Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

من أين ابدأ بوصف هذه الانطباعات العميقة والغامضة، التي تحدق بالواصل الجديد إلى قرية للسكان الأصليين، ظلت حضارتهم سليمة نسبياً؟ فما يلفت الانتباه لدى الكينغانغ أو الكادوفيو، الذين تشبه ضياعهم ضياع الفلاحين المجاورة، هو فرط البؤس ورد الفعل الأولي هو السام وتثبيط العزيمة. لكن الصدمة إزاء مجتمع مايزال حياً ومخلصاً لتقاليده هي من القوة بحيث تبعث على الارتباك: فأي خيط نتتبع بداية من هذه الشلة ذات الألف لون، لمحاولة حلها؟ إنني إذ أذكر البورورو، الذين كانوا أول تجربة لي من هذا النمط: أستعيد المشاعر التي غمرتني لحظة شروعي بتجربتي الأقرب عهداً، عندما بلغت أعلى تلة في إحدى قرى الكوكي على الحدود البورمية، بعد ساعات قضيتها على أربع متسلقاً منحدرات حولتها الأمطار الموسمية، التي كانت تهطل دون توقف إلى طين زلق: إنهاك جسدي، جوع وعطش واضطراب عقلي بالتأكيد، هذا الدوار العضوي الأصل، الذي تنيره إدراكات الأشكال وألوان : مساكن مهيبة بحجمها ، على الرغم من هشاشتها، أنشئت بمواد وتقنيات، نعرفها بتعبيرات مهيئة لأن هذه المساكن لم تبن بل عقدت بالأحرى، وعلاها أثر الاستعمال: وعوضاً عن سحق الساكن تحت كتلة الحجارة الباردة تتعامل بليونة مع وجوده وحركاته : وتظل على عكس ما يحدث عندنا مسخرة للإنسان وتنتصب القرية حول سكانها كدرع خفيفة ومطاطة، أقرب إلى قبعات نسائنا منها إلى مدننا هي حلية عظيمة، تحافظ على شيء من حياة الحنايا والأوراق التي استطاعت مهارة البنائين التوفيق بين سهولتها الطبيعية وبين مخططهم الصارم أما السكان فيبدون كأنهم يسترون عربهم بقطيفة الجدران المعشبة وأهداب سعف النخيل: إذ ينسلون خارج مساكنهم، كما يخلعون عباءة نعام كبيرة والأجساد فرحة بهذه الحلي الزغباء عليها مجسمات مرهفة وألوان تبرق بريق الأصباغ والرسوم، يحسب المرء أنها هيئت لإبراز تزيينات أكثر فخامة لمسات أسنان دهنية ولامعة وأنياب حيوانات متوحشة ترافق الريش والزهور وكأن حضارة برمتها كانت تتآمر باللطف الشغوف نفسه من أجل أشكال وجواهر وألوان الحياة، وللإمساك حول الجسم الإنساني بكنهه الأكثر ثراء، كانت تتجه - من بين كل هذه المنتجات - إلى تلك الأكثر دواماً أو الأسرع زوالاً لكنها بالتقاء غريب، بينما كنا منهمكين في ترتيب إقامتنا في زاوية الكوخ الواسع كنت أترك لنفسي العنان تتشرب بهذه الصور، فإذا كانت المساكن محافظة دائماً على الأوضاع والأبعاد التقليدية: إلا أن عمارتها، تأثرت بالطراز البرازيلي الجديد. ومع أن مواد السقوف والجدران كانت متماثلة من أغصان تحمل غطاء من سعف النخيل، إلا أن القسمين متمايزان والسقف مزودج الانحدار، بدلاً من المستدير ويهبط حتى الأرض تقريباً. على الرغم من أن قرية كيجارا التي وصلنا إليها لتونا، اللتين تكونان مجموعة ريوفير مياهو : بوبوري وجارودوري، واحدة من القرى القليلة التي لم يؤثر المبشرون فيها كثيراً. لأن هؤلاء المبشرين الذين توصلوا، إلى وضع حد للصراعات بين هنود ومعمرين قاموا في الوقت نفسه بتحقيقات التوغرافية ممتازة، بعد دراسة كارل فون ستينين الأكثر قدماً وبمشروع منظم لإبادة الثقافة المحلية. وواقعتان تشهدان على ذلك، وهي واحدة من أواخر معاقل الاستقلال، وكانت مقر إقامة رئيس قرى فيرميلهو المزعوم: وهو شخصية مترفعة وغامضة ، يجهل البرتغالية أو يتظاهر بذلك مهتم بحاجاتنا ويتساءل عن وجودنا : لكنه نظراً للمكانة، يتجنب مخاطبتي إلا بوساطة أعضاء مجلسه، والواقعة الثانية تتصل بواحد من الأهالي يسكن كيجارا، كان المقدر أن يكون مترجمي ومخبري الرئيسي. ويتكلم البرتغالية بصورة مقبولة. ووفقاً لأقواله فقد تعلم قراءتها وكتابتها (مع أنه كان عاجزاً عن ذلك في البعثة التبشيرية. فأرسله الآباء الفخورون بنجاحهم إلى روما، تزويجه على الطريقة المسيحية، دون اعتبار للأعراف والتقاليد . إلى أزمة روحية، خرج منها إلى القيم المثالية القديمة للبورورو: ومضى للإقامة في كيجارا، حيث يعيش منذ عشر سنين أو خمس عشرة سنة، حياة متوحشة مثالية عارياً تماماً، وشفته العليا شفتورة متزيناً بالريش. وبدا هندي البابا هذا، أستاذاً رائعاً في علم اجتماع البورورو أما الآن، فنحن محاطون ببضع عشرات من الأهالي، يتحدثون فيما بينهم ويتضاحكون ويتدافعون والبورورو، هم الأطول قامة والأمتن بنياناً بين هنود البرازيل . ووجوهم المتطاولة ذات الملامح المنتظمة القوية، تذكّر ببعض النماذج البنتاغونية، التي ينبغي ضمهم إليها ربما من وجهة النظر العرقية. إلا أن هذه الصفات المنسجمة نادرة لدى النساء، فهن أقصر قامة عموماً، وتشكل بشاشة الرجال للوهلة الأولى، تعارضاً صارخاً مع الموقف المتجهم للجنس الآخر. وعلى الرغم من الأوبئة التي تفشت في المنطقة، فإن السكان يبعثون على الدهشة بصحتهم الجيدة ذلك، كان الرجال عراة تماماً إلا من قمع من القش يغطي طرف القضيب. وأغلبهم مطلي من رأسه إلى قدميه باللون الأحمر الذي يستخرجونه من حبوب الأوروكو المسحوقة مع الدهن وحتى الشعر سواء كان متدلياً بهذه العجينة. ويتوافق هذا اللون الأساسي مع طلاءات أخرى كحذوة الحصان من الراتنج الأسود اللامع، تغطي الجبهة وتنتهي إلى الوجنتين على مستوى الفم، تلصق على الكتفين والذراعين؛ أو نثر مسحوق الصدف على الكتفين والجذع. أما النساء فيرتدين مشزراً قطنياً مصبوغاً بالأوروكو، حول حزام قاس من اللحاء يمسك بشريط لحاثي أبيض، أكثر طراوة يمر من بين الفخذين وتجتاز الصدر شلة مزدوجة من قطن جدل بدقة. ويكتمل هذا الزي بعصابات من القطن، تشد حول الكاحلين والعضدين والرسغين. وشيئاً فشيئاً مضى الجميع وكنا نتقاسم الكوخ الذي يبلغ اثني عشر متراً طولاً، مع أسرة ساحر صامتة وعدائية، وأرملة عجوز تعيش على صدقة بعض الأقارب الذين يسكنون أكواخاً مجاورة لكنها لإهمالهم إياها غالباً، كانت تقضي الساعات في رثاء أزواجها المتتالين الخمسة والزمان السعيد الذي لم يكن المانيوق ولا الذرة ولا الطرائد أو السمك تعوزها فيه قط. ووحدهم الرجال يغنون وهم بتوافقهم والألحان البسيطة التي تتكرر وتتكرر، والتقابل بين الغناء الفردي والجماعي، يُذكرون ببعض الغناء الجرماني الجماعي الحربي لم هذا الغناء؟ وأجابوا : بسبب الأرارا. وكان لابد قبل أكلها أن تقام بعض الطقوس المعقدة لراحة نفسها، ومباركة الصيد ولشدة تعبي، ونمت منذ غابت الشمس نوماً مضطرياً، نتيجة الإرهاق والغناء الذي استمر حتى الفجر وسيظل الأمر على هذه الحال حتى نهاية زيارتنا : إذ تخصص الليالي للحياة الدينية : بينما كان الأهالي ينامون من شروق الشمس حتى الظهيرة. وفيما عدا بعض آلات النفخ التي ظهرت في لحظات معينة من الطقوس، اقتصرت المصاحبة الوحيدة للأصوات، على خشخاشات من القرع مملوءة بالحصى يهزها قائد الجوق وكان الاستماع إليهم ممتعاً : فتارة يهيج، وتارة يوقف الأصوات بضربة أحياناً يملؤون الصمت بآلاتهم، وأخرى يملؤونه بألحان ممتدة ومتماوجة صعوداً وهبوطاً : ويقودون أخيراً، الراقصين من خلال تناوب الصمت مع الأصوات التي تتنوع بطولها وشدتها إلى حد أنه ما كان لأي قائد لإحدى فرقنا الموسيقية الكبرى أن يعبر عن إرادته بصورة أفضل. فليس مدهشاً إذاً اعتقاد الأهالي وحتى المبشرين أنفسهم، بسماع الشياطين تتكلم بوساطة الخشخاشات ومن المعلوم من جهة أخرى، أنه إذا تبددت أوهام قديمة بشأن ما يزعم أنه لغات الطبول»، فمن المرجح أنها تقوم لدى بعض الشعوب، على تشفير حقيقي للغة التي تختصر إلى بعض التعابير ذات المغزى يعبر عنها بصفة رمزية. نهضت مع الصباح لزيارة القرية وإذا بي أتعثر عند الباب بدواجن تثير الشفقة وهي من الأرارا البيتية، التي يشجعها الهنود على العيش في القرية، وبهذا يحصلون على المادة الأولية لتزيين رؤوسهم كانت الطيور شبيهة، وهي معراة وعاجزة عن الطيران بدجاجات جاهزة للشي؛ وزاد من ضخامة منقارها تناقص حجمها إلى النصف. بينما كانت طيور أخرى من الأرارا، استعادت ريشها تجثم بوقار على الأسقف كرموز شعارية مطلية بمينا المناقير واللازورد وجدت نفسي وسط فرجة، يحف بها النهر من جانب، ومن الجوانب الأخرى أشلاء غابة تخفي البساتين، وتسمح برؤية خلفية من التلال بين الأشجار ويشغل محيطها أكواخ - خمسة وعشرون بالضبط - مماثلة لكوخي، وفي الوسط كوخ أكبر بكثير من باقي الأكواخ بطول عشرين متراً تقريباً، ويقضي الذكور يومهم حينما لا ينشغلون بالصيد أو القنص، أو ببعض الاحتفالات العامة على حلبة الرقص وهي موضع محدد بأوتاد ، يقع في الجانب الغربي من بيت الرجال. والدخول إلى هذا الأخير ممنوع بتاتاً على النساء: فهن يملكن منازل على المحيط، عدة مرات في اليوم بالذهاب والإياب بين النادي والمنزل الأسري، مستعملين الدرب الذي يصل أحدهما بالآخر عبر عواسج الفرجة وتشبه قرية البورورو، لو نظر إليها من أعلى شجرة أو من سقف عجلة عربة ترسم المنازل الأسرية دائرتها والدروب أشعتها ، وبيت الرجال مركزها. كانوا يتجاوزون بكثير المعدل الحالي (نحو) مائة وخمسين شخصاً في كيجارا) وكانت المنازل الأسرية، إذ إنها تبدو مع بعض التنوع في التفاصيل نموذجية لكل قبائل جماعة الجي اللغوية التي تحتل الهضبة البرازيلية الوسطى بين نهري آراغويا وساوفرانسيسكو ويشكل البورورو، على الأرجح ممثليها الجنوبيين. لكننا على علم بأن جيرانهم الأقرب من ناحية الشمال الكايابو الذين يقطنون في الشاطئ الأيمن لريو داس مورتيس وتم الوصول إليهم منذ خمس عشرة سنة فقط، يبنون قراهم بطريقة مشابهة، كما يفعل الآبينايه والشيرينته والكانيلا. يكتسي التوزيع الدائري للأكواخ حول بيت الرجال، أهمية فيما يتصل بالحياة الاجتماعية وممارسة العبادة، جعلت مبشري منطقة ريوداس غارساس يدركون سريعاً ، هي إقناعهم بترك قراهم إلى قرى تتوضع المنازل فيها بشكل صفوف متوازية، فضل الأهالي السبيل بالنسبة للجهات الأصلية، وحرموا من المخطط الذي يستندون إليه في معارفهم، وبالتالي أخذوا يفقدون معنى التقاليد، وكأن منظومتيهم الاجتماعية والدينية (سنرى أنهما لا تنفصلان، بحيث لا تستغنيان عن البنية الفكرية، والتي تجدد حركاتهم اليومية الدائمة خطوطها. والحق يقال لاقوا كثيراً من العنت في فهم هذه البنية العصية، وفي الحفاظ على ذكراها . ولابد لمن يذهب إلى البورورو من أن يتزود سلفاً بما قام به المبشرون من أعمال. مقارنة النتائج التي توصلوا إليها، لم يكونوا بعد دخلوها، حيث لما تزل المنظومة تحتفظ بحيويتها. وهكذا كنت أقوم على هدي من الوثائق المنشورة سابقاً، بالحصول من مخبري على تحليل لبنية قريتهم فكنا نقضي يومنا في التجوال من منزل إلى منزل، كما نخط على أرضية الفرجة الخطوط الوهمية التي تحدد القطاعات التي ترتبط بها شبكات معقدة من الامتيازات والتقاليد والمراتب والحقوق والواجبات. لا تتوافق بالضبط مع ما تشير إليه البوصلة. تشكل مماساً لضفة ريوفيرميلهو الشرقية الذي يجري في اتجاه شرق - غرب تقريبي : وقطر القرية الموازي نظرياً
يشطر السكان إلى فئتين: التشيرا في الشمال والتوغاريه في الجنوب. ويبدو - لكن المسألة ليست مؤكدة تماماً أن معنى الاسم الأول: ضعيف، والمعنى الثاني قوي ومهما يكن من أمر فالتقسيم جوهري لسببين لأن الفرد ينتمي، بداية إلى شطر أمه دائماً، ثم إنه لا يستطيع الزواج إلا من أحد أعضاء الشطر الآخر. والنساء يسكن ويرثن البيوت التي ولدن فيها. وعبور القطر الوهمي الذي يفصل بين الشطرين، ويخفف بيت الرجال من هذا الاغتراب، يتعدى إلى أرض هذا الشطر وذاك. الذي ينفتح على أرض التشيرا، وذلك الذي ينفتح على أرض التوغاريه باب التشيرا. ذلك لأن استعمالهما مقتصر على الرجال، يرجعون بأصلهم إلى القطاع الآخر والعكس صحيح. والرجل المتزوج في أسرته لا يشعر أبداً بأنه في بيته : فبيته، ويقترن بذكريات الطفولة، ويسكنه أزواجهم الآن. يمكنه أن يعود إليه أنَّى شاء وهو متيقن من أنه سيكون موضع ترحيب. وإذا ما بدا له جو البيت الأسري جد ثقيل ( عندما يكون أخوة زوجته في زيارة له يستطيع الذهاب للنوم في بيت الرجال، حيث يستعيد ذكريات مراهقته وصحبة الذكور، ويستعيد جواً دينياً، لا يقصيه من نصب الحبائل للفتيات العازبات. والانقسام لا يضبط الزيجات فقط، بل جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية أيضاً. فكلما يكتشف عضو من شطر، حقاً له أو واجباً عليه يكون ذلك لمصلحة الشطر الآخر، يشرف التوغاريه على مراسيم دفن عضو من التشيرا، فشطرا القرية شريكان إذاً ، وكل عمل اجتماعى أو دينى يتضمن مساعدة الآخر، الذي تستبعد الخصومة : إذ ثُمَّة تعال من شطر على آخر ، لنتخيل إذاً حياة اجتماعية على مثال فريقين لكرة القدم اللذين عوضاً عن سعي كل منهما لإفشال استراتيجية الآخر، يدأبان على خدمة أحدهما للآخر، ويقدران الفوز بدرجة الكمال والكرم اللتين يبلغهما كل منهما . لنمر الآن إلى جانب آخر: إذ ثمة محور آخر متعامد مع السابق ويقطع الشطرين وفقاً لمحور شمال - جنوب . يُنسب جميع السكان الذين ولدوا شرقي هذا المحور إلى المنبع، بينما يُنسب الذين ولدوا غربه إلى المصب. فلدينا إذا أربعة قطاعات عوضاً عن الشطرين وللتشيرا، كما للتوغاريه المقام نفسه في جزء من جانب، إلا أنه لم يتمكن أي باحث بعد للأسف، من أن يفهم بالضبط دور هذا التقسيم الثاني الذي تُناقش حتى حقيقة وجوده والسكان، تعتبر نفسها أقارب من جهة النساء، انطلاقاً من جد مشترك ذي طبيعة أسطورية، إن أعضاء العشيرة يتعارفون فيما بينهم بالاسم الواحد الذي يحملونه. ومن المرجح أن عدد العشائر في الماضي ثمان أربع للتشيرا، لكن بعضها اندثر بمرور الزمان، وأخرى انقسمت من جديد ومهما يكن من أمر من المؤكد أن أعضاء عشيرة ما - باستثناء المتزوجين منهم - يسكنون جميعاً الكوخ نفسه، أو أكواخاً متلاصقة فلكل عشيرة موقعها إذاً، في دائرة المنازل: وهي قد تكون تشيرا أو توغاريه من المنبع أو المصب، أو موزعة إلى جماعتين فرعيتين من خلال هذا التقسيم الأخير، سواء من جانب أم من جانب آخر، عبر مساكن عشيرة معينة. أضف إلى كل هذا التعقد أن كل عشيرة، تتضمن جماعات فرعية وراثية، فهناك في كل عشيرة أسر «حمراء» وأخرى «سوداء». كانت في الماضي منقسمة إلى ثلاث درجات: الأعلون والأواسط والأسافل، وربما كان في هذا الانقسام انعكاس أو نقل لنظام الطبقات المتراتبة للمبايا - كادوفيو التي سأعود إليها . هو أن هذه الدرجات كانت لا تتزاوج فيما بينها فليس بوسع الأعلى الزواج إلا من أعلى (من الشطر الآخر)، نظراً للانهيار الديمغرافي لقرى البورورو: بعدما أضحت القرية، تعد الآن من مائة إلى مائتي ساكن، ولم يعد فيها ما يكفي من الأسر لملء كل الفئات. ولم تعد تحترم سوى قاعدة الشطرين (مع أن بعض العشائر النبيلة مستثناة منها ربما) ويرتجل الأهالي لما تبقى حلولاً متعثرة تبعاً للإمكانات. كما يشكل توزع السكان إلى عشائر «المعطيات» الأكثر أهمية التي تروق لمجتمع البورورو يبدو. ففي إطار المنظومة العامة للزواج، من خلال تألفات خاصة: إذ تفضل عشيرة من التشير المصاهرة مع عشيرتين أو ثلاث من التوغاريه والعكس صحيح. ويتم اختيار رئيس القرية إلزامياً من عشيرة معينة، وفقاً للسلالة النسائية من الخال إلى ابن أخته. وهناك عشائر «ثرية» وأخرى « فقيرة»، تقوم هذه الفوارق في الثراء؟ لنتوقف هنيهة عند هذه النقطة. اقتصادي بصفة رئيسية ومهما كان مستوى حياة البورورو متواضعاً ، فالبعض أمهر من بعض في القنص أو الصيد، وأكثر حظاً أو أمهر صناعة من الآخرين. إذ تلاحظ في كيجارا علامات على وجود تخصص مهني، كهذا المتخصص في صناعة المصاقل الحجرية، يقايض بها المواد الغذائية، ويعيش بيسر كما يبدو. ومع ذلك تظل هذه الاختلافات فردية، وعابرة إذن والاستثناء الوحيد هو الرئيس: حيث يتلقى خدمات جميع العشائر بشكل مؤن أو أشياء مصنوعة. يجد نفسه دائماً في وضع القائم على مصرف : فثروات كثيرة تمر بين يديه، دون أن يملك منها شيئاً ومقتنياتي من الأشياء الدينية، حصلت عليها مقابل هدايا وزعها الرئيس في الحال على العشائر، أما غنى العشائر من حيث المنزلة، والتقاليد والرقصات والوظائف الاجتماعية والدينية وتؤسس الأساطير بدورها لامتيازات تقنية هي السمات الأكثر إثارة للعجب في ثقافة البورورو. بطريقة تتيح التعرف على عشيرة المالك، وفي طريقة تقليمها وتقويرها، وفي ترتيب أنواع الريش وألوانه المختلفة، وفي تنفيذ بعض الأعمال الزخرفية : كجدل الألياف، وهكذا تزين قسي الاحتفالات بريش أو حلقات من اللحاء، وفقاً للقواعد المتبعة لدى كل عشيرة؛ بين ريشات مؤخرتها زينة مميزة، وتقطع عناصر المؤخرة الصدفية بأشكال بيضوية أو سمكية أو مستطيلة، تختلف باختلاف العشائر وتتنوع ألوان الأهداب وتزود أكاليل الريش التي تلبس أثناء الرقص بشعار (قطعة خشبية مسطحة عموماً، مكسوة بفسيفساء من نتف الريش الملصقة يرمز إلى عشيرة المالك. شريط صلب من القش مزين أو منقوش بألوان العشيرة وأشكالها كراية طريفة. تشكل هذه الامتيازات القابلة للتحويل، في الواقع موضوع مراقبة مشددة وشرسة. كما يقال أن تستولي عشيرة على امتيازات عشيرة أخرى وإلا سيفتح الباب لصراع دموي والحال أن الفوارق من وجهة النظر هذه بين العشائر ضخمة: فبعضها مترفة، والأخرى بائسة وتكفي رؤية أثاث الأكواخ للوقوف على ذلك؛ وعوضاً عن التمييز بين أثرياء وفقراء، سنقسمهم إلى أجلاف ومرهفي الذوق تتصف عدة البورورو المادية ببساطة، مقرونة بمهارة نادرة في صنعها. على الرغم من الفؤوس والسكاكين التي وزعتها عليهم مصلحة الحماية في الماضي. وإذا كان الأهالي يلجؤون إلى الآلات المعدنية للأشغال الكبيرة، فإنهم مستمرون في صنع الهراوات، وشغل القسي والسهام من الخشب القاسي بأداة هي وسط بين القدوم والإزميل، كما نفعل نحن بسكين الجيب وتتألف من إحدى القواطع المقوسة لحيوان المكابيفارا وهو من قوارض الضفاف النهرية، تثبت جانبياً برباط على طرف مقبض. ولا تحتوي الأكواخ فيما عدا حصر وسلال القصب، وأسلحة وأدوات الرجال من العظام أو الخشب وعصي الحفر للنساء المسؤولات عن الأعمال الزراعية، إلا الشيء القليل أوعية من قرع مرغ وجفف، وأحواض نصف كروية، وقصاع تستطيل في أحد جوانبها بمقبض كمغرفة وأشكال هذه الأشياء بالغة النقاء الذي يبرزه تقشف المادة المستعملة فيها. والمثير للاستغراب هو أن البورورو كانوا يزخرفون الفخاريات قديماً، إلا أن تحريماً دينياً قريب العهد نسبياً، يعملون رسوماً على الصخور، كالتي لا يزال يعثر عليها في الملاجئ تحت صخور الشابادا: حيث نتعرف فيها على موضوعات عديدة من ثقافتهم. ويعكف أحد الأهالي على الرسم مستخدماً عجينة الأوروكو والرانج ومع أن البورورو أضاعوا ذكرى ذلك الزمان الذي كانوا يرسمون فيه على الجدران الصخرية، ولم يعودوا يترددون إلى المنحدرات الشديدة التي توجد فيها، إلا أن اللوحة النهائية التي وجدتها بين يدي كانت تبدو رسماً صخرياً مصغراً. وعلى خلاف تقشف الأشياء المخصصة للاستعمال، يحصر البورورو كل بذخهم وخيالهم في الملابس أو على الأقل - باعتبار هذه الأخيرة شديدة الاختصار - في لواحقها، تنتقل من الأم لابنتها : وهي حلي من أسنان القرد أو أنياب الفهد، مركبة على خشب ومثبتة برباط دقيق. وإذا كانت غنائم القنص من حقهن هكذا، فإنهن يسمحن الرجالهم بنتف شعر الصدغ لديهن، كما يضع الرجال على رؤوسهم أيام الاحتفالات حلية على شكل هلال متكونة من مخلبين من مخالب التاتو الكبير - وهو حيوان من اكلات النمل، ولم يكد يتحول منذ العصر الثالث - مطعمة بالصدف، وأهداب من الريش أو القطن وتبرز مناقير طير الطوقان الضخمة المثيئة على قضيان مريشة وباقات من قنزعات أبو قردان وريش ذيل الأرارا الطويل مع حزم الخيزران المفرغ التي يلصق عليها زغب أبيض وتحيط بشعورهم المعقوصة - الطبيعية أو الاصطناعية - مثل ملاقط الشعر، التي تتوازن من الخلف مع إكليل الريش المحيط بالجبهة. وقد تتراكب هذه الزينات في غطاء رأس خليط يتطلب وضعه على رأس الراقص عدة ساعات أحياناً. وقد حصلت على أحدها لمتحف الإنسان في مقابل بندقية، بعد مفاوضات امتدت لثمانية أيام. ولا يستطيع الأهالي التخلي عنه إلا بعد أن يجمعوا من القنص تشكيلة الريش اللازمة لصنع واحد آخر. ويتألف من إكليل على شكل مروحة وواقية من الريش تغطي الجزء الأعلى من الوجه وتاج أسطواني عال، يحيط بالرأس من أعواد يعلوها ريش عقاب، وقرص من القش يستعمل لتثبيت قضبان الصق بها ريش وزغب ويصل ارتفاع المجموع إلى مترين تقريباً. وحتى عندما لا يكون الرجال في زي المراسم، فإن تعلقهم بالزينة من القوة، بحيث يجعلهم يرتجلون البهرجة باستمرار فكثير منهم يضعون على رؤوسهم تيجاناً من فراء مزين بالريش، تركب على حلقة من الخشب. لكن أشياء أقل من ذلك بكثير، تكفي لتخلب البابهم من مثل شريط من القش المجفف يلتقطونه من الأرض ويسارعون إلى لغه وتلوينه عاملين منه تعرى شجرة من زهورها أحياناً، بفرصة إبداع فنان لأقراط الأذنين. وعلى المرء أن يدخل إلى بيت الرجال، ليقف على مقدار النشاط الذي يبذله هؤلاء الرجال في تجميل أنفسهم. إذ نجدهم في كل ركن منه منهمكين في التشكيل والنقش واللصق، حيث تقطع أصداف النهر، وتصقل بقوة على مسنات لتصنع منها العقود والشفاتير التي يشكونها في شفاههم، وتفتعل تركيبات خيالية من الخيزران والريش وإذا بهؤلاء الرجال الأشداء، باجتهاد جدير بخياطة ماهرة إلى كتاكيت بوساطة الزغب الذي يلصقونه على جلودهم. وإذا كان بيت الرجال مشغلاً، فهو شيء آخر أيضاً : إذ ينام المراهقون فيه، ويقضي المتزوجون وقت القيلولة عند فراغهم يتحدثون ويدخنون سيجاراتهم الملفوفة بأوراق الذرة الجافة. لأن نظاماً دقيقاً للسخرة يُلزم العشائر بالتناوب على خدمة بيت الرجال فيمضي رجل منهم كل ساعتين تقريباً إلى منزله، ليأتي بقدر مملوء بعصيدة الذرة التي تهيئها النساء ويتلقاه الحضور بصرخات الفرح، أو أو التي تقطع الصمت وبمراسم معينة، يقوم الرجل بدعوة ستة أو ثمانية رجال إلى الطعام، حيث يغترفون منه بإناء من فخار أو أصداف وكنت أشرت إلى منع النساء من دخول البيت وهذا صحيح بالنسبة للمتزوجات والفتيات يتجنين الاقتراب منه طوعاً، لأنهن على معرفة جيدة بما سيكون عليه مصيرهن. فربما يقبض عليهن ويغتصبن لكنهن مجبرات على الدخول إليه من جهة أخرى، لطلب زوج المستقبل.


Original text

من أين ابدأ بوصف هذه الانطباعات العميقة والغامضة، التي تحدق بالواصل الجديد إلى قرية للسكان الأصليين، ظلت حضارتهم سليمة نسبياً؟ فما يلفت الانتباه لدى الكينغانغ أو الكادوفيو، الذين تشبه ضياعهم ضياع الفلاحين المجاورة، هو فرط البؤس ورد الفعل الأولي هو السام وتثبيط العزيمة. لكن الصدمة إزاء مجتمع مايزال حياً ومخلصاً لتقاليده هي من القوة بحيث تبعث على الارتباك: فأي خيط نتتبع بداية من هذه الشلة ذات الألف لون، لمحاولة حلها؟ إنني إذ أذكر البورورو، الذين كانوا أول تجربة لي من هذا النمط: أستعيد المشاعر التي غمرتني لحظة شروعي بتجربتي الأقرب عهداً، عندما بلغت أعلى تلة في إحدى قرى الكوكي على الحدود البورمية، بعد ساعات قضيتها على أربع متسلقاً منحدرات حولتها الأمطار الموسمية، التي كانت تهطل دون توقف إلى طين زلق: إنهاك جسدي، جوع وعطش واضطراب عقلي بالتأكيد، لكن أيضاً، هذا الدوار العضوي الأصل، الذي تنيره إدراكات الأشكال وألوان : مساكن مهيبة بحجمها ، على الرغم من هشاشتها، أنشئت بمواد وتقنيات، نعرفها بتعبيرات مهيئة لأن هذه المساكن لم تبن بل عقدت بالأحرى، وجدلت، وطرزت، وعلاها أثر الاستعمال: وعوضاً عن سحق الساكن تحت كتلة الحجارة الباردة تتعامل بليونة مع وجوده وحركاته : وتظل على عكس ما يحدث عندنا مسخرة للإنسان وتنتصب القرية حول سكانها كدرع خفيفة ومطاطة، أقرب إلى قبعات نسائنا منها إلى مدننا هي حلية عظيمة، تحافظ على شيء من حياة الحنايا والأوراق التي استطاعت مهارة البنائين التوفيق بين سهولتها الطبيعية وبين مخططهم الصارم أما السكان فيبدون كأنهم يسترون عربهم بقطيفة الجدران المعشبة وأهداب سعف النخيل: إذ ينسلون خارج مساكنهم، كما يخلعون عباءة نعام كبيرة والأجساد فرحة بهذه الحلي الزغباء عليها مجسمات مرهفة وألوان تبرق بريق الأصباغ والرسوم، يحسب المرء أنها هيئت لإبراز تزيينات أكثر فخامة لمسات أسنان دهنية ولامعة وأنياب حيوانات متوحشة ترافق الريش والزهور وكأن حضارة برمتها كانت تتآمر باللطف الشغوف نفسه من أجل أشكال وجواهر وألوان الحياة، وللإمساك حول الجسم الإنساني بكنهه الأكثر ثراء، كانت تتجه - من بين كل هذه المنتجات - إلى تلك الأكثر دواماً أو الأسرع زوالاً لكنها بالتقاء غريب، المؤتمنة المتميزة عليه.
بينما كنا منهمكين في ترتيب إقامتنا في زاوية الكوخ الواسع كنت أترك لنفسي العنان تتشرب بهذه الصور، عوضاً عن إدراكها من الخارج. وأخذت بعض التفصيلات مكانها. فإذا كانت المساكن محافظة دائماً على الأوضاع والأبعاد التقليدية: إلا أن عمارتها، تأثرت بالطراز البرازيلي الجديد. فمخططها كان مستطيلاً. ولم يعد بيضوياً، ومع أن مواد السقوف والجدران كانت متماثلة من أغصان تحمل غطاء من سعف النخيل، إلا أن القسمين متمايزان والسقف مزودج الانحدار، بدلاً من المستدير ويهبط حتى الأرض تقريباً. على الرغم من أن قرية كيجارا التي وصلنا إليها لتونا، تظل مع الاشتين الأخريين، اللتين تكونان مجموعة ريوفير مياهو : بوبوري وجارودوري، واحدة من القرى القليلة التي لم يؤثر المبشرون فيها كثيراً. لأن هؤلاء المبشرين الذين توصلوا، بمساعدة مصلحة الحماية. إلى وضع حد للصراعات بين هنود ومعمرين قاموا في الوقت نفسه بتحقيقات التوغرافية ممتازة، أفضل مصادرنا عن البورورو، بعد دراسة كارل فون ستينين الأكثر قدماً وبمشروع منظم لإبادة الثقافة المحلية. وواقعتان تشهدان على ذلك، في كيجارا ، وهي واحدة من أواخر معاقل الاستقلال، وكانت مقر إقامة رئيس قرى فيرميلهو المزعوم: وهو شخصية مترفعة وغامضة ، يجهل البرتغالية أو يتظاهر بذلك مهتم بحاجاتنا ويتساءل عن وجودنا : لكنه نظراً للمكانة، واللغة أيضاً، يتجنب مخاطبتي إلا بوساطة أعضاء مجلسه، الذين يتخذ بصحبتهم جميع قراراته.
والواقعة الثانية تتصل بواحد من الأهالي يسكن كيجارا، كان المقدر أن يكون مترجمي ومخبري الرئيسي. يبلغ الخامسة والثلاثين، ويتكلم البرتغالية بصورة مقبولة. ووفقاً لأقواله فقد تعلم قراءتها وكتابتها (مع أنه كان عاجزاً عن ذلك في البعثة التبشيرية. فأرسله الآباء الفخورون بنجاحهم إلى روما، حيث استقبله البابا. وأرادوا ، لدى عودته، كما يبدو، تزويجه على الطريقة المسيحية، دون اعتبار للأعراف والتقاليد . فانتهت هذه المحاولة به، إلى أزمة روحية، خرج منها إلى القيم المثالية القديمة للبورورو: ومضى للإقامة في كيجارا، حيث يعيش منذ عشر سنين أو خمس عشرة سنة، حياة متوحشة مثالية عارياً تماماً، مطلياً باللون الأحمر، يخترق أنفه، وشفته العليا شفتورة متزيناً بالريش. وبدا هندي البابا هذا، أستاذاً رائعاً في علم اجتماع البورورو أما الآن، فنحن محاطون ببضع عشرات من الأهالي، يتحدثون فيما بينهم ويتضاحكون ويتدافعون والبورورو، هم الأطول قامة والأمتن بنياناً بين هنود البرازيل . فرؤوسهم المستديرة، ووجوهم المتطاولة ذات الملامح المنتظمة القوية، وبنياتهم المتينة، تذكّر ببعض النماذج البنتاغونية، التي ينبغي ضمهم إليها ربما من وجهة النظر العرقية. إلا أن هذه الصفات المنسجمة نادرة لدى النساء، فهن أقصر قامة عموماً، هزيلات، وملامحهن غير منتظمة. وتشكل بشاشة الرجال للوهلة الأولى، تعارضاً صارخاً مع الموقف المتجهم للجنس الآخر. وعلى الرغم من الأوبئة التي تفشت في المنطقة، فإن السكان يبعثون على الدهشة بصحتهم الجيدة ذلك، ومع كان فيهم مريض بالجذام.
كان الرجال عراة تماماً إلا من قمع من القش يغطي طرف القضيب. وأغلبهم مطلي من رأسه إلى قدميه باللون الأحمر الذي يستخرجونه من حبوب الأوروكو المسحوقة مع الدهن وحتى الشعر سواء كان متدلياً بهذه العجينة. ويتوافق هذا اللون الأساسي مع طلاءات أخرى كحذوة الحصان من الراتنج الأسود اللامع، تغطي الجبهة وتنتهي إلى الوجنتين على مستوى الفم، وشرائط من الزغب الأبيض، تلصق على الكتفين والذراعين؛ أو نثر مسحوق الصدف على الكتفين والجذع. أما النساء فيرتدين مشزراً قطنياً مصبوغاً بالأوروكو، حول حزام قاس من اللحاء يمسك بشريط لحاثي أبيض، أكثر طراوة يمر من بين الفخذين وتجتاز الصدر شلة مزدوجة من قطن جدل بدقة. ويكتمل هذا الزي بعصابات من القطن، تشد حول الكاحلين والعضدين والرسغين.
وشيئاً فشيئاً مضى الجميع وكنا نتقاسم الكوخ الذي يبلغ اثني عشر متراً طولاً، وخمسة أمتار عرضاً، مع أسرة ساحر صامتة وعدائية، وأرملة عجوز تعيش على صدقة بعض الأقارب الذين يسكنون أكواخاً مجاورة لكنها لإهمالهم إياها غالباً، كانت تقضي الساعات في رثاء أزواجها المتتالين الخمسة والزمان السعيد الذي لم يكن المانيوق ولا الذرة ولا الطرائد أو السمك تعوزها فيه قط.
كان الغناء في الخارج، بدأ بلغة خافتة، رنانة وحلقية، ولفظ محكم. ووحدهم الرجال يغنون وهم بتوافقهم والألحان البسيطة التي تتكرر وتتكرر، والتقابل بين الغناء الفردي والجماعي، والأسلوب الذكري المأساوي، يُذكرون ببعض الغناء الجرماني الجماعي الحربي لم هذا الغناء؟ وأجابوا : بسبب الأرارا. فقد جلبنا طريدتنا، وكان لابد قبل أكلها أن تقام بعض الطقوس المعقدة لراحة نفسها، ومباركة الصيد ولشدة تعبي، نسيت مهمتي كانتوغرافي، ونمت منذ غابت الشمس نوماً مضطرياً، نتيجة الإرهاق والغناء الذي استمر حتى الفجر وسيظل الأمر على هذه الحال حتى نهاية زيارتنا : إذ تخصص الليالي للحياة الدينية : بينما كان الأهالي ينامون من شروق الشمس حتى الظهيرة.
وفيما عدا بعض آلات النفخ التي ظهرت في لحظات معينة من الطقوس، اقتصرت المصاحبة الوحيدة للأصوات، على خشخاشات من القرع مملوءة بالحصى يهزها قائد الجوق وكان الاستماع إليهم ممتعاً : فتارة يهيج، وتارة يوقف الأصوات بضربة أحياناً يملؤون الصمت بآلاتهم، وأخرى يملؤونه بألحان ممتدة ومتماوجة صعوداً وهبوطاً : ويقودون أخيراً، الراقصين من خلال تناوب الصمت مع الأصوات التي تتنوع بطولها وشدتها إلى حد أنه ما كان لأي قائد لإحدى فرقنا الموسيقية الكبرى أن يعبر عن إرادته بصورة أفضل. فليس مدهشاً إذاً اعتقاد الأهالي وحتى المبشرين أنفسهم، قديماً ، بسماع الشياطين تتكلم بوساطة الخشخاشات ومن المعلوم من جهة أخرى، أنه إذا تبددت أوهام قديمة بشأن ما يزعم أنه لغات الطبول»، فمن المرجح أنها تقوم لدى بعض الشعوب، على الأقل، على تشفير حقيقي للغة التي تختصر إلى بعض التعابير ذات المغزى يعبر عنها بصفة رمزية.
نهضت مع الصباح لزيارة القرية وإذا بي أتعثر عند الباب بدواجن تثير الشفقة وهي من الأرارا البيتية، التي يشجعها الهنود على العيش في القرية، لنزع ريشها وهي حية؛ وبهذا يحصلون على المادة الأولية لتزيين رؤوسهم كانت الطيور شبيهة، وهي معراة وعاجزة عن الطيران بدجاجات جاهزة للشي؛ وزاد من ضخامة منقارها تناقص حجمها إلى النصف. بينما كانت طيور أخرى من الأرارا، استعادت ريشها تجثم بوقار على الأسقف كرموز شعارية مطلية بمينا المناقير واللازورد وجدت نفسي وسط فرجة، يحف بها النهر من جانب، ومن الجوانب الأخرى أشلاء غابة تخفي البساتين، وتسمح برؤية خلفية من التلال بين الأشجار ويشغل محيطها أكواخ - خمسة وعشرون بالضبط - مماثلة لكوخي، ومتوضعة بشكل دائري، على صف واحد . وفي الوسط كوخ أكبر بكثير من باقي الأكواخ بطول عشرين متراً تقريباً، وعرض ثمانية أمتار. هو البيتماناجيو، أي بيت الرجال، حيث ينام العزاب، ويقضي الذكور يومهم حينما لا ينشغلون بالصيد أو القنص، أو ببعض الاحتفالات العامة على حلبة الرقص وهي موضع محدد بأوتاد ، يقع في الجانب الغربي من بيت الرجال. والدخول إلى هذا الأخير ممنوع بتاتاً على النساء: فهن يملكن منازل على المحيط، ويقوم الأزواج، عدة مرات في اليوم بالذهاب والإياب بين النادي والمنزل الأسري، مستعملين الدرب الذي يصل أحدهما بالآخر عبر عواسج الفرجة وتشبه قرية البورورو، لو نظر إليها من أعلى شجرة أو من سقف عجلة عربة ترسم المنازل الأسرية دائرتها والدروب أشعتها ، وبيت الرجال مركزها. كان هذا المخطط قديماً، مخططاً لكل القرى، إلا أن سكانها، كانوا يتجاوزون بكثير المعدل الحالي (نحو) مائة وخمسين شخصاً في كيجارا) وكانت المنازل الأسرية، على عدة دوائر، عوضاً عن واحدة وليس البورورو الوحيدين، الذين لهم هذه القرى الدائرية. إذ إنها تبدو مع بعض التنوع في التفاصيل نموذجية لكل قبائل جماعة الجي اللغوية التي تحتل الهضبة البرازيلية الوسطى بين نهري آراغويا وساوفرانسيسكو ويشكل البورورو، على الأرجح ممثليها الجنوبيين. لكننا على علم بأن جيرانهم الأقرب من ناحية الشمال الكايابو الذين يقطنون في الشاطئ الأيمن لريو داس مورتيس وتم الوصول إليهم منذ خمس عشرة سنة فقط، يبنون قراهم بطريقة مشابهة، كما يفعل الآبينايه والشيرينته والكانيلا. يكتسي التوزيع الدائري للأكواخ حول بيت الرجال، أهمية فيما يتصل بالحياة الاجتماعية وممارسة العبادة، جعلت مبشري منطقة ريوداس غارساس يدركون سريعاً ، أن أضمن وسيلة لتنصير البورورو، هي إقناعهم بترك قراهم إلى قرى تتوضع المنازل فيها بشكل صفوف متوازية، فضل الأهالي السبيل بالنسبة للجهات الأصلية، وحرموا من المخطط الذي يستندون إليه في معارفهم، وبالتالي أخذوا يفقدون معنى التقاليد، وكأن منظومتيهم الاجتماعية والدينية (سنرى أنهما لا تنفصلان، كانتا من التعقيد، بحيث لا تستغنيان عن البنية الفكرية، التي تتجسد في مخطط القرية، والتي تجدد حركاتهم اليومية الدائمة خطوطها. لكن المبشرين، والحق يقال لاقوا كثيراً من العنت في فهم هذه البنية العصية، وفي الحفاظ على ذكراها . ولابد لمن يذهب إلى البورورو من أن يتزود سلفاً بما قام به المبشرون من أعمال. ولكن المهمة العاجلة في الوقت ذاته، مقارنة النتائج التي توصلوا إليها، مع نتائج أخرى، حصل عليها في منطقة، لم يكونوا بعد دخلوها، حيث لما تزل المنظومة تحتفظ بحيويتها. وهكذا كنت أقوم على هدي من الوثائق المنشورة سابقاً، بالحصول من مخبري على تحليل لبنية قريتهم فكنا نقضي يومنا في التجوال من منزل إلى منزل، ونحن نحصي السكان، ونضبط حالتهم المدنية، كما نخط على أرضية الفرجة الخطوط الوهمية التي تحدد القطاعات التي ترتبط بها شبكات معقدة من الامتيازات والتقاليد والمراتب والحقوق والواجبات. ولتبسيط العرض، سأقوم . إذا صح القول . الإتجاهات، لأن جهات المكان، كما يدركها الأهالي، لا تتوافق بالضبط مع ما تشير إليه البوصلة. فقرية كيجارا الدائرية، تشكل مماساً لضفة ريوفيرميلهو الشرقية الذي يجري في اتجاه شرق - غرب تقريبي : وقطر القرية الموازي نظرياً
للنهر، يشطر السكان إلى فئتين: التشيرا في الشمال والتوغاريه في الجنوب. ويبدو - لكن المسألة ليست مؤكدة تماماً أن معنى الاسم الأول: ضعيف، والمعنى الثاني قوي ومهما يكن من أمر فالتقسيم جوهري لسببين لأن الفرد ينتمي، بداية إلى شطر أمه دائماً، ثم إنه لا يستطيع الزواج إلا من أحد أعضاء الشطر الآخر. فإذا كانت أمي تشيرا، فسأكون كذلك أيضاً، وزوجتي ستكون توغاريه. والنساء يسكن ويرثن البيوت التي ولدن فيها. وعلى من يتزوج من الأهالي، اجتياز الفرجة إذاً، وعبور القطر الوهمي الذي يفصل بين الشطرين، للإقامة في الجانب الآخر. ويخفف بيت الرجال من هذا الاغتراب، من حيث إن وضعه المركزي، يتعدى إلى أرض هذا الشطر وذاك. لكن قواعد الإقامة، تقتضي أن يسمى الباب، الذي ينفتح على أرض التشيرا، باب التوغاريه، وذلك الذي ينفتح على أرض التوغاريه باب التشيرا. ذلك لأن استعمالهما مقتصر على الرجال، وكل من يقيمون في قطاع، يرجعون بأصلهم إلى القطاع الآخر والعكس صحيح. والرجل المتزوج في أسرته لا يشعر أبداً بأنه في بيته : فبيته، الذي ولد فيه، ويقترن بذكريات الطفولة، واقع في الجانب الآخر، وهو منزل أمه وأخواته، ويسكنه أزواجهم الآن. ومع ذلك، يمكنه أن يعود إليه أنَّى شاء وهو متيقن من أنه سيكون موضع ترحيب. وإذا ما بدا له جو البيت الأسري جد ثقيل ( عندما يكون أخوة زوجته في زيارة له يستطيع الذهاب للنوم في بيت الرجال، حيث يستعيد ذكريات مراهقته وصحبة الذكور، ويستعيد جواً دينياً، لا يقصيه من نصب الحبائل للفتيات العازبات. والانقسام لا يضبط الزيجات فقط، بل جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية أيضاً. فكلما يكتشف عضو من شطر، حقاً له أو واجباً عليه يكون ذلك لمصلحة الشطر الآخر، أو بمعونته . وهكذا، يشرف التوغاريه على مراسيم دفن عضو من التشيرا، والعكس صحيح. فشطرا القرية شريكان إذاً ، وكل عمل اجتماعى أو دينى يتضمن مساعدة الآخر، الذي تستبعد الخصومة : إذ ثُمَّة تعال من شطر على آخر ، وألوان من الغيرة المتبادلة. لنتخيل إذاً حياة اجتماعية على مثال فريقين لكرة القدم اللذين عوضاً عن سعي كل منهما لإفشال استراتيجية الآخر، يدأبان على خدمة أحدهما للآخر، ويقدران الفوز بدرجة الكمال والكرم اللتين يبلغهما كل منهما . لنمر الآن إلى جانب آخر: إذ ثمة محور آخر متعامد مع السابق ويقطع الشطرين وفقاً لمحور شمال - جنوب . يُنسب جميع السكان الذين ولدوا شرقي هذا المحور إلى المنبع، بينما يُنسب الذين ولدوا غربه إلى المصب. فلدينا إذا أربعة قطاعات عوضاً عن الشطرين وللتشيرا، كما للتوغاريه المقام نفسه في جزء من جانب، وفي جزء من جانب آخر. إلا أنه لم يتمكن أي باحث بعد للأسف، من أن يفهم بالضبط دور هذا التقسيم الثاني الذي تُناقش حتى حقيقة وجوده والسكان، علاوة على ذلك، يتوزعون إلى عشائر. وهي جماعات من الأسر، تعتبر نفسها أقارب من جهة النساء، انطلاقاً من جد مشترك ذي طبيعة أسطورية، قد تكون منسية حتى لنقل إذاً، إن أعضاء العشيرة يتعارفون فيما بينهم بالاسم الواحد الذي يحملونه. ومن المرجح أن عدد العشائر في الماضي ثمان أربع للتشيرا، وأربع للتوغاريه. لكن بعضها اندثر بمرور الزمان، وأخرى انقسمت من جديد ومهما يكن من أمر من المؤكد أن أعضاء عشيرة ما - باستثناء المتزوجين منهم - يسكنون جميعاً الكوخ نفسه، أو أكواخاً متلاصقة فلكل عشيرة موقعها إذاً، في دائرة المنازل: وهي قد تكون تشيرا أو توغاريه من المنبع أو المصب، أو موزعة إلى جماعتين فرعيتين من خلال هذا التقسيم الأخير، الذي يمر، سواء من جانب أم من جانب آخر، عبر مساكن عشيرة معينة. أضف إلى كل هذا التعقد أن كل عشيرة، تتضمن جماعات فرعية وراثية، تتحدر من سلالة نسائية أيضاً. فهناك في كل عشيرة أسر «حمراء» وأخرى «سوداء». ويبدو، زيادة على ذلك، أن كل عشيرة، كانت في الماضي منقسمة إلى ثلاث درجات: الأعلون والأواسط والأسافل، وربما كان في هذا الانقسام انعكاس أو نقل لنظام الطبقات المتراتبة للمبايا - كادوفيو التي سأعود إليها . وما يجعل هذه الفرضية مرجحة، هو أن هذه الدرجات كانت لا تتزاوج فيما بينها فليس بوسع الأعلى الزواج إلا من أعلى (من الشطر الآخر)، وأوسط من أوسط، وأسفل من أسفل. أما الآن، فلم يعد لنا سوى التخمين، نظراً للانهيار الديمغرافي لقرى البورورو: بعدما أضحت القرية، تعد الآن من مائة إلى مائتي ساكن، عوضاً عن ألف وأكثر، ولم يعد فيها ما يكفي من الأسر لملء كل الفئات. ولم تعد تحترم سوى قاعدة الشطرين (مع أن بعض العشائر النبيلة مستثناة منها ربما) ويرتجل الأهالي لما تبقى حلولاً متعثرة تبعاً للإمكانات. كما يشكل توزع السكان إلى عشائر «المعطيات» الأكثر أهمية التي تروق لمجتمع البورورو يبدو. ففي إطار المنظومة العامة للزواج، كانت العشائر تتوحد سابقاً، من خلال تألفات خاصة: إذ تفضل عشيرة من التشير المصاهرة مع عشيرتين أو ثلاث من التوغاريه والعكس صحيح. فضلاً عن أن العشائر، لا تتمتع جميعها بالمكانة نفسها. ويتم اختيار رئيس القرية إلزامياً من عشيرة معينة، تنتمي لشطر التشيرا؛ وينتقل اللقب وراثياً، وفقاً للسلالة النسائية من الخال إلى ابن أخته. وهناك عشائر «ثرية» وأخرى « فقيرة»، فعلى أي أساس، تقوم هذه الفوارق في الثراء؟ لنتوقف هنيهة عند هذه النقطة. إن تصورنا للثراء، اقتصادي بصفة رئيسية ومهما كان مستوى حياة البورورو متواضعاً ، فهو ليس واحداً لدى الجميع. فالبعض أمهر من بعض في القنص أو الصيد، وأكثر حظاً أو أمهر صناعة من الآخرين. إذ تلاحظ في كيجارا علامات على وجود تخصص مهني، كهذا المتخصص في صناعة المصاقل الحجرية، يقايض بها المواد الغذائية، ويعيش بيسر كما يبدو. ومع ذلك تظل هذه الاختلافات فردية، وعابرة إذن والاستثناء الوحيد هو الرئيس: حيث يتلقى خدمات جميع العشائر بشكل مؤن أو أشياء مصنوعة. لكنه بالتزامه، في مقابل ما يتلقاه، يجد نفسه دائماً في وضع القائم على مصرف : فثروات كثيرة تمر بين يديه، دون أن يملك منها شيئاً ومقتنياتي من الأشياء الدينية، حصلت عليها مقابل هدايا وزعها الرئيس في الحال على العشائر، وأسهمت بذلك في تعديل ميزانه التجاري. أما غنى العشائر من حيث المنزلة، فهو من طبيعة أخرى. إذ يمتلك كل منها رأس مال من الأساطير، والتقاليد والرقصات والوظائف الاجتماعية والدينية وتؤسس الأساطير بدورها لامتيازات تقنية هي السمات الأكثر إثارة للعجب في ثقافة البورورو. فكل الأشياء موسومة تقريباً، بطريقة تتيح التعرف على عشيرة المالك، وعشيرته الفرعية. وتقوم هذه الامتيازات، في استعمال بعض الريش، أو ألوان الريش، وفي طريقة تقليمها وتقويرها، وفي ترتيب أنواع الريش وألوانه المختلفة، وفي تنفيذ بعض الأعمال الزخرفية : كجدل الألياف، أو المؤالفة بين ألوان الريش، وفي التعبير عن موضوعات خاصة ... الخ. وهكذا تزين قسي الاحتفالات بريش أو حلقات من اللحاء، وفقاً للقواعد المتبعة لدى كل عشيرة؛ فساق السهم تحمل في أسفلها، بين ريشات مؤخرتها زينة مميزة، وتقطع عناصر المؤخرة الصدفية بأشكال بيضوية أو سمكية أو مستطيلة، تختلف باختلاف العشائر وتتنوع ألوان الأهداب وتزود أكاليل الريش التي تلبس أثناء الرقص بشعار (قطعة خشبية مسطحة عموماً، مكسوة بفسيفساء من نتف الريش الملصقة يرمز إلى عشيرة المالك. وحتى الأغماد الذكرية، يعلوها في أيام الأعياد، شريط صلب من القش مزين أو منقوش بألوان العشيرة وأشكالها كراية طريفة.
تشكل هذه الامتيازات القابلة للتحويل، في الواقع موضوع مراقبة مشددة وشرسة. فلا يعقل، كما يقال أن تستولي عشيرة على امتيازات عشيرة أخرى وإلا سيفتح الباب لصراع دموي والحال أن الفوارق من وجهة النظر هذه بين العشائر ضخمة: فبعضها مترفة، والأخرى بائسة وتكفي رؤية أثاث الأكواخ للوقوف على ذلك؛ وعوضاً عن التمييز بين أثرياء وفقراء، سنقسمهم إلى أجلاف ومرهفي الذوق تتصف عدة البورورو المادية ببساطة، مقرونة بمهارة نادرة في صنعها. وقد ظلت الأدوات قديمة، على الرغم من الفؤوس والسكاكين التي وزعتها عليهم مصلحة الحماية في الماضي. وإذا كان الأهالي يلجؤون إلى الآلات المعدنية للأشغال الكبيرة، فإنهم مستمرون في صنع الهراوات، يصرعون بها الأسماك، وشغل القسي والسهام من الخشب القاسي بأداة هي وسط بين القدوم والإزميل، يستعملونها في كل مناسبة، كما نفعل نحن بسكين الجيب وتتألف من إحدى القواطع المقوسة لحيوان المكابيفارا وهو من قوارض الضفاف النهرية، تثبت جانبياً برباط على طرف مقبض. ولا تحتوي الأكواخ فيما عدا حصر وسلال القصب، وأسلحة وأدوات الرجال من العظام أو الخشب وعصي الحفر للنساء المسؤولات عن الأعمال الزراعية، إلا الشيء القليل أوعية من قرع مرغ وجفف، وأخرى من الفخار الأسود، وأحواض نصف كروية، وقصاع تستطيل في أحد جوانبها بمقبض كمغرفة وأشكال هذه الأشياء بالغة النقاء الذي يبرزه تقشف المادة المستعملة فيها. والمثير للاستغراب هو أن البورورو كانوا يزخرفون الفخاريات قديماً، كما يبدو، إلا أن تحريماً دينياً قريب العهد نسبياً، قضى على هذه التقنية. وربما لهذا السبب أيضاً، لم يعد الأهالي. يعملون رسوماً على الصخور، كالتي لا يزال يعثر عليها في الملاجئ تحت صخور الشابادا: حيث نتعرف فيها على موضوعات عديدة من ثقافتهم. ويعكف أحد الأهالي على الرسم مستخدماً عجينة الأوروكو والرانج ومع أن البورورو أضاعوا ذكرى ذلك الزمان الذي كانوا يرسمون فيه على الجدران الصخرية، ولم يعودوا يترددون إلى المنحدرات الشديدة التي توجد فيها، إلا أن اللوحة النهائية التي وجدتها بين يدي كانت تبدو رسماً صخرياً مصغراً. وعلى خلاف تقشف الأشياء المخصصة للاستعمال، يحصر البورورو كل بذخهم وخيالهم في الملابس أو على الأقل - باعتبار هذه الأخيرة شديدة الاختصار - في لواحقها، فالنساء يملكن علي حلي حقيقية.
تنتقل من الأم لابنتها : وهي حلي من أسنان القرد أو أنياب الفهد، مركبة على خشب ومثبتة برباط دقيق. وإذا كانت غنائم القنص من حقهن هكذا، فإنهن يسمحن الرجالهم بنتف شعر الصدغ لديهن، ليصنعوا منه جدائل دقيقة، يلفونها على رؤوسهم. كما يضع الرجال على رؤوسهم أيام الاحتفالات حلية على شكل هلال متكونة من مخلبين من مخالب التاتو الكبير - وهو حيوان من اكلات النمل، تتجاوز قامته المتر، ولم يكد يتحول منذ العصر الثالث - مطعمة بالصدف، وأهداب من الريش أو القطن وتبرز مناقير طير الطوقان الضخمة المثيئة على قضيان مريشة وباقات من قنزعات أبو قردان وريش ذيل الأرارا الطويل مع حزم الخيزران المفرغ التي يلصق عليها زغب أبيض وتحيط بشعورهم المعقوصة - الطبيعية أو الاصطناعية - مثل ملاقط الشعر، التي تتوازن من الخلف مع إكليل الريش المحيط بالجبهة. وقد تتراكب هذه الزينات في غطاء رأس خليط يتطلب وضعه على رأس الراقص عدة ساعات أحياناً. وقد حصلت على أحدها لمتحف الإنسان في مقابل بندقية، بعد مفاوضات امتدت لثمانية أيام. فقد كان ضرورياً للطقوس، ولا يستطيع الأهالي التخلي عنه إلا بعد أن يجمعوا من القنص تشكيلة الريش اللازمة لصنع واحد آخر. ويتألف من إكليل على شكل مروحة وواقية من الريش تغطي الجزء الأعلى من الوجه وتاج أسطواني عال، يحيط بالرأس من أعواد يعلوها ريش عقاب، وقرص من القش يستعمل لتثبيت قضبان الصق بها ريش وزغب ويصل ارتفاع المجموع إلى مترين تقريباً. وحتى عندما لا يكون الرجال في زي المراسم، فإن تعلقهم بالزينة من القوة، بحيث يجعلهم يرتجلون البهرجة باستمرار فكثير منهم يضعون على رؤوسهم تيجاناً من فراء مزين بالريش، أو حلقات من القصب، مريشة أيضاً، أو عقد من مخالب الفهد، تركب على حلقة من الخشب. لكن أشياء أقل من ذلك بكثير، تكفي لتخلب البابهم من مثل شريط من القش المجفف يلتقطونه من الأرض ويسارعون إلى لغه وتلوينه عاملين منه تعرى شجرة من زهورها أحياناً، للغرض نفسه؛ وتُزوّد قطعة من اللحاء وبعض الريش، مصممي الأزياء هؤلاء، بفرصة إبداع فنان لأقراط الأذنين. وعلى المرء أن يدخل إلى بيت الرجال، ليقف على مقدار النشاط الذي يبذله هؤلاء الرجال في تجميل أنفسهم. إذ نجدهم في كل ركن منه منهمكين في التشكيل والنقش واللصق، حيث تقطع أصداف النهر، وتصقل بقوة على مسنات لتصنع منها العقود والشفاتير التي يشكونها في شفاههم، وتفتعل تركيبات خيالية من الخيزران والريش وإذا بهؤلاء الرجال الأشداء، يحوّل بعضهم بعضاً، باجتهاد جدير بخياطة ماهرة إلى كتاكيت بوساطة الزغب الذي يلصقونه على جلودهم. وإذا كان بيت الرجال مشغلاً، فهو شيء آخر أيضاً : إذ ينام المراهقون فيه، ويقضي المتزوجون وقت القيلولة عند فراغهم يتحدثون ويدخنون سيجاراتهم الملفوفة بأوراق الذرة الجافة. كما يتناولون فيه بعض الوجبات أيضاً، لأن نظاماً دقيقاً للسخرة يُلزم العشائر بالتناوب على خدمة بيت الرجال فيمضي رجل منهم كل ساعتين تقريباً إلى منزله، ليأتي بقدر مملوء بعصيدة الذرة التي تهيئها النساء ويتلقاه الحضور بصرخات الفرح، أو أو التي تقطع الصمت وبمراسم معينة، يقوم الرجل بدعوة ستة أو ثمانية رجال إلى الطعام، حيث يغترفون منه بإناء من فخار أو أصداف وكنت أشرت إلى منع النساء من دخول البيت وهذا صحيح بالنسبة للمتزوجات والفتيات يتجنين الاقتراب منه طوعاً، لأنهن على معرفة جيدة بما سيكون عليه مصيرهن. فإذا ما اقتربن سهواً أو عن عمد، فربما يقبض عليهن ويغتصبن لكنهن مجبرات على الدخول إليه من جهة أخرى، بإرادتهن مرة واحدة في حياتهن، لطلب زوج المستقبل.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

هناك عدة أنواع ...

هناك عدة أنواع من الأحاديث في الإسلام، وتختلف هذه الأنواع بناءً على معايير مختلفة مثل صحة السند، ومو...

Al Assaf unders...

Al Assaf understands that convenience is key in social commerce. They make the buying journey as sea...

إنَّ من كَرَمِ ...

إنَّ من كَرَمِ الله -تعالى- أنّه يتولى أمر عباده، ولم يترك لغيره تحديد أمور الدين، لا عن طريق الهوى ...

من القيم الأخلا...

من القيم الأخلاقية المهمة لاستقرار العلاقة الزوجية في الإسلام: 1. **الصدق والأمانة**: قيمة مشهود له...

الحديث الموضوع:...

الحديث الموضوع: هو الحديث الذي يُفترض أنه من أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكن في الواقع يكون...

2- تضمن قرار مج...

2- تضمن قرار مجلس الوزراء رقم (320) لسنة 2022 تعديل أمانة بغداد ومؤسسات البلدية في المحافظات التصميم...

عمل النبي زكريا...

عمل النبي زكريا كان نبي الله زكريا عليه السلام نجاراً، يقوم بنشارة الخشب وعملها، فقد ورد عن الرسول ص...

In today's glob...

In today's globalized world, you may be surprised to learn that there are still some tribes, or grou...

דעה חולקת: מציי...

דעה חולקת: מציין שמשחקי מחשב אלימים עלולים להשפיע לרעה על הפסיכולוגיה של השחקנים, שכן הם יכולים לעור...

The essential f...

The essential first step in effective exam preparation is creating a study plan. Start by evaluating...

كان القرصان بلا...

كان القرصان بلاكبيرد من اقوى القراصنة في البحار، و يتميز بالشجاعة والكرم، وكان ذو مظهر مخيف، و عاش ...

What is urodyna...

What is urodynamic testing? Urodynamic testing is any procedure that looks at how well parts of the ...