Online English Summarizer tool, free and accurate!
بحيث تؤثر كل من هاتين العمليتين في الأخرى، هما عمليتان ذواتا توجه ثقافي، بحيث تقوم الدولة أثناء عملية بناء الأمة بإكساب الأخيرة خصائصها، على إكساب الدولة خصالها الثقافية، وتتضمن هذه العملية المزدوجة نوعين من المتغيرات. فمن ناحية الدولة هناك مجموعة المتغيرات التي تتوقف عليها قدرة الدولة على بناء الأمة، ويمكن تسمية هذه المتغيرات بـ عوامل القدرة الاستيعابية للدولة. فالنوع الأول يشتمل على القدرة الوظيفية للدولة والقدرة الاقتصادية والقدرة الأيديولوجية الأكثرية، وبذلك تغدو الحلقة الرابطة بين العمليتين (A) و (B) هي الهوية القومية للأكثرية بعينها، وتنشأ عن التقابل والتدعيم المتبادلين للمتغيرات القادمة من اتجاه عملية تكوين الدولة لبناء الأمة، وتلك المتغيرات القادمة من اتجاه عملية بناء الأمة للاستحواذ على الدولة وجعلها خاصة بالأكثرية المهيمنة يمكن القول إن الهوية القومية للأكثرية وانتشارها تتناسب طردياً مع القدرة الاستيعابية للدولة وقوة متغيرات الهوية عينها معاً. فكلما كانت تلك القدرة، أما إذا كانت تلك القدرة والمتغيرات ذات فاعلية منخفضة، فإن ذلك يفضي بدوره إلى انخفاض قوة الهوية القومية وتقلص نطاق انتشارها، ومن ثم يتم التوجه إلى أحد الأشكال الثلاثة الأخرى للدولة في أول الاحتمالات هو الدولة العالمية، إن الهوية القومية تؤدي دوراً مزدوجاً، بهدف تعميم ذاتها حتى تصبح هوية مشتركة، وذلك من خلال الاستعانة بالتعليم والجيش والجهاز الإداري والبنية الاقتصادية للدولة. وفي مقابل ذلك، تتيحالهوية نفسها السبيل أمام الدولة والأكثرية المهيمنة للاستفادة من عملية نشر وتعميم الهوية القومية للأخيرة، بحيث تستفيد الدولة منها في سياق محاولتها التخلص من التباينات الثقافية من أجل الوصول إلى وضعية الولاء والتأييد العام لكيانها السياسي، إذ إنها تتعامل مع السكان وكأنهم وحدة ثقافية واحدة، وعلى منوال الدولة نفسه، إلا أن الأكثرية المهيمنة تستهدف من إلغاء تلك التباينات التخلص من وجود أي بديل ثقافي ينافسها في أسلوب وطريقة حياتها، الأمر الذي يدل على أن سعي الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة إنما هو آلية للدفاع عن هويتها الجماعية من خلال تسوية التباينات وموالاة الجميع للقيم وأسلوب الحياة نفسهما. ويتبين من ذلك أن الأقليات ستغدو هي المتضرر الأكبر في هذا التفاعل الحاصل بين العمليتين (۸) و(B)، أي ما يميزها ثقافياً من الأكثرية من حيث القيم وأسلوب الحياة والموروث الثقافي. وبفعل نزعتها إلى البقاء والاستمرار يتولد من جانب الأقليات ردود فعل عكسية، إلى جانب ما تقدم، مثل النموذج الليبرالي القائم على الحرية التامة للتجارة على الصعيد العالمي، يتناقض تماماً مع الدول القومية وليس «الأمة ككل، ولعلها حين تعمد اليوم إلى تحرير التجارة عالمياً، إنما تريد بذلك إتاحة السبيل أمام بروز الهويات القومية المماثلة، يُشكل دليلاً كافياً على وجود دور لليبرالية في هذا الخصوص. فإن حرص الهوية القومية للأكثرية على ترسيخ وجودها داخلياً لا يتناقض مع النموذج الليبرالي لحرية التجارة، بل إن الأخير يعينها على التحول إلى هوية قومية شاملة لمكونات الدولة كافة. ب - أن العامل الرئيسي الذي يدفع الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة، إنما يتمثل في رغبتها في المحافظة على هويتها الثقافية ونزوعها إلى البقاء والاستمرار. وهذا الأمر ليس بالإمكان تحقيقه عملياً إلا عن طريق الاستيلاء على السلطة السياسية، ومن ثم توجيه دفة الحكم بما يتناسب والمحافظة على تلك الهوية من جهة، فكلما صعدت الدولة والهوية القومية للأكثرية من قدرتيهما الاستيعابية، وآية ذلك ما تنبه إليه ماكس فيبر بهذا الخصوص، فإنها ستواجه مشكلة آنية جديدة، وهي كيفية استخدام المظاهر الحيوية لقوتها داخلياً ضد مطالب الهويات القومية الأخرى والنجاح الأكثر بروزاً في هذا الاتجاه يتمثل في دفع الأمة لأعضائها نحو الاستحواذ على مراكز النفوذ والامتيازات. سيتوجب عليها التخوف من صعود شعوب أخرى وحركات قومية أخرى ساعية إلى تحقيق الغاية ذاتها لأنها هي الأخرى تبتغي الاستحواذ على الدولة وإكسابها رموزها وخصالها الثقافية وسبب ذلك هو أن كلا النوعين من الجماعات مدفوع بالباعث المحرك نفسه المتمثل في الهوية القومية. بل هي عملية لم تزل متواصلة بحكم التنافس القائم بين الطرفين على الدولة بذاتها أو الانفصال عنها وبذلك يتفق كاتب السطور مع ما ذهب إليه باريخ مسبقاً من أن الدولة - الأمة، وتحديداً الجماعة المهيمنة على مركزها، ومثل هذا الوضع يصح على الدول الليبرالية وغير الليبرالية، فكل منها تحاول ان تميز مجالها العام وتضفي عليه سمة قومية واضحة، فإن تلك السياسات قد لا تتضمن انتهاكاً للحقوق الفردية الأساسية، إلا أنها في ذات الوقت تعدّ وسائل لتهديم أمة أخرى سواء من حيث مقاصدها أو من حيث نتائجها، وفقاً لتعبير كيملكا ولعل من أكثرها أهمية ما يأتي : فإنه يهدف في عين الوقت إلى هدم أمة أو ربما أمم أخرى، لأن السياسات المعتمدة في هذا المشروع تصب نظرياً وعملياً في خدمة هوية واحدة جامعة، وذلك لاعتقاد هذه الأكثرية بأن الأقليات إذا ما تمكنت من المحافظة على ثقافاتها المميزة، واستقلت ذاتياً عن المركز، وربما ستدشن كل أقلية مشروع بناء الدولة - الأمة وبالمراحل والسياسات ذاتها عادة، وكذلك الرغبة العامة في خلق أمة متجانسة للذين حكما المحاولات الرامية إلى قمع التنوع الثقافي، بل إنهما يشيران إلى ذلك التفاوت الكبير في حيازة السلطة السياسية والمكانة ما بين جماعتين أو أكثر داخل دولة ما وذلك بفعل اللامساواة الاقتصادية، لأن أشكال اللامساواة هذه ستدفع الأقلية المحرومة اقتصادياً و سياسياً وثقافياً إلى البحث عن مخرج لوضعية الأقلية - الأكثرية، ولهذا يعتقد كيملكا بأنه من الأجدى تسمية هذه الدولة بـ دولة بناء الأمة» أو «الدولة المؤتمةبدلااً من مفهوم الدولة -الأمة، ومن ثم فإن عملية البناء هي في حقيقة الأمر عملية مستمرة، ونظراً إلى ذلك، فهذه الدولة، 1 د - إن الهوية قد أصبحت شأناً من شؤون الدولة، فهي التي تضع لها القواعد والضوابط وتتعامل بموجبها مع الهوية على نحو مباشر، أو أنها بعد قبولها لشكل معين من التعددية الثقافية تقوم بتعيين هوية مرجعية يتم بموجبها تحديد الهوية الشرعية والوحيدة للدولة، ومثال ذلك حالة الولايات المتحدة . ومن ثم الحفاظ على استمرارية هذا الوضع، حيث إن ما يفصل بين جماعتين عرقيتين تعيشان مثلاً في مجتمع واحد هو الاختلاف الثقافي جنباً إلى جنب إرادة كل جماعة منهما ورغبتها في التميز، فكراً وممارسة، على أساس إرادة جماعية واعية بذاتها وذات مشروع هادف، وفي كلا الحالين قد لا تنتهك الحقوق الفردية الأساسية، نلاحظ أن الكيفية التي تتفاعل بموجبها عملية تكوين الدولة وعملية بناء الأمة كيفية تدور حول الهوية القومية للأكثرية. لتغدو كل منهما صورة عن الأخرى، بحيث تبتغي تلك الهوية القومية من وراء ذلك التحوّل إلى هوية جامعة عبر صهر كافة المكونات الثقافية فيها وتحولها إلى وحدة ثقافية واحدة. سواء التي توجد منها داخل أوروبا أو خارجها، أصبحت تطالب اليوم بالحفاظ على خصوصياتها الثقافية وبوجوب التعامل معها بوصفها شريكة للأكثرية في الدولة -الأمة، ومع ذلك، مما يعني أن هناك علاقة جوهرية بين ظاهرة انبعاث الهويات والدولة - الأمة. وكذلك رموز الهوية الأخرى، حتى غطاء الرأس، لأن الثقافة لها أهميتها، تحاول الشعوب والأمم أن تجيب عن السؤال المهم : من نحن؟ وتأتي الإجابة عنه دائماً بالأسلوب التقليدي الذي اعتاده البشر، هذا التصور في مجمله قائم على أساس الخوف من أن يؤدي هذا البروز المفرط للتباينات الثقافية إلى انبثاق فسيفساء من الكيانات الإثنية والقومية داخل نطاق الدولة - الأمة نفسها، وما يؤكد ذلك ظهور عدة مؤشرات أضحت في نهاية القرن العشرين باعثة على إثارة ذلك الخوف والقلق، ومنها : وتفكك يوغسلافيا عسكرياً، هناك من يسعى إلى إيجاد دولة مستقلة خاصة بالسود، تبدأ الجماعات لم شملها باستخدام كل ما هو مشترك وإيلائه أهمية كبيرة، إذ ينشط عامل التمايز والاختلاف في تحريك التباينات الثقافية التي لم يكن لها من قبل أهمية كبيرة، وتأسيساً على ذلك، فإنه يفعل نزوع الدولة نحو الاندماج واستيعاب التباينات الثقافية تموت لغات العالم بمعدل عالي جداً، إذ يوجد في يومنا الراهن ما يزيد على ٦٠٠٠ لغة في العالم، ومن المتوقع أن ينقرض نصفها مع نهاية القرن الحادي والعشرين، وفي هذا السياق، حيث إنها تقودها إلى فقدان ارتباطها اللغوي بثقافاتها الموروثة ويعني ذلك، وإذا صدق هذا الأمر، فإن الدولة -الأمة تواجه اليوم أكبر عائق يحول دون احتفاظها بوحدة كيانها السياسي وذلك بالرغم من مرور عدة قرون من الزمن على عمليات تكوين هذه الدولة سوس وكذلك الحال في بلجيكا التي تسعى فيها أقلية الوالون التي تمثل جميعاً توجه الدولة نحو الاندماج والوحدة. بينما أصبحت على الصعيد الخارجي أكثر شبهاً بفرنسا أو ألمانيا من حيث المعاصرة والعلمانية والتصنيع وثقافتها الديمقراطية والاستهلاكية، ولكن لماذا الهوية ما تزال قوية ؟ وكيف يمكن تفسير هذه الأزمة التي تعانيها الدولة - الأمة المتجسدة في استمرارية التناقض بين حركتها نحو الاندماج وانبعاث الهويات القومية والإثنية فيها التي تدفعها نحو التفكك؟ ويمكن توزيعها إلى أربعة تفسيرات رئيسية : وفي هذا الخصوص، قد أديا بالنتيجة إلى بروز نزعة البحث والاستقصاء عن هويات جديدة استناداً إلى معتقدات متشددة إثنياً ودينياً وقومياً. ولذلك أصبحت الظروف مهيأة لبروز الشعور بخوف الهوية واستمرار هذا الشعور، إذ بات الأفراد يخشون الدولة، وهذا يعني أن الخوف من إمكانية زوال الدولة أوجد حالة من الهلع ما بين المكونات الثقافية للدولة. تحكمها أكثرية لها صفات أو عادات مختلفة. وهذا ما دفع برلين إلى الاعتقاد أن ما نشهده هو تفاعل عالمي ضد المبادئ الأساسية لعقلانية القرن التاسع عشر والليبرالية نفسها. وقريباً من هذا السياق، وذلك لأن الحركات ذات الهوية الإثنية التي تبدو أنها ردود أفعال من الضعف والخوف هي محاولات النصب المتاريس لصد قوى العالم الحديث .
إلى هذه الرؤية، يمكن القول إنه في لحظة ابتداء عملية تكوين الدولة تدخل الأمة بدورها في مرحلة البناء والتبلور، بحيث تؤثر كل من هاتين العمليتين في الأخرى، وعلى نحو متبادل. وفي الوقت عينه، هما عمليتان ذواتا توجه ثقافي، بحيث تقوم الدولة أثناء عملية بناء الأمة بإكساب الأخيرة خصائصها، حتى تغدو الأمة صورة عن الدولة من حيث التنظيم والتماسك الداخلي. ومن جانبها، تعمل الأمة، وتحديداً الأكثرية المهيمنة، على إكساب الدولة خصالها الثقافية، أي لغتها ورموزها وهويتها عموماً، حتى يصبح من المتعذر تمييز الدولة منها.
وتتضمن هذه العملية المزدوجة نوعين من المتغيرات. فمن ناحية الدولة هناك مجموعة المتغيرات التي تتوقف عليها قدرة الدولة على بناء الأمة، ويمكن تسمية هذه المتغيرات بـ عوامل القدرة الاستيعابية للدولة. أما من ناحية الأمة، فهناك مجموعة أخرى من المتغيرات التي يتوقف عليها اتحاد الهوية القومية للأكثرية بالدولة ، ويدعوها الباحث بـ متغيرات الهوية القومية». فالنوع الأول يشتمل على القدرة الوظيفية للدولة والقدرة الاقتصادية والقدرة الأيديولوجية
الأكثرية، ليعمل هذا المتغير الجديد على اجتذاب تلك المتغيرات جميعاً وتسريع تفاعلها مع بعضها البعض.
وبذلك تغدو الحلقة الرابطة بين العمليتين (A) و (B) هي الهوية القومية للأكثرية بعينها، وتنشأ عن التقابل والتدعيم المتبادلين للمتغيرات القادمة من اتجاه عملية تكوين الدولة لبناء الأمة، وتلك المتغيرات القادمة من اتجاه عملية بناء الأمة للاستحواذ على الدولة وجعلها خاصة بالأكثرية المهيمنة
وبناء عليه، يمكن القول إن الهوية القومية للأكثرية وانتشارها تتناسب طردياً مع القدرة الاستيعابية للدولة وقوة متغيرات الهوية عينها معاً. فكلما كانت تلك القدرة، وهذه المتغيرات ذاتاً فاعلية مرتفعة ازدادت قوة الهوية القومية واتسع نطاق انتشارها إقليمياً، ليزداد في إثر ذلك التوجه نحو قيام نموذج الدولة الأمة. أما إذا كانت تلك القدرة والمتغيرات ذات فاعلية منخفضة، فإن ذلك يفضي بدوره إلى انخفاض قوة الهوية القومية وتقلص نطاق انتشارها، ومن ثم يتم التوجه إلى أحد الأشكال الثلاثة الأخرى للدولة في أول الاحتمالات هو الدولة العالمية، ويشمل ذلك الدول ذات الأساس الديني، مثل الدولة العباسية والاحتمال الثاني هو الدولة الإمبراطورية، مثل الإمبراطورية الرومانية، أما الاحتمال الثالث، فهو الدولة التي تتخذ شكل الكومنولث
إن الهوية القومية تؤدي دوراً مزدوجاً، فهي تنتفع من القدرة الاستيعابية للدولة، بهدف تعميم ذاتها حتى تصبح هوية مشتركة، وذلك من خلال الاستعانة بالتعليم والجيش والجهاز الإداري والبنية الاقتصادية للدولة. وفي مقابل ذلك، تتيحالهوية نفسها السبيل أمام الدولة والأكثرية المهيمنة للاستفادة من عملية نشر وتعميم الهوية القومية للأخيرة، بحيث تستفيد الدولة منها في سياق محاولتها التخلص من التباينات الثقافية من أجل الوصول إلى وضعية الولاء والتأييد العام لكيانها السياسي، ومن ثم التمتع بالاستمرارية والدوام، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأكثرية، إذ إنها تتعامل مع السكان وكأنهم وحدة ثقافية واحدة، وعلى منوال الدولة نفسه، إلا أن الأكثرية المهيمنة تستهدف من إلغاء تلك التباينات التخلص من وجود أي بديل ثقافي ينافسها في أسلوب وطريقة حياتها، الأمر الذي يدل على أن سعي الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة إنما هو آلية للدفاع عن هويتها
الجماعية من خلال تسوية التباينات وموالاة الجميع للقيم وأسلوب الحياة نفسهما.
ويتبين من ذلك أن الأقليات ستغدو هي المتضرر الأكبر في هذا التفاعل الحاصل بين العمليتين (۸) و(B)، لأنهما تؤديان بكل أقلية إلى خسران خصوصيتها الثقافية، أي ما يميزها ثقافياً من الأكثرية من حيث القيم وأسلوب الحياة والموروث الثقافي. وبفعل نزعتها إلى البقاء والاستمرار يتولد من جانب الأقليات ردود فعل عكسية، تتجسد في الامتناع قدر المستطاع عن الاندماج الكلي في الهوية الثقافية للأكثرية.
إلى جانب ما تقدم، نعتقد أن محمد السيد سعيد قد جانب الصواب في تفسيره للعلاقة بين الأمة والدولة ورغبة الأولى في الاستحواذ على الثانية. فهو يرى أن الأمة ككل تحتاج إلى دولة خاصة نتيجة حرصها على فرض قواعد متميزة لتنظيم الأنشطة الاجتماعية الأساسية، وخاصة نشاطي الإنتاج والتوزيع، بالمقارنة بالقواعد التي قد تسود في حالة عدم وجود دولة بوظائف قوية، مثل النموذج الليبرالي القائم على الحرية التامة للتجارة على الصعيد العالمي، أو في حال خضوع الأمة لدولة غريبة ... أي أن نظام حرية التجارة بمضمونه الليبرالي
يتناقض تماماً مع الدول القومية
ويمكن نقد هذه الفكرة من زاويتين رئيسيتين هما :
أ - أن الأكثرية المهيمنة، وليس «الأمة ككل، هي التي تسعى إلى تنظيم و ترسيخ وجودها الاجتماعي داخلياً وعبر الاعتماد على البنية الاقتصادية للدولة، أي نشاطي الإنتاج والتوزيع، فضلاً على هذا، فإن الواقع يؤكد حقيقة أن الليبرالية هي التي أتاحت السبيل أمام انتشار الهوية القومية للأكثرية، وذلك من خلال تحرير التجارة داخلياً. ولعلها حين تعمد اليوم إلى تحرير التجارة عالمياً، إنما تريد بذلك إتاحة السبيل أمام بروز الهويات القومية المماثلة، وحتى إن لم يكن ذلك بوارد في بنائها الفكري، فإن رد الفعل العكسي من لدن هذه الهويات على تحرير التجارة الخارجية لدولها، يُشكل دليلاً كافياً على وجود دور لليبرالية في هذا الخصوص. وبالتالي، فإن حرص الهوية القومية للأكثرية على ترسيخ وجودها داخلياً لا يتناقض مع النموذج الليبرالي لحرية التجارة، بل إن الأخير يعينها على التحول إلى هوية قومية شاملة لمكونات الدولة كافة.
ب - أن العامل الرئيسي الذي يدفع الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة، إنما يتمثل في رغبتها في المحافظة على هويتها الثقافية ونزوعها إلى البقاء والاستمرار. وهذا الأمر ليس بالإمكان تحقيقه عملياً إلا عن طريق الاستيلاء على السلطة السياسية، ومن ثم توجيه دفة الحكم بما يتناسب والمحافظة على تلك الهوية من جهة، وتعميمها من جهة أخرى، لأنها ببساطة تتصرف بداعي النزوع إلى البقاء والاستمرار ودليل وجود نزعة البقاء هذه نجده في الممانعة الثقافية التي تبديها الأقليات تجاه القدرة الاستيعابية للدولة والهوية القومية للأكثرية، إذ إن تلك الممانعة تتناسب طردياً مع تلك القدرة، فكلما صعدت الدولة والهوية القومية للأكثرية من قدرتيهما الاستيعابية، أفضى ذلك إلى ازدياد حدة الممانعة الثقافية للأقليات عن الاندماج والذوبان.
وآية ذلك ما تنبه إليه ماكس فيبر بهذا الخصوص، وذلك في اعتقاده بأنه في اللحظة التي تظهر فيها الدولة - الأمة إلى الوجود، فإنها ستواجه مشكلة آنية جديدة، وهي كيفية استخدام المظاهر الحيوية لقوتها داخلياً ضد مطالب الهويات القومية الأخرى والنجاح الأكثر بروزاً في هذا الاتجاه يتمثل في دفع الأمة لأعضائها نحو الاستحواذ على مراكز النفوذ والامتيازات. وفي هذه اللحظة أيضاً، سيتوجب عليها التخوف من صعود شعوب أخرى وحركات قومية أخرى ساعية إلى تحقيق الغاية ذاتها
وتفسير ذلك يتمثل في فكرة أن الجماعة المهيمنة على المركز حين أنشأت الدولة وسيطرت عليها، فإنها ستغدو في حال من التجابه والتنافس مع الجماعات الثقافية الأخرى، لأنها هي الأخرى تبتغي الاستحواذ على الدولة وإكسابها رموزها وخصالها الثقافية وسبب ذلك هو أن كلا النوعين من الجماعات مدفوع بالباعث المحرك نفسه المتمثل في الهوية القومية. ومن ثم، فإن هذه الوضعية تدفع بالجماعة المهيمنة تلك إلى ترسيخ وجودها وسيطرتها على مراكز النفوذ والامتيازات داخل مؤسسات الدولة، بغية سد المنافذ أمام الجماعات المنافسة ومنعها من تحقيق مرامها في الوصول إلى السلطة، مما يؤكد الفكرة القائلة إن سيطرة المركز على كافة أطراف الدولة سيطرة لم تتحقق بعد، بل هي عملية لم تزل متواصلة بحكم التنافس القائم بين الطرفين على الدولة بذاتها أو الانفصال عنها
و تشكيل دولة أخرى. وبذلك يتفق كاتب السطور مع ما ذهب إليه باريخ مسبقاً من أن الدولة - الأمة، وتحديداً الجماعة المهيمنة على مركزها، تعمل بكل ما أوتيت من وسائل، مثل التعليم والجيش والجهاز الإداري، في سبيل تحقيق التجانس الثقافي، أي التطابق بين المركز والأطراف ثقافياً، وذلك بهدف التخلص جذرياً من منافسة الأطراف وجماعاتها الثقافية غير المندمجة.
ومثل هذا الوضع يصح على الدول الليبرالية وغير الليبرالية، ذلك لأن الأولى لا تختلف عن الثانية من حيث عملية بناء الدولة - الأمة والسياسات المنتهجة فيه، فكل منها تحاول ان تميز مجالها العام وتضفي عليه سمة قومية واضحة، سواء أكان بناء الأمة فيها متصفاً بالليبرالية أم لم يكن متصفاً بها . ففي كلا الحالين، فإن تلك السياسات قد لا تتضمن انتهاكاً للحقوق الفردية الأساسية، إلا أنها في ذات الوقت تعدّ وسائل لتهديم أمة أخرى سواء من حيث مقاصدها أو من حيث نتائجها، وفقاً لتعبير كيملكا
وفي ضوء كل ما تقدم، يمكن تبيان جملة من النتائج التي ترتبت على قيام الدولة - الأمة، ولعل من أكثرها أهمية ما يأتي :
أ - إن مشروع بناء الدولة - الأمة في الوقت الذي يستهدف فيه بناء أمة ما، فإنه يهدف في عين الوقت إلى هدم أمة أو ربما أمم أخرى، لأن السياسات المعتمدة في هذا المشروع تصب نظرياً وعملياً في خدمة هوية واحدة جامعة، تتمثل في ثقافة الأكثرية المهيمنة، وذلك عن طريق استيعاب وصهر الثقافات الفرعية أي الأقليات في بوتقة الأولى من أجل منع أي منها من التحول إلى أمة، ومن ثم إجهاض أية محاولة منها مستقبلاً لإنشاء دول خاصة بها، وذلك لاعتقاد هذه الأكثرية بأن الأقليات إذا ما تمكنت من المحافظة على ثقافاتها المميزة،
واستقلت ذاتياً عن المركز، فإنها ستنفصل مستقبلاً. وربما ستدشن كل أقلية مشروع بناء الدولة - الأمة وبالمراحل والسياسات ذاتها عادة، مما يعني تكرار هذا النموذج واستمراره.
ب - بروز وضعية الأقلية – الأكثرية التي تولدت أصلاً في ظل تطور الدولة - الأمة، حيث إن السعي إلى توسيع نطاق السيطرة على الجماعات المنفصلة، وكذلك الرغبة العامة في خلق أمة متجانسة للذين حكما المحاولات الرامية إلى قمع التنوع الثقافي، قد أفضيا معاً إلى ظهور وضعية الأقلية - الأكثرية، التي هي تعبير عن اشتراك جماعتين أو أكثر في العيش داخل إقليم دولة ما، بحيث تمتلك إحداها من القوة ما لا تملكه غيرها. وتسمى هذه الجماعة بـ «الأكثرية»، أما غيرها فيطلق عليها تسمية الأقليات»، مما يعني أن مفهومي الأكثرية والأقلية لا ينطويان فعلياً على أية قيمة عددية، بل إنهما يشيران إلى ذلك التفاوت الكبير في حيازة السلطة السياسية والمكانة ما بين جماعتين أو أكثر داخل دولة ما
ج - ازدياد تعقيد وضعية الأقلية - الأكثرية القائمة على التفاوت وعدم المساواة في حيازة السلطة السياسية والمكانة، وذلك بفعل اللامساواة الاقتصادية، حيث إن الأخيرة إذا ترافقت مع اللامساواة السياسية والثقافية، أي إذا أضحى التفاوت الاقتصادي معبراً عنه وقائماً على أساس ثقافي وإثني نتيجة اللامساواة السياسية، فإن هذا المزيج الانفجاري، وفقاً لتعبير إيرنست غيلنر سيبحث في كل الزوايا والصدوع للتمايز الثقافي أينما كانت ، لأن أشكال اللامساواة هذه ستدفع الأقلية المحرومة اقتصادياً و سياسياً وثقافياً إلى البحث عن مخرج لوضعية الأقلية - الأكثرية، وقد يكون هذا المخرج متمثلاً في إنشاء دولة - أمة خاصة بها، تكون فيها هي الأكثرية هذه المرة.
وبناء على ذلك، فإن استمرارية هذه الوضعية تعد دليلاً جوهرياً على عدم اكتمال عملية بناء الدولة - الأمة بحكم استمرارية التباينات الثقافية فيها. ولهذا
السبب تحديداً، يعتقد كيملكا بأنه من الأجدى تسمية هذه الدولة بـ دولة بناء الأمة» أو «الدولة المؤتمةبدلااً من مفهوم الدولة -الأمة، ذلك لأن النجاح في خلق الهوية القومية المشتركة هو في الكثير من الدول إنجاز هزيل، ومن ثم فإن عملية البناء هي في حقيقة الأمر عملية مستمرة، وليست في الحقيقة منجزة تماماً
ونظراً إلى ذلك، فإن الفكرة القائلة إن من الصحيح استخدام تسمية الدولة الوطنية بدلاً من الدولة - الأمة لوصف الأخيرة، تعد فكرة مجانبة للصواب لأن هذه الدولة منذ مراحلها الأولى قائمة على أساس فكرة الدولة الواحدة ذات الهوية القومية الواحدة، وأن استهدافها تكوين الشعور الوطني بالولاء للدولة إنما يدخل في سياق خلق الانتماء والولاء لتلك الهوية القومية بعينها، فهذه الدولة، بإيجاز غير محل هي دولة الأكثرية المهيمنة، سواء إذا نظرنا إليها من الزاوية الفكرية أو من الزاوية التطبيقية.
(1 د - إن الهوية قد أصبحت شأناً من شؤون الدولة، فهي التي تضع لها القواعد والضوابط وتتعامل بموجبها مع الهوية على نحو مباشر، بحيث أصبح تباين الدول في هذا الخصوص تبايناً في الدرجة، لا النوع، فإما أن لا تعترف الدولة إلا بهوية ثقافية واحدة، ومثال ذلك فرنسا، أو أنها بعد قبولها لشكل معين من التعددية الثقافية تقوم بتعيين هوية مرجعية يتم بموجبها تحديد الهوية الشرعية والوحيدة للدولة، ومثال ذلك حالة الولايات المتحدة . وليست الهوية إلا تلك الإرادة التي تقوم بوضع حد بين «هم» و«نحن»، ومن ثم الحفاظ على استمرارية هذا الوضع، حيث إن ما يفصل بين جماعتين عرقيتين تعيشان مثلاً في مجتمع واحد هو الاختلاف الثقافي جنباً إلى جنب إرادة كل جماعة منهما ورغبتها في التميز، كذلك استخدامها لسماتها الثقافية بصفتها المحددة
نستخلص مما سبق أن الدولة - الأمة قائمة، فكراً وممارسة، على أساس إرادة جماعية واعية بذاتها وذات مشروع هادف، سواء من حيث مراحل بناء هذه الدولة أو من حيث السياسات المتبعة فيها. وفي كلا الحالين قد لا تنتهك الحقوق الفردية الأساسية، بل الذي يتم هو حرمان الجماعات الثقافية الأخرى من الاحتفاظ بخصوصياتها الثقافية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نلاحظ أن الكيفية التي تتفاعل بموجبها عملية تكوين الدولة وعملية بناء الأمة كيفية تدور حول الهوية القومية للأكثرية. فالأخيرة هي التي تحرك كلتا العمليتين وتدفع باتجاه التطابق ما بين الدولة والأمة، لتغدو كل منهما صورة عن الأخرى، بحيث تبتغي تلك الهوية القومية من وراء ذلك التحوّل إلى هوية جامعة عبر صهر كافة المكونات الثقافية فيها وتحولها إلى وحدة ثقافية واحدة.
هذا الهدف المركزي الذي تقوم عليه الدولة - الأمة لا يتجلى على الصعيد الداخلي وحسب، بل إنه يبرز أيضاً على الصعيد الخارجي. فالدولة - الأمة لا تستطيع التعامل داخلياً إلا مع وحدات إدارية قياسية، كما أنها في الوقت ذاته لا تستطيع التعامل إلا مع دول من نموذجها عينه، بدليل قيام الدول الغربية بتصدير هذا النموذج خارج حدودها عن طريق الخلق المتعمد لدول من شاكلتها نفسها. وربما يكون شيوع نموذج الدولة - الأمة عالمياً هو السبب الجوهري في جعل مشاكلها وأزمتها عالمية الطابع، بدليل أن الكثير من الأقليات الثقافية، سواء التي توجد منها داخل أوروبا أو خارجها، أصبحت تطالب اليوم بالحفاظ على خصوصياتها الثقافية وبوجوب التعامل معها بوصفها شريكة للأكثرية في الدولة -الأمة، سواء بسواء.
رابعاً : أزمة الدولة - الأمة المعاصرة
أضحى نموذج الدولة - الأمة هو الأوسع انتشاراً في القرن العشرين بحيث لا يكاد يكون هناك اليوم نموذج آخر للدولة ينافس الدولة - الأمة من حيث الانتشار والرسوخ. ومع ذلك، فقد شهدت الفترة المتأخرة على الأقل من القرن العشرين انبعاث الهويات الثقافية حتى غدت هي الأخرى ظاهرة عالمية، مما يعني أن هناك علاقة جوهرية بين ظاهرة انبعاث الهويات والدولة - الأمة.
والآن دعونا نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء انبعاث هذه الظاهرة، وهل أن أزمة الدولة - الأمة إنما تتجسد في انبعاث الهويات الثقافية من داخل بنيانها ؟ ثم هل أنها أزمة عرضية أم هيكلية
يرى صموئيل هانتنغتون في تشخيصه لطبيعة الوضع القائم بأنه : في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت الأعلام تدخل في الحساب ... وكذلك رموز الهوية الأخرى، مثل الصليب والهلال. حتى غطاء الرأس، لأن الثقافة لها أهميتها، ولأن الهوية الثقافية هي الأكثر أهمية بالنسبة إلى معظم الناس». وفي عالم ما بعد الحرب الباردة لم تعد الفروق المميزة بين الشعوب أيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية، وإنما هي فروق ثقافية وبناء على ذلك، تحاول الشعوب والأمم أن تجيب عن السؤال المهم : من نحن؟ وتأتي الإجابة عنه دائماً بالأسلوب التقليدي الذي اعتاده البشر، وذلك بالإشارة إلى ... النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات والمؤسسات الاجتماعية .
هذا التصور في مجمله قائم على أساس الخوف من أن يؤدي هذا البروز المفرط للتباينات الثقافية إلى انبثاق فسيفساء من الكيانات الإثنية والقومية داخل نطاق الدولة - الأمة نفسها، بحيث لا تكون أمامها إلا قابلية واحدة للحياة المتمثلة في الإعلان عن وجودها سياسياً. وما يؤكد ذلك ظهور عدة مؤشرات أضحت في نهاية القرن العشرين باعثة على إثارة ذلك الخوف والقلق، ومنها :
١ - بعد تفكك تشيكوسلوفاكيا سلمياً، وتفكك يوغسلافيا عسكرياً، فإن هناك دلائل تشير إلى إمكانية انقسام إيطاليا.
٢ - في الولايات المتحدة نفسها، هناك من يسعى إلى إيجاد دولة مستقلة خاصة بالسود، ومثال ذلك لويس فرقان وفي سويسرا أخذ الخلاف يتفاقم بين السويسريين والألمان والرومانسيين على نحو محوما تؤكده هذه المؤشرات هو أن الدولة - الأمة يتنازعها توجهان متعاكسان هما: التوجه نحو الاندماج، والتوجه نحو التفكك. ففي سياق الأول، تبدأ الجماعات لم شملها باستخدام كل ما هو مشترك وإيلائه أهمية كبيرة، والتقليل من أهمية التباينات أو إزالتها. أما في سياق النزوع نحو التفكك، فيحدث عكس ذلك، إذ ينشط عامل التمايز والاختلاف في تحريك التباينات الثقافية التي لم يكن لها من قبل أهمية كبيرة، أو تبتكر تباينات جديدة، بحيث تضفي عليها أهمية جد كبيرة في تكوين الجماعات، وذلك من أجل تعزيز الانقسام .
وتأسيساً على ذلك، فإنه يفعل نزوع الدولة نحو الاندماج واستيعاب التباينات الثقافية تموت لغات العالم بمعدل عالي جداً، إذ يوجد في يومنا الراهن ما يزيد على ٦٠٠٠ لغة في العالم، ومن المتوقع أن ينقرض نصفها مع نهاية القرن الحادي والعشرين، بحيث لا يحظى سوى ۱۰ بالمئة منها بمستقبل آمن. وفي هذا السياق، ترى الباحثة توف سكوتناب كنغاس وهي من أنصار الحقوق اللغوية للأقليات، أن معظم الجماعات اللغوية خلال المئة سنة المنصرمة أصبحت ضحية الإبادة اللغوية التي أهلكت من اللغات ما يفوق معدل إهلاكها للبشر. وسبب ذلك يتجسد بالرغبة في القضاء على أية منافسة محتملة على النفوذ السياسي والاقتصادي لكي يتم بذلك التخلص من أية مطالب بحق إنشاء دولة - أمة من قبل السكان الأصليين والأقليات. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نفهم الضغوط الكبيرة التي تواجهها هذه الجماعات، حيث إنها تقودها إلى فقدان ارتباطها اللغوي بثقافاتها الموروثة
ويعني ذلك، من ناحية أخرى، أنه بموجب توجه الدولة نحو التفكك فإن الكثير من الجماعات الثقافية تسعى إلى إنشاء دول - أمم خاصة بها، ولا سيما التي تعاني الضغوط الشديدة. وإذا صدق هذا الأمر، فإن الدولة -الأمة تواجه اليوم أكبر عائق يحول دون احتفاظها بوحدة كيانها السياسي وذلك بالرغم من مرور عدة قرون من الزمن على عمليات تكوين هذه الدولة
سوس وكذلك الحال في بلجيكا التي تسعى فيها أقلية الوالون
وتحديثها وسياسات بناء الأمة، التي تمثل جميعاً توجه الدولة نحو الاندماج والوحدة.
لقد أدى التحديث والليبرالية إلى قيام مشتركات أقل ضمن نطاق كل ثقافة من الثقافات القومية في أوروبا، وفي الوقت ذاته تمخضت عنهما مشتركات أكثر ما بين هذه الثقافات فإسبانيا بعد أن أصبحت دولة ليبرالية، صارت أكثر تبايناً وتنوعاً على الصعيد الداخلي، بينما أصبحت على الصعيد الخارجي أكثر شبهاً بفرنسا أو ألمانيا من حيث المعاصرة والعلمانية والتصنيع وثقافتها الديمقراطية والاستهلاكية، وهذا الأمر يؤكد بطلان الزعم القائل إن التحديث والليبرالية سيعملان على الحلول محل أي إحساس قوي بالهوية القومية لدى الأقليات فالحاصل عملياً هو أنه بالرغم من توجه الدول الليبرالية نحو التماثل، إلا أن التباينات الثقافية في كل منها تزداد عمقاً، ولا سيما القومية منها والإثنية. ولكن لماذا الهوية ما تزال قوية ؟ وكيف يمكن تفسير هذه الأزمة التي تعانيها الدولة - الأمة المتجسدة في استمرارية التناقض بين حركتها نحو الاندماج وانبعاث الهويات القومية والإثنية فيها التي تدفعها نحو التفكك؟
هناك عدة تفسيرات في تحليل ظاهرة انبعاث الهويات في الغرب، ويمكن توزيعها إلى أربعة تفسيرات رئيسية :
1 - التفسير السيكولوجي
وفي هذا الخصوص، يوجد اتجاهان رئيسيان يركز أحدهما على العامل الاقتصادي، في حين يشدّد الآخر على العامل الاجتماعي، إلا أنهما يتفقان على كون ظاهرة انبعاث الهويات هي عموماً ظاهرة ذات طبيعة سيكولوجية.
أ - الاتجاه الاقتصادي
نجد ضمن هذا الاتجاه كلاً من إيتيان باليبار وإيزايا برلین وايرك هو بسباوم ويعتقد هذا الاتجاه، بصورة عامة، أن انخفاض قدرة الدولة على التحكم في سياساتها الداخلية وإدارتها لاقتصادها وضمان النظام الاجتماعي الداخلي، قد أديا بالنتيجة إلى بروز
نزعة البحث والاستقصاء عن هويات جديدة استناداً إلى معتقدات متشددة إثنياً ودينياً وقومياً.
ويؤكد باليبار أن الدولة في أوروبا قد أضحت في يومنا الراهن دولة، لا هي قومية، ولا هي متعدية القومية بحيث إن ممارسة المركز التقليدية لسلطاتها على الأطراف قد اختفت من الوجود. ولذلك أصبحت الظروف مهيأة لبروز الشعور بخوف الهوية واستمرار هذا الشعور، إذ بات الأفراد يخشون الدولة، ولا سيما المحرومين وغيرهم الأكثر انزواء وبعداً عن السلطة، غير أنهم يخشون أكثر فكرة تفككها وزوالها
وهذا يعني أن الخوف من إمكانية زوال الدولة أوجد حالة من الهلع ما بين المكونات الثقافية للدولة. وفي محاولة منها لتخطي ذلك تراها تتمسك بشدة بخصوصياتها الثقافية، وتتبنى فكرة إنشاء دولها الخاصة على النحو الذي يعبر عن تلك الخصوصيات.
إلى جانب ذلك، يشير برلين إلى أن حالة اهتياج الوعي القومي ... يبدو أن ما يستدعيها في الغالب هي الجروح، نوع من الإذلال الجماعى ، فالقومية أضحت ظاهرة تجتاح العالم بأسره، إذ إن الأقلية إذا ما احتفظت بتعاليمها الثقافية أو بخصائصها العينية أو العرقية تغدو غير قادرة إلى ما لا نهاية على احتمال توقع أن تظل أقلية إلى الأبد، تحكمها أكثرية لها صفات أو عادات مختلفة. وقد يفسر هذا بأنه رد فعل الكبرياء المجروحة، أو الإحساس بالظلم العام، الذي ينشط ... أقليات عرقية كالزنوج في الولايات المتحدة أو الإيرلنديين الكاثوليك ... ومن المؤكد أن القومية المعاصرة نادراً ما تأخذ شكلاً رومانسياً صرفاً، كما حدث في إيطاليا أو بولندا أو هنغاريا في بداية القرن التاسع عشر، فهي مرتبطة على نحو أوثق بالقيم الاجتماعي والديني والاقتصادي
ويعني هذا المنظور أن الإذلال الجماعي الذي عانته الأقليات في نطاق
الدولة - الأمة بفعل سياساتها الاستيعابية أوجد لديها الخوف من المستقبل، فضلاً على الشعور بالظلم والحرمان، مما حال دون اتسامها بحس الانتماء القومي، أي الطابع العاطفي أو الرومانسي الذي اتسمت به القومية في بداية القرن التاسع عشر، وكذلك الافتقار إلى المشروع الاجتماعي والاقتصادي، فاتخذت تلك الأقليات بدلاً من ذلك طابعاً متشدداً في التعبير عن الإحساس بالظلم الاجتماعي والديني والاقتصادي.
وهذا ما دفع برلين إلى الاعتقاد أن ما نشهده هو تفاعل عالمي ضد المبادئ الأساسية لعقلانية القرن التاسع عشر والليبرالية نفسها. إنه جهد مرتبك للرجوع إلى أخلاقية سابقة فأعضاء الأقليات يريدون أن يحققوا وجودهم، وأن يكونوا فاعلين لا أن يفعل بهم أو لهم أو بالنيابة عنهم. ويطلبون الاعتراف بكرامتهم كبشر، ولا يريدون أن يجعلوا مادة بشرية ، أي أن يكونوا مجرد وسائل لتحقيق غايات.
وقريباً من هذا السياق، يطلق المؤرخ اليساري هو بسباوم على ظاهرة انبعاث الهويات مفهوم رهاب الأجانب ويعتقد أن هذه الظاهرة غالباً ما تكون مجرد صرخة ألم أو غضب»، وذلك لأن الحركات ذات الهوية الإثنية التي تبدو أنها ردود أفعال من الضعف والخوف هي محاولات النصب المتاريس لصد قوى العالم الحديث . والسبب في انبثاقها المعاصر إنما يرجع إلى الهجرة البشرية باتجاه أوروبا وأمريكا الشمالية الناجمة بفعل التمدن أو الحضرنة مما يفضي إلى إحداث التغييرات ،والتصنيع الديمغرافية في مجتمعاتها، بحيث يتولد رهاب الأجانب هذا، سواء أكانت معدلات الهجرة متواضعة أم منفلتة. ومن ثم، يُشعر ذلك الأكثرية بأن الهجرة قد أصبحت تشكل تهديداً للغة الرسمية للدولة وثقافتها.
ويستشهد هو بسباوم، في هذا الخصوص، بمثال الولايات المتحدة، فيرى أن الفكرة التي تعتمدها الأكثرية منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، المتمثلة في أن الهجرة اللاتينية تجعل سيادة اللغة الإنكليزية في الولايات المتحدة مهددة، أو من المحتمل أن تكون في خطر، إنما هي بارانويا سياسى) ، أي أنها مجرد قلق سياسي مرضي وحتى لو لم يكن انبعاث النزعة القومية مجرد انعكاس لليأس، فقد كان ببساطة شيئاً ملا الفراغ الذي خلفه الفشل والعجز والقصور الظاهر للأيديولوجيات الأخرى والمشاريع والبرامج السياسية عن تحقيق آمال الناس لقد كانت يوتوبيا الذين أضاعوا اليوتوبيات القديمة، وكانت برامج الذين فقدوا الإيمان بالبرامج الأخرى
ويتضح من ذلك أن هو بسباوم يوافق زميليه على فكرة أن انبعاث الهويات في الغرب يستند إلى البعد السيكولوجي، وذلك بحكم إحساس الأقليات والأكثرية معاً بمخاطر انقلاب الوضع داخل الدولة - الأمة في غير صالحها، إلا أنه يختلف عنهما في تأكيده تأثير عامل الهجرة الدولية في توليد هذه الظاهرة ولذلك اعتبرها هو بسباوم من قبيل صرخة ألم أو غضب، أو بارانويا سياسية. ولكن الناحية الواقعية لهذه الظاهرة تثبت أنها ليست من هذا القبيل، بل هي قلق حقيقي، بحيث أخذت جماعة الأكثرية ذاتها تشعر بالخوف منذ ثمانينيات القرن العشرين من اضمحلال قوتها السياسية وثقلها الديمغرافي مستقبلاً بفعل معدلات الهجرة العالية من العالم الثالث تحديداً باتجاه الدول الغربية.
وما يؤكد هذا الطرح ما يذهب إليه إيمانويل ، إذ يعتقد بأن بحث الأفراد عن الهوية والانتماء إلى جماعات يدل على أن هذه الجماعات ليست فقط نتاج الخوف المتزايد أو خيبة الأمل المتعاظمة، ولكن هي أيضاً نتاج وعيها بحقها في المساواة، وهذا ما يصنع منها قوة معبأة ومؤثرة للغاية. ومن الصعب تصور أنه يمكن لدورها السياسى
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
تعريف التحليل الاقتصاديللمؤسسة :يتركودز التحليل الاقتصادي حول مشكلة عامة هي كيف يتم توزيع الموارد ال...
من البديهي أن يُركّز كل بلد على القطاع التربوي إذا كان والعلمي كأساس لنهضته، فإن لبنان الذي لا يتمتع...
البيئة المستدامة هي بيئة نحافظ فيها على الموارد الطبيعية ونستخدمها بشكل معتدل بحيث تلبي احتياجاتنا ا...
تقيد المدرسة حرية الطلاب من خلال عدة طرق، بما في ذلك القواعد والسلوكيات التي تحدد سلوك الطلاب في الم...
4 مقتل العباس بن مؤمون بمنبج : كان العباس بن المأمون مع عمه المعتصم في غزوة عمّورية. وكان هناك رجل ...
There it stood patiently, gobbling the animals, one by one, the dark unsolved mystery... upheld for ...
إن لمسؤولیة السلطة العامة دون خطأ، المبنیة على الإخلال بالمساواة أمام الأعباء العامة، علامات فارقة ...
عيدَ بِنكْهَةِ مُخْتَلِقَةٍ اسْتَيْقَظْنا عَلى صَوْتِ أُمّي الَّتي تَبْدو الْيَومَ مَسْرورَةً أَكْث...
Conclusion: The article emphasizes that the Field of Corporate Accountability (FCA) is still highly ...
Programme 1. INTRODUCTION : Contextes de l’université algérienne 2. CONCEPTS 2.1 Moral 2.2 E...
مفهوم نظرية الاستخدامات والإشباعات تعد نظرية الاستخدامات والإشباعات بمثابة نقلة فكرية نوعية في مجال ...
هي العلم الخاص بدراسة أهل الريف، وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وعلاقاتهم مع غيرهم من الناس والسكان غير الر...