Lakhasly

النص التواصلي:
النقد ميل طبيعي في الإنسان، وموقف من قضايا الحياة والناس. فالفرد في هذا الوجود عنصر متفاعل مع محيطه، يتأثر بما يجري حوله فيصدر فيه حكمه، بالقبول والاستحسان حيناً، وبالتهجم والرفض حيناً آخر. وليس النقد وقفاً على الميدان الاجتماعي وحده، بل يجد تعبيراً عنه في مجالات الثقافة على اتساعها، والفنون على تعدد مظاهرها. بدأ النقد الأدبي عفوياً بسيطاً ثم تطور واتسع بتطور الحياة واتساع آفاق المعرفة. كان مع الشعوب القديمة ملاحظات فطرية مرتجلة، حدودها لفظة أو معنى، ثم مع الزمن تعدى الجزئيات وأصبح علماً بأصول له طرائقه ونظرياته، يتناول الأثر بكامله شرحاً ومناقشة وتقويماً . كان اليونانيون من أوائل من تعاطى النقد الأدبي، فقد بدأ ملاحظات موجزة مع شعرائهم، ولم يتطور بشكل صحيح إلا مع الفلاسفة أمثال أفلاطون صاحب «الوليمة»، وأرسطو واضع كتابي «الشعر» و«الخطابة».

و لم يكن النقد العربي مختلفاً ا عن عن . غيره نشأة وتطوراً. فقد بدا من مرتبطاً بالشعر، تابعاً له؛ ولم يكن للنقاد شخصية مستقلة، إذ غالباً ما كانوا هم الشعراء أنفسهم، يبرزون في المناسبات والمواسم العامة كسوق عكاظ، ينشدون قصائدهم ويتفاضلون، وقد يتدخل شخص لمع اسمه كالنابغة الذبياني ليكون مرجعاً وحكماً يفصل بين هؤلاء.
الجدير ذكره أن الأحكام المتفرقة الصادرة يومذاك، كانت تراوح بين تعليق على لفظة أو بيت، وقد تشمل قصائد كاملة كالمعلقات، أو شعراء في نتاجهم العام، كالأعشى والخنساء اللذين أعلن النابغة تفضيلهما على سائر الجاهليين.
وعلى أي حال، فإن هذه الأحكام التي تعتبر خطرات نقدية، ظلت فطرية مجتزأة، غير قائمة على قواعد فنية أو منطقية معللة، وكانت عبارة ( أشعر الشعراء متداولة رائجة. ولكن مهما تكن قيمة هذه الأحكام، فإنها شكلت حافزاً جعل بعض الشعراء كزهير بن أبي سلمى مثلاً يمضي حولاً كاملاً في نظم القصيدة حتى عرف هذا النوع بـ«الحوليات»، وقد كان الحطيئة يقول فيه «خير الشعر الحولي المحكك».
وإذا كان النقد الأدبي لم يسجل انطلاقة واسعة في العصر الإسلامي، فإنه تطور يتطور الحياة، ونما بنمو الذوق، بحسب البيئات المختلفة. ففي حين كان العراق والشام غارقين في السياسة والعصبيات القديمة، ومنصرفين إلى الفخر والمدح والهجاء، عرف الحجاز ميلاً واضحاً إلى الترف والغناء، فرقت حواشي الحياة فيه، وانعكس ذلك على اللهو والغزل: مضموناً وأسلوباً.

هذا الشعر على تعدد اتجاهاته، تعرض للنقد في مثل الظروف التي عرفها من قبل؛ فمريد البصرة أكمل دور سوق عكاظ، وظل النقاد هم الشعراء، وقد أضيف إليهم شخصيات اهتمت بالأدب وتذوقته. أما مستويات النقد فلم تختلف هي أيضاً عن تلك التي كانت قائمة فهذا الخليفة عبد الملك بن مروان يقلب القصائد التي يمدح بها، فيقبل معاني ويرفض أخرى، وهذا الراوية ابن أبي عتيق يحكم على شعر عمر بن أبي ربيعة بالمقياس نفسه.
وكان النقد يصدر أحكاماً عامة على الشعراء ، فكثير يأخذ على عمر بن أبي ربيعة تغزله بنفسه ويؤثر عليه الأحوص والأخطل يقول مفاضلاً: «جرير يعرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر ؛ وقد كانت الموازنات بين أركان المثلث الأموي: الأخطل والفرزدق وجرير ناشطة وكثيرة.

من ذلك كله يبدو أن طبيعة الأحكام لم تتغير ، وإن هي نمت وتطورت ؛ كذلك لم تتغير خصائصها كثيراً إذ ظل النقد فيها فطري الطابع، مفتقراً إلى التجرد والمنهجية، وإن هو عرف أحياناً بدايات تحليل للمعاني، ووقفات أمام الصياغة والنغم.
إن الجديد الذي عرفته الأعصر العباسية في مجالات الحضارة والتفاعل الثقافي انعكس تجديداً في مظاهر الحياة كلها، وقد كان لنقل التراث اليوناني إلى العربية، كما كان لامتزاج العناصر الأعجمية بالحياة، أثر واضح في تطوير الأدب روحاً ومعاني وألفاظاً. لقد ترك هذا الواقع بصمات على النقد وفتح آفاقه على التجديد، على أن ذلك لم يمنع وجود فئة محافظة من الأدباء، يواكبها اللغويون والبلاغيون كالكسائي وابن الأعرابي وأبي عمرو ابن العلاء، دعت إلى العناية باللفظ وجودة السبك، ولم تستحسن إلا ما حمل طابع القديم؛ وثمة فئة أخرى حاولت أن تتجرد فلا تفرق بين قديم وجديد، وفي طليعتها الجاحظ وابن قتيبة، وإن كان المتعمق في مقدمة كتاب هذا الأخير: «الشعر والشعراء»، يلمس ميله إلى حصر الجودة في أساليب القدماء.

والظاهرة اللافتة في هذا العصر ، كثرة الذين أفردوا للنقد كتباً خاصة، فمنهم من كابن سلام الجمحي، ألف في طبقات الشعراء ومنهم من اعتمد المقارنات والاتجاهات الأدبية، كالحسن بن بشر الآمدي الذي أقام موازنة بين البحتري وأبي تمام، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني الذي توخى الاعتدال في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه ؛ وقد أثار المثلث الشهير : أبو تمام والبحتري والمتنبي صراعاً بين القدماء والمجددين، مهد له بشار وأبو نواس، وبخاصة بعد أن دعا هذا الأخير إلى اعتماد الطبع واستلهام الحياة، وإلى استهلال القصائد بذكر الخمرة بدل الوقوف على الأطلال.
لقد تناول النقد العباسي الشعر والنثر، وتطرق إلى نواح جمالية مهمة، وهو إن ظل مع بعض النقاد يركز على قالب الأدب أكثر من مضمونه، فانه عرف عمقاً في النظرة مع أمثال الجاحظ وقدامة بن جعفر وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم. وما يجدر ذكره عن النقد العباسي أنه بالإجمال تحوّل في أحكامه من العفوية إلى التعمق، ومن الذوق البدائي إلى المثقف كذلك توخى التجرد، وسار بالفعل من الفطرة والطبع إلى العلم القائم على قواعد وأصول.

أما في عصر النهضة، فقد خطا النقد خطوات واسعة ساعدت عليها معطيات اجتماعية وثقافية جديدة، ولا سيما الانفتاح على الغرب وعلى التيارات الأدبية والفنية الناشئة. فبعد مرحلة تميزت بالمحافظة، أثارت موجة الحداثة وقصيدة النثر بنوع خاص اضطراباً وتبايناً في المواقف النقدية. لقد واكب النقد عبر الأعصر الخط الذي سلكه الأدب نفسه؛ فالمعطيات التي وجهتهما واحدة، والقضايا التي شغلتهما متقاربة في طليعتها قضينا المحافظة والتجديد، واللفظ والمعنى.

أما قضية المحافظة والتجديد أو القديم والحديث، فقد مر بنا أنها تثير موضوع التغير في الأذواق وفي الخيارات الأدبية، وأن المواقف منها تباينت في مطلع الأعصر العباسية، وما تزال إلى أيامنا هذه.

وأما مسألة اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون، فتدور حول عناصر الأدب والمفاضلة بينها، وقد طرحت منذ القديم، وما تزال المواقف منها متباينة تبعاً لتنوع الأذواق و تفاوت المعطيات الثقافية والفنية. وسواء أمالت فئة من النقاد إلى تغليب الجانب الشكلي معتبرة الصياغة مصدر الجمال الأدبي، أم التفتت فئة أخرى إلى المعاني وقيمتها الذاتية، فإن نظرة القدامى لم تتعد المعاني المفردة، وقد ظل مفهومهم للأدب قائماً على ثنائية اللفظ والمعنى ثنائية بدأت النظرة إليها تفرق بين العنصرين، وانتهت باعتبارهما وحدة لا تنفصم عراها.

وفي العصر الحديث، وبتأثير الثقافة المعاصرة والأبحاث الجمالية المستفيضة، أصبحت المعالجة لهذه المسألة أعمق وأدق، على أن ذلك لا يعني أن المواقف تلاقت والأحكام الفنية توحدت على أي حال، إذا سلمنا بوجود خلاف حول المسألة هذه ، فليس سببه أن فئة من النقاد اشترطت الجودة في أحد عنصري اللفظ والمعنى وأهملت الآخر مزدرية دوره وقيمته؛ ذلك أن الفئتين أقرتا بضرورة تجويد العنصرين ولكنهما اختلفتا في تقديم واحد على آخر، وقد ظل السؤال المطروح في أي مجال يجب أن يبذل الأديب جهده، وأين تتجلى موهبته؟ أتكون المفاضلة بينه وبين غيره على أساس أن الاسلوب وسيلة لا يتعدى حدودها، وأن قيمة الأديب رهن اتيانه بأكثر الأفكار عمقاً، والصور ابتكاراً، والعواطف صدقاً وأصالة؟ أم تكون المفاضلة على أساس أن المضمون واحد، تقدمه الحياة ويتساوى فيه الناس جميعاً، وأن تفوق الأديب وليد القوالب اللفظية الأجزل تركيباً والأجمل إيقاعاً . تلك هي المسألة التي كانت في صلب الخلاف، وسال في معالجتها حبر غزير، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، وما تزال مطروحة إلى اليوم.