Lakhasly

تُعدّ شبكة الجزيرة، منذ انطلاقها عام 1996، ظاهرة فريدة في الإعلام العربي، أثارت جدلاً واسعاً بين التأييد والانتقاد، وحققت شعبية عالمية. تطوّرت الجزيرة من قناة إخبارية إلى شبكة إعلامية متكاملة تضم قنوات متنوعة (الجزيرة الإنجليزية، الرياضية، للأطفال، مباشر، الوثائقية) ومؤسسات بحثية وتدريبية ومهرجانات، منافسةً كبرى الشبكات العالمية مثل CNN و BBC. باتت الجزيرة علامة تجارية عالمية بارزة، تُشبه في نفوذها كوكاكولا أو نوكيا.

تُستخدم الجزيرة كأداة دبلوماسية قطرية، سواءً في الدبلوماسية الرسمية من خلال جمع الأطراف المتصارعة، أو في الدبلوماسية العامة من خلال حوارات مباشرة تُبثّ عالمياً، مؤثرةً في الرأي العام. يُلاحظ ارتباط وثيق بين الجزيرة وقطر، كارتباط كوكاكولا بأمريكا، ما يُعزز صورة قطر عالمياً. وقد أشارت وثائق ويكيليكس إلى اعتبار الولايات المتحدة الجزيرة ورقة مساومة في السياسة الخارجية القطرية.

تساهم الجزيرة في بناء "السمة الوطنية" القطرية من خلال علاقاتها المتشعبة مع الأفراد والمؤسسات عالمياً، فغيابها سيُحدث تأثيراً ملحوظاً. وتُعتبر الجزيرة درعاً دفاعياً لقطر، بل أحياناً أداةً هجومية للدفاع عن مصالحها، خاصةً عندما تعجز الدبلوماسية التقليدية. ولا يقتصر الجهد القطري على الجزيرة، بل يشمل حضورها في وسائل الإعلام العالمية، كما يُظهر مسحٌ أجراه جون مارك كنغ انطباعاً إيجابياً عن قطر في الصحف العالمية. كما أسست قطر "مركز الدوحة لحرية الإعلام"، بالشراكة مع "مراسلون بلا حدود"، لتعزيز التواصل مع الصحفيين عالمياً.

الواجهة الإعلامية
لا شك أن العنوان الأبرز في هذه الواجهة هو "شبكة الجزيرة الإعلامية" التي شكلت ومنذ انطلاقها في العام 1996 حالة فريدة في الفضاء الإعلامي العربي، فقد اعتبرت هذه القناة بكل ما طرحته من إشكالات وتساؤلات، وبكل ما أثارته من تعاطف وانتقادات، وكل ما لحق ذلك من شعبية أو غضب، حالة فريدة في المشهد الإعلامي العربي. ولم يقتصر حضور "شبكة الجزيرة" على الهواء وشاشات المشاهدين فقط، بل تجاوز ذلك، عندما انتقلت الجزيرة من مجرد قناة إعلامية ناقلة للأخبار والأحداث إلى شبكة متكاملة تضم عدة مؤسسات إعلامية وبحثية وتدريبية.
ولا شك أن "الجزيرة" أيضا، وهذه المرة، كعلامة تجارية باتت حاضرة في العالم بقوة تنافس أهم وأشهر الماركات العالمية ك "كوكاكولا" أو "نوكيا"، إذ تبوأت في العام 2005 المرتبة الخامسة بين أهم وأشهر الماركات العالمية من حيث النفوذ والتأثير.
وفي قطاع الإعلام، باتت "شبكة الجزيرة" تتبوأ مكانة لا تقل عن شبكات "سي إن إن" أو "سكاي" أو"بي بي سي" العالمية.
وتزايد نفوذ هذه العلامة التجارية والشبكة الإعلامية بعد إطلاق قناة الجزيرة الإنجليزية، و"قنوات الجزيرة الرياضية" و"الجزيرة للأطفال"
و"الجزيرة مباشر " و"الجزيرة الوثائقية". أضف إلى ذلك أن الجزيرة وسعت من نطاق أنشطتها، فلم تعد كأي قناة تلفزيونية تقليدية، بل أوجدت لنفسها أذرعا طويلة ومؤثرة من قبيل "المهرجانات السنوية"
و"مركز الجزيرة للتدريب" و"قسم حقوق الإنسان" و"مركز الجزيرة للدراسات" و"الجزيرة نت باللغتين العربية والإنجليزية" ... وغيرها يضاف إلى ذلك الندوات والمؤتمرات التي تنظمها الشبكة وأذرعها على مدار السنة، إما منفردة أو بالتعاون مع شركاء آخرين.
ولم تتعارض سياسة الجزيرة كقناة فضائية وما يلحق بها من أدوات مكملة، مع عملية تكوين "السمة الوطنية" لدولة المنشأ.
وبدت الجزيرة أداة فاعلة لدعم الدبلوماسيتين التقليدية والعامة لدولة قطر. فبينما تجمع الدبلوماسية الرسمية القطرية الأطراف المتصارعة في قضية ما، في غرف مغلقة، وتمارس دور الوسيط، تجمع الجزيرة الأطراف نفسها على الهواء مباشرة لحوار من نوع آخر، يقال فيه ما لا يقال في الغرف المغلقة، بل يصل إلى ملايين المشاهدين حول العالم. وفي الوقت نفسه فإن الجزيرة كعلامة تجارية، لا يمكن فكها أو فصلها في أذهان الناس عن موطنها الأصلي "قطر"، تماما كما لا يمكن الفصل بين "كوكاكولا" وأمريكا، أو "مرسيلس" وألمانيا، وغيرها من هذه الأمثلة التي تعكس الترابط الوثيق بين العلامة التجارية وبلسد المنشأ. والأكيد في هذا الصدد أن كليهما، بلد المنشأ والعلامة التجارية، يخدم أحدهما الآخر، خاصة في ناحيتي الترويج والتأثير في الآخر.
وكشفت صحيفة الغارديان ضمن وثائق دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ويكيليكس، أن الولايات المتحدة تعتقد أن قطر تستخدم قناة الجزيرة ورقة مساومة في مفاوضات السياسة الخارجية للمساعدة في دفع جدول أعمالها على المسرح الدولي. ونقلت الصحيفة عن برقية سرية من السفير الأمريكي في قطر جوزيف لوبارون: "إن قناة الحزيرة تستخدم ورقة مساومة في تعاملات قطر مع جارتها إيران
تتقاسم معها حقلا للغاز، ومع لاعبين إشكاليين آخرين مثل حماس وحزب اللّٰه وسوريا. وأضاف لوبارون في برقيته الدبلوماسية "نتوقع أن يستمر استخدام قناة الجزيرة أداة غير رسمية في السياسة الخارجية لحكومة قطر، ووسيلة للتأثير بيد قطر للتعبير عن سياستها الخارجية، كما ستستمر قطر في استخدامها أداة للمساومة لإصلاح العلاقات مع الدول الأخرى، التي توترت علاقاتها معها بسبب القناة، بما فيها الولايات المتحدة". وتابع "إن قدرة قناة الجزيرة على التأثير في الرأي العام في جميع أنحاء المنطقة هي مصدر كبير للنفوذ لقطر، كما أنها تستخدم لتحسين العلاقات مع الدول الأخرى، وعلى سبيل المثال سهلت تغطية الجزيرة الإيجابية لنشاطات العائلة الملكية السعودية المصالحة بين الدوحة والرياض خلال العام الماضي، ولا تزال تعد واحدة من الأدوات السياسية والدبلوماسية الأكثر فعالية بيد الحكومة القطرية " 1.
أما على مستوى الدبلوماسية العامة القطرية، فإن أهمية شبكة الجزيرة تتمثل في شبكة العلاقة المباشرة أو غير المباشرة التي نسجتها
"شبكة الجزيرة" ومؤسساتها مع الأفراد والمؤسسات المجتمعية عبر العالم، وهذه العلاقة "المصالحية" ضرورية جدا وأساسية في عملية تكوين "السمة الوطنية". ويمكن أن نلخص هذه العلاقة، والحالة التي تحيط بها، بطرح الفرضية التالية: لنفرض أن "الجزيرة" اختفت فجأة من الوجود، فلا شك أن جزءا من الناس سيغضب، وآخر سيفرح، وآخر سيشعر بنقص ما أصاب المشهد الإعلامي، وآخر سيخسر، وآخر سيربح... إلخ، والمحصلة النهائية أن الجميع يبدو معنيا ومتأثرا، وصاحب مصلحة (سلبية أو إيجابية، لا يهم)، وهذا بالضبط ما يقصد بالعلاقة "المصالحية". وهذه الحالة تشبه سلوك الدبلوماسية العامة التي تحافظ على "شعرة معاوية" مع جميع الأطراف، وتحضر في جميع المحافل والأحداث، وإن غابت لأي سبب يكون غيابها مثار تساؤل أو سبباً لتحريك مواقف أو مشاعر ما.
بناء عليه، باتت شبكة الجزيرة الإعلامية بكل مؤسساتها تشكل أداة هامة في "ترسانة الدفاع" عن صمود وثبات دولة قطر في مواجهة القوى الكبرى المتصارعة في منطقة الخليج. فإن كان ممكنا لهذه القوى أن "تعتدي على دولة قطر" في غفلة من العالم في زمن "ما قبل الجزيرة"، فإن هذا الأمر بات من المستحيل في ظل وجود الجزيرة، التي تنقل الصورة والأخبار على الهواء مباشرة لملايين المشاهدين في أنحاء العالم.
ولا نبالغ بالتقدم خطوة للإمام لوصف الجزيرة بأداة في "درع"
دولة قطر الدفاعي. بل يلاحظ أن دور الجزيرة هذا يتقدم في بعض الأحيان ليأخذ موقع "الهجوم" عندما يصعب على الدبلوماسية العامة القطرية تحقيق ما تصبو إليه في قضية ما، وعندما تشعر هذه الدبلوماسية بأن هناك قوى إقليمية تحاول تهميش أو إقصاء الدور القطري، ولا يمكن للدبلوماسية التقليدية المواجهة المباشرة معها، فتكون الجزيرة الأداة الأكثر قدرة على المواجهة والتأثير في الرأي العام المستهدف، بغرض دفعه للضغط على حكومته لتغيير موقفها من قضية ما، وهذا بالضبط هو دور الدبلوماسية العامة، ورأس الحربة في أدواتها، الإعلام.
ولأن تكوين "السمة الوطنية" يتطلب التواجد أيضا في كل وسائل الإعلام الدولية، وتحت عناوين وصيغ تتعدد وتتناول جوانب أخرى من "سمة قطر". فإن المجهود القطري على الواجهة الإعلامية لا قتصر على شبكة الجزيرة وحسب، بل يتعداه ليحضر في مختلف وسائل الإعلام الجماهيري عبر العالم. وهنا نشير إلى مسح أجراه جون مارك كنغ من جامعة شرق تينسي الأمريكية، على مضمون الصحف الرئيسية في 18 بلداً حول العام بين العامين 2006 و2007.
وكشف المسح عن ورود اسم قطر (706 مرات) في 70 صحيفة رئيسية. وشمل المسح صحفاً في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا ونيوزلندا، ودول آسيوية، والشرق الأوسط بما فيه إسرائيل، ودول أفريقية. وأظهر المسح بأن الانطباع تجاه قطر كان إيجابيا، وأن المعلومات الخاصة بجغرافيا قطر وسكانها ظهرت أكثر من غيرها من المواضيع مثل الإرهاب والحرب .
وفي العام 1998 ألغت قطر وزارة الإعلام، وفي العام 2007
أسست بالشراكة مع منظمة "مراسلون بلا حدود" الفرنسية "مركز الدوحة لحرية الإعلام والدفاع عن الصحفين"، مؤسسة خاصة ذات نفع عام. بهدف حماية المنظومة الإعلامية وفق ما ينسجم مع المعايير لدولية، والقيام ببحوث إعلامية، وبناء قاعدة بيانات تخدم قطاعات الإعلام، إلى جانب إقامة نصب تذكاري يكون بمثابة ذاكرة دولية تخلد رموز ورواد وضحايا الإعلام الحر، وتقديم المساعدة للإعلاميين الذين يتعرضون للانتهاكات أثناء ممارستهم لدورهم المهني، خاصة في وضعية الأزمات. ووقع مركز الدوحة لحرية الإعلام بروتوكولا للتعاون مع منظمة "مراسلون بلا حدود" في يناير /كانون الثاني
22008. ويمكن القول إن الهدف من هذا المركز يتمثل في بناء التواصل مع الصحفيين عبر العالم، وربط العلاقات "المصالحية" الوثيقة معهم. وتبدو أهمية ذلك بدهية في ضوء معرفة أهمية وسائل الإعلام، والعاملين في الإعلام، في تغطية ومتابعة مبادرات الدبلوماسية العامة، وما يوفر ذلك من رصيد في الناتج النهائي لعملية "توسيم الأمة".