Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (Using the clustering technique)

  الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وأصحابه أجمعين،
فهذه إطلالة على آيات الأحكام،
مع التعريف بأشهر كتُبها،
ومناهج المصنِّفِين فيها.
أولًا: معنى آيات الأحكام:
آيات الأحكام: هي الآيات التي تُعْنَى ببيان الأحكام الشرعية والدلالة عليها،
سواء كانت الأحكام اعتقادية،
أو عملية فرعية،
أو سلوكية وأخلاقية[2].
إلاّ أن العلماء تعارفوا على إطلاق أحكام القرآن على أحكام القرآن العملية،
الفرعية،
المعروفة بالفقهية.
والمراد بآيات الأحكام -عند الإطلاق-: «هي الآيات التي تُبَيِّن الأحكام الفقهية وتدلّ عليها نصًّا أو استنباطًا»[3].
وتفاسير آيات الأحكام،
أو التفسير الفقهي: «هو التفسير الذي يُعْنَى ببيان الأحكام الفقهية،
والتنبيه عليها،
سواء بالاقتصار عليها،
أو العناية الخاصّة بها»[4].
ثانيًا: عدد آيات الأحكام:
اختلف أهلُ العلم في كون آيات القرآن الدالّة على الأحكام الفقهية محدودة محصورة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن آيات الأحكام محدودة،
محصورة بعدد معيّن[5]،
- وقيل: بل مائتا آية فقط.
- وقيل: هي مائة وخمسون آية فقط.
«ولعلّ مرادَهم المصرَّحُ به؛
فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يُستنبط منها كثيرٌ من الأحكام»[6].
القول الثاني: أن آيات الأحكام غير محدودة العدد،
فكلّ آية في القرآن قد يُستنبط منها حكمٌ معيّنٌ[7]،
ومَرَدُّذلك إلى ما يفتحه اللهُ على العالِم من معاني القرآن ودلالاته،
وما يتميز به العالِم من صفاء الروح،
وقوة الاستنباط،
وجودة الذهن وسيلانه[8].
قال نجم الدِّين الطُّوفي: «والصحيح أن هذا التقدير غيرُ معتبَر،
وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصِر؛
فإن أحكام الشرع كما تُستنبط من الأوامر والنواهي،
كذلك تُستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها،
فَقَلَّ آية في القرآن الكريم إلّا ويُستنبط منها شيء من الأحكام،
وإذا أردتَ تحقيق هذا؛
فانظر إلى كتاب أدلة الأحكام[9]للشيخ عِز الدِّين بن عبد السلام،
وكأنّهؤلاء -الذين حصروها في خمسمائة آية- إنما نظروا إلى ما قُصد منه بيان الحكم دون ما استُفِيد منه،
ولم يُقصد به بيانها»[10].
وقال القرافي: «فلا تكاد تجد آية إلّا وفيها حكم،
وحصرها في خمسمائة آية بعيد»[11].
وهذا هو الراجح -والله أعلم- لأن أحكام القرآن في كتاب الله على قسمين[12]:
- أولهما: ما صُرّح به في الأحكام،
وهو كثير كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ.
}[البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]،
وعامّة أحكام القرآن العظيم من هذا النوع،
ومثال ذلك: غالب أحكام سورة البقرة،
والنساء،
والمائدة.
- وثانيهما: ما يؤخذ بطريق الاستنباط والتأمل،
أحدهما: ما يُستنبَط من الآية مباشرة،
بدون ضَمِّ آية أخرى إليها؛
وذلك نحو استنباط تحريم الاستمناء من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون: 5-7]،
وكاستنباط صحة صومِ مَنْ أصبح جُنُبًا،
من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187].
والقسم الثاني: ما يُستنبَط بِضَمِّ الآية إلى غيرها؛
سواء لآية أخرى،
أو لحديث نبوي.
ومنه استنباط عليّ بن أبي طالب[13]،
وابن عباس[14]،
أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر؛
من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف: 15]،
مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان: 14].
ومنه استنباط أن التطهّر المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}[البقرة: 222]؛
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة: 6]،
هو الاغتسال المذكور في قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء: 43]؛
وبناءً على هذا؛
فإن آيات الأحكام أكثر من أن تُحْصَر بعددٍ معيَّن،
وهذا ضَرْبٌ مِن إعجاز القرآن الكريم،
والله أعلم.
ثالثًا: نشأة تفسير آيات الأحكام[15]:
نشأ التفسير الفقهي في مرحلة متقدّمة جدًّا؛
إِذْ إنه جزء من التفسير النبوي في الجملة،
فقد كان من جملة الآيات التي تنـزل على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- آيات الأحكام الفرعية،
والمصطلح على تسميتها (الفقهية)،
فكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يفسّرها لأصحابه بقوله وعمله؛
فيُبيِّن مُجمَلَها،
ويُقيِّد مُطلَقها،
ويخصّص عامّها.
ومن الأمثلة على ذلك؛
أنه كان يصلي بصحابته ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»،
ويحجّ بهم ويقول: «خذوا عني مناسككم»،
وهذا تفسيرٌ لآيات الصلاة والحج في القرآن الكريم،
وكذا الزكاة أمَر اللهُ بها أمرًا مُجْمَلًا {وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 110]،
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: 141]،
{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}[البقرة: 267]،
فبيَّن لهم النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما تجب فيه الزكاة،
ومقاديرها،
وأوقاتها،
وهكذا في جميع التشريعات.
وقد كان الصحابة -أجمعون- يهتمون بسؤاله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن هذا النوع من الآيات؛
قال عمر بن الخطاب: «سألتُ رسول الله عن الكلالة،
فقال: تكفيك آية الصيف»[16].
ثم إنَّ الصحابة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بدؤوا يجتهدون في دلالات أخرى من آيات الأحكام،
لم يسألوا عنها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-،
وليس بين أيديهم فيها عِلْم؛
فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: «إني قد رأيتُ في الكلالة رأيًا؛
فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له،
وإن يكُ خطأً فمنّي ومن الشيطان،
واللهُ بريء منه،
إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد»[17].
فهذا أبو بكر يَعمد إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُوْرَثُ كَلاَلَةً}[النساء: 12]،
فيجتهد في تفسيرها وتأويلها،
ولعمر بن الخطاب اجتهاد في فهم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196]،
فقد كان ينهى عن المتعة وهي في كتاب الله؛
اجتهادًا منه،
وخالفه فيه كبار الصحابة: عليّ،
وابن مسعود،
وأبو موسى،
وعبد الله بن عُمر،
جميعًا.
وبرز من الصحابة في هذا الباب عبدُ الله بن مسعود،
وعبدُ الله بن عمر،
وعبدُ الله بن عباس،
وأثّر كلٌّ منهم في تلاميذه؛
فظهر اهتمام المدرسة الكوفية (تلاميذ ابن مسعود)،
والمدرسة المدنية (تلاميذ ابن عمر)،
والمدرسة المكية (تلاميذ ابن عباس)؛
في تفسير القرآن الكريم،
وخاصة آيات الأحكام[18].
واستمر اهتمام الصحابة وتلاميذهم من التابعين بتفسير آيات الأحكام لا يتعدى المُدارسة والإفتاء حتى جاء الإمام مقاتل بن سليمان الخراساني (ت: 150هـ)؛
فألّف أول كتابٍ خاصّ في تفسير آيات أحكام القرآن،
وكان تفسيرًا بالمأثور في الدرجة الأولى،
مع إعمال مقاتل للرأي أحيانًا أخرى[19].
ومن الأئمة المجتهدين الذين ألّفوا في هذا الباب:الإمام يحيى بن زكريا بن سليمان القرشي الكوفي،
إمام مجتهد (ت: 203هـ)[20].
ثم بدأ بعضُ أئمة المذاهب المعروفة وتلاميذهم في التأليف في هذا الباب،
- الإمام أبو عبد الله،
محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204هـ)؛
فقد ألّف كتابًا في أحكام القرآن[21].
- الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت: 321هـ)،
وهو ينسج على طريقة المُحَدِّثين عمومًا؛
بغضّ النظر عن طريقته في الترجيح.
واشتهر التأليف بعد ذلك؛
إلّا أن طابع التأليف أخذ في الاختلاف من جهة القصد والمنهج.
فالقصد؛
نصرة المذهب الذي ينتمي له المؤلف،
ومن جهة المنهج؛
فالبناء على أصول إمام المذهب وقواعده.
فهذا الإمام الجَصّاص في كتابه المعروف (أحكام القرآن) لا يألو جُهْدًا في نُصْرَة مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت: 150هـ)،
ولو بالتأويلات البعيدة،
والتكلّف المتعسف! ثم هو تطبيق للقواعد والأصول التي يقوم عليها مذهب الحنفيَّة.
وهذا الإمام إلْكِيَا الهَـرّاسي يصرّح في مقدمته بأن القصد من التأليف «شرح ما انتزعه الشافعي،
من أخذ الدلائل في غموض المسائل،
وضممتُ إليه ما نسجته عن منواله،
واحتذيتُ على مثاله»[22]،
فقد أشار للأمرين؛
فالقصد: شرح استدلالات الشافعي -رحمه الله-،
والمنهج: جمع استدلالات الشافعي،
وضم مسائل أُخَر منسوجة على منواله في التأصيل والاستدلال.
ولا يُعاب على إلْكِيَا الهَـرّاسي أن يؤلّف في استدلالات الإمام الشافعي،
وينسج على منواله،
فهذا أقلّ ما ينبغي تجاه آراء الأئمة الكبار واجتهاداتهم؛
ليقتدي الخلَف بالسلَف في طريقة الفقه والتفقه؛
ولكن الذي يُعاب هو التقليد المحض،
والتعصّب الأعمى،
وعدم رؤية الحق إلّا من جهة واحدة،
مع القدرة على البحث والاستدلال.
وقد استمر التأليفُ في إطار المذاهب؛
لكنّ المؤلفين قد اختلفت مناهجهم في البسط والإيجاز،
والتجرّد والانحياز؛
فمنهم من اقتصر على قول واحد في التفسير والاستنباط،
ومنهم من توسّع في ذكر أقوال الأئمة،
والاهتمام باختلاف الآراء والاجتهادات،
ومنهم من تجرّد في الاستدلال والتدليل،
وبحث عن الرّاجح من الأقوال،
دون التفات للمذاهب أو التعويل عليها،
ومنهم من ظلّ حبيس أقوال شيوخه،
فلم يتكلم في مسائل العلم إلا من خلالها،
وهذا من عجيب خلق الله؛
أعني التفاوت في العقول والأفهام بين الأنام،
واللهُ المستعانُ لا ربّ سِواه.


Original text

مقدمة في آيات الأحكام[1]
  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذه إطلالة على آيات الأحكام، مع التعريف بأشهر كتُبها، ومناهج المصنِّفِين فيها.
أولًا: معنى آيات الأحكام:
آيات الأحكام: هي الآيات التي تُعْنَى ببيان الأحكام الشرعية والدلالة عليها، سواء كانت الأحكام اعتقادية، أو عملية فرعية، أو سلوكية وأخلاقية[2].
إلاّ أن العلماء تعارفوا على إطلاق أحكام القرآن على أحكام القرآن العملية، الفرعية، المعروفة بالفقهية.
والمراد بآيات الأحكام -عند الإطلاق-: «هي الآيات التي تُبَيِّن الأحكام الفقهية وتدلّ عليها نصًّا أو استنباطًا»[3].
وتفاسير آيات الأحكام، أو التفسير الفقهي: «هو التفسير الذي يُعْنَى ببيان الأحكام الفقهية، والتنبيه عليها، سواء بالاقتصار عليها، أو العناية الخاصّة بها»[4].
ثانيًا: عدد آيات الأحكام:
اختلف أهلُ العلم في كون آيات القرآن الدالّة على الأحكام الفقهية محدودة محصورة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن آيات الأحكام محدودة، محصورة بعدد معيّن[5]، ثم اختلف هؤلاء في عددها:



  • فقيل: هي خمسمائة آية.

  • وقيل: بل مائتا آية فقط.

  • وقيل: هي مائة وخمسون آية فقط.
    «ولعلّ مرادَهم المصرَّحُ به؛ فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يُستنبط منها كثيرٌ من الأحكام»[6].
    القول الثاني: أن آيات الأحكام غير محدودة العدد، فكلّ آية في القرآن قد يُستنبط منها حكمٌ معيّنٌ[7]، ومَرَدُّذلك إلى ما يفتحه اللهُ على العالِم من معاني القرآن ودلالاته، وما يتميز به العالِم من صفاء الروح، وقوة الاستنباط، وجودة الذهن وسيلانه[8].
    قال نجم الدِّين الطُّوفي: «والصحيح أن هذا التقدير غيرُ معتبَر، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصِر؛ فإن أحكام الشرع كما تُستنبط من الأوامر والنواهي، كذلك تُستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فَقَلَّ آية في القرآن الكريم إلّا ويُستنبط منها شيء من الأحكام، وإذا أردتَ تحقيق هذا؛ فانظر إلى كتاب أدلة الأحكام[9]للشيخ عِز الدِّين بن عبد السلام، وكأنّهؤلاء -الذين حصروها في خمسمائة آية- إنما نظروا إلى ما قُصد منه بيان الحكم دون ما استُفِيد منه، ولم يُقصد به بيانها»[10].
    وقال القرافي: «فلا تكاد تجد آية إلّا وفيها حكم، وحصرها في خمسمائة آية بعيد»[11].
    وهذا هو الراجح -والله أعلم- لأن أحكام القرآن في كتاب الله على قسمين[12]:

  • أولهما: ما صُرّح به في الأحكام، وهو كثير كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...}[البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]، وعامّة أحكام القرآن العظيم من هذا النوع، ومثال ذلك: غالب أحكام سورة البقرة، والنساء، والمائدة.

  • وثانيهما: ما يؤخذ بطريق الاستنباط والتأمل، وهو على قسمين أيضًا:
    أحدهما: ما يُستنبَط من الآية مباشرة، بدون ضَمِّ آية أخرى إليها؛ وذلك نحو استنباط تحريم الاستمناء من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون: 5-7]، وكاستنباط صحة صومِ مَنْ أصبح جُنُبًا، من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187].
    والقسم الثاني: ما يُستنبَط بِضَمِّ الآية إلى غيرها؛ سواء لآية أخرى، أو لحديث نبوي. ومنه استنباط عليّ بن أبي طالب[13]، وابن عباس[14]، أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر؛ من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان: 14]. ومنه استنباط أن التطهّر المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}[البقرة: 222]؛ وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة: 6]، هو الاغتسال المذكور في قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء: 43]؛ وبناءً على هذا؛ فإن آيات الأحكام أكثر من أن تُحْصَر بعددٍ معيَّن، وهذا ضَرْبٌ مِن إعجاز القرآن الكريم، والله أعلم.
    ثالثًا: نشأة تفسير آيات الأحكام[15]:
    نشأ التفسير الفقهي في مرحلة متقدّمة جدًّا؛ إِذْ إنه جزء من التفسير النبوي في الجملة، فقد كان من جملة الآيات التي تنـزل على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- آيات الأحكام الفرعية، والمصطلح على تسميتها (الفقهية)، فكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يفسّرها لأصحابه بقوله وعمله؛ فيُبيِّن مُجمَلَها، ويُقيِّد مُطلَقها، ويخصّص عامّها. ومن الأمثلة على ذلك؛ أنه كان يصلي بصحابته ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ويحجّ بهم ويقول: «خذوا عني مناسككم»، وهذا تفسيرٌ لآيات الصلاة والحج في القرآن الكريم، وكذا الزكاة أمَر اللهُ بها أمرًا مُجْمَلًا {وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 110]، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: 141]، {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}[البقرة: 267]، فبيَّن لهم النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما تجب فيه الزكاة، ومقاديرها، وأوقاتها، وهكذا في جميع التشريعات.
    وقد كان الصحابة -أجمعون- يهتمون بسؤاله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن هذا النوع من الآيات؛ قال عمر بن الخطاب: «سألتُ رسول الله عن الكلالة، فقال: تكفيك آية الصيف»[16].
    ثم إنَّ الصحابة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بدؤوا يجتهدون في دلالات أخرى من آيات الأحكام، لم يسألوا عنها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وليس بين أيديهم فيها عِلْم؛ فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: «إني قد رأيتُ في الكلالة رأيًا؛ فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكُ خطأً فمنّي ومن الشيطان، واللهُ بريء منه، إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد»[17].
    فهذا أبو بكر يَعمد إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُوْرَثُ كَلاَلَةً}[النساء: 12]، فيجتهد في تفسيرها وتأويلها، ولعمر بن الخطاب اجتهاد في فهم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}[البقرة: 196]، فقد كان ينهى عن المتعة وهي في كتاب الله؛ اجتهادًا منه، وخالفه فيه كبار الصحابة: عليّ، وابن مسعود، وأبو موسى، وعبد الله بن عُمر، جميعًا.
    وبرز من الصحابة في هذا الباب عبدُ الله بن مسعود، وعبدُ الله بن عمر، وعبدُ الله بن عباس، وأثّر كلٌّ منهم في تلاميذه؛ فظهر اهتمام المدرسة الكوفية (تلاميذ ابن مسعود)، والمدرسة المدنية (تلاميذ ابن عمر)، والمدرسة المكية (تلاميذ ابن عباس)؛ في تفسير القرآن الكريم، وخاصة آيات الأحكام[18].
    واستمر اهتمام الصحابة وتلاميذهم من التابعين بتفسير آيات الأحكام لا يتعدى المُدارسة والإفتاء حتى جاء الإمام مقاتل بن سليمان الخراساني (ت: 150هـ)؛ فألّف أول كتابٍ خاصّ في تفسير آيات أحكام القرآن، وكان تفسيرًا بالمأثور في الدرجة الأولى، مع إعمال مقاتل للرأي أحيانًا أخرى[19].
    ومن الأئمة المجتهدين الذين ألّفوا في هذا الباب:الإمام يحيى بن زكريا بن سليمان القرشي الكوفي، إمام مجتهد (ت: 203هـ)[20].
    ثم بدأ بعضُ أئمة المذاهب المعروفة وتلاميذهم في التأليف في هذا الباب، وممن نُقل عنه التأليف في هذا الباب:

  • الإمام أبو عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204هـ)؛ فقد ألّف كتابًا في أحكام القرآن[21].

  • الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت: 321هـ)، وهو ينسج على طريقة المُحَدِّثين عمومًا؛ بغضّ النظر عن طريقته في الترجيح.
    واشتهر التأليف بعد ذلك؛ إلّا أن طابع التأليف أخذ في الاختلاف من جهة القصد والمنهج. فالقصد؛ نصرة المذهب الذي ينتمي له المؤلف، ومن جهة المنهج؛ فالبناء على أصول إمام المذهب وقواعده. فهذا الإمام الجَصّاص في كتابه المعروف (أحكام القرآن) لا يألو جُهْدًا في نُصْرَة مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت: 150هـ)، ولو بالتأويلات البعيدة، والتكلّف المتعسف! ثم هو تطبيق للقواعد والأصول التي يقوم عليها مذهب الحنفيَّة.
    وهذا الإمام إلْكِيَا الهَـرّاسي يصرّح في مقدمته بأن القصد من التأليف «شرح ما انتزعه الشافعي، من أخذ الدلائل في غموض المسائل، وضممتُ إليه ما نسجته عن منواله، واحتذيتُ على مثاله»[22]، فقد أشار للأمرين؛ فالقصد: شرح استدلالات الشافعي -رحمه الله-، والمنهج: جمع استدلالات الشافعي، وضم مسائل أُخَر منسوجة على منواله في التأصيل والاستدلال.
    ولا يُعاب على إلْكِيَا الهَـرّاسي أن يؤلّف في استدلالات الإمام الشافعي، وينسج على منواله، فهذا أقلّ ما ينبغي تجاه آراء الأئمة الكبار واجتهاداتهم؛ ليقتدي الخلَف بالسلَف في طريقة الفقه والتفقه؛ ولكن الذي يُعاب هو التقليد المحض، والتعصّب الأعمى، وعدم رؤية الحق إلّا من جهة واحدة، مع القدرة على البحث والاستدلال.
    وقد استمر التأليفُ في إطار المذاهب؛ لكنّ المؤلفين قد اختلفت مناهجهم في البسط والإيجاز، والتجرّد والانحياز؛ فمنهم من اقتصر على قول واحد في التفسير والاستنباط، ومنهم من توسّع في ذكر أقوال الأئمة، والاهتمام باختلاف الآراء والاجتهادات، ومنهم من تجرّد في الاستدلال والتدليل، وبحث عن الرّاجح من الأقوال، دون التفات للمذاهب أو التعويل عليها، ومنهم من ظلّ حبيس أقوال شيوخه، فلم يتكلم في مسائل العلم إلا من خلالها، وهذا من عجيب خلق الله؛ أعني التفاوت في العقول والأفهام بين الأنام، واللهُ المستعانُ لا ربّ سِواه.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

يمثل كل نوع من ...

يمثل كل نوع من أنواع الحيوان جزءاً مهماً من النظام الطبيعي الفريد. فالحيوانات تساعد على بناء الحياة،...

اسم بمعنى من مب...

اسم بمعنى من مبين نكره ... ينصب تمييزا بما قد فسره (١) كشبر أرضا وقفيز برا ... ومنوين عسلا وتمرا (٢...

تستمد موضوعاتها...

تستمد موضوعاتها من الحياة الاجتماعية ومشاكل المواطن المختلفة تحددها وتبحث عن حلول لها كالفقر والجهل...

الرحمة تجاه الح...

الرحمة تجاه الحيوانات هي جانب أساسي من التعاليم الإسلامية. مفهوم معاملة الحيوانات باللطف والرحمة متج...

انا في هذه الدر...

انا في هذه الدراسة فانني اصف العائلة بأنها في الاساس وحدة اجتماعية انتجاية ونواة التنظيم الاجتماعي و...

ولذلـك عشـت وحي...

ولذلـك عشـت وحيـد ً ا، لا أجد مـن أتحدث معـه حديثًـا جديًّا حتى ذلـك اليـوم الذي تعطلت فيـه طائرتي م...

.3 التزامات الت...

.3 التزامات التسجيل الضريبي نظام ضريبة الشركات في الدولة هو نظام تقييم ذاتي، ما يعني أن الشخص الطبيع...

Sewage: can ref...

Sewage: can refer to domestic and industrial waste. Domestic sewage includes toilet water, bath and ...

By the time the...

By the time they reached our farm AL their drinks and the sandwiches were gone. Everyone hugged each...

يلعب الإعلام دو...

يلعب الإعلام دورًا رئيسيًا في نشر الوعي والمعرفة بين الجمهور. من خلال تقديم الأخبار والتقارير والتحل...

. كيف يجيب المس...

. كيف يجيب المستدل في هذا القسم عن اعتراض المعترض بالقول بالمو َجب ؟ يجي عنه من عدة وجوه : 1- أن يب...

فضل الحج وأثره ...

فضل الحج وأثره على النفس فريضة الحج بيت الله الحرام من أفضل الأعمال التي يقوم بها المسلمون، وهو واجب...