Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (25%)

والتونة هو الاسم اّلذي يطلقه الصَّيادون على الأسماك جميعها من ذلك النّوع ،ويُميزون كلَّ سمكة من تلك الأسماك باسمها الخاصِّ عندما يأتون لبيعها أو مُقايضتها بسمك الطُّعْم. وشعر الشّيخ بحرارتها في قفاه، وأحسّ بالعرق يتصبَّب على ظهره وهو يجدِّف، وقال في نفسه: «أستطيع أن أدع القارب ينساب مع اّلتيار، وأنام واضعًا طرفا من الخيط حول إبهام قدمي ليوقظني،وينبغي أن أمارس الصَّيد ممارسةً جيِّدة هذا النهار. لاحظَ -وهو يُراقب خيوطه- أن إحدى العصيّ الخضراء الناتئة تغطس بحدَّة.ورفع مجدافيه دون أن يرتطما بالقارب، ومدَّ يده إلى الخيط، وأمسكَ به في رفقٍ بين إبهام يده اليمنى وسَبابتها، لم يحسّ بتوتُّرٍ ولا بثقلٍ فظلَّ مُمسكًا بالخيط بخفَّة، على بُعد مائة قامة سمكةُ مارلين تأكل السَّردين الذي يغطّي طرف الصِّنارة، وساقها حيث يبرز الشِّصُّ من رأس سمكة التّونة الصَّغيرة . وحله من العصا بيده اليسرى بلطفٍ، الآن يمكنه أن يدعه ينفلت من بين أصابعه دون أن تشعر السَّمكة بأيِّ شدّ. لا بدّ أن تكون هذه السَّمكة ضخمة. ُكُلي قطع الطُّعم -أيَّتها السّمكة- ُكُليها، وأنتِ هناك على عمق ستمائة قدم في الماء البارد وفي العتمة، دوري دورةً أخرى في الظلام،وشعر بالجذب الرَّقيق الخفيف، ثُمّ بجذبةٍ أشدّ عندما صعب خلع رأس السَّردينة من الشِّصّ -كما يبدو- ثمّ لا شيء. قومي باستدارةٍ ثانية، أليست شهية؟ ُكُليها جيِّدًا الآن، لا تخجلي -أيتها السَّمكة- ُكُليها.انتظرَ والخيط بين إبهامه وسبابته، ويُراقب الخيوط الأخرى في الوقت نفسه، فقد تكون السَّمكة قد سبحت إلى الأعلى أو إلى الأسفل، ثمّ جاءت الجذبةُ الرّقيقة ذاتُها مرَّةً أخرى.ومع ذلك فإنَّ السَّمكة لم تبتلع الشِّصّ،- «لا يمكن أن تكون قد ذهبَتْ، لعلها عَلِقتْ بشِصّ من قبل،ثمّ أحسّ باللمسة اللطيفة على الخيط،- «لقد قامتْ بدورتها فقط،كان سعيدًا عندما أحسَّ بالجذب اللطيف، ثمّ شعر بشيءٍ شديدٍ وثقيلٍ بصورةٍ لا تُصدَّق؛ فتركَ الخيط ينفلت إلى الأسفل، فاتحًا بذلك أوّلَ اللفَّتَيْن الاحتياطيَّتَين ، وبينما كان الخيط ينساب إلى الأسفل بخفّة من بين أصابع الشّيخ، كان لايزال بإمكانه أن يُحسّ بالثقل العظيم، فقد كان ضغط إبهامه وسبابته عديم الأثر تقريبًا.- «يا لها من سمكة! لقد أخذتِ الآن الشِّصَّ في فمها بالعَرْض،وفكّرَ: «إنَّ السَّمكة ستدور ثمّ تبتلعه»،لقد أدرك مدى ضخامة تلك السَّمكة، وتخيلها وقد ابتعدتْ في الظلام، والشِّصّ المُغطّى بسمكة التونة عالقًا بالعَرْض في فمها، فأرخى مزيدًا من الخيط ،شدّد من ضغط إبهامه وسبابته لحظة، واتَّجه عموديا إلى الأسفل .وترك الخيط ينساب من بين أصابعه، فيما مدّ يده اليسرى ليربط نهاية اللّفَّتين الاحتياطيّتين إلى طرف خيطٍ آخر في اللفَّتين الأخريين، فقد صار لديه خيطٌ احتياطيٌّ لثلاث لفّات، بالإضافة إلى اللفّة التي كان يستعملها.- «ُكُلي أكثر قليلًا،وقال في نفسه: ُكُليه لكي ينفذ رأس الشِّصّ إلى قلبك ، ودعيني أغرز الحربة فيك -حسنًا- هل أنتِ مستعدّة؟ هل بقيتِ بما فيه الكفاية على مائدة الطَّعام؟ قال بصوتٍ مرتفع:
- «الآن!»، وثالثة بكلتا ذراعَيْه بالتَّناوب،لم يحدث شيء، كلُّ ما هنالك أنَّ السَّمكة ابتعدتْ ببطءٍ، ولم يستطِع الشّيخ أن يرفعها بوصةً واحدة، كان خيطه متينًا ومصنوعًا للسَّمك الثقيل؛ وقد شدّه إلى ظهره حتى صار متوتِّرًا، ثمّ راح الخيط يحدِث هسيسًا بطيئا في الماء، وهو مازال مُمسِكًا به مُستندًا بنفسه إلى مقعد المَركب وَمُميلًا ظهرَه إلى الخلف لمقاومة الجذب،تحرَّكتِ السَّمكة باطِّراد، فأبحروا على مهلٍ فوق سطح الماء الهادئ، ولكن ليس ثمّةَ ما يمكن فعله. فالسَّمكة تَجرُّني، كان بإمكاني أن أشدّ الخيط أكثر، ولكنَّ السَّمكة قد تقطعه، يجب أن أُمسِك بها ما استطعتُ، أحمد الله على أنَّها تسافر قُدمًا، وماتت؟ لا أدري ،شدَّ الخيط إلى ظهره، وراقب ميلانه في الماء، وراح المَركب يتحرَّك بثباتٍ إلى جهة الشّمال الشّرقيّ. لا يمكنها أن تفعل هذا إلى الأبد»، كانت السَّمكة مازالت تواصل سباحتها في اطِّراد نحو عُرض البحر، والشّيخ ما يزال يشدّ الخيط حول ظهره بقوّة .- «كان الوقت ظُهرًا عندما علقتُها، ولم أرَها إلى الآن. والآن أخذت قُبعته تحزُّ جبهته ،كان ظمآنَ كذلك، فركع على ركبتَيه بحذرٍ لئلّا يضغط على الخيط، وشرب قليلًا، بل يحتمل فقط. فوجد أنَّ البَرَّ لم يَعُدْ على مدى البصر ،وفكّرَ: «لا أهميّة لذلك، أستطيع دائمًا العودة مُسترشِدًا بوهج الأضواء من (هافانا)، بقيَتْ ساعتان لغروب الشَّمس، وقد ترتفع السَّمكة قبل ذلك،ليست عندي أَية تشنجات، ولكنْ، يا لها من سمكة، لا بدَّ أنَّ فمها مُطبق بإحكام على السِّلك، كم أتمنى أن أراها، أتمنى لو أستطيع أن أراها مرَّةً واحدة فقط؛لم تُغير السَّمكة خطَّ سيرها، ولا اتجاهها أبدًا طوال تلك الليلة، حسب ما يستطيع الشّيخ أن يحكم به من ملاحظة النُّجوم، أمسى الطَّقس باردًا بعد أن غابت الشَّمس، وبعد أن غربَتِ الشَّمس، أخذَ ذلك الكيس،وزحزحه بحذر إلى الأسفل ليكون تحت الخيط اّلذي صار على كتفيه الآن، حتى أصبح الكيسُ وسادةً للخيط، ووجد الشّيخ طريقةً للاتكاء على مُقدَّم المَركب، بحيث صار في وضعٍ مُريحٍ تقريبا، كان وضعه -في حقيقة الأمر- مجرَّد وضعٍ يقلّ نوعًا ما عن الوضع الذي لا يُحتمَل، ولكنه اعتبره بمثابة وضعٍ مريحٍ تقريبًا.وفكّرَ الشّيخ: «لا أستطيع أن أفعل شيئا لهذه السَّمكة ،وذات مرَّةٍ، ومن فوق جانب المَركب تطلع إلى النُّجوم، ودقق في خطِّ السَّير، وبدا له الخيط مثل شريطٍ فوسفوريٍّ يمتدُّ من كتفَيه إلى الماء، أخذوا يتحرَّكون تحرًّكًا أبطأَ الآن، وصار وَهَجُ أضواء (هافانا) أقلَّ لمعانا، بحيث أَدركَ أنه لا بُدَّ أنَّ التيار يحملهم نحو الشَّرق، وفكَّرَ: «إنَّني أفقد لمعان (هافانا)، ولا بُدَّ أننا نتجه أكثر نحو الشَّرق؛ فهذا يعني أنني أتمكَّن من رؤية لمعان (هافانا) عدّة ساعات». كيف كانت نتيجة مباراة (البيسبول) في نهائي البطولة اليوم؟ لو كنتُ أفعل هذا وأنا أتابع المباريات بالمذياع، لكان ذلك شيئًا رائعًا. ثمّ ذَّكَّرَ نفسه قائلًا: فَكِّرْ في عملكَ دائمًا ، يجب ألّا تقترف فعلًا شائنًا .- -«أتمنى لو كان الصَّبيُّ معي،وفكَّرَ: «لا أحدَ ينبغي أن يكون بمفرده في شيخوخته ، يجب أن أتذَّكَّر أَنَّ عَليّ أن آكل التونة قبل أن تفسد؛تذَّكَّرْ. اقترب اثنان من الدَّلافين من القارب، إنَّهما إخوة لنا ،مثل الأسماك الطّائرة.ثمّ أخذ يشعر بالشَّفقة على السَّمكة العظيمة اّلتي جعلها تعلق بصنارته، وقال في نفسه: إنها سمكةٌ عجيبةٌ غريبة، ولا سمكةً تصرَّفتْ بهذه الطَّريقة الغريبة، ولعلها أعْقل من أن تقفز، إنّها تستطيع تدميري بالقفز أو الاندفاع الأهوج ،ولكن، ولكن، إنها تناولت الطُّعْم مثل ذَكَرٍ شجاع ذكيٍّ، وهي تجرُّه مثل ذََكَر، وليس من ذُعرٍ في معركتها، أتساءل ما إذا كانت لهذه السَّمكة خطَّة تتّبعها أم أنَّها مجرَّد يائسة مثلي؟
وخاضت السَّمكة الأنثى التي علقت بالصنّارة، سرعان ما أنهكتها، وطَوال الوقت ،بقي الذَّكرُ إلى جانبها، ويدور معها عند سطح الماء، بقي قريبا لدرجة أنَّ الشّيخ خشي أنه سيقطع الخيط بذيله الذي كان حادًا مثل منجلٍ تقريبًا من حيث الشَّكل والحجم. وعندما طعنها الشّيخ بالخطّاف، وضربها بالهراوة ، ظلّ الذَّكر بجانب القارب، وبعد ذلك، ويجهّز الحربة، قفز الذّكر عاليًا في الهواء بجانب القارب؛ ليرى أين صارت السَّمكة الأنثى ، وكان جناحاه الأرجوانيان -أي زعنفتاه الصَّدريتان- مُنبسطَين باتساع، وتذَّكَّرَ الشّيخ أنه كان جميلًا،وقال الشّيخ في نفسه: ذلك أحْزن أَمرٍ وقعَ لي مع الأسماك ،وكان الصَّبيُّ حزينا كذلك، والتمسنا من السَّمكة الأنثى أن تعفو عنّا، وجزرناها في الحال .- «أتمنى لو كان الصَّبي هنا». قال ذلك بصوتٍ عالٍ، واستقرَّ على الألواح الخشبية المُستديرة في مُقدَّم القارب، ومن خلال الخيط الذي كان يلفُّه على كتفَيه ،كانت قد اختارت أن تبقى في المياه العميقة بعيدة عن المصايد والكمائن والأحابيل جميعها، بعيدًا عن الناس جميعهم في العالَم، والآن نحن مرتبطان معًا، ونحن على هذه الشّاكلة منذ الظُّهر، ولا أحد يساعد أيا مِنا.وفكّرَ: «رُبما ما كان ينبغي أن أكون صيّادًا، يجب أن أتذَّكَّر بكلِّ تأكيد أن آكلَ التونة بعد أن يطلع النّهار .وقبل أن يطلع ضوء النهار بقليل،أخذ شيءٌ ما أحدَ الطُّعمين اللذين كانا خلفه، والخيط يأخذ في الانفلات من فوق حافة المركب، فاستلّ سكّينه من غِمْدها في الظَّلام، ومال إلى الخلف، وقَطعَ الخيط على خشب حافة المَركب، ثمّ قطعَ الخيط الآخر الأقرب إليه، وفي الظَّلام ،ربط نهايتي اللفّتَين الاحتياطيّتَين. لقد عملَ بمهارة بيدٍ واحدةٍ واضعًا قدمه على اللفَّتين ليثبتهما، والآن صارت لديه ستّ لفّاتٍ احتياطيّة من الخيط ،كانت هناك لفّتان من كلِّ طُعْمٍ قطعَ خيطه،وفكّرَ: «بعد أن يعمّ ضوء النهار، سأعود إلى الطُّعم اّلذي على عمق أربعين قامة، وأقطع خيطه كذلك، وأربطه باللّفّات الاحتياطية، وهكذا سأكون قد فقدتُ مائتي قامة من الحبال الجيّدة إضافة إلى الصّنارات ورؤوسها، أو من أسماك القرش، لم أشعر بها أبدًا، وكان عليّ أن أتخلَّص منها بأسرع ما يمكن».وقال بصوتٍ عالٍ:
ومن الأفضل الآن أن تعود إلى آخر خيط لديك،أو ليس في الظَّلام، وتقطعه،وهكذا فعل. وكان ذلك عملًا صعبا في الظَّلام، وأوقعته على وجهه، وتسبَّبتْ بجرح تحت عينه، وجفَّ قبل أن يصل إلى حنكه، واتَّخذ طريقه عائدا إلى مُقدَّم القارب، واتكأ على الخشب، وعدَّلَ الكيس، وغيَّرَ موضع الخيط بعناية، وحينما ثبَّتَ الخيط على منكبيه، أخذ يشعر بجرِّ السَّمكة، ثمّ تحسَّس بيده سرعةَ حركة المَركب في الماء.وفكّرَ: «أتساءل، لاُبُدَّ أنَّ السِّلك قد انزلق على انحناءة ظهرها العظيمة ،ومن المؤَّكَّد أنَّ ظهرها لا يؤلمها كما يؤلمني ظهري، مهما كانت ضخمة . وهو كلُّ ما يستطيع أن يتمناه المرء.- «أيَّتُها السَّمكة، سأبقى معكِ حتّى الموت.وأضاف قائلًا في نفسه: «وأفترضُ أنها ستبقى معي كذلك .»وراح ينتظر مطلع النّهار، صار الجوُّ باردًا الآن قبيل ضوء النَّهار، فاتكأَ على خشب القارب طلبا للدِّفء، وفكّرَ: إنَّني أستطيع الاستمرار مادامت السَّمكة تستطيع ذلك، وعند انبلاج النّور، وتحرَّكَ القارب بثبات، وعندما طلع أوَّل حافةٍ من قرص الشّمس، كان شعاعها على كتف الشّيخ اليمْنى .فقال الشّيخ:
- «إنّها تتَّجه شمالًا».وفكّرَ: «إنَّ اّلتيار سيجرفنا بعيدًا في اتِّجاه الشَّرق، أتمنّى أن تُحوِّل السَّمكة وِجْهتها مع اّلتيار، وليس ثمّة سوى علامة إيجابية واحدة: تلك هي انحراف الخيط اّلذي يدلُّ على أَنَّ السّمكة تسبح على عُمقٍ أقلّ من السّابق، وهذا لا يعني بالضَّرورة أنها ستقفز، ولكنَّها قد تفعل ذلك.قال الشّيخ:
فَلَديّ ما يكفي من الخيط
لِتَدبُّرها.وفكَّرَ: «لعلني إذا ما استطعتُ أن أزيد الضَّغط عليها قليلًا فقط، وستقفز، ومادام الوقت الآن نهارًا ،فلتقفز لكي تملأ الخياشيم على طول عمودها الفقريّ بالهواء ،وحينئذٍ لا تستطيع الغوص إلى الأعماق لتموت هناك.حاولَ أن يزيد الضَّغطَ، ولكنَّ الخيط كان مُتوترًا إلى الغاية القصوى لدرجة الانقطاع،وشعرَ الشّيخ بهذه الصُّعوبة عندما مال بظهره إلى الخلف ليجرَّ الخيط، وفكَّرَ:
«إنّني يجب ألّا أجذب الخيط بشدّةٍ أبدًا، فكلُّ جذبةٍ مفاجِئةٍ توسِّع الجرح الذي أحدثه الشِّصُّ في فم السَّمكة، وحينذاك ، وعلى أية حال،كانت هناك طحالبُ صفراءُ قد علقتْ بالخيط، ولكنَّ الشّيخ يدرك أنها فقط تزيد من الحِمل الذي تجرّه السَّمكة ، إنها طحالب الخليج الصَّفراء التي أحدَثتْ كثيرًا من اللمعان الفوسفوريّ خلال الليل.- «أيَّتها السَّمكة، إنني أُحبكِ وأحترمكِ كثيرًا جدًّا ،ولكنَّني سأقتلكِ قبل أن ينقضي هذا اليوم.أقبل طيرٌ صغيرٌ في اتجاه المركبِ من جهة الشَّمال، كان من الطُّيور المغرِّدة،كان من اليسير على الشّيخ أن يفهم أنّ الطَّيرَ مُتعَبٌ كثيرًا .بلغ الطّيرُ مؤخَّر القارب، وحطَّ عليه ليستريح،- «كم عمرُكَ؟ أهذه هي رِحلتكَ الأولى؟. وكان الطَّيرُ مُتعَبًا جدًّا لدرجة أنه لم يتفحّص الخيط عندما حطَّ عليه وهو يتأرجح وقدماه الرَّقيقتان تتشبَّثان به بشدَّة.قال الشّيخ له:
- «إنه ثابت، وينبغي ألّا تكون على تلك الحالة من التَّعب بعد ليلة لا ريح فيها، فما الذي يأتي بالطُّيور؟.وفكّرَ الشّيخ: «إنها الصُّقور اّلتي تخرج إلى البحر لملاقاة هذه الطُّيور»، والذي سيتعلم شيئا عن الصُّقور في القريب العاجل.قال الشّيخ:
- «انعمْ براحة جيدة -أيها الطَّير الصَّغير- ثمّ اذهبْ إلى البَرِّ،- «حلَّ ضيفًا في منزلي إذا أحببْتَ، ولكن يؤسفني -أيّها الطَّير- أنني لا أستطيع الآن أن أنشر الشّراع، لا أخفي عليك ذلك، فأنا أتحدّث مع صديق.في تلك اللّحظة بالذّات، قامت السَّمكة بحركةٍ مفاجِئة أسقطت الشّيخ على قاعِ المَركب، وكانت ستجرّه إلى خارج المركب لو لم يتماسَكْ،لقد طار الطَّير حال اهتزاز الخيط، ولكنّ الشّيخ لم يتمكَّن حتّى من رؤيته وهو يرحل، فلاحظ أنّ الدّم يسيل من يده .- «إذن،


Original text

مرّةً أخرى، غاصتْ أسماك التونة،والتونة هو الاسم اّلذي يطلقه الصَّيادون على الأسماك جميعها من ذلك النّوع ،ويُميزون كلَّ سمكة من تلك الأسماك باسمها الخاصِّ عندما يأتون لبيعها أو مُقايضتها بسمك الطُّعْم. وغدت الشَّمس حارَّةً الآن، وشعر الشّيخ بحرارتها في قفاه، وأحسّ بالعرق يتصبَّب على ظهره وهو يجدِّف، وقال في نفسه: «أستطيع أن أدع القارب ينساب مع اّلتيار، وأنام واضعًا طرفا من الخيط حول إبهام قدمي ليوقظني، ولكنَّ اليوم هو اليوم الخامس والثمّانون ،وينبغي أن أمارس الصَّيد ممارسةً جيِّدة هذا النهار.»
في تلك اللحظة بالذّات، لاحظَ -وهو يُراقب خيوطه- أن إحدى العصيّ الخضراء الناتئة تغطس بحدَّة.
قال:



  • «نعم، نعم.»
    ورفع مجدافيه دون أن يرتطما بالقارب، ومدَّ يده إلى الخيط، وأمسكَ به في رفقٍ بين إبهام يده اليمنى وسَبابتها، لم يحسّ بتوتُّرٍ ولا بثقلٍ فظلَّ مُمسكًا بالخيط بخفَّة، ثمّ جاءت مرَّةً أخرى، وهذه المرَّة كانت جذبة متردِّدة، ليست شديدة ولا ثقيلة، وأدرك ما كانت تعني بالضّبط، هناك في العمق؛ على بُعد مائة قامة سمكةُ مارلين تأكل السَّردين الذي يغطّي طرف الصِّنارة، وساقها حيث يبرز الشِّصُّ من رأس سمكة التّونة الصَّغيرة .
    أمسكَ الشّيخ الخيط بلطف، وحله من العصا بيده اليسرى بلطفٍ، الآن يمكنه أن يدعه ينفلت من بين أصابعه دون أن تشعر السَّمكة بأيِّ شدّ.
    وفكّرَ: «في هذا الشَّهر، وعلى هذا البعد، لا بدّ أن تكون هذه السَّمكة ضخمة. ُكُلي قطع الطُّعم -أيَّتها السّمكة- ُكُليها، أرجوك أن تأكليها، ما أطيبها، وأنتِ هناك على عمق ستمائة قدم في الماء البارد وفي العتمة، دوري دورةً أخرى في الظلام، وعودي لتأكلي الطُّعْم.
    وشعر بالجذب الرَّقيق الخفيف، ثُمّ بجذبةٍ أشدّ عندما صعب خلع رأس السَّردينة من الشِّصّ -كما يبدو- ثمّ لا شيء.
    قال الشّيخ بصوت مرتفع:

  • «هيا، قومي باستدارةٍ ثانية، فقط شمّيها، أليست شهية؟ ُكُليها جيِّدًا الآن، ثمّ هناك سمكة التونة، إنها صلبةٌ وباردةٌ ولذيذةٌ، لا تخجلي -أيتها السَّمكة- ُكُليها.»
    انتظرَ والخيط بين إبهامه وسبابته، وهو يراقبه، ويُراقب الخيوط الأخرى في الوقت نفسه، فقد تكون السَّمكة قد سبحت إلى الأعلى أو إلى الأسفل، ثمّ جاءت الجذبةُ الرّقيقة ذاتُها مرَّةً أخرى.
    قال الشّيخ بصوتٍ عالٍ:

  • «ستبتلعه، ساعدها يا إلهي كي تلتهمه.»
    ومع ذلك فإنَّ السَّمكة لم تبتلع الشِّصّ، فقد انصرفتْ، ولم يُحسَّ الشّيخ بشيءٍ.
    قال:

  • «لا يمكن أن تكون قد ذهبَتْ، الله يعلم أنها لا يمكنها الانصراف، إنها تقوم بدورة، لعلها عَلِقتْ بشِصّ من قبل، وتتذَّكَّر شيئًا من ذلك.»
    ثمّ أحسّ باللمسة اللطيفة على الخيط، وشعرَ بالسَّعادة ،وقال:

  • «لقد قامتْ بدورتها فقط، وستأكله.»
    كان سعيدًا عندما أحسَّ بالجذب اللطيف، ثمّ شعر بشيءٍ شديدٍ وثقيلٍ بصورةٍ لا تُصدَّق؛ إنه ثقل السَّمكة، فتركَ الخيط ينفلت إلى الأسفل، وإلى الأسفل، وإلى الأسفل، فاتحًا بذلك أوّلَ اللفَّتَيْن الاحتياطيَّتَين ، وبينما كان الخيط ينساب إلى الأسفل بخفّة من بين أصابع الشّيخ، كان لايزال بإمكانه أن يُحسّ بالثقل العظيم، فقد كان ضغط إبهامه وسبابته عديم الأثر تقريبًا.
    قال الشّيخ:

  • «يا لها من سمكة! لقد أخذتِ الآن الشِّصَّ في فمها بالعَرْض، وابتعدت به.»
    وفكّرَ: «إنَّ السَّمكة ستدور ثمّ تبتلعه»، لم يقُل ذلك؛ لأنَّه كان يعلم أنّكَ إذا نطقتَ بشيءٍ حَسَنٍ، فإنه قد لا يحصل ،لقد أدرك مدى ضخامة تلك السَّمكة، وتخيلها وقد ابتعدتْ في الظلام، والشِّصّ المُغطّى بسمكة التونة عالقًا بالعَرْض في فمها، في تلك اللحظة، أحسَّ بالسَّمكة قد توقّفت، ولكن الثِّقل مازال موجودًا، ثمّ ازداد الثقل، فأرخى مزيدًا من الخيط ،شدّد من ضغط إبهامه وسبابته لحظة، فازداد الثقل، واتَّجه عموديا إلى الأسفل .
    قال:

  • «لقد ابتلعَته، والآن سأدعها تأكله جيِّدًا.»
    وترك الخيط ينساب من بين أصابعه، فيما مدّ يده اليسرى ليربط نهاية اللّفَّتين الاحتياطيّتين إلى طرف خيطٍ آخر في اللفَّتين الأخريين، وهكذا غدا الآن مُستعدًّا، فقد صار لديه خيطٌ احتياطيٌّ لثلاث لفّات، طول كلِّ واحدة منها أربعون قامةً، بالإضافة إلى اللفّة التي كان يستعملها.
    قال:

  • «ُكُلي أكثر قليلًا، ُكُليه جيِّدًا.»
    وقال في نفسه: ُكُليه لكي ينفذ رأس الشِّصّ إلى قلبك ،ويقتلك، اصعدي بسهولة، ودعيني أغرز الحربة فيك -حسنًا- هل أنتِ مستعدّة؟ هل بقيتِ بما فيه الكفاية على مائدة الطَّعام؟ قال بصوتٍ مرتفع:

  • «الآن!»، وجذبَ بشدّةٍ بكلتا يدَيه، فسحبَ ياردةً من الخيط، ثمّ جذب الخيط مرَّةَ ثانية، وثالثة بكلتا ذراعَيْه بالتَّناوب، وبكلِّ قوَّةِ ذراعيه وهو يدور بثقل جسده.
    لم يحدث شيء، كلُّ ما هنالك أنَّ السَّمكة ابتعدتْ ببطءٍ، ولم يستطِع الشّيخ أن يرفعها بوصةً واحدة، كان خيطه متينًا ومصنوعًا للسَّمك الثقيل؛ وقد شدّه إلى ظهره حتى صار متوتِّرًا، بحيث راحتْ حُبيبات الماء تتقافز منه، ثمّ راح الخيط يحدِث هسيسًا بطيئا في الماء، وهو مازال مُمسِكًا به مُستندًا بنفسه إلى مقعد المَركب وَمُميلًا ظهرَه إلى الخلف لمقاومة الجذب، وأخذ القارب في التّحرُّك ببطءٍ مبتعدًا في اتّجاه الشّمال الشَّرقيّ.
    تحرَّكتِ السَّمكة باطِّراد، فأبحروا على مهلٍ فوق سطح الماء الهادئ، وكان الطُعْمان الآخران مازالا في الماء، ولكن ليس ثمّةَ ما يمكن فعله.
    قال الشّيخ بصوتٍ مرتفع:

  • «أتمنى لو كان الصَّبيُّ معي، فالسَّمكة تَجرُّني، وأنا الوتد، كان بإمكاني أن أشدّ الخيط أكثر، ولكنَّ السَّمكة قد تقطعه، يجب أن أُمسِك بها ما استطعتُ، وأعطيها من الخيط عندما تحتاج إليه، أحمد الله على أنَّها تسافر قُدمًا، ولا تغوص إلى الأسفل.»
    ما اّلذي سأفعله لو أنها قرَّرتْ أن تغوص إلى الأسفل؟ لا أعرف، وماذا سأفعل إذا أطلقَتْ صوتا، وماتت؟ لا أدري ،ولكنني سأفعل شيئا ما، ثمّة كثيرٌ من الأشياء التي أستطيع فعلها.
    شدَّ الخيط إلى ظهره، وراقب ميلانه في الماء، وراح المَركب يتحرَّك بثباتٍ إلى جهة الشّمال الشّرقيّ.
    فكّر الشّيخ: «هذا سيقتلها، لا يمكنها أن تفعل هذا إلى الأبد»، ولكن بعد أربع ساعات، كانت السَّمكة مازالت تواصل سباحتها في اطِّراد نحو عُرض البحر، وهي تقطر المَركب، والشّيخ ما يزال يشدّ الخيط حول ظهره بقوّة .
    قال:

  • «كان الوقت ظُهرًا عندما علقتُها، ولم أرَها إلى الآن.» كان قد دفع بقُبعته المصنوعة من الخوص بشدّةٍ في رأسه قبل أن تعلق تلك السَّمكة، والآن أخذت قُبعته تحزُّ جبهته ،كان ظمآنَ كذلك، فركع على ركبتَيه بحذرٍ لئلّا يضغط على الخيط، وزحف إلى أقصى ما يمكنه نحو مُقدَّم المَركب ،ومدَّ يدًا واحدة إلى قنينة الماء، وفتحها، وشرب قليلًا، ثمّ استند إلى مُقدَّم المركب، واستراح بالجلوس على السّارية غير المرفوعة والشِّراع، وحاول ألّا يفكِّر، بل يحتمل فقط.
    ثمّ نظرَ خلفه، فوجد أنَّ البَرَّ لم يَعُدْ على مدى البصر ،وفكّرَ: «لا أهميّة لذلك، أستطيع دائمًا العودة مُسترشِدًا بوهج الأضواء من (هافانا)، بقيَتْ ساعتان لغروب الشَّمس، وقد ترتفع السَّمكة قبل ذلك، وإذا لم تفعل فقد تظهر عند بزوغ القمر، وإذا لم تفعل ذلك فقد تطلع عند شروق الشَّمس ،ليست عندي أَية تشنجات، وأشعر بالقوَّة، إنها هي اّلتي عندها الشّصّ في فمها. ولكنْ، يا لها من سمكة، بحيث تستطيع أن تواصل الجرّ بهذا الشَّكل، لا بدَّ أنَّ فمها مُطبق بإحكام على السِّلك، كم أتمنى أن أراها، أتمنى لو أستطيع أن أراها مرَّةً واحدة فقط؛ لأعرف أيَّ غريم يجابهني»؟
    لم تُغير السَّمكة خطَّ سيرها، ولا اتجاهها أبدًا طوال تلك الليلة، حسب ما يستطيع الشّيخ أن يحكم به من ملاحظة النُّجوم، أمسى الطَّقس باردًا بعد أن غابت الشَّمس، وجفَّ عَرق الشّيخ باردًا على ظهره وذراعَيه وساقَيه الهرمتَين، وكان -خلال النهار- قد أخذ الكيس الذي يغطّي صندوق الطُّعْم ،ونشره في الشَّمس لينشف، وبعد أن غربَتِ الشَّمس، أخذَ ذلك الكيس، وربطه حول عنقه بحيث يتدّلى على ظهره ،وزحزحه بحذر إلى الأسفل ليكون تحت الخيط اّلذي صار على كتفيه الآن، حتى أصبح الكيسُ وسادةً للخيط، ووجد الشّيخ طريقةً للاتكاء على مُقدَّم المَركب، بحيث صار في وضعٍ مُريحٍ تقريبا، كان وضعه -في حقيقة الأمر- مجرَّد وضعٍ يقلّ نوعًا ما عن الوضع الذي لا يُحتمَل، ولكنه اعتبره بمثابة وضعٍ مريحٍ تقريبًا.
    وفكّرَ الشّيخ: «لا أستطيع أن أفعل شيئا لهذه السَّمكة ،ولا هي تستطيع أن تفعل شيئًا لي، ما دامتْ تواصل مَسلكها ذاك.»
    وذات مرَّةٍ، نهض، ومن فوق جانب المَركب تطلع إلى النُّجوم، ودقق في خطِّ السَّير، وبدا له الخيط مثل شريطٍ فوسفوريٍّ يمتدُّ من كتفَيه إلى الماء، أخذوا يتحرَّكون تحرًّكًا أبطأَ الآن، وصار وَهَجُ أضواء (هافانا) أقلَّ لمعانا، بحيث أَدركَ أنه لا بُدَّ أنَّ التيار يحملهم نحو الشَّرق، وفكَّرَ: «إنَّني أفقد لمعان (هافانا)، ولا بُدَّ أننا نتجه أكثر نحو الشَّرق؛ لأنَّه إذا كان خَطُّ سير السَّمكة مستقيمًا، فهذا يعني أنني أتمكَّن من رؤية لمعان (هافانا) عدّة ساعات». وتساءَل في نفسه: يا تُرى، كيف كانت نتيجة مباراة (البيسبول) في نهائي البطولة اليوم؟ لو كنتُ أفعل هذا وأنا أتابع المباريات بالمذياع، لكان ذلك شيئًا رائعًا. ثمّ ذَّكَّرَ نفسه قائلًا: فَكِّرْ في عملكَ دائمًا ،فكِّرْ بما تفعل دائمًا، يجب ألّا تقترف فعلًا شائنًا .
    ثمّ قال بصوتٍ مسموع:

  • -«أتمنى لو كان الصَّبيُّ معي، ليساعدني وليشاهد هذا بعينه.»
    وفكَّرَ: «لا أحدَ ينبغي أن يكون بمفرده في شيخوخته ،ولكن لا بُدَّ ممّا ليس منه بُدّ، يجب أن أتذَّكَّر أَنَّ عَليّ أن آكل التونة قبل أن تفسد؛ لأبقى قويا. وقال لنفسه: تذَّكَّرْ مهما كانت شهيتك قليلة، فإنه يجب أن تأكل التّونة في الصَّباح ،
    تذَّكَّرْ.
    وخلال اللَّيل، اقترب اثنان من الدَّلافين من القارب، وكان بوسعه أن يسمعهما وهما يتقلبان وينفخان، وكان بمقدوره أن يميِّز بين صوت الذّكر وصوت الأنثى .
    وقال:

  • «إنهما لطيفان؛ فهما يلعبان، ويمرحان، إنَّهما إخوة لنا ،مثل الأسماك الطّائرة.»
    ثمّ أخذ يشعر بالشَّفقة على السَّمكة العظيمة اّلتي جعلها تعلق بصنارته، وقال في نفسه: إنها سمكةٌ عجيبةٌ غريبة، ومَن يدري ما عمرها؟ لم يحدث أبدًا أنَّني اصطدتُ سمكةً بهذه القوّة، ولا سمكةً تصرَّفتْ بهذه الطَّريقة الغريبة، ولعلها أعْقل من أن تقفز، إنّها تستطيع تدميري بالقفز أو الاندفاع الأهوج ،ولكن، لعلَّها قد علقتْ بالشّصِّ عدَّة مرّات من قبل، وهي تعرف كيف ينبغي لها أن تخوض معركتها، ليس بمقدورها أًن تعرف أنها تجابه رجلًا واحدًا فقط، وأنه رجل طاعن في السِّنّ، ولكن، ما أعظمَها من سمكة، وماذا ستدرُّ عليّ في السّوق إذا كان لحمها جيِّدًا، إنها تناولت الطُّعْم مثل ذَكَرٍ شجاع ذكيٍّ، وهي تجرُّه مثل ذََكَر، وليس من ذُعرٍ في معركتها، أتساءل ما إذا كانت لهذه السَّمكة خطَّة تتّبعها أم أنَّها مجرَّد يائسة مثلي؟
    وتذَّكَّرَ تلك المرّة التي أصاب بصنارته سمكةً من زوجٍ من أسماكِ المَرلين، وكان الذَّكر يدع الأنثى تأكل أوَّلًا دائمًا. وخاضت السَّمكة الأنثى التي علقت بالصنّارة، معركةً يائسةً مذعورةً عنيفةً، سرعان ما أنهكتها، وطَوال الوقت ،بقي الذَّكرُ إلى جانبها، يعبر الخيط، ويدور معها عند سطح الماء، بقي قريبا لدرجة أنَّ الشّيخ خشي أنه سيقطع الخيط بذيله الذي كان حادًا مثل منجلٍ تقريبًا من حيث الشَّكل والحجم. وعندما طعنها الشّيخ بالخطّاف، وضربها بالهراوة ،وهو مُمسِك بأنفها السّيف ذي الحافة الحادّة كورق الزّجاج ،وراح يضربها بالهراوة على قمّة رأسها حتى استحال لونها إلى لون يشبه ظَهر المرايا تقريبا، ثمّ -وبمساعدة الصَّبيّ- رفعها إلى القارب، ظلّ الذَّكر بجانب القارب، وبعد ذلك، وفيما كان الشّيخ يجمع الخيوط، ويجهّز الحربة، قفز الذّكر عاليًا في الهواء بجانب القارب؛ ليرى أين صارت السَّمكة الأنثى ،ثمّ غاص عميقًا في الماء، وكان جناحاه الأرجوانيان -أي زعنفتاه الصَّدريتان- مُنبسطَين باتساع، بحيث بانت خطوطه الأرجوانية العريضة، وتذَّكَّرَ الشّيخ أنه كان جميلًا، وبقي في الماء .
    وقال الشّيخ في نفسه: ذلك أحْزن أَمرٍ وقعَ لي مع الأسماك ،وكان الصَّبيُّ حزينا كذلك، والتمسنا من السَّمكة الأنثى أن تعفو عنّا، وجزرناها في الحال .

  • «أتمنى لو كان الصَّبي هنا». قال ذلك بصوتٍ عالٍ، واستقرَّ على الألواح الخشبية المُستديرة في مُقدَّم القارب، ومن خلال الخيط الذي كان يلفُّه على كتفَيه ،
    أحسَّ بقوّة السَّمكة العظيمة وهي تتحرَّك بثبات في الاتّجاه اّلذي اختارته.
    وفكّرَ الشّيخ: «كان من الضَّروري لها -ذات مرَّة- أن تختار في مقابل أحابيلي.»
    كانت قد اختارت أن تبقى في المياه العميقة بعيدة عن المصايد والكمائن والأحابيل جميعها، أمّا اختياري فكان أن أذهب إلى هناك لأعثر عليها، بعيدًا عن الناس جميعهم في العالَم، والآن نحن مرتبطان معًا، ونحن على هذه الشّاكلة منذ الظُّهر، ولا أحد يساعد أيا مِنا.
    وفكّرَ: «رُبما ما كان ينبغي أن أكون صيّادًا، ولكنَّ ذلك هو الشَّيء الذي وُلِدتُ من أجله، يجب أن أتذَّكَّر بكلِّ تأكيد أن آكلَ التونة بعد أن يطلع النّهار .»
    وقبل أن يطلع ضوء النهار بقليل،أخذ شيءٌ ما أحدَ الطُّعمين اللذين كانا خلفه، وسمع العصا تتكسّر، والخيط يأخذ في الانفلات من فوق حافة المركب، فاستلّ سكّينه من غِمْدها في الظَّلام، وحوّل الثقل الذي تُسببه السَّمكة إلى كتفه اليسرى، ومال إلى الخلف، وقَطعَ الخيط على خشب حافة المَركب، ثمّ قطعَ الخيط الآخر الأقرب إليه، وفي الظَّلام ،ربط نهايتي اللفّتَين الاحتياطيّتَين. لقد عملَ بمهارة بيدٍ واحدةٍ واضعًا قدمه على اللفَّتين ليثبتهما، بينما كان يعقد الخيطَيْن بإحكام، والآن صارت لديه ستّ لفّاتٍ احتياطيّة من الخيط ،كانت هناك لفّتان من كلِّ طُعْمٍ قطعَ خيطه، إضافةَ إلى لفَّتَي الطُّعْم الذي أكلته السَّمكة الكبيرة، وخيوطُ كلِّ هذه اللفّات متصلة.
    وفكّرَ: «بعد أن يعمّ ضوء النهار، سأعود إلى الطُّعم اّلذي على عمق أربعين قامة، وأقطع خيطه كذلك، وأربطه باللّفّات الاحتياطية، وهكذا سأكون قد فقدتُ مائتي قامة من الحبال الجيّدة إضافة إلى الصّنارات ورؤوسها، وذلك يمكن تعويضه ،ولكن مَن يعوِّض هذه السّمكة إذا علق شصٌّ مني بسمكة أخرى، وقطعتها عنّي؟ لا أدري ما نوع السَّمكة التي أكلت الطُّعم قبل قليل، يمكن أن تكون من نوع المارلين، أو سمكة عريضة الأنف، أو من أسماك القرش، لم أشعر بها أبدًا، وكان عليّ أن أتخلَّص منها بأسرع ما يمكن».
    وقال بصوتٍ عالٍ:

  • «أَتمنّى لو كان لديَّ الصَّبيّ».
    وفكّرَ: «ولكنك ليس لديك الصَّبيّ، لديك نفسكَ فقط ،ومن الأفضل الآن أن تعود إلى آخر خيط لديك، في الظَّلام ،أو ليس في الظَّلام، وتقطعه، وتوصل اللفَّتَيْن الاحتياطيتيْن .»
    وهكذا فعل... وكان ذلك عملًا صعبا في الظَّلام، وقامت السَّمكة مرّةً واحدة بحركة مفاجئة جرّته إلى الأسفل، وأوقعته على وجهه، وتسبَّبتْ بجرح تحت عينه، وسال الدَّم على خدِّه قليلًا، ولكنه تخثر، وجفَّ قبل أن يصل إلى حنكه، واتَّخذ طريقه عائدا إلى مُقدَّم القارب، واتكأ على الخشب، وعدَّلَ الكيس، وغيَّرَ موضع الخيط بعناية، بحيث يمرُّ عبر جزءٍ جديد من كتفَيه، وحينما ثبَّتَ الخيط على منكبيه، أخذ يشعر بجرِّ السَّمكة، ثمّ تحسَّس بيده سرعةَ حركة المَركب في الماء.
    وفكّرَ: «أتساءل، لماذا قامت السَّمكة بتلك الحركة المفاجئة، لاُبُدَّ أنَّ السِّلك قد انزلق على انحناءة ظهرها العظيمة ،ومن المؤَّكَّد أنَّ ظهرها لا يؤلمها كما يؤلمني ظهري، ولكنَّها لا تستطيع جَرَّ هذا المَركب إلى الأبد، مهما كانت ضخمة .الآن تخلَّصتُ من كلِّ شيءٍ قد يسبب المتاعب، ولديَّ احتياطيٌّ كبير من الخيط، وهو كلُّ ما يستطيع أن يتمناه المرء.» وبرقّةٍ قال بصوتٍ عالٍ:

  • «أيَّتُها السَّمكة، سأبقى معكِ حتّى الموت.»
    وأضاف قائلًا في نفسه: «وأفترضُ أنها ستبقى معي كذلك .»وراح ينتظر مطلع النّهار، صار الجوُّ باردًا الآن قبيل ضوء النَّهار، فاتكأَ على خشب القارب طلبا للدِّفء، وفكّرَ: إنَّني أستطيع الاستمرار مادامت السَّمكة تستطيع ذلك، وعند انبلاج النّور، انسحبَ الخيط متّجهًا إلى الأسفل في الماء، وتحرَّكَ القارب بثبات، وعندما طلع أوَّل حافةٍ من قرص الشّمس، كان شعاعها على كتف الشّيخ اليمْنى .
    فقال الشّيخ:

  • «إنّها تتَّجه شمالًا».
    وفكّرَ: «إنَّ اّلتيار سيجرفنا بعيدًا في اتِّجاه الشَّرق، أتمنّى أن تُحوِّل السَّمكة وِجْهتها مع اّلتيار، فهذا سيدلُّ على أنَّها مُتعَبة .»
    وعندما ارتفعت الشَّمس أكثر، أدركَ الشّيخ أنَّ السَّمكة لم تكُن مُجهَدة، وليس ثمّة سوى علامة إيجابية واحدة: تلك هي انحراف الخيط اّلذي يدلُّ على أَنَّ السّمكة تسبح على عُمقٍ أقلّ من السّابق، وهذا لا يعني بالضَّرورة أنها ستقفز، ولكنَّها قد تفعل ذلك.
    قال الشّيخ:

  • «دعها -ياربِّ- تقفز، فَلَديّ ما يكفي من الخيط
    لِتَدبُّرها.»
    وفكَّرَ: «لعلني إذا ما استطعتُ أن أزيد الضَّغط عليها قليلًا فقط، فإنّ ذلك سيؤلمها، وستقفز، ومادام الوقت الآن نهارًا ،فلتقفز لكي تملأ الخياشيم على طول عمودها الفقريّ بالهواء ،وحينئذٍ لا تستطيع الغوص إلى الأعماق لتموت هناك.»
    حاولَ أن يزيد الضَّغطَ، ولكنَّ الخيط كان مُتوترًا إلى الغاية القصوى لدرجة الانقطاع، منذ أن علق الشِّصّ بالسَّمكة ،وشعرَ الشّيخ بهذه الصُّعوبة عندما مال بظهره إلى الخلف ليجرَّ الخيط، فأدركَ أنه لا يمكنه أن يشدّه أكثر من ذلك، وفكَّرَ:
    «إنّني يجب ألّا أجذب الخيط بشدّةٍ أبدًا، فكلُّ جذبةٍ مفاجِئةٍ توسِّع الجرح الذي أحدثه الشِّصُّ في فم السَّمكة، وحينذاك ،عندما تقفز السَّمكة فقد ترمي الشِّصّ، وعلى أية حال، فإنَّني أشعر بالتّحسُّن بعد شروق الشَّمس، وهذه المَرَّة لا رغبة لديّ في التَّحديق فيها.»
    كانت هناك طحالبُ صفراءُ قد علقتْ بالخيط، ولكنَّ الشّيخ يدرك أنها فقط تزيد من الحِمل الذي تجرّه السَّمكة ،فَسُرَّ بذلك، إنها طحالب الخليج الصَّفراء التي أحدَثتْ كثيرًا من اللمعان الفوسفوريّ خلال الليل.
    قال الشّيخ:

  • «أيَّتها السَّمكة، إنني أُحبكِ وأحترمكِ كثيرًا جدًّا ،ولكنَّني سأقتلكِ قبل أن ينقضي هذا اليوم.»وقال في نفسه: «لنأمل ذلك.»
    أقبل طيرٌ صغيرٌ في اتجاه المركبِ من جهة الشَّمال، كان من الطُّيور المغرِّدة، ويحلق على مستوًى منخفِضٍ جدًّا فوق الماء ،كان من اليسير على الشّيخ أن يفهم أنّ الطَّيرَ مُتعَبٌ كثيرًا .
    بلغ الطّيرُ مؤخَّر القارب، وحطَّ عليه ليستريح، ثمّ حام حول رأس الشّيخ، واستقرَّ على الخيط حيث ارتاح ارتياحًا أفضل.
    سألَ الشّيخ الطّيرَ:

  • «كم عمرُكَ؟ أهذه هي رِحلتكَ الأولى؟.»
    نظرَ الطَّيرُ إليه عندما تكلم، وكان الطَّيرُ مُتعَبًا جدًّا لدرجة أنه لم يتفحّص الخيط عندما حطَّ عليه وهو يتأرجح وقدماه الرَّقيقتان تتشبَّثان به بشدَّة.
    قال الشّيخ له:

  • «إنه ثابت، وفي غاية الثبات، وينبغي ألّا تكون على تلك الحالة من التَّعب بعد ليلة لا ريح فيها، فما الذي يأتي بالطُّيور؟.»
    وفكّرَ الشّيخ: «إنها الصُّقور اّلتي تخرج إلى البحر لملاقاة هذه الطُّيور»، ولكنه لم يقُل شيئًا من ذلك للطَّير اّلذي لا يستطيع أن يفهمه على أيّة حال، والذي سيتعلم شيئا عن الصُّقور في القريب العاجل.
    قال الشّيخ:

  • «انعمْ براحة جيدة -أيها الطَّير الصَّغير- ثمّ اذهبْ إلى البَرِّ، واغتنمْ فرصتكَ مثل أيِّ إنسانٍ أو طيرٍ أو سمكة.»
    وما شجّعه على الكلام أن ظهره قد تيبَّسَ خلال اللّيل وصار الآن يؤلمه بحقّ.
    قال:

  • «حلَّ ضيفًا في منزلي إذا أحببْتَ، ولكن يؤسفني -أيّها الطَّير- أنني لا أستطيع الآن أن أنشر الشّراع، وآخذكَ إلى البَرِّ مع النسيم الخفيف الذي يهبّ، لا أخفي عليك ذلك، فأنا أتحدّث مع صديق.»
    في تلك اللّحظة بالذّات، قامت السَّمكة بحركةٍ مفاجِئة أسقطت الشّيخ على قاعِ المَركب، وكانت ستجرّه إلى خارج المركب لو لم يتماسَكْ، ويُرْخِ الخيط بعض الشَّيء.
    لقد طار الطَّير حال اهتزاز الخيط، ولكنّ الشّيخ لم يتمكَّن حتّى من رؤيته وهو يرحل، وتحسَّسَ الخيط بيده اليُمْنى في عنايةٍ ، فلاحظ أنّ الدّم يسيل من يده .
    قال الشّيخ بصوتٍ عالٍ:

  • «إذن، لا بُدّ أن شيئًا آلمَ السَّمكة.»
    وسحبَ الخيط إلى الخلف ليرى ما إذا كان باستطاعته أن يقلب السَّمكة، ولكنْ ما إن وصل الخيط إلى نقطة الانقطاع ،حتى توقّفَ الشّيخ عن السَّحب، واستقرَّ في المركب ليواجِه شدّ الخيط.
    وقال:

  • «إنكِ تشعرين بالألم الآن، أيتها السَّمكة، ويعلم اللهُ أنَّني كذلك.»


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

لقد حقق القسم إ...

لقد حقق القسم إنجازات متعددة تعكس دوره المحوري في مواجهة تحديات التغيرات المناخية في القطاع الزراعي....

1. قوة عمليات ا...

1. قوة عمليات الاندماج والاستحواذ المالية في المشهد الديناميكي للأعمال الحديثة، ظهرت عمليات الاندماج...

اﻷول: اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻠﻰ...

اﻷول: اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻠﻰ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﺗﻤﮭﯿﺪﯾﺔ ﻣﻘﺪﻣﮫ ﺳﻨﻀﻊ اﻟﻤﺒﺤﺚ ھﺬا ﻓﻲ ﺳﺘﻜﻮن ﺧﻼﻟﮭﺎ ﻣﻦ واﻟﺘﻲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ذﻟﺒﻌﺾ ھﺎﻌﻠﻮم ﻔﺎت ...

الوصول إلى المح...

الوصول إلى المحتوى والموارد التعليمية: تشكل منصات وسائل التواصل الاجتماعي بوابة للدخول إلى المحتوى ...

ـ أعداد التقاري...

ـ أعداد التقارير الخاصه بالمبيعات و المصاريف والتخفيضات و تسجيل الايرادات و المشتريات لنقاط البيع...

وهي من أهم مستح...

وهي من أهم مستحدثات تقنيات التعليم التي واكبت التعليم الإلكتروني ، والتعليم عن والوسائط المتعدد Mult...

كشفت مصادر أمني...

كشفت مصادر أمنية مطلعة، اليوم الخميس، عن قيام ميليشيا الحوثي الإرهابية بتشديد الإجراءات الأمنية والر...

أولاً، حول إشعي...

أولاً، حول إشعياء ٧:١٤: تقول الآية: > "ها إن العذراء تحبل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء...

يفهم الجبائي ال...

يفهم الجبائي النظم بأنّه: الطريقة العامة للكتابة في جنس من الأجناس الأدبية كالشعر والخطابة مثلاً، فط...

أعلن جماعة الحو...

أعلن جماعة الحوثي في اليمن، اليوم الخميس، عن استهداف مطار بن غوريون في تل أبيب بصاروخ باليستي من نوع...

اهتم عدد كبير م...

اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدا...

وبهذا يمكن القو...

وبهذا يمكن القول في هذه المقدمة إن مصطلح "الخطاب" يعدُّ مصطلحًا ذا جذور عميقة في الدراسات الأدبية، ح...