لخّصلي

يتناول النصّ مفهومَي "التفسير" و"الفهم/التأويل" في البحث العلمي، مُركزًا على التباين بينهما في العلوم الطبيعية والإجتماعية. يُعرّف التفسير بأنه محاولة لكشف العلاقات السببية بين الظواهر باستخدام المنهج العلمي، وهو ركيزة أساسية للنظرية العلمية، وفقًا لتعاريف عدة تُعتبر التفسير شرطًا لقيام النظرية. يُمثّل التفسير مستوىً ثالثًا في البحث العلمي (بعد الوصف والتحليل)، ويربط بين المعلومات والمعطيات منطقيًا. يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوضعية، التي تُؤمن بمادية العالم وخضوعه لقوانين موضوعية. أما الفهم/التأويل، فيُرتبط بالعلوم الإجتماعية، ويرى ديلثي أنه منهجٌ مُختلفٌ عن التفسير في دراسة النظام الإنساني-التاريخي، حيث يسعى لفهم الدلالات والمعاني الكامنة خلف الظواهر، على عكس التفسير الذي يكتفي بإدراك الواقع كما هو. يُؤكد أنصار الفهم، أمثال هايدغر وهابرماس وريكور، على أهمية تغيير وإعادة تنظيم الحياة من خلال الفهم، ويرفضون الشيئية في دراسة الظواهر الإجتماعية. يرتكز الفهم على مُكونات من علم النفس، المنطق، الألسنية، وعلم الدلالة، ويُركز على الدوافع الداخلية للفاعلين الإجتماعيين بدلًا من الأسباب الخارجية. يُعارض التأويليون "الموضوعية" الوضعية، مُؤكدين على أهمية الحد من الميول الشخصية دون الانفصال التام عن موضوع البحث. يرتبط منهج الفهم في العلاقات الدولية بالنظريات التكوينية التي تُركز على الأفكار، القواعد، والمعايير، وكثيرًا ما تتبنى إبستمولوجيا ما بعد وضعية. يُنتقد منهج الفهم لتطرّفه في اعتماد الفهم المنهج الأوحد، و لجعل المعرفة رهينة شخصية الباحث، مما يُعيق التعميم وتراكم المعرفة. يُختم النص بالتأكيد على وجود ما يُبرّر كل من "التفسير" و"الفهم"، لكنهما منهجان مختلفان تمامًا، يعكسان رؤى متعارضة للعالم الإجتماعي.

البند الأول: التفسير.
يعني التفسير محاولة اكتشاف العلاقات السببية التي تقوم بين الظواهر المختلفة باستخدام منهج
. أو هو كما تقول ماجدة مرسي
1
يقوم على المراوحة بين الإستدلال العقلي والإستقراء العلمي للظواهر
عزيز خطوة في اتجاه التعميم، أي في بناء النظرية العلمية، حيث يتم عن طريقه ربط الواقعة بآثارها
المنطقية ونتائجها، أو هو - كما تقول الكاتبة نفسها - القيام بإدماج تقرير واقعة ما داخل نسق سليم
.2
من التقريرات التي تمتد لأبعد من مجرد الواقعة المعطاة. هو جسم مترابط منطقيا من تقريرات أخرى
ويعد التفسير الوظيفة الأبرز للنظرية العلمية، حيث أن العديد من التعاريف التي قدمت لهذه
:
3
الأخيرة جعلت من التفسير شرطا لقيام النظرية، مثالها التعريفات التالية
 تعد النظرية العلمية بمثابة محاولة لوصف مجموعة من الظواهر وتفسيرها بطريقة نسقية.
 النظرية العلمية مبحث أو نسق من الأفكار أو القضايا التي تعد تفسيرا أو تقريرا عن مجموعة من
الوقائع أو الظواهر.
 النظرية قد تكون نسقا موحدا من القوانين أو الفروض، بحيث يتميز هذا النسق بقوة تفسيرية.
.
4
بل إن جون كيمني ذهب إلى حد اعتبار التفسير بمثابة الوظيفة الرئيسية والوحيدة للعلم
يعتبر التفسير في أدبيات البحث العلمي مستوى ثالثا من مستوياته بعد الوصف والتحليل، ويعد
الأكثر أهمية، إذ بفضله يمكن الربط بين مختلف المعلومات والمعطيات المتأتية من عمليتي الوصف
والتحليل، ربطا منطقيا يلحق النتائج بالأسباب.
نِّتب ي منهج التفسير معناه التسليم بالأحادية الإبستمولوجية، أي اعتبار العلوم الطبيعية والظواهر
الإجتماعية من طبيعة واحدة، وبالتالي يخضعان للمنهج العلمي نفسه، وفي هذا الصدد يقول فيلسوف العلم ريكرت (Rikert) ردا على ديلثي: إن العلم يهدف إلى تفسير الظواهر، ولا يهتم فيما إذا كانت
.1
هذه الظواهر تتعلق بالفرد (الإنسان) أم بالعالم الفيزيقي، فالظواهر هي الظواهر، والعلم هو العلم
يرتبط مفهوم التفسير ارتباط وثيقا بمبادئ الفلسفة الوضعية، التي تركز على مادية العالم وانتظامه
وفق قوانين موضوعية وثابتة نسبيا، يمكن الكشف عنها بواسطة اتباع خطوات المنهج العلمي الذي يعد
التفسير من ركائزه الأساسية. وتحمل النظرية التي تنتمي إلى هذا الإطار مسمى "النظرية التفسيرية"،
والتي تسعى إلى محاكاة العلوم الطبيعية في اتباع المناهج العلمية، وفي تحديد الأسباب العامة لحدوث
الظواهر، وذلك حينما تعتبر أن هذه الأخيرة (أي الظواهر) شيئا معطى تسعى وفقط لاكتشاف القوانين
التي تحكمها. لكن ما الذي يترتب إذا اعتبرنا أن الظاهرة الإجتماعية من طبيعة مختلفة تماما عن الظاهرة
الطبيعية؟
البند الثاني: الفهم/ التأويل.
 في العلوم الإجتماعية كما ذكرنا سابقا بمسألة التمييز بين العلوم
ترتبط مسألة الفهم/ التأويل
الطبيعية والعلوم الإجتماعية (علوم العقل أو الروح بتعبير ديلثي). حيث حدد ديلثي مصدر التمايز
:
2
المنهجي بينهما بالعودة إلى ثلاثة أنظمة كبرى من الواقع ترتبط ا ثلاثة أنساق من الحقائق العامة
1- النظام الميكانيكي (الفيزيائي، الكيميائي).
2- النظام "العضوي".
3- النظام "الإنساني- التاريخي".
حسب ديلثي، إذا كان بالإمكان تطبيق مناهج العلوم الطبيعية في تفسير الظواهر على النظامين
الميكانيكي والعضوي، فإن ذلك يتعذر تطبيقه على النظام الإنساني- التاريخي، الذي يقتضي منهجا
مغايرا يتيح لعلم الإنسان (اتمع أو الإجتماع) تحقيق الفهم الداخلي لظواهره الخاصة. ويتمثل هذا
المنهج في الفهم أو التأويل الذي يقابل اللفظة الإنجليزية (Hermenutics)، وهذه الأخيرة
(الهارمونيطيقا) تعود أصولها اللغوية إلى الفعل الإغريقي (Hermenuein)، الذي يعني عملية البحث والكشف عن الغموض الذي يكتنف شيئا ما. ومنه، فـ الهارمونيطيقا تسعى إلى معرفة ما يكمن خلف
.
1
الأشياء الظاهرة من دلالات ومعان لا يمكن تحصيلها من النظرة الظاهرية الخارجية
أكد العديد من الفلاسفة البارزين الذين يحسبون على الفكر المضاد للوضعية على أهمية ودور
الفهم في العلوم الإجتماعية، فـ مارتن هايدغر جعل للفهم دورا كبيرا في تأصيل الوجود في العالم،
ويورغن هابرماس ربط دور الفهم بنقد وتعرية الإيديولوجيا (خاصة البورجوازية منها). أما بول ريكور
.
2
فينيط بالفهم مهمة كشف أستار الغموض والتجهيل وإماطة اللثام عن أشكال الوهم الكامنة في المعرفة
ويتفق هؤلاء على أن الفهم – على عكس التفسير – لا يكتف بإدراك الواقع على ما هو عليه، وإنما
يسعى المفكرون من خلاله إلى تغيير وإعادة تنظيم الحياة ككل.
ينطلق أنصار الفهم أو التأويل من مسلمات فلسفية قوامها عدم اعتبار الظواهر الإجتماعية بمثابة
أشياء (شيئية دوركايم)، واتمع – حسبهم – ليس كائنا طبيعيا بل هو نتاج التفاعل الإنساني. وعليه،
تتمثل مهمة العلوم الإجتماعية في فهم دلالات الرموز الإجتماعية المنتجة من قبل الإنسان، وليس تفسير
وقائع إجتماعية خارجية. وحسبهم، تعتبر دعوة الوضعيين إلى الموضوعية ونبذ الذاتية أمرا مستحيلا
منهجيا ووهما أنطولوجيا. لأنه ببساطة، تعني دراسة ما هو إجتماعي فهمه. فالشيء الإجتماعي ليس
حقيقة خارجية، بل هو شيء "مبني" من منطلق التجربة الذاتية. ومنه يطرح السؤال التالي: ما طبيعة
الواقع في العالم الإجتماعي؟ هل يوجد اتمع فعلا في مكان آخر بعيدا عن تلك التمثلات التي يحملها
عنه الفاعلون الإجتماعيون؟ يجيبنا أنصار الفهم بأن العلاقات الإجتماعية والأدوار والقيم ومعايير السلوك
.3
كلها أبنية صاغها الوعي الإنساني، وتنتمي إلى نظام رمزي
:
4
تركز مقاربات الفهم عموما على المكونات التالية المستخلصة من بعض فروع المعرفة
1- القصد والوعي، من علم النفس.
2- القصدية والجوهر، من المنطق.
3- المعنى والمنطوق، من الألسنية.
4- المعنى والتأويل، من علم الدلالة.
فالجمع بين هذه المكونات هو ما يجعل من فهم – وليس تفسير – الممارسات والتفاعلات التي
تحدث في إطار العالم الإجتماعي أمرا ممكنا، حيث أن سلوك الفاعلين الإجتماعيين محكوم بدوافع وحوافز ومقاصد (ذات طبيعة مثالية أكثر منها مادية، على اعتبار أن الدوافع مثلا يمكن مقاربتها من
زاوية بيولوجية) لا يمكن وضعها في قوالب تفسيرية جامدة تنظر للسلوك نظرة ميكانيكية بحتة. وعليه،
فسلوكات الفاعلين الإجتماعيين تحكمها الدوافع لا الأسباب. ومنه، فالمنهج الأنسب لدراستها هو منهج
الفهم لا التفسير.
يقف التأويليون موقفا مضادا من "الموضوعية" كما تقدمها الوضعية/ التفسيرية. حيث يؤكد
ريكمان (Rickman) أن الوقائع في الدراسات الإنسانية والإجتماعية هي أفكار وأحاسيس يعبر عنها
الناس بأفعال فيزيقية، والباحث الإجتماعي لا يهتم بالواقعة الفيزيائية في حد ذاا، بل يبحث في المعنى
الذي يقف وراءها، وهكذا ترتبط الموضوعية فقط بالقدرة على الحد من تدخل الميول الشخصية في
الدراسة والبحث، دون أن تجاوزها إلى ما يدعيه الوضعيون من حقيقة الإنفصال والتمايز القائم بين
الباحث وموضوع بحثه.
منهج الفهم في التنظير للعلاقات الدولية عادة ما يربط بنمط النظرية المصطلح عليها بـ
"التكوينية"، لأا تميل إلى رفض/ أو على الأقل الحد من "التنظير السببي" في العلاقات الدولية، مفضلة
.
البحث والتقصي عن كيفية تشكل السياسة الدولية من خلال: الأفكار، القواعد، المعايير، والخطابات1
ويمكن القول أن غالبية النظريات التي تبنت إبستمولوجيا ما بعد وضعية، وعلى رأسها ما بعد الحداثة،
ركزت على مقاربات الفهم.
وجهت لمقاربات الفهم انتقادات عديدة، تمحورت أولاها حول التطرف في اعتماد الفهم المنهج
الأوحد وإقصاء كل إمكانية للتفسير. وهكذا كما نظر التفسيريون للعالم الإجتماعي نظرة مادية بحتة
وعلى درجة عالية من الحتمية والإنتظام، ذهب التأويليون إلى اعتبار العالم الإجتماعي من طبيعة مثالية لا
يمكن ترجمتها من خلال قوانين وأسباب. وثانيها، يتعلق برفض تفسير الظواهر بأسباب وقوانين خارجية
عن كل ذات مدركة، مما يجعل من المعرفة المحصلة عن طريق الفهم رهينة شخصية الباحث ومزاجه،
بحيث يصبح لدينا عدد من الحقائق حول الشيء نفسه يضاهي عدد من يدرسونه. وهذا ينعكس بدوره
على إمكانية تراكم المعرفة وعلمية العلوم التي ندرسها، وذلك حينما ينفي التأويليون أي إمكانية للتعميم
أو التنظير، فكل حالة أو ظاهرة اجتماعية تدرس في نطاقها الزماني والمكاني، وفي سياقها الإجتماعي
والسياسي ...إلخ، ولا يمكن تعميم النتائج المستخلصة بشأا على بقية الظواهر الإجتماعية الأخرى،
حتى إن ماكس فيبر قد ألغى كلمة "علم" من كتاباته وعوضها بلفظة "دراسات"، بحيث يتحدث عن
.
2
"الدراسات الإجتماعية" وليس عن "علم الإجتماع يعترف كل من سميث وهوليس أن كلا من "التفسير" و"الفهم" لهما ما يبررهما، ولكن لا يمكن
الجمع بينهما. لأما يشيران إلى شكلين من البحث مختلفين كلية، ومتضمنين في رؤى مختلفة كلية
. فالتفسير يعكس تصورا وضعيا لعلم العلاقات الدولية ومناهج البحث
1
كذلك لطبيعة العالم الإجتماعي
فيه، بينما يعكس الفهم التصور ما بعد الوضعي المناقض للوضعية جملة وتفصيلا. وهذا ما سنحاول
ترجمته والتعبير عنه من خلال ما تبقى من فصول.