احتسى الشّيخ قهوتَه على مَهل، هذا كلُّ ما سيتنا وله طَوال ذلك النَّهار، وهو يعلم أنَّ عليه أن يحتسيها، فمنذ وقت طويل أَصبح الأكل يضايقه، ولم يحمل معه غداءً أبدًا، وقد كانت لديه قنينةُ ماءٍ في مُقدِّم المَركب، وهذا كلُّ ما يحتاجه خلال النّهار .
الآن عاد الصِّبيّ بالسّردين والطُّعمَيْن الملفوفَيْن في جريدة، فهبطا في المَمرّ إلى المَركب، وهما يُحِسّان بالرّمل المليء بالحصى تحت أقدامهما، ورفعا المركب لينزلق في الماء.
- «حظًا سعيدًا، أيُّها الشّيخ».
قال الشّيخ:
- «حظًّا سعيدًا».
أَحكمَ الشّيخ رَبطتَي المجدافَيْن وتبتَهما في وتديهما، وبانحناءةٍ إلى الأمام ضغط على طرفَي المجدافَيْن المنغمسَيْن في الماء، وراح يجدِّف خارجًا من المرفا في الظلام، وكانت ثمّة قوارب أُخرى مُنطلِقة من شواطئ أُخرى إلى عُرْض البحر، وأَخذَ الشّيخ يسمع ولوج مجاديفها في الماء ودفْعها له، على الرّغم من أنَّه لم يستطِعْ رؤيتَها بعد أَن غاب القمر خلف
التّلال.
أَحيانًا، يتكلَّم شخصٌ ما في قارب، ولكنّ أغلب القوارب كانت صامتةً، ماعدا صوتَ انغماس المجاديف في الماء، وانتشر الصّيّادون بعد أَن خرجوا من فَم المرفِأِ، واتّجه كلُّ واحدٍ منهم إلى ذلك الجزء من المحيط الّذي يأمُل أَن يجِدَ فيه السَّمك، وكان الشّيخ يعلم أنّه سيذهب بعيدًا، فترك أريجَ البرّ خلفه، وراح يجدّف بعيدًا في اتّجاه رائحة المحيط النّقية في الصباح الباكر، ولاح لعينيه الوميضُ الفوسفوريُّ لطحالب الخليج في الماء، فيما كان يجدِّف في ذلك الجزء من المحيط الّذي كان الصَّيّادون يدعونه بالبئر العظيم بسببِ وجودِ انخفاضٍ مُفاجئ يبلغ عمقه سبعمائة قامة حيث تتجمّع كلَّ أنواع السّمك؛ بسبب الدوّامة الّتي يُحدِثها المَجرى عند ارتطامه. بالجدران المُنحدِرة لقاع المحيط، فهنا يوجد تَمركُزٌ للرّوبيان وأسماك الطُّعْم، وأحيانًا مستوطنات لسمك الحبّار في الأغوار العميقة، وهذا النّوع من السَّمك يعلو مقتربًا من سطح الماء في اللَّيل حيث تتغذّى عليه الأسماك السّائبة جميعها.
وفي الظَّلام، استطاع الشّيخ أن يشعر بقدوم الصَّباح، وبينما كانَ يُجدِّف، تناهى إلى سمْعه الصُّوتُ المُرتعش الّذي تُخلّفه الأسماك الطّائرة وهي تغادر الماء، وهسيس زعانفها الصَّلبة وهي ترتفع في الظَّلمة، كان مولعًا بالسّمك الطّائر؛ لأنّه رفيقه الرَّئيس في عُرْض المحيط، وكان يشعر بالأسى للطّيور، خاصّةً طيور الخرشنة السّوداء الضّعيفة الصّغيرة الّتي كانت تُحلّق دائمًا، وتبحث، ولا تجد شيئًا على الإطلاق تقريبًا. وفكّرَ في نفسه: «للطّيور حياةٌ أصعب من حياتنا، ماعدا الطُّيور السَّرّاقة والطُّيور القويّة الضّخمة. لماذا جُلِقَت بعض الطّيور ضعيفةً ورقيقةً جدًّا مثل خطاطيف البحر، في حين يمكن للمحيط أن يكون قاسيًا إلى حدّ كبيرٍ؟ إنَّ المحيط كريمٌ وجميلٌ جدًّا؛ ولكنْ بمقدوره أن يغدو قاسيًا جدًّا، وأن يرتفع ارتفاعًا مفاجئا، وهذه الطُّيور الّتي تُحلّق، وتغطس لتصطاد - بأصواتها الحزينة الخافتة- هي أرقّ من أن تُخلَق للبحر».
كان يفكّر دائمًا في البحر بصيغة المؤنّث (la mar)، كما يدعوه النّاسُ باللَّغة الإسبانيّة عندما يحبّونه، وأحيانًا يتفوّه أولئك الّذين يعشقون البحر بأشياءَ سيّئةٍ عنه، ولكنّهم كانوا دائمًا يقولون تلك الأشياء كما لو كان البحر امرأة، وكان بعض الصيّادين الأصغر سنًّا، أولئك الّذين كانوا يستعملون الطّوّافات لتعويم خيوطهم، ولديهم قوارب بخاريّة اشتروها عندما كان كبد سمك القرش يدرُ عليهم المالَ الوفير، يدعون البحر بالمُذكّر (el mar) :
كانوا يتحدَّثون عن البحر بوصفه مُنافِسًا، أو مكانًا، أو حتّى عَدوًا، ولكنّ الشّيخ كان دائمًا يعدُّ البحر بمثابة امرأة تَمُنُّ أَحيانًا بعطايا عظيمة، أو تبخل بها في أحيان أخرى، وإذا ما فعلَتْ أشياءَ شريرةً أو غريبةً فلأنَّها لم يكُن في وسعها أن تفعل غير ذلك، فالقمر يؤثّر في البحر كما يؤثّر في المرأة،
هكذا فكّر الشّيخ في نفسه.
كان يجدِّف تجديفًا متواصلًا، ولم يكُن ذلك بمجهودٍ بالنِّسبة إليه، مادام أنَّه بقي في نطاق سرعته، وما دام سطح البحر مستويًا باستثناء بعض دوّامات التيار بين آونة وأخرى.
كان يدع التيار يقوم بِثُلث العمل، وعندما طلعَ ضوء النَّهار، رأى أنَّه أصبح أبعد ممّا كان يأمُل في هذه السّاعة.
وفكَّر: «لقد عملتُ في الآبار العميقة مدّةَ أسبوع، ولم أحصل على شيء، اليوم سأعمل بعيدًا خيث توجد مستوطنات أسماك (البونيتو) و(الباكور)، فربما توجد سمكة كبيرة معها». وقبْل أَن ينتشر ضوءُ النهار حقًّا، أخرج قطع الطُّعْم، واندفع مع التيار، كانت إحدى قِطَع الطُّعم على عُمْق أربعين قامة، والقِطعة الثّانية على عُمْق خمس وسبعين قامة، وكانت القِطعتان الثّالثة والرّابعة في المياه الزّرقاء على عمق مائة وخمس وعشرين قامة، وكانت كلُّ سمكة من سمكات الطُّعم مُعلَّقة، ورأسها إلى الأسفل، وكان رأس الصِّنّارة مَخفيًّا في داخل سمكة الطَّعم، وهو مربوط، ومَخيط بإحكام، والأجزاء الظّاهرة من الصِّنّارة كالقوس والرَّأس مُغطَّاة بأسماك السّردين الطّازجة، وكلُّ سردينة قد رُبِطَت من كلتا عينيها بحيث كوَّنت نصف إكليل على الفولاذ النّاتئ، وليس ثمّة أيُّ جزء من الصِّنّارة تستطيع أَن تستشعره أيَّةُ سمكةٍ كبيرة دون أن تشمَّ الرّائحة الشَّهية والمذاق الطَّيِّب.
كان الصَّبيُّ قد أعطاه سَمكتَي تونة طازجتَيْن أو سمكتَي باكور، وهما اللّتان كانتا مُعلّقتَيْن بالخيطَيْن الأكثر عُمقًا مثل رُمّانتي ثقل، وعلى الخيطَيْن الآخرَيْن علّق سمكةً كبيرةً زرقاءَ من نوع العدّاء، وأُخرى صفراءَ من نوع سمك سليمان، كانتا مُستعمَلتَيْن من قبل، ولكنَّهما مازالتا في حالةٍ جيِّدة، وعليهما السّردين الممتاز؛ ليمنحهما رائحةً وجاذبيّة، وكان كلُّ خيطِ مطويًا على عصا غضّة بِثخنِ قلمِ رصاصٍ كبير، بحيث إذا تعرّض الطُّعم لأيَّة سحبةٍ أو لمسةٍ، فإنَّ العصا تغطس في الماء، ولكلِّ خيط لفّتان، طولُ كلِّ واحدةٍ منهما أربعون قامة، ويمكن ربطهما بسرعة باللَّفّات الاحتياطيّة، بحيث تستطيع السَّمكة، عند الضّرورة أن تسحب أكثر من ثلاثمّائة قامة من الخيط.
الآن، أَخذَ الشّيخ يُراقب انغماسَ العِصيِّ الثلاث بجانب المَركب، وجدَّفَ برفق ليحافظ على استقامة الخيوط صعودًا ونزولًا وفي أعماقها المُناسِبة، كان الضّياءُ كافيًا والشّمس توشك أَن تُشرِق بين لحظةٍ وأخرى.
طلعتِ الشَّمسُ باهتةً من البحر، وأصبح بمقدور الشّيخ أن يرى القوارب الأُخرى منخفضةً في مستوى الماء، بعيدةً عنه، وقريبةً من الشّاطئ، وقد انتثرتْ عبر الّتيار، ثمّ صارتِ الشَّمس أشدَّ لمعانًا، وانعكس وهجها على صفحة الماء، وعندما ارتفعت تمامًا، بعث البخر المنبسط بأشعتها إلى عينيه لدرجة أَنَّها الَمته بحدّة، فراح يجدّف دون أن ينظر إليها، راح ينظر إلى الأسفل حيث الماء، ويراقب الخيوط الّتي نفذت بعيدًا في ظُلمة الماء، وقد حافظ عليها مستقيمةً أكثر ممّا يستطيعه أيُّ صيّادٍ آخر، بحيث كان في كلِّ مستوى من مستويات المَجرى المُظلِم طُعْم ينتظر تمامًا في المكان الّذي يرغب فيه، جاهزًا لأيّة سمكةٍ تسبح هناك، أما الصَّيّادون الآخرون فإنَّهم يتركون خيوطهم تنجرف مع الّتيار، وكثيرًا ما تكون على عُمْق ستّين قامة فقط، في حين يظنّ الصَّيّادون أَنّها على عُمْق مائة.
وفكَّرَ: «أَمّا أنا فأحتفظ بها احتفاظًا مضبوطًا؛ فقط لأنَّني لم أعُد محظوظًا، ولكن مَن يدري؟ ربّما اليوم، فكلُّ يومٍ يومٌ جديد، ومن الأحسن أَن يكون المرءُ محظوظًا، بيد أنّي أفضّل أن أكون مضبوطًا، وبعد ذلك عندما يُقبل الحظُّ تكون مستعدًا
له» .
الآن . وبعد ساعتَيْن من ارتفاع الشّمس، لم تَعُدْ تؤذي عينَيْه كثيرًا إذا نظر إلى الشَّرق، كانت ثلاثة قوارب فقط في المنظور، وبدتْ منخفضةً جدًّا، وبعيدةٌ عنه قرب الشّاطئ.
وفكّر: «طوال حياتي كانت الشّمس المبكِّرة توذي عينَيّ، ومع ذلك فهما ماتزالان جيّدتَيْن، وفي المساء، أستطيع أن أنظر إليها مباشرة دون أن يغشاهما السَّواد، مع أن قوتها أكبر في المساء، ولكنَّها في الصَّباح مؤلِمة». في تلك اللَّحظة بالذّات، رأى طائرَ فرقاط يحوم، بحناجيه الأسودَيْن الطَّويلَيْن، في السّماء أمامه، وقام طائر الفرقاط يهبوط سريع مائلًا على جناحَيه المُنَّجهَيْن إلى الخلف، ثمّ عاد
يحوم مرَّةً أخرى.
قال الشّيخ بصوتٍ عالٍ:
- «حصلَ على شيءٍ ما، إنَّه لا ينظر فحسب».
جدَّف ببطءِ وثَباتٍ إلى حيث كان الطَّير يحوم، ولم بستعجل، وحافظ على خيوطه مُمتدَّةً باستقامةٍ من الأعلى إلى الأسفل، ولكنَّه حاذى التيار قليلًا لكي يظلّ بإمكانه الصَّيد بشكلٍ صحيح، مع أنَّه أسرع ممّا كان يصطاد لو لم يكُن يحاول استخدام الطائر .
حلَّقَ الطَيرُ عاليًا في الهواء، وحامَ مرَّةً أُخرى وجناحاه ساكنان، ثمّ أَسَفَّ فجأةً، وعندها رأى الشّيخ سمكاتٍ طائرةً تنطُ خارجةً من البحر، وتُبحِر - في يأس - على سطح الماء.
صاح الشّيخ بصوتٍ عالٍ:
- «دلافين، دلافين كبيرة».
رفع المجدافين إلى المركَب، ومن تحت مؤخّر المركب تناول صنّارةً صغيرة، في رأسها سلكٌ وخطّافٌ متوسط الحجم، فوضع عليه إحدى سمكات السّردين طُعْمًا، وتركه ينساب من على جانب المركب، ثمّ ربطَه إلى حلقةٍ في مؤخّر المَركب، ثمّ وضع طُعْمًا على صنّارة ثانية، وتركها مربوطةً في ظلِّ مقدَّمِ المَركب، واستأنف التَّجديف ومراقبة الطَّير الأسود ذي الجناحَيْن الطّويلَيْن الّذي كان مُنهمِكًا في عمله
-الآن - قريبًا من سطح الماء.
وفيما كان الشّيخ يراقب الطَّير، اتّجه الطَّير مرَّةً أُخرى، وهو يُميل جناحَيه إلى الأسفل مُطاردًا السَّمكات الطّائرة، ولكنَّه عاد يصفّق جناحيه بشدَّةٍ تصفيقًا غيرَ مُجدٍ، وتمكِّن الشّيخ من رؤية البروز الخفيف على سطح الماء الّذي سبّبته الدَّلافين وهي تلاحق الأسماك الهاربة. كانت الدَّلافين تشقُّ الماءَ مُبحِرةً بسرعةٍ تحت مسار طيران الأسماك، وستكون في انتظارها في الماء عندما تهبط تلك الأسماك. وقال الشّيخ في نفسه: «إنَّه تجمُّعٌ كبيرٌ للدلافين؛ وهي منتشرةٌ في مساحةٍ شاسعة، وليس للأسماك الطائرة سوى فرصةٍ ضئيلةٍ للنجاة، أمّا الطَّير فلا نصيب له؛ لأنَّ الأسماك الطّائِرة أكبر ممّا يستطيع، وهي تتحرّك بسرعة فائقة». وراقب الشّيخ الأسماك الطّائرة وهي تنطّ من الماء مرّةً تلو الأخرى، وشاهد حركات الطّير غير المُجدية، وقال في نفسه: «إنَّ تجمُّع الدّلافين ذاك قد أَفْلتَ منّي، إنّها تتحرّك بسرعةٍ كبيرةٍ وبعيدًا جدًّا، ولكنَّني رُبَّما ألتقط واحدةً ضالَّة، وقد تكون سمكتي الكبيرة بالقرب منها، لا بُدَّ أن تكون سمكتي الكبيرة في مكانٍ ما.
أَخذت الغيوم ترتفع الآن فوق البَرِّ مثل الجبال، وبدا السّاحل مجرَّد خطّ أخضر طويل، وخلفه تلالٌ زرقاء داكنة، وكان لون الماء أزرق قاتمًا، وكانت زرقته قاتمةً جدًّا لدرجة أَنَّها بدت أرجوانيَّة تقريبًا. وبينما كان الشّيخ ينظر إِلى الماء، رأى بقايا الكائنات البحريّة طافيةً على المياه الدّاكنة، والضوءَ الغريب الّذي خلّفته الشّمسُ الآن، وراقبَ خيوطه ليراها تمتدّ باستقامة إلى الأسفل حتّى تغيب في الماء، وشعر بالسُّرور لرؤية هذه الكثرة من بقايا الكائنات البحريّة؛ لأنَّ ذلك يعني وجود الأسماك هناك، وكان الضَّوء الغريب الّذي بعثته الشَّمس في الماء - وهي الآن أكثر علوًا- يعني طقسًا جيّدًا، وهذا ما يدلّ عليه كذلك شكلُ الغيوم فوق اليابسة، ولكنَّ الطَّير لم يعُد تقريبًا في مدى البصر الآن، ولم يبدُ فوق سطح الماء سوى بعض البُقع الصّفراء من أعشاب السّراخس الّتي تغيّرَ لونها بفعل الشّمس، وسمكة جولي سامّة كانت طافيةً بالقرب من القارب وقد انقلبتْ على جانبها ثمّ استعادت وضعها الصَّحيح، كانت تطفو مترنّحةً مثل فقاعة، وهي تجرُّ أذيالها الأرجوانيّة القاتلة وراءها مسافةَ ياردةٍ على الماء.
قال الشّيخ:
- «ماء سيّء.. أَيّتها السّمكة السّامّة!».
ومن مكانه، مالَ قليلًا على مجدافَيْه، وألقى نظرةً على الماء، فرأى الأسماك الصَّغيرة، المُلوَّنة ، ولهذه الأسماك الصَّغيرة مناعة ضدّ سمومها، ولكنَّ النّاس ليست لهم تلك المناعة، فعندما يعلّق بعضُ تلك الأذيال بخيط، وتبقى منه هناك مادّة أرجوانيّة لزجة، وتمسُّ الشّيخ وهو يشتغل على سمكةٍ فإنَّه سيُصاب بِقروحِ وأورامٍ في ذراعَيه ويدَيه كتلك الّتي تُحدِثها شُجيراتُ اللَّبلاب السَّامّة، أو شجرة السِّنديان السّامّ، بَيْدَ أنَّ تلك التَّسمُّمات الّتي يسبِّبها ال(الماء السّيّء)
تأتي بسرعة، وتلسع مثل ضربة سوط.
كانت الفقاقيع القزحيّة اللّون جميلة، ولكنَّها أكثر الأشياء زيفًا في البحر؛ فكان الشّيخ يحبُّ أن يرى السَّلاحف البحريّة الكبيرة وهي تلتهمها، كانت السلاحف - إذا ما رأت تلك لفقاقيع- اقتربتُ منها من الأمام، وأغمضت عبونها لتكون محميّةٌ ثمامًا، وأكلتها متتابعة جميعها، وكان الشّيخ يحبّ أن يرى السلاحف وهي تأكلها، كما كان يحبّ أن يمشي عليها في الشّاطئ بعد عاصفةٍ ما، ويسمعها تتفرقع حينما يدوس عليها بباطن قدمه المتصلّب مثل قرن. .
أَحبَّ الشّيخ السَّلاحفَ الخضراء والسَّلاحفَ الصّقريّة الأنوف، برشاقتها وسرعتها وقيمتها العظيمة، وكان لديه احتقارٌ ودّي للسَّلاحف الغبيّة الضَّخمة ذات الدّروع الصَّفراء، الغريبة في طريقة تكاثرِها، والسَّعيدة بالتهام مخلّفات الكائنات السّامّة وعيونها مُغمضة.
لم يكُن لديه شعورٌ خاصٌ تجاه السُّلاحف، على الرّغم من أنَّه أَمضى سنوات عديدة في العمل على قوارب صيد السَّلاحف، كان ' يشعر بالأسف لها جميعًا، حتّى تلك السَّلاحف ذات الظُّهور الضَّخمة الشّبيهة بالصَّناديق والّتي يبلغ طولها طول المَركب وتَزِن طنًّا، فمعظم النّاس لهم قلبَّ متحجَّر لا يرحم السَّلاحف؛ لأنَّ قلب السَّلحفاة يظلُّ ينبض ساعاتٍ بعد أن تُقطَّع أوصالها، وتُحْرَر. ولكنْ الشّيخ فَأَر قائلًا في نفسه: «وأنا لديّ مثل هذا القلب كذلك، ويداي وقدماي مثل أيدي السّلاحف وأقدامها». وكان الشّيخ يأكل بيضها الأبيض ليكتسب قوّةً. كان يأكل بيضها طَوال شهر مايو/أيار؟ ليكون قويًا في سبتمبر/أيلول، وأكتوبر /تشرين الأوّل، من أجل اصطياد السّمكة الكبيرة حقًّا.
وكان يشرب، كذلك، كوبًا من زيتِ كبدِ سمكِ القرش كلّ يوم من البرميل في الكوخ الذي يحفظ فيه العديد من الصّيّادين عدّتهم. وكان زيت الكبد هناك لكلّ من يُريده من الصِّيّادين، بَيدّ أنّ معظم الصّيّادين كانوا يكرهون مذاقه، ولكنّه لم يكُن أسوا من النُهوض في السّاعات الّتي كانوا يستيقظون فيها، وكان ذا فائدةٍ كبيرة لمقاومةٍ أنواع الزكام والإنفلونزا جميعها، كما كان مفيدًا للعينَيْن.
الآن، نظر الشّيخ إلى الأعلى ورأى الطِّير يحوم مرَّةً أُخرى،
قال بصوت مرتفع:
«لقد وجدّ سمكة».
لم تخترق أيّةُ سمكةٍ طائرة سطح الماء، ولم تنتشر هناك سُميكات الطُّعْم، ولكن، بينما كان الشّيخ يراقب الماء، نطَّتْ تونة صغيرة في الهواء، استدارتْ ثمّ غطستْ برأسها أوّلًا في الماء. لمعتْ سمكةُ التونة بلونها الفضّيِّ في الشَّمس، وبعد أن غاصتْ في الماء، وثبَتْ سمكةُ تونة أُخرى، وأخرى، وراحَتِ السَّمكات تتقافز في الاتّجاهات جميعها، مُحدِئةً رغوةً في الماء، وهي تنطُّ في قفزاتٍ عاليةٍ وراء سُميكات الطَّعْم، فكانت تطوِّقه، وتطاردها .
وفكّرَ الشّيخ: «إذا لم تُبحِر بعيدًا، فإنَّني سألحق بها، وراح يراقب مجموعة الأسماك وهي تحيل لون الماء أبيض، وأخذ الطَّير الآن في الهبوط والغطس وراء سُميكات الطُّعْم الّتي اضطرتْ إلى التَّوجُه إلى سطح الماء مذعورةً».
قال الشّيخ:
- «إِنَّ الطَّير عونٌ عظيم».
في تلك اللَّحظة بالذّات، أخذ خيط الصِّنّارة الّتي في مؤخَّر المَركب بالتَّوتُّر تحت قدمه، حيث كان يحتفظ ببكرة الخيط؛ فألقى بمُجدافَيْه جانبًا، وأَحسّ بضغط ارتعاش سمكة التّونة الصّغيرة وهي تسحب الخيط الّذي كان مُمسكًا به بشدّة، فراح يجذبه إليه. ازداد الارتعاش كلّما جذب الخيط إليه، وصار بإمكانه أن يرى ظَهر السّمكة الأزرق في الماء ولون جنبيها الذَّهبيّ قبل أن يرفعها من فوق جانب القارب، ويرميها في داخله. ارتمتِ السَّمكة في مؤخَّر القارب في الشَّمس بشكلها الكرويّ المُكتنِز، وهي تحدّق بعينيها البلهاوين الكبيرتَين فيما كانت تخبط حياتها على خشب القارب بضربات مرتعشة خاطفة من ذيلها الأملس السَّريع الحركة، وبدافع الشَّفقة، ضربها الشّيخ على رأسها، ورفسها، وكان جسدها ما يزال يرتجف في الظِّلِّ بمؤخَّر القارب.
قال الشّيخ بصوتٍ مرتفع:
- «إنّها سمكة الباكور، وتصلح لتكون طُعْمًا رائعًا، إنّها
تَزِن عشرة أرطال».
لم يتذكَّر متى بدأ -أَوَّلَ مرَّة- بالتحدُّث بصوتٍ مسموع، عندما يكون وحده، كان في الأيّام السّالفة يُغنّي في وحدته، وكان أحيانًا يُغنّي في اللَّيل عندما يكون منفردًا في أثناء نوبته في سفن الصّيد أو في قوارب صيد السَّلاحف، ربَّما شرع في التحدُّث بصوت عالٍ وهو وحيد بعد أن غادر الصَّبيُّ، ولكنَّه لم يتذكّر. عندما كان هو والصَّبيّ يمارسان الصَّيد معًا، كانا
- عادةً- يتكلّمان عند الضَّرورة فقط؛ كانا يتكلَّمان في اللَّيل، أو عندما تُعطّلهما عاصفةٌ في طقس سيّء، كان عدم التّكلُّم غير الضَّروريّ في البحر يُعَدُّ فضيلة، وقد اعتبره الشّيخ دائما فضيلة، واحترمها، ولكنَّه الآن يقول أفكاره بصوتٍ عالٍ عدّة مرّات، مادام لا يوجد أحدٌ يمكن أن يزعجه ذلك.
قال بصوتٍ مرتفع:
- «لو سمعني الآخرون أَتكلَّم بصوتٍ عالٍ لظنّوني معتوهًا، ولكن مادمتُ لستُ معتوهًا فلا يهمّني ذلك... الأغنياء عندهم المذياع يتحدَّث إليهم في قواربهم، ويأتيهم بأخبارِ لعبةِ (البيسبول)».
وقال في نفسه: «ليس الآن وقتُ التَّفكيرِ بلعبة (البيسبول)، الآن وقتُ التّفكيرِ في شيءٍ واحد فقط، وهو ما وُلِدتُ أنا لأجله، فربّما توجد سمكةٌ كبيرةٌ بالقرب من مجموعة أسماك التّونة، فقد التقطتُ واحدة تائهة فقط من أسماك البكور الّتي كانت تتغذّى، ولكنَّ تلك الأسماك كانت تعمل بعيدًا جدًّا، وتتحرّك بسرعة، فكلُّ شيءٍ يبدو اليوم على سطح الماء، ينتقل بسرعةٍ كبيرة، وفي اتّجاه الشَّمال الشَّرقيّ، أيمكن أن تكون لذلك علاقةٌ بمثل هذا الوقت من النَّهار؟ أم أنّه علامةٌ لطقسٍ
لا أعرفه؟».
لم يَعُد بإمكانه رؤية خضرة السّاحل الآن، وإنّما فقط قمم
التّلال الزّرقاء الّتي بدت بيضاء كما لو كانت مُكلَّلة بالثَّلج، وتراءت فوقها السُّحب مثل جبالِ ثلجٍ عالية. كان البحر قاتمًا جدًّا والضوء ينتشر فيه بأشكالٍ مخرَّوطيّة، أَمّا النّقط اللّامعة اللّامعدودة من بقايا الكائنات البحريّة الطّافية على السَّطح فقد ألغتها الآن أشعّةُ الشّمس المرتفعة، ولم تَبقَ سوى الأشكال المخروطيّة العظيمة في المياه الزَّرقاء التي كان الشِّيخ يراها الآن مع خيوط صنّاراته المُمتدَّة باستقامةٍ إلى الأسفل في الماء الذي يبلغ عمقه الميل.