Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (29%)

المسيحية في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي : أدخل العرب الظافرون الإسلام في أسبانيا سنة ۷۱۱ م ، وفى سنة ١٥٠٢ أصدر فردناند وإيزابلا مرسوماً يقضى بإلغاء شعائر الدين الإسلامى فى جميع أرجاء البلاد . ولقد كتبت أسبانيا الإسلامية في الفرون التي تقع بين هذين التاريخين صفحة من أنقى الصفحات وأسطعها في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، وقد امتد تأثيرها من ولاية بروفانس Provence إلى المالك الأوربية الأخرى ، وأنت بنهضة جديدة في الشعر والثقافة ، ومنها تلقى طلاب العلم المسيحيون من الفلسفة اليونانية والعلوم ما أثار في نفوسهم النشاط العتملى حتى جاء عصر النهضة الحديثة . على أنه يجمل بنا أن نمر مر الكرام على هذه اخياة وما تنطوى عليه من مدنية ورقى ونصر مؤزر في الفن والشعر ، وأن نوجه اهتمامنا إلى الحالة الدينية في أسبانيا في ظل الحكم الإسلامي
لما قدم المسلمون أول الأمر إلى أسبانيا حاملين دينهم ، وجدوا المذهب الكاثوليكي قد استقر في هذه البلاد بعد انتصاره على المذهب الآرى . وقد أصدر المجمع السادس في طلبطلة قرارا يقضى بأن يقسم كل الملوك بأن لا يسمحوا بانتشار أي مذهب آخر غير المذهب الكاثوليكي ، وأن ينفذوا القانون بالقوة على الخارجين عليه . وقد تلا هذا القانون قانون آخر يحرم على كل شخص أن يتطرق إلى ذهنه أى شك فى الكنيسة الكاثوليكية المقدسة ، وفي النظم الإنجيلية وتفاسير الآباء الروحيين والمراسيم الكنسية والقرابين المقدسة إذا ما صودرت أملاكه أو حكم عليه بالسجن المؤبد . وقد كسب رجال الدين لطائفتهم نفوذاً راجحاً فى شئون الدولة (1) . وجلس الأساقفة وكبار رجال الدين في المجالس الوطنية التي كانت تجتمع لإقرار الشئون الهامة في الدولة والمصادقة على انتخاب الملك ، وادعت لنفسها الحق في عزله إذا أبي الإذعان لقراراتهم .واتخذ القسس من وراء هذه القوة التى وصلوا إليها سبيلا لاضطهاد اليهود الذين كانوا طائفة كبيرة العدد في أسبانيا ، وصدرت الأوامر المشددة ضدكل من امتنع عن الدخول في المسيحية . وكان من أثر هذه الاضطهادات أن رحب اليهود بالعرب الغزاة وعدوهم مخلصين لهم مما حل بهم من المظالم ، كما استعان . بهم الفاتحون في حماية المدن التي
وقعت في أيديهم
كذلك رحب بالمسلمين هؤلاء الأرقاء الذين حل بهم البؤس والشقاء في عهد المسيحيين الكاثوليك الذين كانت معرفتهم بأصول المسيحية سطحية ، إذا ما ووزنت بذلك التسامح الديني وهذه المزايا الكثيرة التي حصلوا عليها
بإلقاء زمامهم للمسلمين . وكان هؤلاء الأرقاء الذين وصلوا إلى الحضيض أول من تدين بالإسلام
في أسبانيا ، ولا يبعد أن يكون عدد كبير من هؤلاء الأهلين الذين كانوا لا يزالون على الوثنية والذين ورد ذكرهم فى سنة ٦٩٣ م قد ساروا على منهاج هؤلاء الأرقاء . كما اعتنى هذا الدين الجديد كثير من أشراف المسيحيين عن عقيدة راسخة أو عن بواعث أخرى ، يضاف إلى ذلك عدد كبير من أهالى الطبقات الدنيا والوسطى الذين تدينوا بالإسلام عن إيمان ثابت متحولين إليه من ديانتهم القديمة التي أعمل رجالها مصالحهم ولم يحفلوا بتلقيهم أصلولها ، وانصرفوا إلى مطامع الدنيا ، فسامو هم الخسف وتهبوا أملاكهم ، وبعد أن تحول هؤلاء الأسبان إلى الإسلام ظهروا بمظهر الغير لدينهم الجديد
وانضموا هم وأولادهم إلى جماعة إخوان الصفا الذين عرفوا بالتقشف وشدة تمسكهم بالدين ، ولم يحفلوا بأن يعيشوا عيشة الترف والإهمال التي سادت
الطبقة الارستقراطية العربية
ويقول مؤرخو المسيحيين إن فضائل القوط القدماء قد انحطت في وقت الفتح العربي الإسلامي وأفسحت الطريق إلى الفساد والخلاعة ، حتى لقد ظهر الحكم الإسلامى كأنه عقاب قد نزل بهؤلاء الذين ضلوا الطريق السوى
واتجهوا نحو الرذيلة ولكن مثل هذا القول طالما يرد في التاريخ الكنسىعلى حين لا توجد هناك شواهد معاصرة تؤيد صحة هذا الرأي (1) . بيد أنه يظهر لنا أن الأمور لم تستقم على مر الزمن ، ذلك أنه لما اشترك الأساقفة المسيحيون في الثورات التي قامت في بلاط المسلمين في الوقت الذي أصبحت فيه الأبرشيات تمنح الأساقفة عن طريق المزاد ، وعين الملحدون الذين يضمرون الإلحاد للكنيسة ، وأصبح هؤلاء بدورهم يمنحون منصب القساوسة أشخاصاً تنقصهم الكفاية والغيرة على مبادئ الدين المسيحى (٢) - إذا عرفنا هذا استطعنا أن نجزم بأن تحول المسيحيين عن دينهم لم يقتصر على أهل مقاطعة القيره (۳) ، بسبب ذلك الفساد الذي تطرق إلى نفوس رؤسائهم الروحيين (1) فأخذ هؤلاء المسيحيون يبحثون عن بيئة أكثر ملاءمة لحياتهم الدينية والدنيوية بدخولهم في حظيرة الإسلام .ولو أن كتاب الكنيسة قد عنوا بتدوين هذه الأحداث ، لوجدنا أسبانيا تقدم لنا من غير شك أمثلة صالحة عن رجال تحولوا عن المسيحية من أمثال بودو Bodo ، الذي كان شماساً في البلاط الفرنسي في عهد لويس التقى واعتنق الهودية سنة ۸۳۸ م لكى « يتمسك بأهداب شريعة الله ) بتركه هذه الحياة الأثيمة كما يقول (٥) . كذلك لا يبعد أن تكون البقية الباقية لهؤلاء القوط القدماء الذين دانوا بعقائد المذهب الأريوسي الذي ظهرت بعض آثار نهضته في الكنيسة الأسبانية قبيل الفتح العربي (٦) ، قد ساعدت على حث الناس واستمالتهم لقبول هذا المذهب الجديد الذي تتفق العقيدة المسيحية فيهاتفاقا وثيقا مع العتيدة الآريوسية (1) . وسنرى فيما بعد شواهد مماثلة تدلنا على مدى تحول أهل أسبانيا إلى هذا المذهب قبل الفتح العربي ، والذي مهد السبيل لتحول أهل أوربا الغربية إلى الإسلام قبل الفتح العربي لبلاد الأندلس . ومن الأمثلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه تحول ثيودسكلوس Thiodisclus ، ذلك الرجل الإغريقي الذي خلف القديس إيزيدور Isidore المتوفى سنة ٦٣٦ م في منصب رئيس أساقفة إشبيلية . فقد اتهم بالإلحاد لقوله بأن المسيح لم يكن إلها باتحاده بالله وبروح القدس ، وإنما كان ابن الله عن طريق التبنى .العرب ودان بالإسلام بين ظهرانيهم (۲) .تسامح العرب وأثرهم في المسيحيين : أما عن حمل الناس على الدخول في الإسلام، أو اضطهادهم بأية وسيلة من وسائل الاضطهاد ، في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي ، فإننا لا نسمع عن ذلك شيئاً . وفي الحق إن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد . وإن الشكوى الوحيدة التي شكا منها المسيحيون هي معاملة حكامهم الجدد لهم معاملة تختلف عن معاملة رعاياهم من غير المسيحيين ؛ وأربعة وعشرون عن أهل الطبقة الوسطى، واثنا عشر درهماً عن العمال ، لإعفائهم من الخدمة العسكرية (۳) ، على أن هذه الجزية لم تفرض إلا على القادرين من الرجال ، على حين أعنى منها النساء والأطفال والرهبان والمقعدون والعميان والمرضى والمساكين والأرقاء . هذا إلى أن جمع هذه الضرائب قد قام به الموظفون المسيحيون أنفسهم مما خفف
وطأتها على الناس (٤) . بل إذا فكر المرء في بقاء هذه الفكرة عند التحوط
قدوم العرب ، عند الشعوب المسيحية المفتوحة ، تصورات قريبة من الإسلام .على أنه في الأحوال التي كان يعتدى فيها المسيحيون على الدين الإسلامي ، كانوا يحاكمون أمام قضاتهم وفقاً للقوانين المعمول بها في بلادهم (1)، ولم يتعرض لهم المسلمون في إقامة شعائرهم الدينية (٢) . ولا غرو فقد كانوا يقدمون القرابين بين دق الناقوس وإحراق البخور وغير ذلك من الطقوس الدينية الكاثوليكية ، وكذا ترنيم المزامير وإلقاء المواعظ والاحتفال بالأعياد المسيحية على النحو الذي كانوا يحتفلون به قبل الفتح. ويظهر أنهم لم يعاملوا معاملة إخوانهم في الدين في سورية ومصر بأن يلبسوا ملابس خاصة تميزهم عن المسلمين ، فتكون مظهراً من مظاهر إذلالهم . في القرن التاسع الميلادي على الأقل ، يلبسون نفس ملابس العرب (۳) ، كما سمح لهم في وقت من الأوقات
أن يبنوا كنائس جديدة (٤)
كذلك نقرأ عن بناء (٥) عدة أديار جديدة بالإضافة إلى الأديار الكثيرة المزهرة التي أقام بها الرهبان والراهبات الذين عاشوا في أمن وطمأنينة لا يتعرض لهم حكام المسلمين بسوء ، وكان الرهبان يستطيعون الظهور على ملأ الناس . وشاحهم الصوفي وفق نظامهم الكنسى ؛ ولم يكن ثمة ما يدعو القسيس إلى إخفاءشارته الدينية . وفي الوقت نفسه لم تحمل المناصب الدينية (1) دون تقلد المسيحيين المناصب العالية في البلاط أو اندماجهم في سلك الرهبنة (٢) أو انتظامهم في
جيش المسلمين (۳)
و من الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا إلى الصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ما كانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة ، لم يكن ثمة ما يدعوهم إلى الشكوى حتى إننا لم نسمع فى خلال القرن الثامن الميلادي كله إلا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة بيجه Beja . ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي (٤). كما أن أولئك الذين هاجروا إلى الأراضي الفرنسية لكي يعيشوا تحت حكم المسيحيين لم يصبحوا في الحقيقة أحسن حالا من إخوانهم في الدين الذين خلفوهم وراء ظهورهم . وفى سنة ۸۱۲ م تدخل شرلمان الحماية المنفيين الذين الحقوا به عند ارتداده عن أسبانيا من عنت موظفى الإمبراطورية واضطهادهم إياهم . وبعد ثلاث سنين لم ير لويس التقى بداً من إصدار مرسوم آخر لتحسين حال هؤلاء المنفيين الذين لم يلبثوا أن لجئوا برغم هذا إلى الشكوى ثانياً من الأشراف الذين اغتصبوا أراضيهم التي خصصت خصـ لهم . ولم . يمض وقت طويل على محاولة القضاء على هذه المساوئ حتى عمت الشكوى من جديد ؛ ولم تجد هذه المراسيم والأوامر الملكية التي صدرت لتحسين حال هؤلاء المنفيين التاعسين . وسوف نصادف في العصور المتأخرة فى الجالية الأسبانية Cagots التي فرت من الحكم الإسلامي طبقة محتقرة عوملت معاملة سيئة ووضعت
نفسها تحت رحمة بني جنسهم من المسيحيين (٥) .المسيحيين في أسبانيا ، وحرية الاختلاط بين المتدينين قد أدت إلى شيء من التجانس والتماثل بين الجماعتين وقد كثر التصاهر بينهم (٦) ، حتى إن إزيدورأحد سكان مدينة بيجه Isidore of Beja الذي شدد النكير على الفاتحين المسلمين ، قد دون مسألة زواج عبد العزيز بن موسى ( بن نصير ) من أرملة الملك الذريق ، دون أن يذكر كلمة واحدة يستنكر فيها هذا الفعل (۱) . هذا إلى أن كثيرين من المسيحيين قد تسموا بأسماء عربية ، وقلدوا جيرانهم المسلمين في إقامة بعض النظم الدينية ، فاختين كثير منهم (۲) ، وساروا وفق رسوم الوثنيين ( غير المعتمدين ) ( يعنى المسلمين ) في أمور الطعام والشراب (۳) . ليدل دلالة ظاهرة على مدى الميول والاتجاهات التي كانت تعمل بنشاط وهمة في هذه السبيل ؛ فسرعان ما أخذت دراسة اللغة العربية تحل محل دراسة اللغة اللاتينية في جميع أرجاء البلاد (1) ، حتى إن لغة الدين المسيحي قد تطرق إليها الإهمال والنسيان شيئاً فشيئاً . بل لقد أثار بعض التمسيسين سخرية الناس الجهلهم باللغة اللاتينية الصحيحة (٥) . ومن العسير أن نتوقع من العلمانيين نفس الحماسة والغيرة التي كان يبديها رجال الدين في هذا النوع من الدراسة . ففي سنة ٨٥٤ م نرى أحد كتاب الأسبان يعلن هذه الشكوى ضد مواطنيه المسيحيين فيقول : - - بينما نتتبع النظم التي وردت في كتابهم المقدس ( يعنى المسلمين ) و نلتقى . بهم الدراسة مذاهب فلاسفتهم - أو الذين يباهون بهذا الضرب من الهذر والإعجاب بمعنى أدق - لا لندحض بالحجة والبرهان تعاليمهم الفاسدة ، بل لنفيد من كلامهم الذى يستولى على الأفئدة بجماله ، ومن بلاغةللغتهم . غاضين النظر عن قراءة كتابهم المقدس ، فلا نكون حينئذ إلا قوماً يجعلون من الحيوان معبوداً يعبدونه (18) Apoc Xiii) ، وأنى لنا أن نجد في أيامنا هذه أى علماني مثقف قد انهمك في دراسة الكتاب المقدس ، واهتم بالنظر في مؤلفات آباء الكنيسة اللاتينية ؟ ومن ذا الذى أوتى من الحماسة والغيرة ما يثير في نفسه الرغبة في قراءة مؤلفات المبشرين بالإنجيل أو الأنبياء والمرسلين ؟ وإن شباننا المسيحيين ، برغم تكلفهم اللطف والكياسة وحسن البيان وطلاقة اللسان، إنما كانوا يسترعون الأنظار بحسن هندامهم وحسن تصرفهم فيما يعرض من الأمور وبما عرف عنهم من حسن الأدب ودمائة الخلق ، ويطالعونها بلهف ويناقشونها في حماسة وغيرة ، ويشيدون بذكرها ، ويمتدحونها بكل ضرب التنميق في اللفظ وحسن البيان، وعلى حين أنهم لا يفقهون شيئاً من جمال الأدب الكنسى ، وا أسفاه ! لقد جهل المسيحيون نظم شريعتهم ، وأصبحت الأمم اللاتينية لا تعبر لغتها اهتماماً، حتى لا تكاد تجد في جماعة المسيحيين كافة رجلا من كل ألف رجل يستطيع أن يستفسر عن صحة صديق بعبارات واضحة جلية ، وأنت واجد بين جمهرة السوقة والعامة أشخاصاً لا يحصى عددهم ، يحيطون إحاطة تامة بالعبارات الفصيحة التي خلفتها اللغة العربية في عصورها الذهبية ، حتى لقد استطاعوا ن أن ينظموا القصائد المقفاة - ذلك القصائد التي يتجلى فيها أسمى مراتب الجمال ، بل
لقد كان بعضهم أمهر العرب أنفسهم في قرض الشعر (1) . وفي الحق أن اللغة اللاتينية بلغت في بعض أجزاء أسبانيا درجة كبيرة من
الانحطاط ، حتى لقد أصبح من الضروري أن ترجم قوانين الكنيسة الأسبانية القديمة والإنجيل إلى اللغة العربية ليسهل استعمالها على المسيحيين (٢) . وبينما كانت الآداب العربية التي ازدهرت في ذلك العصر تستولى على
الأفئدة بجمالها ، ويقبل الناس على دراستها في حماسة وشغف ، نجد أن أولئك الذين رغبوا في دراسة الأدب المسيحى لم يعد في متناول أيديهم المادة التي كانت المستخدم في تعليم القوط المتبربرين ، ولم يجدوا ، إلا في شيء من الصعوبة ،المعلمين الذين يستطيعون أن يبدءوا معهم نوعاً من الدراسة لا يرتفع كثيراً حتى عن المستوى المنحط من الثقافة . وهذه الحاجة الماسة للدراسات المسيحية قد زادت على مر الأيام . ففي سنة ۱۱۲٥ م كتب المستعربون في أسبانيا إلى الفونس ملك أرغونة : ( لقد نشأنا نحن وآباؤنا إلى وقتنا هذا وتربينا بين الأجانب وإننا نرعى الرسوم المسيحية في حرية بعد أن تعمدنا في طفولتنا ، بيد أننا لم نكن قط بحيث نستطيع أن نلم بتعاليم ديننا المقدسة . فإننا لا نجرؤ ، بسبب وجودنا تحت حكم الكفار الذين ظلمونا دهراً طويلا ، على طلب المعلمين من رومة أو من فرنسا . فإنهم لم يفدوا إلينا قط من تلقاء أنفسهم بسبب وحشية
الوثنيين الذين ندين لهم بالطاعة (1)
ومن ذلك الاتصال الوثيق بالمسلمين ، ودراسة آدابهم دراسة عميقة . حيث نجد حتى من بين المسيحيين مثل ألفار Alvar (۲) الذي عرف بتعصبه على الإسلام ، يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل ، حتى إن المسيحيين لم يسعهم إلا قراءته و الإعجاب به - كان طبيعياً أن نتوقع وجود أدلة على مدى النفوذ الديني ، كذلك كانت الحال بلا مراء . ويقال إن الهندس Elipandaus أسقف طليطلة ( المتوفى سنة ۸۱۰ م ) ، وأحد أئمة المذهب الإلحادي القائل بالتبنى - الذي ذهب إلى القول بأن عيسى المسيح الرجل ابن الله بالتبنى لا بالطبيعة - قد انتهى إلى هذه الآراء المغرقة في الإلحاد عن طريق اتصاله بالمسلمين (۳). ويظهر أن هذه العقيدة الجديدة قد ذاعت بسرعة في جزء كبير من أسبانيا ، بينما نشر فياكس أسقف أرجيل Urgel إحدى مدن إقليم قطلونية هذه الآراء في إقليم سيتمانيا الذى كان تحت حماية فرنسا (1) . وقد استدعى فيلكس أمام مجمع برئاسة شرلمان ، وأرغم على التكفير عن خطئه ، ولكنه عاد إلى إلحاده على أثر عودته إلى أسبانيا . وليس من شك في أن ذلك كان راجعاً ( كما ظن البابا ليو الثالث 111 Leo في ذلك الوقت ) إلى اتصالهبالوثنيين ( يعنى بذلك المسلمين ) الذين دانوا بنفس هذه الآراء (1) .ولما كان أشهر رجال الدين قد تأثروا تأثراً عميقاً من جراء اتصالهم بالمسلمين ، جاز لنا أن نحكم بأن تأثير الإسلام فى مسيحي أوربا كان عظيما . وليس أدل على صحة هذا القول من التفكير في عقد ذلك المجمع بمدينة طليطلة
سنة ٩٣٦ م ؛ للبحث في أحسن الوسائل التي تحول دون أن تفسد هذه العلاقات من صفاء الدين المسيحى ونقائه (۳) .من ذلك نستطيع أن ندرك بسهولة كيف أن عوامل التأثير في الآراء وإقامة الشعائر الإسلامية - بالإضافة إلى هذه الجهود الواضحة التي بذلت في سبيل تحول هؤلاء المسيحيين (۳) - قد أدت إلى ما هو أكثر من مجرد التقارب والاتصال ، كما أنها سرعان ما عملت على زيادة الداخلين في الإسلام ، حتى إن ذريتهم الذين أطلق عليهم اسم المولدين – ذلك اللفظ الذي يدل على الأشخاص الذين لم يكونوا من دم عربى - سرعان ما ألفوا جماعة كبيرة لها أهميتها وخطرها في الدولة ، وأصبحت بلا شك أغلبية سكان البلاد (٤) ، حتى إننا نقرأ كثيراً عن الجهود التي بذلها هؤلاء الأسبان في مستهل القرن التاسع
للتخلص من حكم العرب ، ثم تنشط حركتهم وتتقدم بخطا مسرعة في مناسبات كثيرة ، ويظهرون باسم جماعة الحزب الوطنى للأسبان المسلمين .وليس لدينا إلا اليسير من المعلومات عن تاريخ تحول هؤلاء الأسبان الحديثي العهد بالإسلام ويظهر أن ذلك التحول استمر إلى أواخر أيام الحكمالإسلامي ؛ فقد ذكر المؤرخون أن المسيحيين الذين ارتدوا إلى الإسلام ووجدوا في مدينة ملقة التي استولى عليها جيش فردينند وإيزابلا في سنة ١٤٨٧ م ، وأنهم قد عذبوا عذاباً أفضى بهم إلى الموت ، وذلك بوضع الغاب
الحاد المدبب في أجسادهم .وفي الحصار الذي انتهى بتسليم مدينة Purchena بعد ذلك بسنتين ، وعد الفاتحون بألا يحملوا هؤلاء المرتدين على التحول إلى المسيحية ثانية (1) . على أن عدداً قليلا من الأهلين قد ارتد عن الإسلام ليتخلص من الغرامة التي قضت المحاكم الشرعية عليه بأدائها (٢) . وقد بلغ من تأثير الإسلام في نفوس معظم الذين تحولوا إليه من مسيحيي أسبانيا مبلغاً عظيما ، حتى سحرهم بهذه المدنية الباهرة ، واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته ، وفئه الذي استولى على عقولهم و بهر خيالهم : كما وجدوا في الفروسية العربية الرفيعة مجالا فسيحاً لإظهار بأسهم ، وما تكشفت عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخلق قويم - تلك الحياة التي ظلت مغلقة في وجوه الأسبان الذين بقوا على تمسكهم بالمسيحية وإخلاصهم لها . أضف إلى ذلك أن علوم المسيحيين وآدابهم لا بد أن تكون قد بدت فقيرة ضئيلة إذا ما قيست بعلوم المسلمين وآدابهم التي لا يبعد أن تكون دراستها في حد ذاتها ، باعثاً على الدخول في دينهم . هذا إلى أن الإسلام في أسبانيا استطاع أن يثير في نفوس الأنقياء الجمال الذي ينشده الوردون والمتحمسون من جماعة إخوان الصفا : وعلى رأسهم علماء الكلام عند أهل السنة الذين كانت لهم الكلمة النافذة في أمور الدولة وقتاً ما ، والذين دأبوا
في حمية وغيرة على إصلاح مذهبهم وتقويم أخلاقهم . وإذا نظرنا إلى ذلك الشعور الديني الذي أحيا أكثرية الأسبان المسلمين ، وذلك التحدى والحقد الذي غلا في صدور المسيحيين حتى دبروا المؤمرات بمؤازرة إخوانهم في المدين الذين كانوا يقيمون خارج حدود بلادهم ، لا يسعنا إلا الاعتراف بأن تاريخ أسبانيا في ظل الحكم الإسلامي يمتاز ببعده بعداً تاماً عن الاضطهاد الديني . وإذا استثنينا ثلاثاً أو أربعاً من حالات الاستشهاد الحقيقي ، فإن الشيء الذي قد نطلق عليه اضطهاداً أو ما يقرب من الاضطهاد مدة الحكم العربي ، إنما نجده في هذه الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الحكومةالإسلامية للقضاء على الجنون الذي استولى على عقول بعضهم ، فدفع بهم إلى التطوع للاستشهاد الذي فشا بقرطبة في القرن التاسع . ففي ذلك الوقت ظهرت في هذا الجزء من أسبانيا ) والواضح أن الكنيسة المسيحية في سائر أنحاء البلاد لم تعطف على هذه الحركة ) ، جماعة دينية اشتهرت بتعصها للمسيحية ، وانتهكت حرمة ديانة المسلمين جهراً وبغير ما سبب ، ورمت نبيهم بالكفر ، وأصرت على تحدى هذه الديانة ، وعرضوا أنفسهم القتل على أيدى مواطنيهم الذين ضلوا السبيل ومرقوا عن الدين بتحولهم إلى الإسلام وتعصبهم له .استشهاد بعض المسيحيين بمحض إرادتهم : وإن هذا الانفعال النفساني الغريب الذي دفع بهذه الطائفة إلى التضحية ، ليظهر ظهوراً بينا لدى جماعة القسيسين والرهبان والراهبات بين سنتى ٨٥٠ و ٨٦٠ م . وقد يبدو أن عادة إطالة التفكير والتأمل - بحكم وجودهم في الأديار وعزلتهم في الصوامع - فيما آل إليه نفوذ المسيحية من ضعف وما بلغته الحمية الدينية من وهن وانحلال . وقد دفع بهم إلى السعى وراء شرف الاستشهاد - الذي سلبهم إياه تسامح حكامهم الكفار - بم اوأة الإسلام والغض من شأنه وشأن نبيه . ومن الأمثلة التي تؤيد صحة ما ذهبنا إليه تلك الحادثة التي دونت عن أحد الرهبان ويدعى إسحاق . فقد تقدم إلى القاضي ، وادعى أنه يريد أن يتعلم أصول الإسلام. ولما شرح له القاضي تعاليم النبي بادره بقوله في عنف وشدة : لقد كذب عليكم ( لعنه الله ! ) ذلك الشرير الذي ملأ الحبث قلبه ، وسوف يكفر عن خطيئته بما يحل به من اللعنة الأبدية . ولم لا تخلصون نفوسكم من أمثال هذه المخاطر بفضل ما وهبكم الله من مزية الفهم والإدراك ؟ ولماذا لا تتلمسون النجاة الأبدية برفض هذه الوصمة التي تشوب عقائدكم الوبائية بالرجوع
إلى إنجيل دين المسيح (1) ؟ . وأعلنا على ملأ من الحاضرين أن هذا الدين سيعود على أنصاره عما قليل بالتهلكة. ونار الجحيم (1) . ومع أن عدد هؤلاء المتعصبين للدين المسيحى لم يكن كبيراً (٢) ، إذ أن محمداً الأول لم يجد في الواقع بدأ من أن يرسل في سنة ٨٥٣ م جيشاً إلى مسيحي طليطلة الذين استفزهم يولوجيوس Eulogius ، الذي نصب نفسه للدفاع عن الشهداء ، وأشعل نار الثورة حين وصلت إلى سمعه أنباء هذه الآلام التي كان يقاسيها إخوانهم في الدين (۳). ( إذ أن أثمار Alvar نفسه يشكو من أن أغلبية القسيسين المسيحيين قد دانوا الشهداء وحكموا عليهم بالخطيئة (0) ) ، اكتفى الأمير بتنفيذ القوانين المعمول بها نحو من يطعن في الدين الإسلامي بمنتهى الصرامة . وقد أيدت طائفة الكنيسة التي عرفت بالاعتدال الحكومة فيما بذلت من جهود في هذه السبيل ، وانتهت بالقضاء على هذه الحركة . وقد دون المؤرخون بعد ذلك حادثتين منفصلتين من حوادث الاستشهاد وقعت ثانيتهما في سنة ٨٩٣ م ، ولم تقع بعدها أية حادثة مدة الحكم العربي في أسبانيا (٢)
ذلك تعصب بعض المسلمين لا ينفى فكرة الناصح : ولكن في عهد دولة المرابطين التي تولت حكم بلاد الأندلس ، انفجر بركان التعصب الديني في أوائل القرن الثانى عشر الميلادى من جانب المتحمسين من رجال الدين الإسلامي ، وقامى من جراء ذلك المسيحيون واليهود وطائفة الأحرار المسلمين الذين نادوا بحرية الفكر كالفلاسفة والشعراء ورجال الأدب . ولكن هذه الحوادث لم تكن إلا استثناء للتسامح الديني الذي اتسم بذلك الطابع الذي عرف به أمراء المسلمين في أسبانيا نحو رعاياهم من المسيحيين أن أحد مسلمى أسبانيا الذي طرد من بلاده حين أقصى العرب لآخر مرة سنة ١٦١٠ م ، بينما نراه يحتج على اضطهادات محاكم التفتيش ، يثبت بالأدلة القاطعة مدى التسامح الديني الذي سار عليه إخوانه في الدين في هذه الكلمات : « هل حاول أسلافنا المنتصرون ولو مرة واحدة أن يستأصلوا المسيحية من أسبانيا حين كان في مقدورهم أن يفعلوا ذلك ! ألم يسمحوا لآبائكم بأن يتمتعوا بحرية استعمال رسومهم الدينية في نفس الوقت الذي لبسوا فيه طيالسهم ؟ ألم يوص نبينا بأن تترك الحرية الدينية لأهالى البلاد التي يفتحها العرب بحد السيف مهما بلغت آراؤهم الدينية من حمق وخرق ؟ بل ألم يسمح لهم بالتدين بأى دين آخر يؤثرونه على دينهم إذا دفعوا مقداراً عتدلا من الجزية في كل سنة ؟ وإذا كانت ثمة أمثلة قد يأتى بها بعضهم للدلالة على إرغام الأهاين على اعتناق الإسلام ، فإن هذه الأمثلة قد بلغت منالندرة بحيث لا تستحق أن تذكر هنا ، ونبيه ، تلك التعاليم التي لا يمكن أن يدنسها أو ينتهك حرمتها إلا كل. شخص لا يتحلى بصفات المسلم الحقيقي وأنتم لا تستطيعون أن تظهروا لنا شيئا ما عن أية حادثة خاصة بسفك الدماء أو تقديم للمحاكمة ، بسبب. الطرق المختلفة التي اتبعت في إقناع الناس وتلقينهم تعاليم تشبه على نحو ما ، محاكم التفتيش الممقونة . وإن يدنا مبسوطة دائماً لتلقى كل من وهب الله. له نعمة التدين بديننا ؛ ولكن كتابنا المقدس وهو القرآن الكريم لا يجيز لنا أن نتحكم في ضمائر الناس . وإن الذين استجابوا إلى ديننا قد نعموا بكل . حتى إذا اعترفوا بوحدانية . الله ورسالة نبيه ، صاروا كواحد منا من غير تمييز أو استثناء ، فتزوجوا بناتنا وشغلوا المناصب التي يكون أصحابها محلا للثقة ، ويحاطون بمظاهر الشرف وينعمون بالثراء . وكان أقصى ما رضيناه لأنفسنا من هؤلاء ، أن . طلبنا إليهم في رقة ولطف أن يلبسوا لباسنا ، وأن يظهروا بمظهر المخلصين الحقيقيين للدين في كل ما يظهرون به أمام الناس ، دون أن يعرضوا ضمائرهم للامتحان بشرط أن لا يغضوا من شأن ديننا أو يدنسوه ، فإذا فعلوا ذلك أنزلنا بهم ما يستحقونه من العقاب بلا مراء ، إذ كان تحولهم إلى هذا الدين


Original text

المسيحية في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي : أدخل العرب الظافرون الإسلام في أسبانيا سنة ۷۱۱ م ، وفى سنة ١٥٠٢ أصدر فردناند وإيزابلا مرسوماً يقضى بإلغاء شعائر الدين الإسلامى فى جميع أرجاء البلاد . ولقد كتبت أسبانيا الإسلامية في الفرون التي تقع بين هذين التاريخين صفحة من أنقى الصفحات وأسطعها في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، وقد امتد تأثيرها من ولاية بروفانس Provence إلى المالك الأوربية الأخرى ، وأنت بنهضة جديدة في الشعر والثقافة ، ومنها تلقى طلاب العلم المسيحيون من الفلسفة اليونانية والعلوم ما أثار في نفوسهم النشاط العتملى حتى جاء عصر النهضة الحديثة . على أنه يجمل بنا أن نمر مر الكرام على هذه اخياة وما تنطوى عليه من مدنية ورقى ونصر مؤزر في الفن والشعر ، وفى العلم والفاسفة ، وأن نوجه اهتمامنا إلى الحالة الدينية في أسبانيا في ظل الحكم الإسلامي


لما قدم المسلمون أول الأمر إلى أسبانيا حاملين دينهم ، وجدوا المذهب الكاثوليكي قد استقر في هذه البلاد بعد انتصاره على المذهب الآرى . وقد أصدر المجمع السادس في طلبطلة قرارا يقضى بأن يقسم كل الملوك بأن لا يسمحوا بانتشار أي مذهب آخر غير المذهب الكاثوليكي ، وأن ينفذوا القانون بالقوة على الخارجين عليه . وقد تلا هذا القانون قانون آخر يحرم على كل شخص أن يتطرق إلى ذهنه أى شك فى الكنيسة الكاثوليكية المقدسة ، وفي النظم الإنجيلية وتفاسير الآباء الروحيين والمراسيم الكنسية والقرابين المقدسة إذا ما صودرت أملاكه أو حكم عليه بالسجن المؤبد . وقد كسب رجال الدين لطائفتهم نفوذاً راجحاً فى شئون الدولة (1) . وجلس الأساقفة وكبار رجال الدين في المجالس الوطنية التي كانت تجتمع لإقرار الشئون الهامة في الدولة والمصادقة على انتخاب الملك ، وادعت لنفسها الحق في عزله إذا أبي الإذعان لقراراتهم .


واتخذ القسس من وراء هذه القوة التى وصلوا إليها سبيلا لاضطهاد اليهود الذين كانوا طائفة كبيرة العدد في أسبانيا ، وصدرت الأوامر المشددة ضدكل من امتنع عن الدخول في المسيحية . وكان من أثر هذه الاضطهادات أن رحب اليهود بالعرب الغزاة وعدوهم مخلصين لهم مما حل بهم من المظالم ، فساعدوهم على فتح أبواب المدن ، كما استعان . بهم الفاتحون في حماية المدن التي


وقعت في أيديهم


كذلك رحب بالمسلمين هؤلاء الأرقاء الذين حل بهم البؤس والشقاء في عهد المسيحيين الكاثوليك الذين كانت معرفتهم بأصول المسيحية سطحية ، إذا ما ووزنت بذلك التسامح الديني وهذه المزايا الكثيرة التي حصلوا عليها


بإلقاء زمامهم للمسلمين . وكان هؤلاء الأرقاء الذين وصلوا إلى الحضيض أول من تدين بالإسلام


في أسبانيا ، ولا يبعد أن يكون عدد كبير من هؤلاء الأهلين الذين كانوا لا يزالون على الوثنية والذين ورد ذكرهم فى سنة ٦٩٣ م قد ساروا على منهاج هؤلاء الأرقاء . كما اعتنى هذا الدين الجديد كثير من أشراف المسيحيين عن عقيدة راسخة أو عن بواعث أخرى ، يضاف إلى ذلك عدد كبير من أهالى الطبقات الدنيا والوسطى الذين تدينوا بالإسلام عن إيمان ثابت متحولين إليه من ديانتهم القديمة التي أعمل رجالها مصالحهم ولم يحفلوا بتلقيهم أصلولها ، وانصرفوا إلى مطامع الدنيا ، فسامو هم الخسف وتهبوا أملاكهم ، وبعد أن تحول هؤلاء الأسبان إلى الإسلام ظهروا بمظهر الغير لدينهم الجديد


وانضموا هم وأولادهم إلى جماعة إخوان الصفا الذين عرفوا بالتقشف وشدة تمسكهم بالدين ، ولم يحفلوا بأن يعيشوا عيشة الترف والإهمال التي سادت


الطبقة الارستقراطية العربية


ويقول مؤرخو المسيحيين إن فضائل القوط القدماء قد انحطت في وقت الفتح العربي الإسلامي وأفسحت الطريق إلى الفساد والخلاعة ، حتى لقد ظهر الحكم الإسلامى كأنه عقاب قد نزل بهؤلاء الذين ضلوا الطريق السوى


واتجهوا نحو الرذيلة ولكن مثل هذا القول طالما يرد في التاريخ الكنسىعلى حين لا توجد هناك شواهد معاصرة تؤيد صحة هذا الرأي (1) . بيد أنه يظهر لنا أن الأمور لم تستقم على مر الزمن ، ذلك أنه لما اشترك الأساقفة المسيحيون في الثورات التي قامت في بلاط المسلمين في الوقت الذي أصبحت فيه الأبرشيات تمنح الأساقفة عن طريق المزاد ، وعين الملحدون الذين يضمرون الإلحاد للكنيسة ، وأصبح هؤلاء بدورهم يمنحون منصب القساوسة أشخاصاً تنقصهم الكفاية والغيرة على مبادئ الدين المسيحى (٢) - إذا عرفنا هذا استطعنا أن نجزم بأن تحول المسيحيين عن دينهم لم يقتصر على أهل مقاطعة القيره (۳) ، بسبب ذلك الفساد الذي تطرق إلى نفوس رؤسائهم الروحيين (1) فأخذ هؤلاء المسيحيون يبحثون عن بيئة أكثر ملاءمة لحياتهم الدينية والدنيوية بدخولهم في حظيرة الإسلام .


ولو أن كتاب الكنيسة قد عنوا بتدوين هذه الأحداث ، لوجدنا أسبانيا تقدم لنا من غير شك أمثلة صالحة عن رجال تحولوا عن المسيحية من أمثال بودو Bodo ، الذي كان شماساً في البلاط الفرنسي في عهد لويس التقى واعتنق الهودية سنة ۸۳۸ م لكى « يتمسك بأهداب شريعة الله ) بتركه هذه الحياة الأثيمة كما يقول (٥) . كذلك لا يبعد أن تكون البقية الباقية لهؤلاء القوط القدماء الذين دانوا بعقائد المذهب الأريوسي الذي ظهرت بعض آثار نهضته في الكنيسة الأسبانية قبيل الفتح العربي (٦) ، قد ساعدت على حث الناس واستمالتهم لقبول هذا المذهب الجديد الذي تتفق العقيدة المسيحية فيهاتفاقا وثيقا مع العتيدة الآريوسية (1) . وسنرى فيما بعد شواهد مماثلة تدلنا على مدى تحول أهل أسبانيا إلى هذا المذهب قبل الفتح العربي ، والذي مهد السبيل لتحول أهل أوربا الغربية إلى الإسلام قبل الفتح العربي لبلاد الأندلس . ومن الأمثلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه تحول ثيودسكلوس Thiodisclus ، ذلك الرجل الإغريقي الذي خلف القديس إيزيدور Isidore المتوفى سنة ٦٣٦ م في منصب رئيس أساقفة إشبيلية . فقد اتهم بالإلحاد لقوله بأن المسيح لم يكن إلها باتحاده بالله وبروح القدس ، وإنما كان ابن الله عن طريق التبنى . لهذا قضى المجمع الديني بعزله عن منصبه وبحرمانه من حقوقه الكنسية ، فلجأ إلى


العرب ودان بالإسلام بين ظهرانيهم (۲) .


تسامح العرب وأثرهم في المسيحيين : أما عن حمل الناس على الدخول في الإسلام، أو اضطهادهم بأية وسيلة من وسائل الاضطهاد ، في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي ، فإننا لا نسمع عن ذلك شيئاً . وفي الحق إن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد . وإن الشكوى الوحيدة التي شكا منها المسيحيون هي معاملة حكامهم الجدد لهم معاملة تختلف عن معاملة رعاياهم من غير المسيحيين ؛ ذلك لأنه قد فرض عليهم أداء جزية الرءوس المعتادة وهي ثمانية وأربعون درهماً عن الأغنياء ، وأربعة وعشرون عن أهل الطبقة الوسطى، واثنا عشر درهماً عن العمال ، لإعفائهم من الخدمة العسكرية (۳) ، على أن هذه الجزية لم تفرض إلا على القادرين من الرجال ، على حين أعنى منها النساء والأطفال والرهبان والمقعدون والعميان والمرضى والمساكين والأرقاء . هذا إلى أن جمع هذه الضرائب قد قام به الموظفون المسيحيون أنفسهم مما خفف


وطأتها على الناس (٤) .


(1) و إذا فكر المرء إلى أي حد بنغ صدى فكرة النبوة المأخوذة من العهد القديم ( من التوراة ) في نصرانية القبائل الجرمانية الآرية ، بل إذا فكر المرء في بقاء هذه الفكرة عند التحوط


الغربيين بعد أن اعتقدوا المذهب الكاثوليكي -- إذا فكر المرء في ذلك اتضح له كيف ظهرت بعد


قدوم العرب ، عند الشعوب المسيحية المفتوحة ، تصورات قريبة من الإسلام .
على أنه في الأحوال التي كان يعتدى فيها المسيحيون على الدين الإسلامي ، كانوا يحاكمون أمام قضاتهم وفقاً للقوانين المعمول بها في بلادهم (1)، ولم يتعرض لهم المسلمون في إقامة شعائرهم الدينية (٢) . ولا غرو فقد كانوا يقدمون القرابين بين دق الناقوس وإحراق البخور وغير ذلك من الطقوس الدينية الكاثوليكية ، وكذا ترنيم المزامير وإلقاء المواعظ والاحتفال بالأعياد المسيحية على النحو الذي كانوا يحتفلون به قبل الفتح. ويظهر أنهم لم يعاملوا معاملة إخوانهم في الدين في سورية ومصر بأن يلبسوا ملابس خاصة تميزهم عن المسلمين ، فتكون مظهراً من مظاهر إذلالهم . وكان المسيحيون المدنيون ، في القرن التاسع الميلادي على الأقل ، يلبسون نفس ملابس العرب (۳) ، كما سمح لهم في وقت من الأوقات


أن يبنوا كنائس جديدة (٤)


كذلك نقرأ عن بناء (٥) عدة أديار جديدة بالإضافة إلى الأديار الكثيرة المزهرة التي أقام بها الرهبان والراهبات الذين عاشوا في أمن وطمأنينة لا يتعرض لهم حكام المسلمين بسوء ، وكان الرهبان يستطيعون الظهور على ملأ الناس . وشاحهم الصوفي وفق نظامهم الكنسى ؛ ولم يكن ثمة ما يدعو القسيس إلى إخفاءشارته الدينية . وفي الوقت نفسه لم تحمل المناصب الدينية (1) دون تقلد المسيحيين المناصب العالية في البلاط أو اندماجهم في سلك الرهبنة (٢) أو انتظامهم في


جيش المسلمين (۳)


و من الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا إلى الصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ما كانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة ، لم يكن ثمة ما يدعوهم إلى الشكوى حتى إننا لم نسمع فى خلال القرن الثامن الميلادي كله إلا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة بيجه Beja . ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي (٤). كما أن أولئك الذين هاجروا إلى الأراضي الفرنسية لكي يعيشوا تحت حكم المسيحيين لم يصبحوا في الحقيقة أحسن حالا من إخوانهم في الدين الذين خلفوهم وراء ظهورهم . وفى سنة ۸۱۲ م تدخل شرلمان الحماية المنفيين الذين الحقوا به عند ارتداده عن أسبانيا من عنت موظفى الإمبراطورية واضطهادهم إياهم . وبعد ثلاث سنين لم ير لويس التقى بداً من إصدار مرسوم آخر لتحسين حال هؤلاء المنفيين الذين لم يلبثوا أن لجئوا برغم هذا إلى الشكوى ثانياً من الأشراف الذين اغتصبوا أراضيهم التي خصصت خصـ لهم . ولم . يمض وقت طويل على محاولة القضاء على هذه المساوئ حتى عمت الشكوى من جديد ؛ ولم تجد هذه المراسيم والأوامر الملكية التي صدرت لتحسين حال هؤلاء المنفيين التاعسين . وسوف نصادف في العصور المتأخرة فى الجالية الأسبانية Cagots التي فرت من الحكم الإسلامي طبقة محتقرة عوملت معاملة سيئة ووضعت


نفسها تحت رحمة بني جنسهم من المسيحيين (٥) .


وإن سياسة التسامح الديني التي سارت عليها الحكومة الإسلامية نحو رعاياها


المسيحيين في أسبانيا ، وحرية الاختلاط بين المتدينين قد أدت إلى شيء من التجانس والتماثل بين الجماعتين وقد كثر التصاهر بينهم (٦) ، حتى إن إزيدورأحد سكان مدينة بيجه Isidore of Beja الذي شدد النكير على الفاتحين المسلمين ، قد دون مسألة زواج عبد العزيز بن موسى ( بن نصير ) من أرملة الملك الذريق ، دون أن يذكر كلمة واحدة يستنكر فيها هذا الفعل (۱) . هذا إلى أن كثيرين من المسيحيين قد تسموا بأسماء عربية ، وقلدوا جيرانهم المسلمين في إقامة بعض النظم الدينية ، فاختين كثير منهم (۲) ، وساروا وفق رسوم الوثنيين ( غير المعتمدين ) ( يعنى المسلمين ) في أمور الطعام والشراب (۳) .


وإن إطلاق لفظ مستعربين Muzarabes على الأسبان المسيحيين الذين عاشوا في ظل حكم العرب ، ليدل دلالة ظاهرة على مدى الميول والاتجاهات التي كانت تعمل بنشاط وهمة في هذه السبيل ؛ فسرعان ما أخذت دراسة اللغة العربية تحل محل دراسة اللغة اللاتينية في جميع أرجاء البلاد (1) ، حتى إن لغة الدين المسيحي قد تطرق إليها الإهمال والنسيان شيئاً فشيئاً . بل لقد أثار بعض التمسيسين سخرية الناس الجهلهم باللغة اللاتينية الصحيحة (٥) . ومن العسير أن نتوقع من العلمانيين نفس الحماسة والغيرة التي كان يبديها رجال الدين في هذا النوع من الدراسة . ففي سنة ٨٥٤ م نرى أحد كتاب الأسبان يعلن هذه الشكوى ضد مواطنيه المسيحيين فيقول : - - بينما نتتبع النظم التي وردت في كتابهم المقدس ( يعنى المسلمين ) و نلتقى . بهم الدراسة مذاهب فلاسفتهم - أو الذين يباهون بهذا الضرب من الهذر والإعجاب بمعنى أدق - لا لندحض بالحجة والبرهان تعاليمهم الفاسدة ، بل لنفيد من كلامهم الذى يستولى على الأفئدة بجماله ، ومن بلاغةللغتهم .. غاضين النظر عن قراءة كتابهم المقدس ، فلا نكون حينئذ إلا قوماً يجعلون من الحيوان معبوداً يعبدونه (18) Apoc Xiii) ، وأنى لنا أن نجد في أيامنا هذه أى علماني مثقف قد انهمك في دراسة الكتاب المقدس ، واهتم بالنظر في مؤلفات آباء الكنيسة اللاتينية ؟ ومن ذا الذى أوتى من الحماسة والغيرة ما يثير في نفسه الرغبة في قراءة مؤلفات المبشرين بالإنجيل أو الأنبياء والمرسلين ؟ وإن شباننا المسيحيين ، برغم تكلفهم اللطف والكياسة وحسن البيان وطلاقة اللسان، إنما كانوا يسترعون الأنظار بحسن هندامهم وحسن تصرفهم فيما يعرض من الأمور وبما عرف عنهم من حسن الأدب ودمائة الخلق ، وبتشبعهم بالبلاغة ة العربية ، تراهم يتناولون كتب الكلدانيين ) يعنى المسلمين ) منهم ، ويطالعونها بلهف ويناقشونها في حماسة وغيرة ، ويشيدون بذكرها ، ويمتدحونها بكل ضرب التنميق في اللفظ وحسن البيان، وعلى حين أنهم لا يفقهون شيئاً من جمال الأدب الكنسى ، ثم يحتقرون جداول الكنيسة التي تنساب إليها من الجنة . وا أسفاه ! لقد جهل المسيحيون نظم شريعتهم ، وأصبحت الأمم اللاتينية لا تعبر لغتها اهتماماً، حتى لا تكاد تجد في جماعة المسيحيين كافة رجلا من كل ألف رجل يستطيع أن يستفسر عن صحة صديق بعبارات واضحة جلية ، وأنت واجد بين جمهرة السوقة والعامة أشخاصاً لا يحصى عددهم ، يحيطون إحاطة تامة بالعبارات الفصيحة التي خلفتها اللغة العربية في عصورها الذهبية ، حتى لقد استطاعوا ن أن ينظموا القصائد المقفاة - ذلك القصائد التي يتجلى فيها أسمى مراتب الجمال ، بل


لقد كان بعضهم أمهر العرب أنفسهم في قرض الشعر (1) . وفي الحق أن اللغة اللاتينية بلغت في بعض أجزاء أسبانيا درجة كبيرة من


الانحطاط ، حتى لقد أصبح من الضروري أن ترجم قوانين الكنيسة الأسبانية القديمة والإنجيل إلى اللغة العربية ليسهل استعمالها على المسيحيين (٢) . وبينما كانت الآداب العربية التي ازدهرت في ذلك العصر تستولى على


الأفئدة بجمالها ، ويقبل الناس على دراستها في حماسة وشغف ، نجد أن أولئك الذين رغبوا في دراسة الأدب المسيحى لم يعد في متناول أيديهم المادة التي كانت المستخدم في تعليم القوط المتبربرين ، ولم يجدوا ، إلا في شيء من الصعوبة ،المعلمين الذين يستطيعون أن يبدءوا معهم نوعاً من الدراسة لا يرتفع كثيراً حتى عن المستوى المنحط من الثقافة . وهذه الحاجة الماسة للدراسات المسيحية قد زادت على مر الأيام . ففي سنة ۱۱۲٥ م كتب المستعربون في أسبانيا إلى الفونس ملك أرغونة : ( لقد نشأنا نحن وآباؤنا إلى وقتنا هذا وتربينا بين الأجانب وإننا نرعى الرسوم المسيحية في حرية بعد أن تعمدنا في طفولتنا ، بيد أننا لم نكن قط بحيث نستطيع أن نلم بتعاليم ديننا المقدسة . فإننا لا نجرؤ ، بسبب وجودنا تحت حكم الكفار الذين ظلمونا دهراً طويلا ، على طلب المعلمين من رومة أو من فرنسا . فإنهم لم يفدوا إلينا قط من تلقاء أنفسهم بسبب وحشية


الوثنيين الذين ندين لهم بالطاعة (1)


ومن ذلك الاتصال الوثيق بالمسلمين ، ودراسة آدابهم دراسة عميقة . حيث نجد حتى من بين المسيحيين مثل ألفار Alvar (۲) الذي عرف بتعصبه على الإسلام ، يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل ، حتى إن المسيحيين لم يسعهم إلا قراءته و الإعجاب به - كان طبيعياً أن نتوقع وجود أدلة على مدى النفوذ الديني ، كذلك كانت الحال بلا مراء . ويقال إن الهندس Elipandaus أسقف طليطلة ( المتوفى سنة ۸۱۰ م ) ، وأحد أئمة المذهب الإلحادي القائل بالتبنى - الذي ذهب إلى القول بأن عيسى المسيح الرجل ابن الله بالتبنى لا بالطبيعة - قد انتهى إلى هذه الآراء المغرقة في الإلحاد عن طريق اتصاله بالمسلمين (۳). ويظهر أن هذه العقيدة الجديدة قد ذاعت بسرعة في جزء كبير من أسبانيا ، بينما نشر فياكس أسقف أرجيل Urgel إحدى مدن إقليم قطلونية هذه الآراء في إقليم سيتمانيا الذى كان تحت حماية فرنسا (1) . وقد استدعى فيلكس أمام مجمع برئاسة شرلمان ، وأرغم على التكفير عن خطئه ، ولكنه عاد إلى إلحاده على أثر عودته إلى أسبانيا . وليس من شك في أن ذلك كان راجعاً ( كما ظن البابا ليو الثالث 111 Leo في ذلك الوقت ) إلى اتصالهبالوثنيين ( يعنى بذلك المسلمين ) الذين دانوا بنفس هذه الآراء (1) .


ولما كان أشهر رجال الدين قد تأثروا تأثراً عميقاً من جراء اتصالهم بالمسلمين ، جاز لنا أن نحكم بأن تأثير الإسلام فى مسيحي أوربا كان عظيما .. وليس أدل على صحة هذا القول من التفكير في عقد ذلك المجمع بمدينة طليطلة


سنة ٩٣٦ م ؛ للبحث في أحسن الوسائل التي تحول دون أن تفسد هذه العلاقات من صفاء الدين المسيحى ونقائه (۳) .


من ذلك نستطيع أن ندرك بسهولة كيف أن عوامل التأثير في الآراء وإقامة الشعائر الإسلامية - بالإضافة إلى هذه الجهود الواضحة التي بذلت في سبيل تحول هؤلاء المسيحيين (۳) - قد أدت إلى ما هو أكثر من مجرد التقارب والاتصال ، كما أنها سرعان ما عملت على زيادة الداخلين في الإسلام ، حتى إن ذريتهم الذين أطلق عليهم اسم المولدين – ذلك اللفظ الذي يدل على الأشخاص الذين لم يكونوا من دم عربى - سرعان ما ألفوا جماعة كبيرة لها أهميتها وخطرها في الدولة ، وأصبحت بلا شك أغلبية سكان البلاد (٤) ، حتى إننا نقرأ كثيراً عن الجهود التي بذلها هؤلاء الأسبان في مستهل القرن التاسع


للتخلص من حكم العرب ، ثم تنشط حركتهم وتتقدم بخطا مسرعة في مناسبات كثيرة ، ويظهرون باسم جماعة الحزب الوطنى للأسبان المسلمين .


وليس لدينا إلا اليسير من المعلومات عن تاريخ تحول هؤلاء الأسبان الحديثي العهد بالإسلام ويظهر أن ذلك التحول استمر إلى أواخر أيام الحكمالإسلامي ؛ فقد ذكر المؤرخون أن المسيحيين الذين ارتدوا إلى الإسلام ووجدوا في مدينة ملقة التي استولى عليها جيش فردينند وإيزابلا في سنة ١٤٨٧ م ، وأنهم قد عذبوا عذاباً أفضى بهم إلى الموت ، وذلك بوضع الغاب


الحاد المدبب في أجسادهم .


وفي الحصار الذي انتهى بتسليم مدينة Purchena بعد ذلك بسنتين ، وعد الفاتحون بألا يحملوا هؤلاء المرتدين على التحول إلى المسيحية ثانية (1) . على أن عدداً قليلا من الأهلين قد ارتد عن الإسلام ليتخلص من الغرامة التي قضت المحاكم الشرعية عليه بأدائها (٢) . وقد بلغ من تأثير الإسلام في نفوس معظم الذين تحولوا إليه من مسيحيي أسبانيا مبلغاً عظيما ، حتى سحرهم بهذه المدنية الباهرة ، واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته ، وفئه الذي استولى على عقولهم و بهر خيالهم : كما وجدوا في الفروسية العربية الرفيعة مجالا فسيحاً لإظهار بأسهم ، وما تكشفت عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخلق قويم - تلك الحياة التي ظلت مغلقة في وجوه الأسبان الذين بقوا على تمسكهم بالمسيحية وإخلاصهم لها . أضف إلى ذلك أن علوم المسيحيين وآدابهم لا بد أن تكون قد بدت فقيرة ضئيلة إذا ما قيست بعلوم المسلمين وآدابهم التي لا يبعد أن تكون دراستها في حد ذاتها ، باعثاً على الدخول في دينهم . هذا إلى أن الإسلام في أسبانيا استطاع أن يثير في نفوس الأنقياء الجمال الذي ينشده الوردون والمتحمسون من جماعة إخوان الصفا : وعلى رأسهم علماء الكلام عند أهل السنة الذين كانت لهم الكلمة النافذة في أمور الدولة وقتاً ما ، والذين دأبوا


في حمية وغيرة على إصلاح مذهبهم وتقويم أخلاقهم . وإذا نظرنا إلى ذلك الشعور الديني الذي أحيا أكثرية الأسبان المسلمين ، وذلك التحدى والحقد الذي غلا في صدور المسيحيين حتى دبروا المؤمرات بمؤازرة إخوانهم في المدين الذين كانوا يقيمون خارج حدود بلادهم ، لا يسعنا إلا الاعتراف بأن تاريخ أسبانيا في ظل الحكم الإسلامي يمتاز ببعده بعداً تاماً عن الاضطهاد الديني . وإذا استثنينا ثلاثاً أو أربعاً من حالات الاستشهاد الحقيقي ، فإن الشيء الذي قد نطلق عليه اضطهاداً أو ما يقرب من الاضطهاد مدة الحكم العربي ، إنما نجده في هذه الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الحكومةالإسلامية للقضاء على الجنون الذي استولى على عقول بعضهم ، فدفع بهم إلى التطوع للاستشهاد الذي فشا بقرطبة في القرن التاسع . ففي ذلك الوقت ظهرت في هذا الجزء من أسبانيا ) والواضح أن الكنيسة المسيحية في سائر أنحاء البلاد لم تعطف على هذه الحركة ) ، جماعة دينية اشتهرت بتعصها للمسيحية ، وانتهكت حرمة ديانة المسلمين جهراً وبغير ما سبب ، ورمت نبيهم بالكفر ، وأصرت على تحدى هذه الديانة ، وعرضوا أنفسهم القتل على أيدى مواطنيهم الذين ضلوا السبيل ومرقوا عن الدين بتحولهم إلى الإسلام وتعصبهم له .


استشهاد بعض المسيحيين بمحض إرادتهم : وإن هذا الانفعال النفساني الغريب الذي دفع بهذه الطائفة إلى التضحية ، ليظهر ظهوراً بينا لدى جماعة القسيسين والرهبان والراهبات بين سنتى ٨٥٠ و ٨٦٠ م . وقد يبدو أن عادة إطالة التفكير والتأمل - بحكم وجودهم في الأديار وعزلتهم في الصوامع - فيما آل إليه نفوذ المسيحية من ضعف وما بلغته الحمية الدينية من وهن وانحلال . وقد دفع بهم إلى السعى وراء شرف الاستشهاد - الذي سلبهم إياه تسامح حكامهم الكفار - بم اوأة الإسلام والغض من شأنه وشأن نبيه . ومن الأمثلة التي تؤيد صحة ما ذهبنا إليه تلك الحادثة التي دونت عن أحد الرهبان ويدعى إسحاق . فقد تقدم إلى القاضي ، وادعى أنه يريد أن يتعلم أصول الإسلام. ولما شرح له القاضي تعاليم النبي بادره بقوله في عنف وشدة : لقد كذب عليكم ( لعنه الله ! ) ذلك الشرير الذي ملأ الحبث قلبه ، وقاد كثيرين من الناس إلى التهلكة وقضى عليهم بالتردى في نار جهنم يوم الدين ، وقدم إليكم كأساً من النبيذ البارد ليدخل المرض إلى نفوسكم بهذه الشعوذة الشيطانية التي احترفها فملكت عليه مشاعره . وسوف يكفر عن خطيئته بما يحل به من اللعنة الأبدية . ولم لا تخلصون نفوسكم من أمثال هذه المخاطر بفضل ما وهبكم الله من مزية الفهم والإدراك ؟ ولماذا لا تتلمسون النجاة الأبدية برفض هذه الوصمة التي تشوب عقائدكم الوبائية بالرجوع


إلى إنجيل دين المسيح (1) ؟ . . وفي مناسبة أخرى اقتحم اثنان من المسيحيين أحد المساجد وأخذا يغضانمن شأن الدين الإسلامي. وأعلنا على ملأ من الحاضرين أن هذا الدين سيعود على أنصاره عما قليل بالتهلكة. ونار الجحيم (1) . ومع أن عدد هؤلاء المتعصبين للدين المسيحى لم يكن كبيراً (٢) ، خشيت الحكومة الإسلامية سوء عاقبة هذه الحوادث وأوجست خيفة من أن احتقارهم سلطانهم وعدم اكتراثهم لهذه القوانين التي سنوها ضد من يطعن في دينهم قد يؤدى إلى استفحال روح الكراهة وذيوع حركة العصيان بين الأهلين كافة . إذ أن محمداً الأول لم يجد في الواقع بدأ من أن يرسل في سنة ٨٥٣ م جيشاً إلى مسيحي طليطلة الذين استفزهم يولوجيوس Eulogius ، الذي نصب نفسه للدفاع عن الشهداء ، وأشعل نار الثورة حين وصلت إلى سمعه أنباء هذه الآلام التي كان يقاسيها إخوانهم في الدين (۳). وقد قيل إنه أمر بذبح جميع النصارى . على أن الناس لما أدركوا أنه لم يشترك في هذه الأعمال أي شخص من المسيحيين الذين يمتازون بشيء من الذكاء أو السلطان (٤) . ( إذ أن أثمار Alvar نفسه يشكو من أن أغلبية القسيسين المسيحيين قد دانوا الشهداء وحكموا عليهم بالخطيئة (0) ) ، اكتفى الأمير بتنفيذ القوانين المعمول بها نحو من يطعن في الدين الإسلامي بمنتهى الصرامة . وقد أيدت طائفة الكنيسة التي عرفت بالاعتدال الحكومة فيما بذلت من جهود في هذه السبيل ، ولعن الأساقفة هؤلاء المتعصبين وحرموهم الحقوق الكنسية ، وعقد في سنة ٨٥٣ م مجمعديني لبحث وسائل القمع التي اتفق عليها الفريقان (۱) ، وانتهت بالقضاء على هذه الحركة . وقد دون المؤرخون بعد ذلك حادثتين منفصلتين من حوادث الاستشهاد وقعت ثانيتهما في سنة ٨٩٣ م ، ولم تقع بعدها أية حادثة مدة الحكم العربي في أسبانيا (٢)


ذلك تعصب بعض المسلمين لا ينفى فكرة الناصح : ولكن في عهد دولة المرابطين التي تولت حكم بلاد الأندلس ، انفجر بركان التعصب الديني في أوائل القرن الثانى عشر الميلادى من جانب المتحمسين من رجال الدين الإسلامي ، وقامى من جراء ذلك المسيحيون واليهود وطائفة الأحرار المسلمين الذين نادوا بحرية الفكر كالفلاسفة والشعراء ورجال الأدب . ولكن هذه الحوادث لم تكن إلا استثناء للتسامح الديني الذي اتسم بذلك الطابع الذي عرف به أمراء المسلمين في أسبانيا نحو رعاياهم من المسيحيين أن أحد مسلمى أسبانيا الذي طرد من بلاده حين أقصى العرب لآخر مرة سنة ١٦١٠ م ، بينما نراه يحتج على اضطهادات محاكم التفتيش ، يثبت بالأدلة القاطعة مدى التسامح الديني الذي سار عليه إخوانه في الدين في هذه الكلمات : « هل حاول أسلافنا المنتصرون ولو مرة واحدة أن يستأصلوا المسيحية من أسبانيا حين كان في مقدورهم أن يفعلوا ذلك ! ألم يسمحوا لآبائكم بأن يتمتعوا بحرية استعمال رسومهم الدينية في نفس الوقت الذي لبسوا فيه طيالسهم ؟ ألم يوص نبينا بأن تترك الحرية الدينية لأهالى البلاد التي يفتحها العرب بحد السيف مهما بلغت آراؤهم الدينية من حمق وخرق ؟ بل ألم يسمح لهم بالتدين بأى دين آخر يؤثرونه على دينهم إذا دفعوا مقداراً عتدلا من الجزية في كل سنة ؟ وإذا كانت ثمة أمثلة قد يأتى بها بعضهم للدلالة على إرغام الأهاين على اعتناق الإسلام ، فإن هذه الأمثلة قد بلغت منالندرة بحيث لا تستحق أن تذكر هنا ، وإنما حاولها أناس لا يخشون الله . ونبيه ، بل قاموا بهذا من تلقاء أنفسهم مع مخالفته التعاليم الدين الإسلامي وسنة نبيه ، تلك التعاليم التي لا يمكن أن يدنسها أو ينتهك حرمتها إلا كل. شخص لا يتحلى بصفات المسلم الحقيقي وأنتم لا تستطيعون أن تظهروا لنا شيئا ما عن أية حادثة خاصة بسفك الدماء أو تقديم للمحاكمة ، بسبب. الطرق المختلفة التي اتبعت في إقناع الناس وتلقينهم تعاليم تشبه على نحو ما ، محاكم التفتيش الممقونة . وإن يدنا مبسوطة دائماً لتلقى كل من وهب الله. له نعمة التدين بديننا ؛ ولكن كتابنا المقدس وهو القرآن الكريم لا يجيز لنا أن نتحكم في ضمائر الناس . وإن الذين استجابوا إلى ديننا قد نعموا بكل . ما يمكن أن يتصوره العمل من تشجيع ومعاضدة ؛ حتى إذا اعترفوا بوحدانية . الله ورسالة نبيه ، صاروا كواحد منا من غير تمييز أو استثناء ، فتزوجوا بناتنا وشغلوا المناصب التي يكون أصحابها محلا للثقة ، ويحاطون بمظاهر الشرف وينعمون بالثراء . وكان أقصى ما رضيناه لأنفسنا من هؤلاء ، أن . طلبنا إليهم في رقة ولطف أن يلبسوا لباسنا ، وأن يظهروا بمظهر المخلصين الحقيقيين للدين في كل ما يظهرون به أمام الناس ، دون أن يعرضوا ضمائرهم للامتحان بشرط أن لا يغضوا من شأن ديننا أو يدنسوه ، فإذا فعلوا ذلك أنزلنا بهم ما يستحقونه من العقاب بلا مراء ، إذ كان تحولهم إلى هذا الدين


عن طواعية واختيار لا عن إرغام وإكراه (4)


وقد اتخذ رئيس أساقفة بلنسية من روح التسامح الحقيقية هذه ، مقالا رئيسياً بعنوان : « ارتداد العرب في الأندلس وخيانتهم للدولة ، ، وذلك حين أشار على فيليب الثاني بطردهم فقال : ( إنهم لم يذكروا بالجميل والحمد شيئاً أكثر من حرية الضمير هذه في كافة المسائل الدينية ، تلك الحرية التي سمح الأتراك العثمانيون وغيرهم من المسلمين لرعاياهم أن


ينعموا بها (٥) .


مدى اناع حالات التحول إلى الاسلام : وإن هذه البذور العميقة التي ألقى بها الإسلام في قلوب أهالى بلاد الأندلس ، يمكن الحكم على مدى . عمقها من هذه الحقيقة، وهي أنه لما طرد آخر بقايا المسلمين من هذه البلاد.
سنة ١٦١٠ م ، كان هؤلاء الأهالى المساكين لا يزالون يتمسكون بدين آبائهم ، مع أنهم أرغموا على إظهار تدينهم بالمسيحية أكثر من قرن ، ومع توالى هذه الهجرات التي حدثت منذ سقوط غرناطة ، حتى قيل إنه طرد في ذلك الوقت أكثر من خمسمائة ألف (1) . ومن ثم هجرت مدن وقرى برمتها ، تخربت بيوتها وأصبحت أطلالا بالية ، حتى لم يعد فيها شخص واحد يقوم ببنائها من جديد (۲) . وربما كان هؤلاء المسلمون المتخلفون في أسبانيا جميعاً من سلالة أهالى البلاد الأصليين ، الذين كان الدم العربي فيهم قليلا ، أو منعدما . وإن الأدلة التي قد نوردها على سبيل التدليل لدعم هذه الحقيقة. من الكثرة بحيث لا نستطيع أن نأتى بها في هذا المقام . ولنذكر الآن إحدى هذه الحقائق لتكون شاهداً على صحة ما تقول ، مستمدين ذلك من كتاب يرجع تاريخه إلى سنة ۱۳۱۱ م . وقد جاء فيه أنه لم يكن من بين المائتي ألف من المسلمين الذين كانوا يعيشون في مدينة غرناطة في ذلك الحين أكثر من خمسمائة من أصل عربي ، على حين كان سائر هؤلاء المسلمين من أهالى بلاد الأندلس الأصليين الذين تحولوا إلى الإسلام (٢) . وأخيراً فمن المهم أن نذكر أنه حتى أواخر ذلك الوقت الذي احتفظ فيه الإسلام بقوته ونفوذه ، نرى هذا الدين يظفر بمتبعين جدد ، ولا غرو فإن المؤرخ حين يدون الحوادث التي وقعت في سنة ١٤٩٩ م ، أى بعد سقوط غرناطة بسبع سنين ، يوجه أذهاننا إلى هذه الحقيقة ، وهى أنه كان من بين العرب في أسبانيا عدد قليل من المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام في عصر متأخر .


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

تأسست منظمة الي...

تأسست منظمة اليونسكو على يد اللجنة الدولية للتعاون الفكري (ICIC) المنبثقة عن عصبة الأمم المتحدة؛ وهي...

هنا نصل الى الم...

هنا نصل الى المدينة الثالثة والرابعة المدينة الثالثة وهي طبعا بتعود الفترة المتأخرة مع المدينة الراب...

Capacitors: Typ...

Capacitors: Types and Applications A capacitor is an electrical component that stores electrical en...

تعتبر تعزيز دور...

تعتبر تعزيز دور المحاسبة القضائية أمرًا حيويًا لمكافحة الغش والاحتيال المالي، ينبغي تحسين وتعزيز الت...

منذ الحروب الصل...

منذ الحروب الصليبية، سعت الكنيسة المسيحية لنشر مبادئها وعقيدتها عبر الحركات التبشيرية والتنصيرية، خا...

٦-١-٣ تحديد الش...

٦-١-٣ تحديد الشركاء المحتملين في أي سياق، من أجل العمل بشكل فعال مع الأطفال غير المصحوبين والمنفصلي...

المدعي :
 شركة ...

المدعي :
 شركة لوجیكوم العربیة السعودیة
 المدعى علیھ :
 شركة البعد السعودي اللامحدود لتقنیة المعلوما...

التعاقد بغض ال...

التعاقد بغض النظر عن التصاريح والتراخيص، ستكون هناك حاجة إلى أنواع مختلفة من العقود للفنانين أو فن...

Caitlin Clark S...

Caitlin Clark Sends Subtle Warning to WNBA After First Training Camp Practice.The jump from college ...

القانون المدني:...

القانون المدني: مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات مجموعة القواعد التي تطبق على الاعمال القانونية بين...

-Immediate lead...

-Immediate leadership changes: Addressing leadership issues at Well Fargo is likely to involve a mul...

تعد بورصتا نيوي...

تعد بورصتا نيويورك وناسداك أكبر سوقين للأوراق المالية في العالم من ناحية القيمة السوقية وحجم التداول...