Lakhasly

ب - العلاقة الإيجابية بين الدين والصحة النفسية
ردا على مواقف المفكرين والعلماء الذين تبنوا موقفا سلبيا من الدين، «تبنت جمعية الطب النفسي الأمريكية APA 15 موقفا مفاده أنه من غير الأخلاقي للأطباء النفسانيين تشخيص حالة شخص بأنها مرض عقلي لمجرد اعتناقه لدين جديد 16. يمثل هذا الموقف بداية التحول في الدراسات النفسية حول المسألة الدينية، حيث بدأ العلماء ينظرون إلى التدين كسلوك ، بل هناك من اعتبره شرطاً من شروط الصحة النفسية أكثـر مـن هـذا هـنـاك مـن عـده مسرعاً لعملية العلاج من الكثير من الأمراض النفسية. كان هذا التحول نتيجة إعادة النظر في مكانة الدين والتدين في المجتمع.
يمثل النصف الثاني من القرن الماضي بداية الصحوات الدينية المختلفة، الأمر الذي أدى إلى عودة الدين بقوة إلى الحياة الاجتماعية، ومن هنا تمت مراجعة نظرة الباحثين للعلاقة بين الدين والصحة النفسية بالإيجاب انطلاقا من هذا الموقف بدأ في البروز اتجاه يؤمن بإمكانية وجود علاقة إيجابية بين التدين والصحة النفسية. يرجع تطور البحوث حول أثر العامل الديني على الصحة النفسية من « ١٩٥٠ حتى غاية ١٩٧٠ إلى الأعمال الرائدة لأخصائي الشيخوخة موبارغ Moberg 17. بالفعل كانت أعمال موبارغ رائدة في هذا المجال حيث إنه قاد العديد من البحوث التي توجت بالعديد من الكتب والمقالات التي سعت إلى إثبات أن قوة التدين تساهم في تقوية الصحة النفسية.
سارت أعمال الكثير من الباحثين في هذا الاتجاه، حيث ينظر كل من يونغ Jung والبورت Alport إلى الدين كمصدر للمعنى والاستقرار، ويؤكدان أن الدين يمكنه أن يكون مصدرا للقلق أو للأمن من القلق، كما يمكنه أن يكون معينا على القبول الاجتماعي من خلال التماثل أو معينا على النمو وتحقيق الذات. يمثل هذا الموقف أول إرهاصات التمرد على مؤسس التحليل النفسي، وأول مرحلة في نقض أطروحة فرويد حول عصابية الدين.
ابتداء من السبعينيات برزت العديد من الدراسات التي سعت إلى إثبات علاقة إيجابية بين التدين والصحة النفسية، ففي سنة ۱۹۸۹ حلل كل من كروفورد Crawford وهاندال Handal وفاينر Weiner العلاقة بين الدين والصحة النفسية والقلق، أشارت النتائج الأولية للبحث أن المتدينين بدرجات عالية كانوا أقل قلقا وأكثر تكيفا نفسيا من ذوي التدين المتوسط أو الضعيف 19 فبرزت في هذا المستوى الدراسات المقارنة بين المتدينين وغير المتدينين في علاقتهما بالتدين، ومن هنا بدأت تبرز النتائج العلمية التي تثبت أن الصحة النفسية يمكن أن تتأثر بحالة التجربة الدينية.

تقييم بحوث علاقة مستوى التدين بالصحة النفسية:
سواء تعلق الأمر بالبحوث التي أثبتت وجود علاقة سلبية أو تلك التي أثبتت وجود علاقة إيجابية، فإن التقييم الأولي لهذه البحوث هو كثرتها وتنوعها بجميع المقاييس، حيث إنهـا
(۱) اهتمت بهذه العلاقة من خلال شبكة متنوعة من الاختصاصات العلمية.
(۲) استعملت ، ، في هذه البحوث مؤشرات متنوعة ومختلفة.
(3) واستعملت فيها مقاييس متنوعة من أجل تقييم تأثير التدين والروحانية على الصحة النفسية
وهذا ما جعل النتائج تختلف بحسب المفاهيم المعتمدة، وبحسب المقاييس المستعملة، وبحسب الحقل المعرفي الذي تمت في إطاره وقد يمثل هذا التنوع، بالرغم من أنه أنتج نتائج مختلفة، وأحيانا متناقضة، نقطة إيجابية في هذه البحوث، ذلك لأنه سمح بمقاربة العلاقة بين التدين والصحة النفسية من عدة جوانب وبعدة أساليب قد لا تكون كلها سليمة، لكنها لیست خاطئة بالكلية.
لا يمكن لهذه النقطة الإيجابية أن تحجب عنا الزوايا السلبية التي تتميز بها هذه البحوث والتي يجب العمل على تداركها إذا ما أردنا تطوير هذه الدراسات بشكل أفضل، فحتى وإن تمكنت الدراسات حول علم النفس الديني من توفير إيضاحات مهمة عن العلاقة بين الدين والارتياح النفسي والجسمي، فإنها تبقى تعاني من أربع نقائص:
أولا: إما أنها غير نظرية أو أنها تفتقر إلى الرؤية النظرية الشاملة، ثانيا : ترتكز الدراسات الحالية بنسبة كبيرة على القليل من العناصر كمؤشرات لظاهرة معقدة كالدين، ثالثا : ركزت الدراسات التي تمت والمقاييس التي أعدت على عينات مسيحية، كما تم توجيه هذه البحوث نحو التقاليد اليهودية - المسيحية، أما التقاليد الدينية الأخرى كالإسلام، فقد تم تجاهلها في معظم الأحيان. نلاحظ من خلال هذه الانتقادات، أن البحوث حول العلاقة بين التدين والصحة النفسية تعاني من بعض النقائص التي تنتظر التدعيم أو التركيز عليها في البحوث المستقبلية.
نستنتج من كل ما سبق أن البحوث العلمية توصلت إلى إثبات فائدة الدين لصحة الإنسان بشكل أو بآخر، وتبقى المشكلة مع التدين في الأسلوب الذي يتعامل به المتدين مع الدين إذ تبدو العلاقة . بين التدين والصحة النفسية سلبية عندما لا يفهم الأفراد الدين أو يسيئون استعماله لصالح عقدهم الانفعالية والسيكولوجية والروحية، وهنا لا يعد الدين في حد ذاته مريضا أو مرضيا بل ممارسته، لأن المبالغة في التدين هي التي تكون مرضية 22، ومن ثم يمكننا القول إن العلاقة الإيجابية ثابتة بين التدين المعتدل والصحة النفسية، وبالعكس تثبت العلاقة السلبية بين التدين المتطرف والصحة النفسية، ومن هنا فالمشكل ليس مع دين من الأديان، لكنه مع شكل من أشكال التدين في هذا الدين أو ذاك.
عن الدين الإسلامي والصحة النفسية
عند الحديث عن علاقة التدين بالصحة النفسية في الإسلام يتبادر إلى الذهن القرآن الكريم ورؤيته لهذه العلاقة، إذ يقرر القرآن الكريم بكل وضوح في الآية ٢٨ من سورة الرعد ارتباط الارتياح النفسي بالعبادة، حيث يقول الله تعالى: (الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب : فالاطمئنان الذي يمكن اعتباره مؤشرا على الصحة النفسية يحدث أو ينتج عن ممارسة فعل التعبد الذي يختصره النص القرآني في ذكر الله، هناك عدد من القيم التي أسسها القرآن والتي ترتبط بالراحة النفسية للفرد، كذكر الله، والتوبة والدعاء، ورضا الله، والتزكية. فماذا عن البحوث الميدانية التي درست التدين الإسلامي في علاقته بالصحة النفسية؟
أنجزت العديد من البحوث في مختلف المناطق الإسلامية أولى هذه الدراسات هي تلك التي قام كل من أزهر Azhar وفارما Varma من معهد الطب النفسي بكليـة العلـوم الطبية بكيلانتان Kelantan بماليزيا، حيث أجريا دراسة كلينيكية على عينات عشوائية القياس أثر العلاج النفسي القصير للانهيار العصبي، باستعمال طرق علاجية مستمدة من الدين الإسلامي، وقارناها بالعلاج النفسي العلماني. العينة كانت مكونة من ٦٤ ماليزيا لهم خلفيات إسلامية قوية كلهم يعانون من اضطراب الكآبة. كل المجموعات كانت تتلقى أسبوعيا علاجا إكلينيكيا علمانيا ونسبة قليلة من الأدوية المضادة للانهيار العصبي، تلقت المجموع التجريبية علاجا إضافيا تمثل في ٤٥ دقيقة كحصة دينية مرة في الأسبوع، تركز على علاج نفسي إسلامي يتكون من قراءة آيات من القرآن العناصر التي تلقت العلاج الإسلامي عرفت تحسنا نفسيا أسرع من المجموعات الأخرى . سعت هذه الدراسة من خلال المقارنة التجريبية بين نوعين من المرضى، وتمكنت من إثبات وجود علاقة بين التدين وسرعة العلاج النفسي، وهذا يعني بناء على هذه الدراسة أن العلاقة بين التدين الإسلامي والصحة النفسية هي علاقة إيجابية.
إضافة إلى هذا البحث هناك كم كبير من الدراسات للصحة النفسية التي تمت في الدول الإسلامية، اعتمدت هذه الدراسات على الملاحظة الإكلينيكية والمناهج الأنثربولوجية في البحث. على سبيل المثال تمت دراسة أنثربولوجية في قرية صغيرة بالمغرب، لاحظ فيها ما كفير Macphere أن قراءة القرآن تمنح النساء المتزوجات طريقة لتسيير أفضل للتجارب الانفعالية المصاحبة لحالات التحول الاجتماعي، انطلاقا من هذه الأبحاث التي تمت على مجتمع مسلم طور كل من كارتر Carter ورشيدي Rachidi نموذجا نظريا للعلاج النفسي يمكنه أن يغطي حاجات النساء المسلمات اللائي يعانين من أمراض عقلية.

يتكون نموذجهما من عناصر علاج غربية وممارسات دينية إسلامية. من جهته تنبه سيد Sayed إلى أنه لا يزال في المجتمع الإسلامي الكثير من الناس من الذين هم بحاجة إلى معالج نفسي تقليدي يعالج المس والعين تبين نتائج هذه البحوث العلاقة الوطيدة بين بعض مظاهر التدين الإسلامي والعلاج النفسي، والتي استفاد منها بعض الباحثين في تطوير طرق علاج إسلامية داعمة للطرق الغربية التي يتأسس عليها علم النفس الحديث.
من جهة أخرى قام كل من كمال ولوفينتال Loewenthal بدراسة تأثير الثقافة الدينية على الأفكار المرتبطة بالانتحار، حيث شكلا عينة غير إكلينيكية من ٤٠ شابا هندوسيا، و ٦٠ مسلما يعيشون في بريطانيا، وباستعمال التحليل الكيفي للمقابلات النصف الموجهة توصلا إلى أن المسلمين يلتزمون بالقيم الخلقية أكثر من الهندوس ومن ثم لاحظا أن نبذ الثقافة الإسلامية للانتحار يتجسد في معتقدات الشباب المسلم تعتبر هذه الدراسة واحدة من الدراسات المقارنة بين دينين مختلفين، رغم ما تقدمه هذه الدراسة من نتائج إيجابية بالنسبة للدين الإسلامي، فإنها تنطوي على مخاطر كثيرة ، فالمقارنة بين الأديان لا يجب أن تنتهي بأحكام قيمية تسعى إلى تفضيل دين على آخر، لأن مثل هذا الأمر قد يدفع بالباحثين إلى المزايدة بعضهم على بعض مما قد يدفعهم إلى التلاعب بإجراءات البحث، بالشكل الذي قد يؤدي إلى التأثير على النتائج.