خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة
1- مهمّة الداعية :
لنتعرف على مهمّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يعدّ الداعية خليفة لهم في دعوتهم . ووظيفة التنفيذ والتطبيق . وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوظائف الثلاث في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لربهما بعد فراغهما من بناء البيت : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ( البقرة : 129 ) , أو ما يعبّر عنه في المصطلحات الدعوية المعاصرة التكوين , وإحداث تغيير جذري ومتوازن في حياتهم . " . وقد ترد إلى أذهاننا بعض النصوص القرآنية التي تحصر وظيفة الرسول في البلاغ المبين فقط دون سواها من الوظائف , وقوله سبحانه:{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ }(النور:52). والإجابة عن هذا الوارد أنّ هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات التي جاءت في نفس المعنى وردت في سياق إعراض الناس عن الدعوة , فقد ربطت قصر وظيفة الرسول على البلاغ بشرط وهو إعراض من وجّهت لهم الدعوة , وفي قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ }(الشورى:45), فحين يعرض المدعوون عن الدعوة لا يكلّف الرسل إلا بالبيان والتبليغ فقط لإقامة الحجة عليهم, يكون المطلوب من الداعي تعليمهم وتزكيتهم, والعمل على تطبيق الدين في حياتهم. وتؤكد لنا وقائع السيرة النبوية قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوظائف الثلاث في دعوته لقومه , فقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ رسالة ربه إلى أفراد قومه من خلال الاتصال بهم في الأسواق وأماكن جلوسهم وأماكن الشعائر في موسم الحج, فيجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم, كما خصّص صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة مكانا خاصا يستقبل فيه من التحق بدعوته من أفراد القبائل العربية في دورات تعليمية تربوية , ليتحقق الهدف المنشود وهو إحداث التغيير في الأنفس الذي يكون المقدمة لتغيير الله عز وجل ما بالناس , فيسطع نوره , وإدراك الداعية أن مهمّته تشمل هذه الوظائف الثلاث يجعله يسير في الطريق الصحيح, أو لأولويات دفعتهم إلى ذلك. ومنهم من ينتقدنا " . صفات الداعية ومؤهّلاته
إنّ كلّ مهمّة بحسب طبيعتها تقتضي للنجاح في القيام بها أن يكون القائم بها متصفا بمجموعة من المواصفات, أو مؤهّلا بمؤهلات تمكّنه من القيام بها على أكمل وجه, ولا يصلح لمهمة أخرى, فتعجبوا من تعيينه ملكا عليهم رغم أنه لا يملك المؤهّلات لهذا المنصب الخطير في نظرهم، والتي تتمثّل أساسا في أن يكون من أكثرهم ثروة ومالا, فأخبرهم نبيهم أنّ المهمّة المنوطة به تقتضي مؤهّلات ذات صلة بها, فالقائد العسكري يشترط فيه أن تكون له دراية بفنون القتال وقدرات بدنية كبيرة واتصاف ببعض الصفات اللازمة لهذه المهمة, ولا علاقة للنجاح في هذه المهمة بكونه غنيا أو فقيرا. وقد سجّل القرآن الكريم لنا هذا النقاش في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ, وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(البقرة:244-245). فركّز على صفتين أساسيتين لا بد منهما للنجاح في القيام بهذه المهمّة, أسهبنا في بيان هذا المعنى, رغم ما يبدو للناظر لأول وهلة بأن هذا الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان واستدلال, وذلك بسبب ما يلاحظه الدارس لكتب فقه الدعوة عند طرقها لموضوع صفات الداعية, واكتفاء بسرد مجموعة كبيرة من الصفات تمثّل صفات المؤمنين عامة وليست صفات خاصة يتميّز بها رجل الدعوة. فالتناول السليم لموضوع صفات الداعية يقتضي استحضار المهمة الدقيقة له, وقد أشرنا في المحاضرة السابقة إلى أن مهمة الداعية تتمثل في القيام بوظائف ثلاث: البلاغ والتزكية والتنفيذ, وكل وظيفة من هذه الوظائف تحتاج إلى نوع خاص من الكفاءات أو المؤهلات أو الصفات, يبعد أن تتوفر في شخص واحد- باستثناء الأنبياء عليهم السلام-, بل إنّ من الأنبياء عليهم السلام من كان يرى عدم توفّره على بعض المؤهّلات التي تقتضيها وظيفة من وظائفه, فسأل الله أن يعينه بمن يملك مؤهّلات قوية ذات صلة بتلك الوظيفة, فهذا موسى عليه السلام يسأل ربه أن يشدّ أزره بأخيه هارون لما يمتلكه من قدرة عالية على البيان يرى عليه السلام أنّه لا يمتلكها, كما يدلّ على ذلك قوله تعالى على لسانه:{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِداً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }(القصص:34) . وخلاصة ما نريد قوله في هذا التمهيد أن تناول موضوع صفات الداعية ومؤهّلاته ينبغي أن لا يتمّ بمعزل عن ملاحظة مهمّته. وإذا أخذنا بالاعتبار هذه الملاحظة, يمكننا في حديثنا عن صفات الداعية أن نركّز على الصفات الأساسية الآتية:
1- المعرفة الجيدة بالإسلام :
أول صفة من الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها الداعية لينجح في القيام بمهمته بوظائفها الثلاث, أن تكون لديه معرفة جيدة بالإسلام. أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوة الدعاة ومثلهم الأعلى قبل أن يؤمر بالإنذار والدعوة, أمر أولا بالقراءة, ثم إن الله عز وجل تولّى تعليمه بـما يوحي إليه , وأمره أن يسأله الزيادة في العلم في قولـه سبحانـه:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }(طه:114). وتكسبه ملكة تقدره على إدراك كلياته ومقاصده. فبهذه المعرفة الجيدة يُعطي الداعية صورة واضحة وصحيحة عن الإسلام للناس, وبها يتمكن من الارتقاء بهم في مدارج الكمال الإنساني وهو يتولى تربيتهم وتزكيتهم بخطوات ثابتة سليمة بعيدة عن كل إفراط أو تفريط, كما يوفق بفضل هذه المعرفة إلى الوسائل والأساليب التي يجعل بها الدين واقعا في حياة الناس وأعمالهم. كما يمكن أن ندرك دور المعرفة الجيدة بالإسلام من خلال حديث: " يحمل هذا الأمر من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" . فالقدرة على معرفة التحريف في الدين والغلو فيه لا تحصل إلا لمن كانت له معرفة دقيقة بالدين في أصوله وفروعه. 2- المعرفة الجيدة بالواقع :
إن الهدف من الدعوة في نهايته هو نقل الإنسان فردا ومجتمعا من حال يكون فيها بعيدا عن قيم الدين وأحكامه إلى حال يعيش فيها منسجما مع هذه القيم والأحكام. ومن المعلوم أن هذه النقلة كما تحتاج إلى معرفة جيدة بمبادئ الدين وأحكامه, باعتبار أن له دورا في تشكيل فكره ونفسه وسلوكه. وتُبصِّرُ هذه المعرفة الداعية بالتحديات التي تحول دون الاستجابة لدعوته, وتمثّل صعوبات لتمثّل قيمها وأحكامها بعد الاستجابة لها, كما أن هذه المعرفة تمكّنه من تحديد الأولويات التي ينبغي أن يركز عليها في دعوته, ويعرف كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم, واستثماره صلى الله عليه وسلم لتلك المعرفة في دعوته, كما تدلّ على ذلك مواقف كثيرة من دعوته صلى الله عليه وسلم, مثل نهيه لهم عن زيارة القبور وادخار لحوم الأضاحي, ثم إذنه لهم بذلك كله . وتارة ينهى, وتارة يبيح, وتارة يسكت عن الأمر والنهي. كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت, وكذلك التائب من الذنوب, لا يمكن أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم, فإنّه لا يطيق ذلك. وإن لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال. وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداء, بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان, ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرّمات وترك الأمر بالواجبات, ويقدم الإمام الشاطبي للداعية ثلاث ضوابط تعينه على معرفة ما يجب عليه إبلاغه وما يجب عليه إرجاؤه أو تركه, وقد أخبر مالك عن نفسه أنه عنده أحاديث وعلما ما تكلّم فيها ولا حدّث بها, فتنبّه لهذا. فانظر مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله, فإن لم يؤدّ ذكرها إلى مفسدة, وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ, فالسكوت عنها هو الجاري وفق المصلحة الشرعية والعقلية" . 3- قوّة الصلة بالله تعالى:
يبغي أن يقوي رجل الدعوة صلته بالله تعالى , حيث يعيش دوما مع الله تعالى فيما يقوم به من عمل,
والتوكل عليه والإخلاص له. حيث تظهر آثارها في كلام الداعية صدقا وتفاعلا بكل كيانه, وفي مواقفه قوة وثباتا وصبرا على المساومات والإعراض والأذى, وقد وُجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الفترة التي سبقت بدأ نزول الوحي عليه إلى توثيق صلته بربه سبحانه, 4- حبّ الخير للناس والاهتمام بصلاحهم في الحال والمآل:
من أهم الصفات التي تمكن الداعية من النجاح في مهمته أن يتجاوز في تفكيره وفي مشاعـره حدود الأنا والذات إلى الشعور القوي بالآخرين وهمومهم ومشكلاتهم, والحرص على خدمتهم, ودفع الضرر عنهم في الحال والمآل. وأصل هذه الصفة في نفسه ما يملأ قلبه من شعور بالرحمة والشفقة على عباد الله يرتقي إلى درجة رحمة الأم بولدها. وختاما برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه لقومه بقوله سبحانه :{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة:129 ), ويثمر هذا الشعور في رجل الدعوة كما أشار النص القرآني تألما لما يكون في حياة الناس من آلام ومشكلات سببها الإعراض عن دين الله, وعملا على تخليصهم ممّا يعانونه بسلوك جميع السبل الممكنة , واستخدام كل الوسائل المشروعة. وقد يكلّف هذا الشعور الداعية بذل جهود كبيرة, ثم أخرج إلى ميدان المسجد والسوق والعشيرة والميادين العامة, وأواسي كل ذي حاجة, مدفوعا بعاطفة حبّ الناس" . 5- الجاذبية الأخلاقـية:
وذلك لا يكون إلا لمن تخلق بأخلاق لا يتمكّن منها عموم الناس نذكر منها: الصدق والأمانة, الحلم والعفـو وسعة الصدر, فقـال صلى الله عـليـه وسلـم موجّـها لهـم:"إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن كفوا, فأرسل إليه وزاده شيئا, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت , فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا, كمثل رجل له ناقة شردت عليه, فإني أرفق بها منكم وأعلم, فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها, 6- صفات عملية:
من هذه الصفات العملية نذكر الصفات التالية:
المحاضرة الثانية:
الداعية؛ مهمّته وصفاته ومؤهّلاته
1- مهمّة الداعية :
إنّ معرفة مهمة الداعية ووظيفته تقتضي منا العودة إلى كتاب الله وسنّة رسوله ^, لنتعرف على مهمّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يعدّ الداعية خليفة لهم في دعوتهم .
ومن خلال تدبّرنا في النصوص الكثيرة المتعلّقة بدعوتهم عليهم الصلاة والسلام , ندرك أنه كان لهم ثلاث وظائف أساسية كانوا يقومون بها في من أرسلوا إليهم هي : وظيفة البلاغ , ووظيفة التعليم والتزكية , ووظيفة التنفيذ والتطبيق .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوظائف الثلاث في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لربهما بعد فراغهما من بناء البيت : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ( البقرة : 129 ) , كما أشار إليها قول الله تعالى مبيّنا المهمة التي أرسل لأجلها خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلّى الله عليه وسلّم :{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة :2 ) .
فقد أشار قوله تعالى{ يَتْلُو عَلَيْهِمْ } إلى وظيفة البيان والتبليغ , كما أشار قوله تعالى{ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إلى وظيفة التربية والتعليم , أو ما يعبّر عنه في المصطلحات الدعوية المعاصرة التكوين , كما أشار قوله تعالى :{وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} إلى وظيفة التطبيق والتنفيذ , لأنّ الكتاب في الآية القرآن الكريم والحكمة فيها هي السنة النبوية كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء , والسنّة هي الجهد الذي بذله صلى الله عليه وسلم لتطبيق القرآن في حياة الفرد والمجتمع .
واعتبارا لهذه الوظائف الثلاث التي تشملها الدعوة , عرّف بعض الباحثين المعاصرين الدعوة بأنها : "تبليغ الإسلام للناس, وتعليمه إياهم, وتطبيقه في واقع الحياة " , وعرّفها باحث آخر بأنها: "الجهد المنهجي المنظم، الهادف إلى تعريف الناس بحقيقة الإسلام, وإحداث تغيير جذري ومتوازن في حياتهم .." .
وقد ترد إلى أذهاننا بعض النصوص القرآنية التي تحصر وظيفة الرسول في البلاغ المبين فقط دون سواها من الوظائف , مثل قوله تعالى:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ}(المائدة:94), وقوله سبحانه:{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ }(النور:52).
والإجابة عن هذا الوارد أنّ هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات التي جاءت في نفس المعنى وردت في سياق إعراض الناس عن الدعوة , فقد ربطت قصر وظيفة الرسول على البلاغ بشرط وهو إعراض من وجّهت لهم الدعوة , وهو ما نلاحظه على سبيل المثال في قوله تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ }(المائدة:94), وفي قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ }(الشورى:45), فحين يعرض المدعوون عن الدعوة لا يكلّف الرسل إلا بالبيان والتبليغ فقط لإقامة الحجة عليهم, أما حين يستجيب المدعوون للدعوة, يكون المطلوب من الداعي تعليمهم وتزكيتهم, والعمل على تطبيق الدين في حياتهم.
وتؤكد لنا وقائع السيرة النبوية قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوظائف الثلاث في دعوته لقومه , فقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ رسالة ربه إلى أفراد قومه من خلال الاتصال بهم في الأسواق وأماكن جلوسهم وأماكن الشعائر في موسم الحج, ثمّ يتولى بالتربية والرعاية من استجاب لدعوته منهم, فيجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم, كما خصّص صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة مكانا خاصا يستقبل فيه من التحق بدعوته من أفراد القبائل العربية في دورات تعليمية تربوية , ثمّ قام صلى الله عليه وسلم بالوظيفة الثالثة حين أسّس المجتمع الإسلامي بالمدينة .
والحقيقة أنّ هناك علاقة تكامل بين هذه الوظائف الثلاث , حيث تكمّل الثانية ما انتهت إليه الأولى , وتمهّد الثانية للثالثة , ليتحقق الهدف المنشود وهو إحداث التغيير في الأنفس الذي يكون المقدمة لتغيير الله عز وجل ما بالناس , فبوظيفة البلاغ تصل المضامين الكبرى للإسلام إلى الناس , وبوظيفة التعليم والتزكية يشرع في بناء النفوس المستجيبة على قيم الإسلام ومبادئه , ويمهّد الطريق لتطبيق نظام الإسلام في كافة مناحي الحياة , فيسطع نوره , فتشدّ صورته المشرقة النّاس إليه من كل فجّ عميق .
ومما يوضح الدور الكبير لمرحلة التطبيق في الدعوة ما نلاحظه من خلال دراستنا للسيرة النبوية من أنّ الدعوة الإسلامية في عهدها المكي الذي استغرق ثلاثة عشر عاما لم تحرز توسعا كميا متناسبا مع الجهد المبذول من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم , والزمن الطويل , في حين نجد أنها في الفترة المدنية استطاعت أن تحقّق توسعا أفقيا هائلا في فترة زمنية وجيزة , لم تتجاوز عشر سنين , وذلك بسبب ظهور الإسلام في صـورة مجتـمع متميـّز .
وإدراك الداعية أن مهمّته تشمل هذه الوظائف الثلاث يجعله يسير في الطريق الصحيح, ويحقّق بعمله من النتائج والثمرات ما لم يكن ليحقّقه لو أنّ مفهوم الدعوة في ذهنه بقي محصورا في وظيفة البلاغ فقط .
كما يمكّنه هذا الإدراك من تقدير كلّ جهد يبذل للقيام بأي وظيفة من هذه الوظائف الثلاث, وعدم الاستخفاف بالجهود التي يركّز أصحابها على إحدى هذه الوظائف في أعمالهم الدعوية , بسبب مراعاتهم لإمكاناتهم وقدراتهم, أو لأولويات دفعتهم إلى ذلك.
وفهم مهمّة الدعوة بهذا الاتساع, يجعل ميدان العمل الدعوي واسعا, يشمل جوانب متعدّدة, ويستوعب طاقات وجهودا كبيرة, ويصرف الدعاة عن التنافس والتزاحم على المجال الواحد, الأمر الذي قد يترتّب عنه تباغض وتصارع .
يذكر أحد الباحثين أنّه سأل العلامة المودودي-رحمه الله- في جلسة خاصة عن رأيه في جماعة التبليغ التي نشأت في الهند , وانتشرت في كثير من البلدان , وكان بعض أفرادها يشدّدون في نقد المودودي وجماعته, فقال له الأستاذ المودودي: "إنهم يسدّون عنا ثغرة لا نستطيع سدّها, ولا ننتقدهم, ومنهم من ينتقدنا " .
صفات الداعية ومؤهّلاته
إنّ كلّ مهمّة بحسب طبيعتها تقتضي للنجاح في القيام بها أن يكون القائم بها متصفا بمجموعة من المواصفات, أو مؤهّلا بمؤهلات تمكّنه من القيام بها على أكمل وجه, فالعلاقة وطيدة بين المهمة ونوعية المؤهّلات التي تقتضيها, ولهذه العلاقة قد يصلح شخص للقيام بمهمة معينة, ولا يصلح لمهمة أخرى, فقد ينجح في مهمة تربوية تعليمية ولا ينجح في مهمة إدارية.
وممّا يوضح لنا هذا الأمر النقاش الذي دار بين ملأ من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ونبئ بعثه الله إليهم, حيث طلبوا منه أن يجعل عليهم ملكا يقودهم في قتالهم ضد أعدائهم, فأخبرهم أنّ الله عزّ وجل اختار لهم طالوت ملكا, فتعجبوا من تعيينه ملكا عليهم رغم أنه لا يملك المؤهّلات لهذا المنصب الخطير في نظرهم، والتي تتمثّل أساسا في أن يكون من أكثرهم ثروة ومالا, فأخبرهم نبيهم أنّ المهمّة المنوطة به تقتضي مؤهّلات ذات صلة بها, فالقائد العسكري يشترط فيه أن تكون له دراية بفنون القتال وقدرات بدنية كبيرة واتصاف ببعض الصفات اللازمة لهذه المهمة, ولا علاقة للنجاح في هذه المهمة بكونه غنيا أو فقيرا.
وقد سجّل القرآن الكريم لنا هذا النقاش في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ, وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(البقرة:244-245).
وإلى هذه العلاقة بين المهمة وما تقتضيه من مواصفات ومؤهلات أشار يوسف عليه السلام حين طلب من الملك أن يولّيه وزارة الاقتصاد, فركّز على صفتين أساسيتين لا بد منهما للنجاح في القيام بهذه المهمّة, وهما الأمانة والعلم, ذكرهما القرآن على لسانه عليه السلام في قوله تعالى:{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(يوسف:55).
أسهبنا في بيان هذا المعنى, وإيراد الشواهد عليه, رغم ما يبدو للناظر لأول وهلة بأن هذا الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان واستدلال, وذلك بسبب ما يلاحظه الدارس لكتب فقه الدعوة عند طرقها لموضوع صفات الداعية, من غفلة عن العلاقة الموجودة بين صفات الداعية والمهمة التي هو مكلف بها, واكتفاء بسرد مجموعة كبيرة من الصفات تمثّل صفات المؤمنين عامة وليست صفات خاصة يتميّز بها رجل الدعوة.
فالتناول السليم لموضوع صفات الداعية يقتضي استحضار المهمة الدقيقة له, والربط المحكم بين هذه المهمة وما تقتضيه من صفات ومؤهلات.
وقد أشرنا في المحاضرة السابقة إلى أن مهمة الداعية تتمثل في القيام بوظائف ثلاث: البلاغ والتزكية والتنفيذ, وكل وظيفة من هذه الوظائف تحتاج إلى نوع خاص من الكفاءات أو المؤهلات أو الصفات, يبعد أن تتوفر في شخص واحد- باستثناء الأنبياء عليهم السلام-, بل إنّ من الأنبياء عليهم السلام من كان يرى عدم توفّره على بعض المؤهّلات التي تقتضيها وظيفة من وظائفه, فسأل الله أن يعينه بمن يملك مؤهّلات قوية ذات صلة بتلك الوظيفة, فهذا موسى عليه السلام يسأل ربه أن يشدّ أزره بأخيه هارون لما يمتلكه من قدرة عالية على البيان يرى عليه السلام أنّه لا يمتلكها, كما يدلّ على ذلك قوله تعالى على لسانه:{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِداً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }(القصص:34) .
وخلاصة ما نريد قوله في هذا التمهيد أن تناول موضوع صفات الداعية ومؤهّلاته ينبغي أن لا يتمّ بمعزل عن ملاحظة مهمّته.
وإذا أخذنا بالاعتبار هذه الملاحظة, يمكننا في حديثنا عن صفات الداعية أن نركّز على الصفات الأساسية الآتية:
1- المعرفة الجيدة بالإسلام :
أول صفة من الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها الداعية لينجح في القيام بمهمته بوظائفها الثلاث, أن تكون لديه معرفة جيدة بالإسلام.
ومما نؤصل به لضرورة هذه الصفة للداعية, أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوة الدعاة ومثلهم الأعلى قبل أن يؤمر بالإنذار والدعوة, أمر أولا بالقراءة, حيث نزل عليه أولا قوله سبحانه:{ اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5), ثم نزل عليه بعد ذلك قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ }(المدثر:1-2), ثم إن الله عز وجل تولّى تعليمه بـما يوحي إليه , وأمره أن يسأله الزيادة في العلم في قولـه سبحانـه:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }(طه:114).
ونقصد بالمعرفة الجيدة للإسلام المعرفة التي تمكنه من فهمه في أصوله وفروعه, وتكسبه ملكة تقدره على إدراك كلياته ومقاصده.
فبهذه المعرفة الجيدة يُعطي الداعية صورة واضحة وصحيحة عن الإسلام للناس, وبها يتمكن من الارتقاء بهم في مدارج الكمال الإنساني وهو يتولى تربيتهم وتزكيتهم بخطوات ثابتة سليمة بعيدة عن كل إفراط أو تفريط, كما يوفق بفضل هذه المعرفة إلى الوسائل والأساليب التي يجعل بها الدين واقعا في حياة الناس وأعمالهم.
وقد بين الإمام ابن القيمضرورة العلم للدعوة في عبارة قصيرة دقيقة فقال:"وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها , فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه , بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدّ يصل إليه السعي" .
وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم من علامات غياب أسباب الهداية في حياة الناس غياب العلماء, وظهور المتعالمين الذين يضلّون الناس بجهلهم, قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا, فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا" .
كما يمكن أن ندرك دور المعرفة الجيدة بالإسلام من خلال حديث: " يحمل هذا الأمر من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" .
فالقدرة على معرفة التحريف في الدين والغلو فيه لا تحصل إلا لمن كانت له معرفة دقيقة بالدين في أصوله وفروعه.
2- المعرفة الجيدة بالواقع :
إن الهدف من الدعوة في نهايته هو نقل الإنسان فردا ومجتمعا من حال يكون فيها بعيدا عن قيم الدين وأحكامه إلى حال يعيش فيها منسجما مع هذه القيم والأحكام.
ومن المعلوم أن هذه النقلة كما تحتاج إلى معرفة جيدة بمبادئ الدين وأحكامه, تحتاج كذلك إلى معرفة جيدة بالإنسان, والواقع المحيط به في جوانبه المختلفة, باعتبار أن له دورا في تشكيل فكره ونفسه وسلوكه.
وتُبصِّرُ هذه المعرفة الداعية بالتحديات التي تحول دون الاستجابة لدعوته, وتمثّل صعوبات لتمثّل قيمها وأحكامها بعد الاستجابة لها, فيختار من المناهج والأساليب والوسائل ما يتجاوز به تلك التحديات.
كما أن هذه المعرفة تمكّنه من تحديد الأولويات التي ينبغي أن يركز عليها في دعوته, وعلى أساسها توضع الخطط والبرامج.
ومما نؤصّل به لضرورة هذه الصفة لرجل الدعوة اختيار الله النبي من قومه الذين عاش فيهم , ويعرف كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم, ثمّ الاهتمام الذي نجده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة ما عليه الناس في مجتمعه بل والمجتمعات المحيطة في الفترة المكية وفي الفترة المدنية, واستثماره صلى الله عليه وسلم لتلك المعرفة في دعوته, كما تدلّ على ذلك مواقف كثيرة من دعوته صلى الله عليه وسلم, نذكر منها على سبيل المثال:
*نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أشياء ثم إذنه لهم بها, لاعتبارات تتعلق بهم وبأحوالهم, مثل نهيه لهم عن زيارة القبور وادخار لحوم الأضاحي, ثم إذنه لهم بذلك كله .
* أمره صلى الله عليه وسلم المستضعفين من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لأنها أرض صدق وبها ملك لا يظلم عنده أحد .
ويبين ابن تيمية أن رجل الدعوة لا يكون على حال واحدة في قيامه بوظيفة البلاغ أو التزكية, بل يجب أن يراعي في ذلك الحال التي يكون عليها المدعو والظروف التي تحيط به, حيث يقول:"تارة يأمر, وتارة ينهى, وتارة يبيح, وتارة يسكت عن الأمر والنهي...كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت, كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالمحيي للدين والمجدّد للسنة لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به, كما أنّ الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها... وكذلك التائب من الذنوب, والمتعلّم, والمسترشد, لا يمكن أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم, فإنّه لا يطيق ذلك...وإن لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال..وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداء, بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان, كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا عفا عنه إلى وقت بيانه.. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرّمات وترك الأمر بالواجبات, لأنّ الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.., ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرّمة في الأصل, لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم" .
ويقدم الإمام الشاطبي للداعية ثلاث ضوابط تعينه على معرفة ما يجب عليه إبلاغه وما يجب عليه إرجاؤه أو تركه, فيجعل من هذه الضوابط ملاحظة الواقع أو ما عبّر عنه بـ"حال الزمان وأهله" حيث قال -رحمه الله-:" ليس كلّ ما يعلم يبثّ وينشر, وإن كان حقا, وقد أخبر مالك عن نفسه أنه عنده أحاديث وعلما ما تكلّم فيها ولا حدّث بها, وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل, فتنبّه لهذا.
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة, فإن صحت في ميزانها, فانظر مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله, فإن لم يؤدّ ذكرها إلى مفسدة, فاعرضها في ذهنك على العقول, فإن قبلتها فلك أن تتكلّم فيها, إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول, وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم.. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ, فالسكوت عنها هو الجاري وفق المصلحة الشرعية والعقلية" .
3- قوّة الصلة بالله تعالى:
يبغي أن يقوي رجل الدعوة صلته بالله تعالى , ويرتقي بهذه الصلة في مقامات الدين , من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان , ويزيد في الارتقاء حتى يبلغ مقام الإحسان, الذي تبلغ فيه صلته بالله تعالى أوجها, حيث يعيش دوما مع الله تعالى فيما يقوم به من عمل, وما يكون عليه من حال.
ويثمر فيه بلوغه هذا المقام مجموعة من الأخلاق الباطنية منها: محبة الله عز وجل, والتوكل عليه والإخلاص له.
وهي أخلاق باطنية ضرورية للنجاح في الدعوة , حيث تظهر آثارها في كلام الداعية صدقا وتفاعلا بكل كيانه, وفي مواقفه قوة وثباتا وصبرا على المساومات والإعراض والأذى, وفي علاقته بالمدعـوين بعـدا عـن الطمع فيهـم, والابتغاء بالدعـوة شيئا آخر غير مرضاة الله تعالـى و ثوابه.
وقد وُجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الفترة التي سبقت بدأ نزول الوحي عليه إلى توثيق صلته بربه سبحانه, فكان عليه الصلاة والسلام يتحنّث في غار حراء الليالي ذوات العدد, وببداية نزول الوحي عليه أمر صلى الله عليه وسلم بتقوية صلته بربه بالقيام وتلاوة القـرآن والذكـر, كـما يدل عـليه قولـه تعالـى له:{ يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }(المزمل:1-8).
واستمر الوحي يوجّهه في هذا الاتجاه كما نلاحظه في قوله تعالى له:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً }(الإنسان:23- 26).
4- حبّ الخير للناس والاهتمام بصلاحهم في الحال والمآل:
من أهم الصفات التي تمكن الداعية من النجاح في مهمته أن يتجاوز في تفكيره وفي مشاعـره حدود الأنا والذات إلى الشعور القوي بالآخرين وهمومهم ومشكلاتهم, والحرص على خدمتهم, وجلب النفع لهم , ودفع الضرر عنهم في الحال والمآل.
وأصل هذه الصفة في نفسه ما يملأ قلبه من شعور بالرحمة والشفقة على عباد الله يرتقي إلى درجة رحمة الأم بولدها.
وممّا يدلّ على عظم هذه الصفة ما ذكره القرآن الكريم من اتصاف الأنبياء عليهم السلام جميعا بها, بدءا بنوح عليه السلام الذي كان يردد على مسامع قومه:{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }(الأعراف: 58), وقد ظهر مصداق شعوره في حرصه عليه السلام على تبليغ الدعوة لقومه في كل وقت وبكل الأساليب واستمراره في ذلك دون كلل أو ملل ألف سنة إلا خمسين عاما, وختاما برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه لقومه بقوله سبحانه :{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة:129 ), وهو ما أوضحه صلى الله عليه وسلم حين صوّر الوظيفة التي يقوم بها بمثل بليغ فقال:"إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا, فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه, فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه" .
ويثمر هذا الشعور في رجل الدعوة كما أشار النص القرآني تألما لما يكون في حياة الناس من آلام ومشكلات سببها الإعراض عن دين الله, وحرصا شديدا على تقديم النصح والإرشاد لهم , وعملا على تخليصهم ممّا يعانونه بسلوك جميع السبل الممكنة , واستخدام كل الوسائل المشروعة.
وقد يكلّف هذا الشعور الداعية بذل جهود كبيرة, وتجعله يوسّع أعماله لتشمل ميادين كثيرة, تكون على حساب نفسه وراحته ومصالحه, دون أن يشعر بشيء من النّدم والحسرة , فهذا أحد أعلام الإصلاح يتحدث عن نفسه فيقول:" لقد كنت في فجر حياتي العملية أقوم بواجبي في المدرسة خير قيام , مواظبة على الوقت ومحافظة على النظام وحسن اعتناء بالدرس, ثم أخرج إلى ميدان المسجد والسوق والعشيرة والميادين العامة, والمشاكل الخاصة... وأواسي كل ذي حاجة, مدفوعا بعاطفة حبّ الناس" .
5- الجاذبية الأخلاقـية:
وهو تعبير جميل عبّر به أحد الباحثين , باعتبار أن الأخلاق السامية تجذب الناس إلى الداعية كما تجذبهم الأرض إليها بجاذبيتها, أو كما يجذب المغناطيس المعادن.
وليس المقصود بها الاتصاف ببعض الأخلاق الحسنة فحسب فذلك مطلوب من المسلمين جميعا, بل التخلّق ببعض الأخلاق التي تجعله إلفا مألوفا ومحبوبا عندهم, وذلك لا يكون إلا لمن تخلق بأخلاق لا يتمكّن منها عموم الناس نذكر منها: الصدق والأمانة, واللين والبعد عن الفظاظة, الكرم والبعد عن البخل, المداراة والمرونة في المعاملة, الحلم والعفـو وسعة الصدر, والتواضع والبعد عن الكبر.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن الأخلاق الحسنة هي أحسن وسيلة لتقوية العلاقات بغـيـرهم, وإعطاء صورة مشرقة عن دينهم, فقـال صلى الله عـليـه وسلـم موجّـها لهـم:"إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" .
ويبين القرآن الكريم أن الجاذبية الأخلاقية للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أحد أهمّ أسباب نجاحه في دعوته, والتفاف الناس من حوله, وأرشده ربه سبحانه إلى تمثّل مجموعة من الأخلاق من شأنها أن تزيد من جاذبيته الأخلاقية منها: اللين والعفو وتقدير من حوله ومشاورتهم, وذلك في قوله سبحانه:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ }(آل عمران:159).
وبتربية الوحي وتكميله له بلغت جاذبيته الأخلاقية صلى الله عليه وسلم درجة عظيمة عبر عنها قوله تعالى:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4), أصبحت فيها شخصيته تفعل فيمن حولها فعل السحر, ولذلك اتهمه أعداؤه بأنّه ساحر .
ومن النماذج التطبيقية التي يمكن أن نذكرها كمثال على دور خلقه العظيم في كسب وتغيير من حوله رغم فظاظتهم وسوء أخلاقهم, ما روي أن أعرابيا جاء إليه صلى الله عليه وسلم يطلب منه عطاء, فأعطاه, ثم قال: أحسنت إليك؟, قال الأعرابي:لا, ولا أجملت.
فغضب المسلمون وقاموا إليه, وقد همّوا أن يؤدّبوه بالعنف, فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن كفوا, ثم قام ودخل منزله, فأرسل إليه وزاده شيئا, ثم قال له:"أحسنت إليك؟, قال: نعم, فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت , وفي نفسي أصحابي من ذلك شيء, فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي, حتى يذهب ما في صدورهم عنك, قال نعم.
فلما كان الغد جاء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي, أكذلك؟, قال: نعم, فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا, كمثل رجل له ناقة شردت عليه, فاتبعها الناس, فلم يزيدوها إلا نفورا, فناداهم صاحبها, فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي, فإني أرفق بها منكم وأعلم, فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها, حتى جاءت واستناخت, وشدّ عليها رحلها, وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار" .
6- صفات عملية:
من الصفات المهمّة للداعية نوع من الصفات يمكن أن نسمّيه بالصفات العملية, وذلك لكونها تساعده كثيرا على إتقان القيام بوظائف دعوته.
من هذه الصفات العملية نذكر الصفات التالية:
تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص
يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية
يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة
نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها
أفضل صديق لي أريد أن أخبركم عن أفضل صديق لي. اسمه أحمد وعمره 16 سنة. لقد عرفنا بعضنا البعض منذ المدر...
ان نظريه الادب بالمعنى الماركسي تحتمل مسبقا الاعتقاد بالممارسه وهي التي تواجهها هذه النظريه في بعض و...
. أبناء النبوءات نسمع نشيدَ الرعب في زقاق الأرواح، وتَصطكُّ أضلاعنا بِهمس القَصَف، هل كا...
تم وضع إجراءات تنظيمية خاصة باستعمال الأجهزة، لتقليص التشويش صادرة عند استعمال الأجهزة اللاسلكية قام...
يرى الفلاسفة الكلاسيكيون ( العقليون والحسيون ) أنه من الضروري الفصل والتمييز بين الإحساس والإدراك في...
ويسمى القانون الدولي العام بالقانون العام الخارجي Exteme ، وذلك الدخول الدولة في علاقات مع دولة أخرى...
الإنتخاب حق و وظيفة : جاءت هذه النظرية لتوافق بين الإتجاهين نظرا للإنتقادات الموجهة لكل نظرية، حيث أ...
المحاضرة الثانية: الداعية؛ مهمّته وصفاته ومؤهّلاته 1- مهمّة الداعية : إنّ معرفة مهمة الداعية ووظيف...
ثالثا- نشأة وتطوّر القانون الإداري: تعد فرنسا مهد القانون الإداري بمعناه الفني والضيق، ومنها انتشر إ...
المهارات التقنية مقدمة : لقد جاءت ثورة المعلومات والاتصالات بإمكاناتها الهائلة، ومقدراتها الفريدة ...
مفهوم ّ المجال المغناطيسي Concept Field Magnetic ّز المحيط بالمغناطيس، ويظهر ُ المجال ّ المغناطيسي ٌ...
المهقع والتدمية السثمث األثخي تدسية حجيثة تخجع لسا بعج سشة 2000م، وتصمق عمى مداحة مغ األرض مثمثة ال...