجثة عظيمة، جثة رجل عار تنزّ من بعض أجزاء جسده المجرح سوائل لزجة فاتحة اللون، ولم يكن هناك إلا القليل من الدماء، بقع صغيرة من دم يابس على الذراعين والسّاقين، (…) تقدم هادي أكثر داخل الحيز الضيق حول الجثة، و جلس قريبا من الرّأس، كان موضع الأنف مشوّها (…) فتح هادي الكيس الجنفاصيّ المطويّ عدّة طيّات، ثم أخرج ذلك الشّيء الذي بحث عنه طويلا (…) أخرج هادي أنفا طازجا مازال الدّم القاني المتجلّد عالقا به، ثمّ بيد مرتجفة وضعه في الثّغرة السّوداء داخل وجه الجثة (…) سحب يده ومسح أصابعه بملابسه، وهو ينظر إلى اكتمال الوجه بشيء من عدم الرّضا، ولكن المهمّة انتهت الآن . آه.. لم تنته تماما عليه أن يخيط الأنف حتى يثبت في مكانه ولا يقع”[6].


كان المكان الذي يعيش فيه هادي مخيفا ومرعبا، الفوضى تعُمّ المكان لاسيّما غرفة النّوم حيث “كانت الأغراض متراكمة فوق بعضها البعض مع تلّ صغير من علب بيرة الهنيكن في زاوية الغرفة وأحذية ونعل (كذا!) كثيرة وأباريق نحاسيّة وأخرى من الألومنيوم أو البلاستيك وطاولات خشبيّة مكسورة الأرجل وملابس وريش حمام و دجاج (…) وخزانة مملوءة بالبصل والثوم وعلب ألبان فارغة وقواطي معلّبات أسماك وبقوليّات. كانت الغرفة أشبه بالقبر”[7].


ونحن لا نعجب من هذه الفوضى التي تعم غرفة هادي؛ فهو بائع المتلاشيات من الأغراض المتروكة. لذا يتّخذ غرفته المهدمة مستودعا لأعضاء ضحايا التّفجيرات، ولأغراض بعض أهل حي البتاويين التي ظل يتصيّد فرص شرائها بثمن بخس. وكأنّه يؤمن بالتّساوي والتّوازي بين الأغراض المهمَلة وأعضاء الضّحايا المتلاشية.لتنبئ بذلك غرفة العتاك بإحدى المقصديّات الحجاجيّة للرّواية؛ ألا وهي تشييء الذّات الإنسانيّة وجعلها معادلا موضوعيّا لأتفه الأغراض غير الصّالحة للاستعمال (حجة وجوديّة/ اجتماعيّة). مما يجعل هذه المعادلة تستبطِن ما يُسمّى في الدراسات الحجاجية بـ (القياس المضمر)[8] الذي ” يُنتج الإقناع لا البرهنة”[9]. وعناصر هذا القياس ـ كما يبدو لنا ـ تتمثل في:


(المقدّمة الكبرى): باتت أعضاء الضحايا متلاشية ومهملة في الشّوارع العراقيّة.
(المقدّمة الصّغرى): العتاك يجمع كلّ المهملات والمتلاشيات من الأغراض والأعضاء البشريّة.
(الاستنتاج): الأعضاء البشريّة المتلاشية = الأغراض المهملة.
وهكذا فبعد أن كانت غرفة هادي العتاك قبل أن يرممها و يقطن بها مجرّد خرابة متصدّعة مهدّمة، ستعود إلى هذه الحال مرة أخرى لتكون نهايتها دائريّة؛ تصدّع و هدم في البداية والمنتهى. فالفصل السّابع عشر من النّص الرّوائي ينقل لنا أحداث أكبر انفجار شهده حي البتاويين وسط بغداد. وقد نُقل على إثره العديد من السّكّان إلى المستشفى لإصابتهم بجروح بليغة وتهدّمت العديد من منازل أهل الحيّ ومنها غرفة هادي العتاك. يقول السارد: “انهارت أيضا الغرفة المتهالكة التي يسكن فيها هادي العتاك في الخرابة اليهودية، ولم يعرف أحد كيف اشتعلت النيران بأغراض أمّ دانيال وبعض الأثاث الخشبيّ في باحة بيت العتاك، ولا كيف شبّت النيران أيضا في الأفرشة التي كان نائما بينها”[10].


إنّ هذه النّهاية المأساويّة التي آل إليها “حيّ البتاويين” تقوم في تشكيلها التّصويريّ على (الاستراتيجيّة التّلميحيّة) التي تُعدّ من الاستراتيجيّات الإقناعيّة التي يعمد إليها المتكلّم إيمانا منه بأن العناصر الإيحائيّة/المجازيّة تسعف ـ بل وأكثر من اللّغة العادية ـ في اطّلاع المتلقّي على وجهة نظر محدّدة، أو موقف معيّن. فالسّارد/المتكلّم يؤكّد، عبر الانفجار الذي رجّ حي البتاويين، أنّ كلّ شيء في العراق يعود إلى حال العدم حيث اللاّشيء، تماما كما هي ى حال شخصية “الشّسمة” الذي يمثّل المواطن العراقيّ الأوّل فقد خُلق/ صُنع من عدمية الموت/ من بقايا الحياة على العراق (بعض أعضاء الضحايا) = (عود على بدء).


2-2- دائرة المتابعة والتّعقيب:


يُعدّ العميد سرور محمد مجيد المدير العام لهذه الدائرة، وهي عبارة عن وحدة معلومات خاصّة مرتبطة جزئيّا بالإدارة المدنيّة لقوات الائتلاف الدّوليّ في العراق تتمثّل مهمّتها في متابعة كلّ الجرائم التي تحصل في العراق ومتابعة الأساطير والخرافات التي تنشأ حول حوادث معيّنة من أجل الوصول إلى أحداث القصّة الواقعيّة. ولكن مهمّتها الحقيقيّة هي الإجابة عن سؤال (متى وأين وكيف أموت؟ (ص 259))، وهو السّؤال الحقيقيّ والوحيد لساسة “العراق الجديد” الذي يجعلهم يقصدون مكتب العميد سرور لأجله.


لقد قام مديرها بتوظيف العديد من المنجّمين وقارئي الطّالع والسّحرة والمشعوذين من أجل توقّع التّفجيرات قبل وقوعها والقبض على المجرمين، ومن ثمّة كانوا يقيمون “وضع نبوءات عن الجرائم التي ستحدث مستقبلا التّفجيرات بالسّيارات المفخّخة وجرائم اغتيال المسؤولين وكبار الشّخصيات، وقدّموا خدمة كبيرة بهذا المجال خلال السّنتين الماضيتين، وهم يقومون بذلك كلّه من خلف غطاء. وكذلك فإنّ المعلومات التي يتمّ الحصول عليها تجري الاستفادة منها بطريقة غير مباشرة، ولا تتمّ الإشارة أبدا إلى دائرة المتابعة والتّعقيب حفاظا على سرّيتها وأمن العاملين فيها”[11].


نلمس في الجانب الحكومي خيالا فانتازيّا ساخرا. فثمة فانتازيا مضحكة نوعا ما تتمثّل في سلوكات هؤلاء المنجّمين والسّحرة وتصرّفاتهم أثناء عملهم. فهناك صراع دائم حول تقنيّات العمل، وتحديد مكان القاتل والمجرم؛ صراع يدور بين المنجّم الأكبر والمنجّم الأصغر، ممّا يضفي على هذا الصّراع طابعا بوليسيّا لا سيّما أثناء مطاردة المجرم إكس. يقول السّارد: “استدعى العميد سرور فريق المنجّمين بالكامل مع مساعديه من الضّباط، وفتح تحقيقا في الموضوع. وتبيّن له أنّ الانتحاريّ سائق سيّارة الأوبل البيضاء كان ينوي في الأصل التّوجه إلى كلّية الشّرطة لتفجير نفسه داخل حشد من الضّبّاط الجدد، وأنّ هناك ما غيّر تفكيره وقراره وجعله يدلف إلى أزقة البتاويين. ساد هرج وتبادل اتّهامات بين المنجّمين (…) لا يوجد احترام كاف للعميد سرور مدير الدّائرة وتجاهلوا وجوده وهم يتبادلون الشّتائم (والاتّهامات) “[12].


وتشير الرّواية إلى سمة تخييليّةـ حجاجية أخرى تخصّ الجهاز الأمنيّ ألا وهي عبثيّة العنف التي تؤكّد غياب الحرفية والخبرة المهنيّة. وممّا يؤكّد ذلك قول السّارد “عند منتصف اللّيل انتهت عمليّة البحث والتّطويق، شاهد محمود (الشّاب الصّحفيّ) بعينيه بضعة شباب ورجال متوسّطي العمر وهم مقيّدو الأيدي إلى الخلف يُساقون إلى السّيارات العسكريّة. انتبه محمود بسرعة إلى أنّ الجامع الأساسي بينهم أنّهم كلّهم من قبيحي المنظر. كان بعضهم بعيوب خلقية ولاديّة والبعض الآخر مشوّه جرّاء حرائق التّفجيرات الإرهابية وآخرين كأنهّم مجانين رسميّين، فبدت وجوههم مسترخية ورائقة لا تُبدي أيّ خوف أو قلق”[13]. ولأنّ الدّائرة تجاوزت صلاحيّات عملها فقد تمّ توقيفها عن العمل.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

الحكمة همش العل...

الحكمة همش العلم تماما بما أنه لا طائل منه بالنسبة للمؤمن، أي بما أنه لا يحقق غبطته يقول ما أشقى من ...

الطريق الذي يخت...

الطريق الذي يختاره الباحث في تجميع معلوماته وبياناته العلمية في دراسة موضوع الذي يسلكه في تحليل وتفس...

تسعى هذه الدراس...

تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة الاحتراق الوظيفي لدى موظفي الجامعة، ومحاولة فهم العلاقة ا...

The Great Depre...

The Great Depression had devastating economic and social effects on American society. Millions of pe...

Calculate the t...

Calculate the theoretical values I1, I2, I3, I4, V1, V2, V3, and V4 for the circuit shown in figure ...

أهلاً بك! إليك ...

أهلاً بك! إليك حلول الأسئلة الموجودة في الصورة: **السؤال الأول:** يُعرف تخصص فسيولوجيا الجهد البدن...

عقب هجوم انتحار...

عقب هجوم انتحاري في بولواما، كشمير، أسفر عن مقتل العديد من أفراد الأمن الهندي، شنت الهند غارات جوية ...

أقبل الاسبان عل...

أقبل الاسبان على الكتب العربية وقاموا بترجمتها إلى اللاتينية وكانت الأندلس المركز الرئيسي لهذه الت...

An Introduction...

An Introduction to Amal’s Story and the RLC Circuit In a world filled with constant change, mathema...

بدأ االحتالل ال...

بدأ االحتالل الروماني لبالد المغرب سنة 146 ق.م بعد سقوط قرطاجة إثر الحرب البونية الثالثة)149_146 ق....

مع تزايد التفاع...

مع تزايد التفاعل الاقتصادي والتبادل التجاري بين الدول، أصبحت المحاسبة الدولية أمرًا حيويًً للتأكد من...

المبحث الأول : ...

المبحث الأول : الاطار المفاهيمي للميزة التنافسية المطلب الأول : تعريف الميزة التنافسية حظي مفهوم ا...