Lakhasly

ذألك في يوم العيد في السنة الماضية، وكانت المرة الأولى التي سافرت فيها وحدي. كتب عمي (أنطوان) لوالدي: "بما أنكما لا تستطيعان المجيء عندنا فبعثا (ألان) إلينا" – ألان هو انا. عمي (انطوان) طبيب في قرية (ازي) على البحر، في مقاطعة (بروفنس) اينه ايضا عمده القرية. (ازي) قرية جاثمه فوق تله بين اشجار الصنوبر والزيتون، على حافة البحر الابيض المتوسط، عمي وامرأته وابنتهما (ميشيل عمرها خمسة عشر عاما) و (جوزيت تسعة اعوام) يسكنون في بيت ريفي قديم. ووراء البيت، من جهة البحر، ثمة باحة، وأسفل منها هناك حديقة مزروعة بأشجار البرتقال. تلك رحله طويله، قالت امي معترض. إن (ألان) يناهز الثالثة عشر من عمره، سوف يتدبر أمره جيدا. أجاب ابي. على كل حال، فالجزء الاول من الرحلة بالطائرة من باريس الى مرسيليا، مر بسلام، وفي مرسيليا ركبت (الترام) الذي اقلني الى (فيران)، محطه صغيره بيضاء ذات ازهار ونخيل، وفي الأفق لاح خط ازرق؛ البحر الابيض المتوسط! في باريس هذا الصباح، مان الجو باردا، اما في مرسيليا فقد نزعت معطفي، في (الترام) خلعت السترة، في (فيران) نزعت عني الكنزة!
(فبران) تقع على بعد خمسة عشر كيلو مترا من (ازي)، وثمة حافله تخدم بينهما.
السيارة التي تنطلق الى (ازي)؟ تعني سيارة "مسيو فيولت"؟ إنها هناك بين الاشجار. من تحت الاشجار الباسقة لمحت حافله عتيقه مدهونة باللون الأزرق. من تحت الطلاء يمكن تمييز كتابه شبه ممحوه "نقليات باريس – 1932"
إذن فهذه حافله باريسية قديمة، توفر خدمة النقل بين (فيران) و (ازي)! مرحى للحافلة العتيقة.
خرج "مسيو فيولنت" من مقهى في المحطة. إنه ضخم، أحمر، بادي المرح.
-إيه يأبني، ماذا تريد؟
-أريد تذكرة إلى (ازي)، لو سمحت، سيدي!
-أتريد تذكرة للدرجة الاولى، او الثانية، أو الثالثة؟
ترددت، تمنعت في الحافلة، كل المقاعد تبدو متشابهة.
-الدرجة الاولى بثلاثة (فرنكات)، والثانية (بفرنكين)، والثالثة بنص فرنك. قال (مسيو فيولت).
سألته: وما الفرق بينهما؟ كل المقاعد تبدو متشابهة!
ابتسم (مسيو فيولت)، وقال: ليس ثمة فرق. تجلس حيثما تريد. من يحضر أولا يختر ما يحلو له.
حزمت امري الان. ابتعت تذكرة للدرجة الثالثة. دفعت نصف (فرنك). رفع (مسيو فيولت) حقيبتي فوق سقف الحافلة. احتللت المقعد الاول بجوار السائق.
كما ترون يا اصدقائي، لم يدفع المرء ثلاثة (فرنكات)لرحلته مادام نصف (فرنك) يؤمن له المقعد الذي يريد؟ المسألة كلها كما يقول أبي: إن توفير الفلوس هو الذي يكون الثروات الكبيرة!
على كل حال، ثمة شيء مريب!
طفق المسافرون يتوافدون، بعضهم اشتروا تذاكر من الدرجة الثانية، وبعضهم فعلوا مثلما فعلت: اشتروا تذاكر من الدرجة الثالثة، إلا أن بعضهم اشتروا تذاكر من الدرجة الأولى!
أنضر الى هذه الفلاحة العجوز! إنها ترتدي اسمالا رثة، وتتوكأ على عصا، لا شك انها ستشتري تذكرة من الدرجة الثالثة.
ولكنك كلا! يا لدهشتي إذ سمعتها تطلب تذكره من الدرجة الاولى! حقا إن الامر يبدو غريبا جدا!
ومازال المسافرون يتوافدون على سطح الحافلة، تتكدس السلال والحقائب والأكياس.
يا للحافلة العتيقة، ما أثقل حملها! تساءلت في نفسي كيف يمكنها ان تقطع المسافة البالغة خمسة عشر كيلومترا بين (فيران) و (ازي)!
-ليصعد الجميع إلى الحافلة، زعق (مسيو فيولت).
ها هي الحافلة العتيقة تنطلق محدثة جلبه صاخبه، ونافثه دخانا كثيفا، لكنها افلحت في التزحزح أخيرا!
عبرنا عدة قرى. توقفت الحافلة مرار لالتقاط ركاب اخرين، منهم من اشترى تذكرة من الدرجة الأولى، ومنهم من اختار الدرجة الثانية، ومنهم من رضوا بالدرجة الثالثة! هناك حتما سر ما!
طلبت إلى (مسيو فيولت) ان يشرح لي السر، فابتسم، ولم يجب بشيء!
اقتربنا من إحدى التلال. عما قريب ستبدأ الطريق تعلو صعدا، أوقف (مسيو فيولت) السيارة، ونزل منها، ثم صاح: انتباه! السادة المسافرون في الدرجة الأولى يبقون في الحافلة! السادة المسافرون في الدرجة الثانية: انزلوا، واصعدوا التلة مشيا! مسافرون الدرجة الثالثة: انزلوا، وادفعوا الحافلة!
الآن أدركت السر! ثمة ثلاث تلال تجثم في الطريق!

-هل فهمت الان؟ قال (مسيو فيولت) ابق داخل الحافلة، لا تبدو عليك سيماء القوة والبأس.
انت إذن ابن اخ الطبيب؟
-نعم، يا سيدي!
-وكم عمرك
-ثلاثة عشر عاما، يا سيدي.
-وما اخبار باريس؟
-ما من جديد... لكن المطر هطل اليوم عندما غادرتها، اما ها هنا فكأنه الصيف!
-اه رد (مسيو فيولت) بفخر، ما أجمل المنطقة!
ها هو يشغل المحرك من جديد. صعدت الحافلة العتيقة التلة متمهلة، تدفعها دزينة من الاذرع القوية!
منذ نحو عشر سنين، قال "مسيو فيولت" مزهوا، عشر سنين – أتسمعني يا بني؟ وهذه الحافلة تقطع هذه الطريق جيئة وذهابا كل يوم، صباحا ومساء، مهما يكن الطقس!
-1932، قلت مجيبا إياه.
-اه! كم اشتغلنا جيدا في تلك الأيام! كل هذه السيارات الحديثة غاليه، إنها براقه، ولكن صدقني يأبني إنها لا تساوي شيئا. لا قيمة لها!
وأسفاه لقد كانت الرحلة الأخيرة للحافلة العتيقة.
في التلة الثالثة حرنت الحافلة، وابت ان تتقدم قيد خطوة، قطعنا سائر الطريق على اقدامنا.
(ميسيو فيولت) تعلو محياه الكأبة.
لمدة ثلاث أيام لم تكن ثمة حافلة بين (فيران) و (ازي).
الذين اضطروا للذهاب الى (فيران) سافرو كما تيسر: في عربة خيل، على الدراجات الهوائية، في ساخنة البقال الصغيرة، لشد ما ضجروا لذألك!
في اليوم الرابع اذهلتنا المفاجأة! في ساحة القرية حشد يتجمهرون حول حافله حديثه، رائعة، تلمع تحت الشمس، إنها سارة (مسيو فيولت) الحديثة.
على المرء ان يسار زمانه، صاح (ميسيو فيولت)، ثم أضاف وهو يبتسم: ولكن سيداتي سادتي، منذ اليوم ستسافرون كلكم في الدرجة الأولى!