لخّصلي

النّافِذَةُ المَكسورَةُ

1- يومَ العُطلَةِ، تَنادى أبناءُ الجيرانِ: سعيدُ، مُنذِرُ، عِمادُ، نادِرُ، غسّانُ، هَيّا إلى السّاحَةِ لِنَلعَبَ بالكُرَةِ."
في هَذِهِ الأثناءِ كانَتِ السَّيّدَةُ أُمُّ غَضبانَ قابِعَةً أمامَ نافِذَةِ بَيتِها المُطِلَّةِ على السّاحَةِ، تُمَتِّعُ بَصَرَها بالأولادِ الّذينَ غَمَرَتهُمُ الفَرحَةُ، ناسِيَةً ما في بالِها مِن هُمومٍ لِبَعضِ الوَقتِ.
2- حينَ بَدَأَ اللَّعِبُ أَخَذَتِ الأصواتُ تَرتَفِعُ، وصَيحاتُ المَرَحِ والبَهجَةِ تَتَعالى، والصّخَبُ يَتَزايَدُ مَعَ عُلُوِّ الكُرَةِ وتَبادُلِها، واللَّحاقِ بِها، والتَّسابُقِ لِلحُصولِ عليها. لَكِنَّ الفَرحَةَ لَم تَكتَمِل، فَقَد كانَت ضَربَةٌ طائِشَةٌ مِن غسّانٍ تَحَوَّلَتِ الكُرَةُ على أثَرِها، فَلَطَمَت زُجاجَ أُمِّ غَضبانَ، وجَعَلَتهُ شَظايا حادَّةً تَساقَطَت فَوقَ رَأسِها الشّائِبِ المَليءِ بهُمومِ الدُّنيا ومَشاغِلِها.
3- ذُعِرَ الأولادُ لِهذا الحادِثِ، وتَفَرَّقوا هارِبينَ، وهَدَأتِ الضَّجَّةُ في السّاحَةِ. أمّا غَسّانٌ، فَقَد عادَ فَورًا إلى البيتِ مُصفَرَّ الوَجهِ، ورَمى بِنَفسِهِ على الأريكَةِ وهوَ يَلهَثُ مِن شِدَّةِ الخَوفِ.
وفي تِلكَ اللَّحظَةِ، دَخَلَ أَبوهُ ورَآهُ على هَذِهِ الحالِ، فَسَأَلَهُ: "ما بِكَ؟" أَجابَ وَهُوَ يُخفي آثارَ التَّعَبِ والخَوفِ: "أنا بِخَيرٍ، لا تَقلَق." وأَكمَلَ الأبُ:"لا بُدَّ أَنَّ شيئًا قد حَصَلَ معَكَ. أَخبِرني الحَقيقَةَ وكُن صَريحًا. “تَمتَمَ غَسّانٌ وصَوتُهُ يَكادُ يَختَنِقُ: "نَعَم يا أبي... أُمُّ غَضبانَ...."

• ما لَها أمُّ غَضبانَ؟ أَفصِح.


• الكُرَةُ الطّائِشَةُ أصابَت نافِذَةَ أُمِّ غضبانَ.


• ومَنِ الفاعِلُ يا بُنيَّ؟ كُن صادِقًا ولا تخشَ شيئًا.


• بينَما كُنّا نَلعَبُ في السّاحَةِ، رَكَلتُ الكُرَةَ بِشِدَّةٍ، فَإذا بِها قَدِ انعَطَفَت باتِّجاهِ نافِذَةِ أُمِّ غضبانَ، وَكَسرتِ الزُّجاجَ. هذا ما حَدَثَ.


• وَلِماذا أنتَ خائِفٌ؟


• أُمُّ غَضبانَ امرَأَةٌ تُحِبُّ المُشاجَراتِ، وَقَد تَجعَلُ مِنَ الحَبَّةِ قُبَّةً كَما يُقالُ!


• يا بُنيَّ، كَيفَ تَقولُ ذلِكَ؟ لا تَحكُم على النّاسِ مِن دونِ أَن تَتَأَكَّدَ، ولا تَذكُر جارَتَكَ بِسُوءٍ. وماذا فَعَلتُم بَعدَ أن كُسِرَ الزُّجاجُ؟


• هَرَبنا جَميعًا.


• أخطأْتُم يا ولَدي! لِماذا لَم تَتَقَدَّم مِنَ السَّيِّدَةِ لِتَعتَذِرَ لَها وَتَعِدَ بِأَداءِ ثَمَنِ الزُّجاجِ؟


• إنَّنا لَم نَملِكِ الشَّجاعَةَ وَقتَئِذٍ. وأنا أشعُرُ بالخَجَلِ والأَسَفِ لِما حَدَثَ، فإنّي لَم أُرِد إيذاءَ أحَدٍ.


• إذَا، عَلَيكَ أَن تَذهَبَ إلى بيتِ أُمِّ غَضبانَ وتَعتَذِرَ، ثُمَّ تُبديَ استِعدادَكَ لِتَحَمُّلِ قِيمَةِ الضَّرَرِ.
  تَمَلمَلَ غَسّانٌ طَويلًا، وَبَدَتِ الكآبَةُ على وَجهِهِ، وبانَ الخَوفُ في عَينَيهِ. وشَعَرَ الوالِدُ بِعِظَمِ المَسؤولِيَّةِ على ابنِهِ، فَقالَ لَهُ: "سَأرافِقُكَ، ولَكِنَّكَ سَتَتَقَدَّمُ بِمُفرَدِكَ وتُكلِّمُ أُمَّ غَضبانَ وتَعتَذِرَ لَها." أَشارَ غَسّانٌ بِرَأسِهِ مُوافِقًا، ثُمَّ نَهَضَ مُتَثاقِلًا، وتَوَجَّهَ مَعَ أبيهِ إلى بَيتِ أُمِّ غَضبانَ سائِرًا بِبُطءٍ حاسِبًا أَلفَ حِسابٍ لِمُقابَلَتِها.
  وتَقَدَّمَ غَسّانٌ، وَضَغَطَ على جَرَسِ البابِ بِيَدٍ راجِفَةٍ وقَلبٍ خافِقٍ. وما هي إلّا لَحَظاتٌ حَتّى ظَهَرَت لَهُ أُمُّ غَضبانَ بِرَأسِها المُغَطّى بِأَربِطَةٍ طِبِّيَّةٍ بَيضاءَ. ذُهِلَ غَسّانٌ مِن مَرآها، فاندَفَعَ يَقولُ بِتَأثُّرٍ: "عَفوًا يا خالَةُ! أنا السَّبَبُ في كَسرِ الزُّجاجِ، كانَت كُرَةً طائِشَةً اعذُريني يا خالَةُ!"


• يا لَكَ مِن صَبِيٍّ شُجاعٍ وصادِقٍ! لَقَد تَكَرَّرَ انكِسارُ نَوافِذِ بَيتي مَرّاتٍ كَثيرَةً بِهَذِهِ الطّريقَةِ، فَكُنتَ الوَلَدَ الوَحيدَ الّذي جاءَ إليَّ واعتَذَرَ.
  كانَ الأبُ واقِفًا غيرَ بَعيدٍ بِحيثُ يَسمَعُ اعتِذارَ ابنِهِ. ولَمّا سَمِعَ جَوابَ أُمِّ غَضبانَ، تَقَدَّمَ مِنها يُعرِبُ عَن أسَفِهِ، لَكِنَّهُ تَعَجَّبَ حِينَ رَأى واجِهَةَ مَنزِلِها وقَد تَكَسَّرَ كُلُّ زُجاجِها، فَأَصبَحَت واجِهَةً هَوائِيَّةً!
  5- أَيقَنَ الأبُ أَنَّ أُمَّ غَضبانَ فَقيرَةٌ، وَأَرادَ مُساعَدَتَها، فَأَرسَلَ وَلَدَهُ لاستِدعاءِ بائِعِ الزُّجاجِ، وطَلَبَ مِنهُ تَركيبَ الزُّجاجِ كُلِّهِ هَدِيَّةً وإكرامًا لِلسَّيِّدَةِ، ومُكافَأَةً لها على صَبرِها الطّويلِ على أولَئِكَ الصِّبيَةِ.
  فَرِحَ غَسّانُ وبانَتِ الغِبطَةُ على وَجهِهِ، ورَجَعَ مَعَ والِدِهِ إلى البيتِ مُرتاحًا.