Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

إن استخدام لفظي ((الوعي) و((اللاوعي)) للدلالة على عاملين متميزين استعمال خاطئ في نظر علم النفس الفردي؛ ذلك بأن الوعي واللاوعي عاملان يسيران معاً في اتجاه واحد وليسا متناقضين كما يظن الكثيرون، بل إنه لا يوجد بينهما حد واضح يفصل أحدهما عن الآخر. فلم يبقَ إذن إلا أن نتبين الغرض الذي يتجهان نحوه معاً. وليس في مقدورنا أن نقول هذا وعي وذاك لاوعي، إلا بعد أن ندرك الصلة بينهما كاملة؛ وهذه الصلة مما يكشف عنه المثال الأول أي أسلوب الحياة الذي حللناه في الفصل السابق.وفي وسعنا أن نوضح الصلة الوثيقة بين الوعي واللاوعي بالحادثة الواقعية الآتية: كان رجل متزوج في الأربعين من عمره يشكو اضطراباً من نوع معين، ولكنه كان يقاوم هذه الرغبة على الدوام؛ وحالته هذه لا يمكن فهمها إلا على أنها نتيجة لاشتراك الوعي واللاوعي معاً. فأما من ناحية الوعي فقد كان الرجل يحس بأنه يجب عليه أن يقفز من نافذة، بل إنه في الواقع لم يحاول قط أن يقفز من نافذة، وسبب ذلك وجود ناحية أخرى من حياته، ناحية يقوم فيها الكفاح ضد الرغبة في الانتحار بدور خطير. وكانت نتيجة تعاون الجانب اللاواعي من حياته مع الجانب الواعي منها أن خرج الرجل من الكفاح منتصراً، ومعنى هذا أنه في ((أسلوب حياته)) - إذا تعجلنا فاستعملنا هذا اللفظ الذي سنذكر عنه الشيء الكثير فيما بعد- قد انتصر ونال هدف التفوق. وقد يسأل القارئ كيف يشعر هذا الرجل بالتفوق وفيه هذا الميل الواعي إلى الانتحار؟ والجواب أنه كان في حياة الرجل شيء يكافح الميل إلى الانتحار، وكان انتصاره في هذا الكفاح هو الذي أناله الظفر وجعله إنساناً ناجحاً متفوقاً. فإذا نظرت إلى الأمر من الناحية الموضوعية وجدت أن ضعف هذا الرجل هو الذي هيأ له سبيل الكفاح من أجل التفوق، وتلك في كثير من الأحيان حال الأشخاص الذين يحسون بنقص في ناحية من النواحي. ولكن المهم في حالة هذا الرجل أن كفاحه الخاص وسعيه للتفوق، قد غلبا على شعوره بالنقص ورغبته في الموت، وهذا على الرغم من أن الشعور بالنقص والرغبة في الموت كانا يظهران في حياته الواعية، في حين أن كفاحه من أجل التفوق كان يحدث في حياته اللاواعية.ولننظر الآن هل يؤيد نمو المثال الأول لهذا الرجل هذه النظرية. ولنبدأ بتحليل ذكريات طفولته. لقد علمنا أنه قد لقي في حياته الأولى متاعب في المدرسة، فلم يكن يحب غيره من الأولاد، ولكنه مع ذلك استجمع قواه كلها للبقاء معهم ومواجهتهم، أي أنه في هذا الوقت المبكر كان يبذل الجهود للتغلب على ضعفه، فقد واجه مشكلته وتغلب عليها.وإذا نحن حللنا أخلاق هذا المريض تبين لنا أن تغلبه على خوفه وقلقه كان هدفه الوحيد في حياته، وكانت أفكاره الواعية وأفكاره اللاواعية تتعاون كلها وتعمل متحدة للوصول إلى هذه الغاية. ولقد يعتقد من لا يدرك أن الإنسان وحدة متصلة الأجزاء أن هذا المريض لم يكن متفوقاً ولم يكن منتصراً، وقد لا يرى فيه إلا أنه إنسان طموح كل ما يرغب فيه هو أن يحارب ويكافح ولكنه في حقيقة أمره جبان؛ وذلك رأي خاطئ لأن القائل به لا يلم بكل ما بتصل بالأمر من حقائق، ولا يفسرها بالرجوع إلى وحدة الحياة البشرية. وفهمنا للأفراد أو محاولة فهمهم، ليصبحان شيئاً تافها عديم النفع إذا لم ندرك أن الكائن الحي وحدة لا تتجزاً؛ وإذا نحن افترضنا في هذا الكائن وجود ناحيتين لا علاقة بين إحداهما والأخرى استحال علينا أن نرى للحياة وجوداً كاملاً موحداً.يجب علينا إذن أن نعد حياة الفرد وحدة متصلة، ويجب علينا فوق ذلك أن نلم بها مرتبطة بما حولها من صلات اجتماعية. وهذا الضعف يحتم على غيرهم أن يعنوا بهم. وعلى هذا فإن أسلوب حياة الطفل أو نمطها لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الأشخاص الذين كانوا يعنون به، وللطفل علاقات متبادلة مع أمه وأسرته، وهذه العلاقات لا يمكن إدراكها إذا قصرنا بحثنا على الطفل من حيث هو جسم مادي في فراغ؛ والحقيقة أن شخصية الطفل تعترض فرديته الجسمية، ويدخل فيها كل ما يحيط به من صلات اجتماعية.ويصدق على الناس كافة إلى حدٍّ ما ما يصدق على الطفل الصغير، فضعف الطفل الذي يضطره إلى أن يعيش في أسرة يقابله ذلك الضعف الذي بضطر الناس إلى أن يعيشوا في مجتمع؛ ذلك أن الناس كلهم يشعرون بالعجز في بعض الظروف، ويحسون بأن صعاب الحياة تطغى عليهم، ولذلك كان من أقوى ميول الإنسان أن يُكوِّن مع بني جنسه جماعات لكي يعيش عضواً في مجتمع لا فرداً منفصلاً عن غيره. وما من شك في أن هذه الحياة الاجتماعية قد أعانته كثيراً على التغلب على ما يشعر به في نفسه من ضعف ونقص. فالأنواع الضعيفة منها نعيش دائماً في جماعات حتى تستطيع بقواها المجتمعة أن تواجه حاجاتها الفردية. مثال ذلك آن في وسع قطيع من الجاموس أن يحمي نفسه من الذئاب جتمعاً، فالواحدة من هذا القطيع تعجز بمفردها عن الدفاع عن نفسها، لكنها إذا اجتمعت كلها تلاصقت برؤوسها وقاتلت بأرجلها حتى تنجو كلها من عدوها. وتستطيع الغيلان والأسود والنمورة أن تعيش منفردة، لأن الطبيعة قد وهبتها وسائل الدفاع عن نفسها. أما الإنسان فلم يُعطَ ما أُعطيت من قوة وبطش، ولهذا فإن بني الإنسان لا يستطيعون أن يعيشوا فرادى، ومن ثم نرى أن ضعف الفرد هو منشأ الحياة الاجتماعية.ولهذا السبب نفسه لا تتساوى كفايات الناس جميعاً ومواهبهم في المجتمع. ولكن المجتمع الذي أُحسن تنظيمه لن يتوانى عن تنمية قوى الأفراد الذين يتألف منهم. وتلك من الحقائق الهامة التي يجب ألا نغفل عنها حتى لا نظن أن الأفراد يجب أن يُحكَم عليهم حسب قواهم الموروثة دون غيرها.والحقيقة أن الفرد الذي يبدو ضعيفا في بعض مواهبه إذا عاش في عزلة يستطيع أن يعوض هذا النقص إذا عاش في مجتمع حسن التنظيم.وإذا فرضنا أن نقائصنا الفردية موروثة كان من أغراض علم النفس أن يُعوِّد الناس أن يعيشوا مع غيرهم على أحسن حال ليستعينوا بذلك على تخفيف آثار نقصهم الطبيعي. وإن تاريخ الرقي الاجتماعي ليقص علينا كيف يتعاون الناس ليتغلبوا على ما فيهم من ضعف ونقص، فما من أحد يجهل مثلاً أن اللغة من اختراع المجتمع، ولكن قلة من الناس من يدرك أن النقص الفردي هو سبب هذا الاختراع. وتظهر هذه الحقيقة في سلوك الأطفال الأول، فهم إذا لم تشبع رغباتهم حاولوا أن يلفتوا الأنظار إليهم بلغة من نوع ما، أما إذا لم يكن الطفل في حاجة إلى أن يلفت نظر غيره إليه، فإنه لا يحاول الكلام قط، وهذه حال الطفل في الشهور الأولى من حياته حين تجيبه الأم إلى كل ما يحتاجه قبل أن يتكلم. ولدينا أمثلة لأطفال لم يتكلموا حتى بلغوا السنة السادسة من عمرهم لأنهم لم يجدوا قط حاجة إلى الكلام قبل هذه السن. ولدينا شاهد آخر على هذه الحقيقة وهو حال طفل لأبوين أبكمين أصمين. فقد سقط هذا الطفل وجُرِح وصرخ، فقد عرف أن الصوت لا يفيده لأن أبويه لا يستطيعان سماعه. ولهذا مَثّل مظهر الصياح ليلفت إليه أنظار أبويه،من أجل هذا كان الواجب علينا دائما أن نلم بجميع الظروف المحيطة بالحقائق الاجتماعية التي ندرسها، يجب أن ندرس البيئة الاجتماعية لكي ندرك
هدف التفوق) الخاص الذي اختاره الطفل لنفسه، ويجب أن ننظر كذلك إلى الظروف الاجتماعية لندرك ما فيها من عدم توافق، فكثير من الناس لا توافق ينهم وبين بيئتهم، لأنهم يجدون أن من المستحيل عليهم أن يتصلوا اتصالاً عادياً عن طريق اللغة بغيرهم من الناس. ومن أمثلة هؤلاء الشخص الذي بتمتم في كلامه، فإذا بحثت عن أمره تبين لك أن هذا الشخص لم يكن بينه وبين المجتمع توافق قط، فلم يكن مثلاً راغباً في أن يشترك في نواحي نشاطه المختلفة، ولم يكن راغباً في أن يختار له أصدقاء أو رفقاء. لقد كان نمو لغته في حاجة إلى أن يأتلف هو مع غيره، ولكنه لم يكن راغباً في هذا الائتلاف، والواقع أن لدى المصابين بالتمتمة ميلين، أحدهما يدعوهم إلى الائتلاف مع غيرهم، وثانيهما يدعوهم إلى أن يطلبوا العزلة لأنفسهم.وبعض الراشدين من الرجال الذين يحيون حياة اجتماعية يعجزون عن أن يخطبوا في الجمهور ويرهبون مواقف الخطابة، والسبب في هذا أن أولئك الناس يعدون مستمعيهم أعداء لهم، ويشعرون بأن فيهم هم أنفسهم نقصاً حين يواجهون مستمعين يظنونهم أعداء لهم متفوقين عليهم. والحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يحسن الكلام إلا إذا كان واثقاً من نفسه ومن مستمعيه، وفي هذه الحالة دون غيرها لا يخشى الوقوف على منصة الخطابة.وهكذا نرى أن الشعور بالنقص ذو صلة وثيقة بالتربية الاجتماعية، فكما أن الشعور بالنقص ينشأ من عدم التوافق الاجتماعي بين الإنسان ووسطه، كذلك تكون التربية الاجتماعية هي الوسيلة التي يستطيع بها أن يتغلب على ما يشعر به من نقص.وثمة اتصال مباشر بين التربية الاجتماعية والإدراك الفطري العام.فإذا قلنا إن الناس يحلّون مشاكلهم بإدراكهم الفطري العام، فإن الذي نفكر فيه في هذه الحالة هو أنهم يحلونها بما تجمّع فيهم من ذكاء الهيئة الاجتماعية. أما الذين يعملون بلغة خاصة لهم وفهم خاص بهم، فإنهم كما قلنا في الفصل السابق يبدو عليهم مظهر الشذوذ. والمعتوهون ومرضى النفوس والمجرمون كلهم من هذا القبيل، يجدون أشياء معينة لا تلذلهم، فالناس والنظم والمعايير الاجتماعية لا تعنيهم، وخلق هذه اللذة فيهم هو السبيل التي يمكن سلوكها لإنقاذهم من ورطتهم.والواجب علينا حين نعمل مع أمثال هؤلاء الناس أن نجعل الحقائق الاجتماعية تسترعي أنظارهم. ويظن الأشخاص العصبيون دائماً أن كل ما يجب عليهم هو أن يُظهروا حُسْن نيتهم واستعدادهم للعمل، ولا يدركون أن الذي يُطلَب إليهم شيء أكثر من حُسْن النية، ولذلك يجب أن نعلمهم أن الذي يهم لجتمع هو ما يعملونه،ولما كان الشعور بالنقص والسعي للتفوق عامّين في كل الناس، فإن من الخطأ أن نعد وجودهما في الناس كلهم دليلاً على أنهم جميعاً متساوون. فالنقص والتفوق هما الحالتان العامتان اللتان تسيطران على كل سلوك الناس، ولكن يوجد غيرهما فروق في قوة الجسم وصحة البدن وفي الوسط الذي يعيشون فيه، ومن أجل هذه الفروق تختلف الأغلاط التي يرتكبها الأفراد في الظروف المماثلة. فإذا بحثت حال الأطفال رأيت أنه لا توجد طريقة صحيحة صحة مطلقة، فهم يستجيبون بها بطرقهم الفردية الخاصة، وهم يسعون إلى أسلوب من الحياة خير من الأسلوب الذي هم فيه، ويقعون في أغلاطهم الخاصة بهم، ويحددون أساليبهم الخاصة التي يرون أنها تقربهم من النجاح.ويجدر بنا أن نحلل بعض خواص الأطفال والفروق التي بينهم. ولنبدأ أولاً بالأطفال العسر. لأنهم قد دُرِّبوا بعناية على أن يستخدموا أيديهم اليمنى. وهؤلاء في أول أمرهم لا يحسنون استعمال أيديهم اليمنى، والواجب أن تعالج هذه الحالة بأن تمرّن كلتا اليدين.ويمكن أن تعرف الطفل الأعسر في مهده، لأن يده اليسرى تتحرك أكثر من يده اليمنى، وقد يشعر هذا الطفل في الحياة المستقبلية أن عليه عبئاً يثقله لعدم إتقانه استخدام يده اليمنى. فيتولد لديه اهتمام كبير بيد اليمنى وذراعه اليمنى، وقد يبدو هذا الاهتمام مثلا في عنايته بالرسم والخط وما إلى ذلك. وليس من حقنا أن نعجب إذا رأينا طفلاً من أولئك الأطفال في حياته المستقبلية يفوق الطفل العادي في مرانه، ذلك أن هذا الطفل قد اضطر إلى الاهتمام بأمر نفسه، أو أنه قد (استيقظ مبكراً)) إذا جاز هذا التعبير، فأدى ما به من نقص إلى زيادة العناية بتدريب نفسه، وكثيراً ما يكون هذا ميزة كبرى في تنمية الموهبة الفنية والقدرة الفنية. والطفل الذي يجد نفسه في هذه الظروف يكون في العادة طموحاً يكافح للتغلب على ما يعترضه من صعاب. على أن الطفل قد يتولد فيه الحسد لغيره من الناس والغيرة منهم إذا كان هذا الكفاح حاداً شديداً؛ ولذلك ينشأ فيه شعور قوي بالنقص يكون التغلب عليه أصعب منه في الأحوال العادية. المستمر طفلاً أو رجلاً مقاتلاً دائم الكفاح، ثبت في فكره أنه يجب أن لا يكون سمجاً ناقصاً، ويكون عبء الحياة على هذا الفرد أثقل منه على غيره.ويعمل الأطفال ويخطئون ويتطورون بطرق تختلف باختلاف المُثُل الأولى التي كونوها لأنفسهم في السنين الأربع أو الخمس الأولى من حياتهم.ويختلف هدف كل منهم عن هدف غيره، فمنهم من يريد أن يكون نقاشاً، ومنهم من يريد أن يخرج من هذا العالم الذي لا يصلح له؛ وقد نعرف نحن كيف يستطيع هذا الطفل أو ذاك أن يتغلب على نقائصه، ويحدث في أغلب الأحيان ألا تُفسر له الحقائق التفسير الصحيح.وكثير من الأطفال لهم عيون وآذان ورئات وبطون غير سليمة، ولذلك نرى اهتمامهم أكثر ما يكون في الناحية التي هم فيها ناقصون. ومن الأمثلة الغريبة هذه الحالات أن رجلاً كان لا يصاب بنوبات من الربو إلا حين يعود من مقر عمله في المساء ، وكان متزوجاً ويشغل منصباً حسناً. وسئل لمَ تصيبه النوبات على الدوام بعد أن يعود إلى منزله؟ فقال ((إن زوجتي مادية محضة، فإذا عدت إلى منزلي كان كل رغبتي أن أظل هادئاً،أما زوجتي فتريد أن تغشى المجتمعات، ولهذا تراها دائمة الشكوى من بقائها في المنزل، فأتضايق وتعتريني نوبات الاختناق) ولكن لِمَ يختنق هذا الرجل ولِمَ لا يتقيأ مثلاً؟ الواقع أنه كان وفياَ لمثاله الأول، إذ يلوح أنه وهو طفل كانت تلف أربطة حوله، وقد أثرت هذه الأربطة القوية في مجاريه التنفسية، وكانت له خادمة تحبه فكانت تجلس إلى جانبه وتسليه وتحصر كل عنايتها فيه لا في نفسها هي. ومن أجل هذا انطبع في ذهنه أنه يحق له على الدوام أن يُسَلّى ويُسَر فلما بلغ الرابعة من عمره تزوجت الخادمة وفارقته، وذهب هو معها إلى المحطة وهو يبكي بكاءً مراً، ولما فارقته قال لأمه ((لم يبقَ لي في العالم ما أهتم به بعد أن فارقتني خادمتي). يتطلع إلى وجود شخص مثالي يسره دائماً ويسليه ويوجه إليه كل عنايته. فلم يكن سبب متابعه إذن قلة الهواء، بل كان سببها أنه لم يكن يُسَر ويُسلَّى في جميع الأوقات، وليس من السهل بطبيعة الحال أن يجد الشخص الذي يسره ويسليه على الدوام. وكان هذا الرجل فوق ذلك يرغب أن يسيطر دائما على ما حوله، ولما نجح في ذلك عاد عليه هذا النجاح ببعض الفائدة، وذلك أنه لما كان يختنق كانت زوجته تمتنع عن الذهاب إلى دور التمثيل وغشيان المجتمعات، ونجح بذلك في الوصول إلى ((هدف التفوق».وكان سلوك هذا الرجل من حيث وعيه سليما على الدوام لا غبار عليه مطلقاً، ولكنه كان في قرارة نفسه راغباً في أن يكون هو الغالب المسيطر. لقد كان يريد أن يجعل زوجته مثالية غير مادية على حد تعبيره، ولكن الحقيقة أنه كانت تحركه بواعث خفية تختلف عن البواعث الظاهرة السطحية.وكثيراً ما نرى الأطفال ذوي العيون الضعيفة يوجهون جلّ اهتمامهم إلى المرئيات، فالشاعر العظيم جستاف فريتاج Gustav Freitag كانت له عينان ضعيفتان مصابتان بعدم القدرة على تسديد البصر (الاستجماتزم) ولكنه جاء بالشيء الكثير. وكثيراً ما يصاب الشعراء والمصورون بأمراض في عيونهم، ولكن هذه الأمراض نفسها كثيراً ما تزيد من اهتمامهم بعملهم، وفي ذلك يقول فريتاج عن نفسه: ((لقد كانت عيناي تختلفان عن أعين غيري من الناس، ولذلك يخيل إليّ أنني اضطررت إلى استخدام خيالي وإلى تدريبه؛ ولست أعرف أن هذا قد جعلني كاتبا عظيماً، ولكن الذي أعرفه أن ضعف بصري قد جعلني أرى في الخيال خيراً مما يراه غيري في الحقيقة)).وإذا نحن درسنا شخصيات العباقرة تبين لنا في أغلب الأحيان أنهم مصابون بعاهة في أبصارهم، أو بنقص آخر في حواسهم. وكانت آلهة الأساطير نفسها في جميع عصور التاريخ تُمثّل مصابة بعاهة من العاهات كالعور أو العمى مثلاً. وإن وجود عباقرة لا يكادون يبصرون لكنهم مع ذلك يستطيعون أن يدركوا أكثر من غيرهم ما بين الخطوط والظلال والألوان من فروق، ليدل على ما نستطيع أن نعمله للأطفال المصابين بهذه العاهة إذا نحن درسنا مشاكلهم وفهمناها على الوجه الصحيح.ومن الناس من يهتمون أكثر من غيرهم بما يأكلون، ولهذا نراهم على الدوام يتحدثون عما يستطيعون أن يأكلوه وما لا يستطيعون، والغالب أن هؤلاء قد لاقوا متاعب خاصة بالطعام في مستهل حياتهم، فتولد فيهم هذا الاهتمام به أكثر من غيرهم. وأكبر الظن أن أمهاتهم كن كثيرات العناية بهم، وكن يحدثنهم عما يلائمهم من المأكولات وما لا يلائمهم. ويحتاج هؤلاء إلى أن يمرنوا على أن يتغلبوا على ضعف معدتهم، وهم لذلك في حاجة شديدة إلى العناية بما يطعمونه في الصباح والظهر والمساء. وقد يؤدي تفكيرهم الدائم في الطعام إلى أن يصبحوا مهرة في الطهي أو في غيره من الشؤون المتعلقة بالطعام.وقد يحدث أحياناً أن يكون ضعف المعدة أو الأمعاء حافزاً للمصابين بهذا الضعف على أن يبحثوا عن شيء غير الطعام يوجهون إليه عنايتهم. ومن ثم يصبح هؤلاء الناس بخلاء مقترين، أو من أصحاب المصارف وأرباب الأموال. وكثيراً ما يبذل هؤلاء أقصى جهودهم في جمع المال، ويدربون أنفسهم ليلاً ونهاراً على الوسائل التي توصلهم إلى جمعه، ولا ينقطعون قط عن التفكير في عملهم هذا. وقد يكسبهم هذا التفكير ميزة كبرى على غيرهم ممن يعملون في مثل مهنتهم، ومن الطريف أن نلاحظ هنا أننا كثيراً ما نسمع عن الأغنياء الموسرين الممعودين.وجدير بنا في هذا المقام أن نستعيد ما يذكره الناس عادة من الصلة بين الجسم والعقل، فنقول إنه ليس من المحتم دائماً أن يؤدي كل نقص معين إلى نتيجة معينة، وليس من الضروري أن تكون الصلة بين عيب جسمي وأسلوب خاطئ من الحياة هي صلة العلة بالمعلول. وفي وسعنا أن نعالج النقص الجسمي علاجاً ناجعاً بالتغذية الصالحة، وننقذ المريض بذلك من متاعبه الجسمية بعض الإنقاذ؛ ولكن النقص الجسمي ليس هو سبب النتيجة السيئة التي وصل إليها المريض، بل إن سبب هذه النتيجة هو موقف المريض نفسه من هذه العلة. ومن أجل هذا فإن العيوب الجسمية المحضة، أمور لا وجود لها عند العالم بعلم النفس الفردي، وإنما الذي له وجود لديه هو الموقف الخاطئ الذي يقفه المريض من هذه الأمور. وهذا أيضاً هو السبب في أن العالم بعلم النفس الفردي يعمل لأن يخلق في الشخص الرغبة في مقاومة الشعور بالنقص وقت تكوين مثاله الأول.ونرى في بعض الأحيان شخصاً ملولاً عاجزاً عن أن يصبر حتى يتغلب على الصعاب، أو نرى أشخاصاً دائبي الحركة مهتاجين ثائرين، أولئك قوم يستدل من حالتهم هذه على أنهم يتملكهم شعور قوي بالنقص. ذلك أن من بعلم أنه قادر على قهر الصعاب لا يكون ملولاً، وإن لم يكن في وسعه على الدوام أن ينجز ما لا بد له من إنجازه. وإذا رأيت أطفالاً متغطر سين وقحين مشاكسين دلّت هذه الصفات على أنهم أيضاً يتملكهم شعور بالنقص قوي، وعلينا في هذه الحالة أن نبحث عن أسباب هذا الشعور، حتى نصف لهم طريقة التغلب عليها، ولا يحق لنا مطلقاً أن ننتقد الأخطاء التي نشأت من أسلوب الحياة الذي كان يحياه المثال الأول،وفي وسعنا أن نتعرف بين الأطفال على صفات المثال الأول بما نشاهده من سلوكهم الخاص به، ومن سعيهم للتفوق على غيرهم، ومما يضعونه من خطط وما يقومون به من عمل لبلوغ هدف التفوق. ومن الأطفال من يثق بنفسه في حركاته وتعبيره، ويحب أن يبتعد عن غيره قدر استطاعته، ويفضل ألا يذهب إلى حيث يواجه مواقف جديدة، وأن يقيم في الدائرة الصغيرة التي يشعر بتمكنه من نفسه فيها. وهو يرجو على الدوام أن يفعل الشيء الكثير في دائرته الصغيرة، لكي يصل من وراء ذلك إلى هدف من أهداف التفوق. وهذه صفة نجدها في الكثيرين من الناس، فتراهم جميعاً ينسون أن المرء لا يستطيع أن يصل إلى النتائج إلا إذا كان مستعداً لكل الاحتمالات ولمواجهة كل الصعاب. فإنه لن يكون له ما يعتمد عليه إلا ذكاءه الخاص به، ذلك بأن الإنسان في حاجة إلى جميع الصلات الاجتماعية، وإلى الإدراك الفطري العام ليبعثا فيه القوة والنشاط.نعم إن الفيلسوف الذي يريد أن ينجز عمله لا يستطيع أن يذهب في كل يوم للغداء أو العشاء في صحبة الناس، لأنه في حاجة إلى الانفراد بنفسه فترات طويلة من الوقت يستجمع فيها شوارد أفكاره، ويختار فيها الطريقة المثلى لأداء عمله؛ ولكن هذا الفيلسوف عينه لا يعظم شأنه فيما بعد إلا إذا اتصل بالمجتمع، ومن أجل هذا فإنا إذا التقينا شخص من هذا النوع وجب علينا أن نذكر هاتين الحاجتين، حاجته إلى الانفراد بنفسه، وحاجته إلى الاتصال بغيره؛ وعلينا أن نذكر أيضاً أن في مقدوره أن يكون نافعاً أو غير نافع، وأن علينا لهذا السبب أن نعني بمعرفة الفرق بين النافع وغير النافع من السلوك.ومفتاح المسألة الاجتماعية كلها هو أن الناس يسعون على الدوام لأن يضعوا أنفسهم في وضع يبرزون فيه. ومن أجل هذا نرى الأطفال الذين يشعرون شعوراً قوياً بالنقص يريدون أن يبتعدوا عمن هم أقوى منهم من لأطفال، ومن يستطيعون هم أن يخضعوهم نسلطانهم ويسيطروا عليهم، وذلك مظهر مَرَضي شاذ من مظاهر الشعور بالنقص. ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن الشعور بالنقص في حد ذاته ليس هو الأمر المهم،وقد أطلق على الشعور الشاذ بالنقص اسم ((عقدة النقص)، ولكن لفظ «عقدة)) ليس هو التعبير الصحيح عن هذا الشعور الذي يسري في شخصية المرء بأكملها، فهو شيء أكثر من عقدة، ويكاد يكون مرضاً يفتك بالناس فتكاً يختلف باختلاف الظروف. وقد لا نلاحظ أحياناً شعور المرء بالنقص إذا كان بشتغل في عمله، لأنه يشعر بأنه واثق من نفسه فيه، ولكننا نستطيع أن نتبين هذا الشعور إذا رأيناه غير واثق من نفسه في المجتمعات، أو في علاقته بالجنس الثاني رجلاً كان أو امرأة.ونرى الأخطاء شديدة واضحة في الظروف الصعبة أو التي تؤدي إلى توتر الأعصاب؛ وسبب ذلك أن المثال الأول للشخص يظهر على حقيقته في هذه الأحوال الصعبة أو الجديدة، والأحوال الصعبة تكاد تكون على الدوام هي بعينها الأحوال الجديدة؛ ومن أجل هذا قلنا في الفصل الأول من الكتاب إن درجة الاهتمام الاجتماعي تتضح في الأحوال الاجتماعية الجديدة.وإذا أرسلنا الطفل إلى المدرسة كان في وسعنا أن نشاهد فيها عنايته لاجتماعية كما نشاهدها في الحياة الاجتماعية العامة. ففي وسعنا أن نرى مثلاً هل يختلط بزملائه أو يتجنبهم؟ فإذا رأينا أطفالاً ذوي نشاط شديد غير عادي، كان علينا أن نفحص عن حالتهم العقلية لنرى منشأ هذه الصفات فيهم. وإذا رآينا بعضهم مترددين لا يعملون إلا على قدر، كان علينا أن نتوقع ظهور هذه الخصائص نفسها في حياتهم المستقبلية في المجتمع،ويقابل المرء على الدوام أشخاصاً يقول له الواحد منهم ((سأفعل هذا الشيء بهذه الطريقة))؛ وكل هذه الأقوال شواهد على وجود شعور قوي بالنقص في قائلها. والواقع أننا إذا نظرنا إليهم من هذه الناحية ألقت هذه النظرة ضوءاً جديداً على بعض انفعالاتهم به كالشك مثلاً. والشخص الشاك يبقى في الغالب شاكاً على الدوام ولا يتم عملاً قط، أما الشخص الذي يقول ((لا أريد))
فأكبر الظن أنه سوف يعمل ما يدل عليه قوله هذا.وفي وسع العالم النفساني إذا عنى بالبحث أن يجد المتناقضات في الفرد الواحد من الناس. وقد تعد هذه المتناقضات شاهداً على الشعور بالنقص، ولكن علينا قبل أن نحكم هذا الحكم أن نلاحظ أيضاً حركات الشخص الذي فحص عن مشكلته، فقد تكون طريقة اقترابه من الناس ومقابلتهم غير ستحبة؛ وعلينا أيضاً أن نلاحظ هل يسير هذا الشخص نحو الناس بخطى غير ثابتة وهيئة مترددة؟ فإذا رأيناه كذلك فلا بد أن نرى هذا التردد نفسه يبدو غالباً في مواقف أخرى في الحياة. وإذا رأيت رجلاً يخطو خطوة إلى الأمام وخطوة أخرى إلى الوراء فاعلم أن هذا دليل على شعور قوي بالنقص.وينحصر واجبنا في هذه الأحوال في أن ندرب هؤلاء الأشخاص على الخروج من ترددهم. وخير ما نعالجهم به أن نشجعهم لا أن نثبط من عزيمتهم؛ وعلينا أن نُفهمهم أنهم قادرون على مواجهة الصعاب وحل مشاكل الحياة، وبغير هذه الطريقة لا يستطاع بث روح الثقة بالنفس فيهم، وليس ثمة طريقة غير هذه لعلاج ما ينتابهم من شعور بالنقص.


Original text

إن استخدام لفظي ((الوعي) و((اللاوعي)) للدلالة على عاملين متميزين استعمال خاطئ في نظر علم النفس الفردي؛ ذلك بأن الوعي واللاوعي عاملان يسيران معاً في اتجاه واحد وليسا متناقضين كما يظن الكثيرون، بل إنه لا يوجد بينهما حد واضح يفصل أحدهما عن الآخر. فلم يبقَ إذن إلا أن نتبين الغرض الذي يتجهان نحوه معاً. وليس في مقدورنا أن نقول هذا وعي وذاك لاوعي، إلا بعد أن ندرك الصلة بينهما كاملة؛ وهذه الصلة مما يكشف عنه المثال الأول أي أسلوب الحياة الذي حللناه في الفصل السابق.
وفي وسعنا أن نوضح الصلة الوثيقة بين الوعي واللاوعي بالحادثة الواقعية الآتية: كان رجل متزوج في الأربعين من عمره يشكو اضطراباً من نوع معين، هو رغبته في أن يقفز من النافذة، ولكنه كان يقاوم هذه الرغبة على الدوام؛ وكان فيما عدا هذا سليماً في كل شيء، فقد كان له أصدقاء، وكان في لنصب حسن، وكان يعيش سعيداً مع زوجته. وحالته هذه لا يمكن فهمها إلا على أنها نتيجة لاشتراك الوعي واللاوعي معاً. فأما من ناحية الوعي فقد كان الرجل يحس بأنه يجب عليه أن يقفز من نافذة، ولكنه مع ذلك ظل يعيش، بل إنه في الواقع لم يحاول قط أن يقفز من نافذة، وسبب ذلك وجود ناحية أخرى من حياته، ناحية يقوم فيها الكفاح ضد الرغبة في الانتحار بدور خطير. وكانت نتيجة تعاون الجانب اللاواعي من حياته مع الجانب الواعي منها أن خرج الرجل من الكفاح منتصراً، ومعنى هذا أنه في ((أسلوب حياته)) - إذا تعجلنا فاستعملنا هذا اللفظ الذي سنذكر عنه الشيء الكثير فيما بعد- قد انتصر ونال هدف التفوق. وقد يسأل القارئ كيف يشعر هذا الرجل بالتفوق وفيه هذا الميل الواعي إلى الانتحار؟ والجواب أنه كان في حياة الرجل شيء يكافح الميل إلى الانتحار، وكان انتصاره في هذا الكفاح هو الذي أناله الظفر وجعله إنساناً ناجحاً متفوقاً. فإذا نظرت إلى الأمر من الناحية الموضوعية وجدت أن ضعف هذا الرجل هو الذي هيأ له سبيل الكفاح من أجل التفوق، وتلك في كثير من الأحيان حال الأشخاص الذين يحسون بنقص في ناحية من النواحي. ولكن المهم في حالة هذا الرجل أن كفاحه الخاص وسعيه للتفوق، أي للحياة وللظفر، قد غلبا على شعوره بالنقص ورغبته في الموت، وهذا على الرغم من أن الشعور بالنقص والرغبة في الموت كانا يظهران في حياته الواعية، في حين أن كفاحه من أجل التفوق كان يحدث في حياته اللاواعية.
ولننظر الآن هل يؤيد نمو المثال الأول لهذا الرجل هذه النظرية. ولنبدأ بتحليل ذكريات طفولته. لقد علمنا أنه قد لقي في حياته الأولى متاعب في المدرسة، فلم يكن يحب غيره من الأولاد، وكان يرغب في الابتعاد عنهم، ولكنه مع ذلك استجمع قواه كلها للبقاء معهم ومواجهتهم، أي أنه في هذا الوقت المبكر كان يبذل الجهود للتغلب على ضعفه، فقد واجه مشكلته وتغلب عليها.
وإذا نحن حللنا أخلاق هذا المريض تبين لنا أن تغلبه على خوفه وقلقه كان هدفه الوحيد في حياته، وكانت أفكاره الواعية وأفكاره اللاواعية تتعاون كلها وتعمل متحدة للوصول إلى هذه الغاية. ولقد يعتقد من لا يدرك أن الإنسان وحدة متصلة الأجزاء أن هذا المريض لم يكن متفوقاً ولم يكن منتصراً، وقد لا يرى فيه إلا أنه إنسان طموح كل ما يرغب فيه هو أن يحارب ويكافح ولكنه في حقيقة أمره جبان؛ وذلك رأي خاطئ لأن القائل به لا يلم بكل ما بتصل بالأمر من حقائق، ولا يفسرها بالرجوع إلى وحدة الحياة البشرية. وإن علم النفس كله، وفهمنا للأفراد أو محاولة فهمهم، ليصبحان شيئاً تافها عديم النفع إذا لم ندرك أن الكائن الحي وحدة لا تتجزاً؛ وإذا نحن افترضنا في هذا الكائن وجود ناحيتين لا علاقة بين إحداهما والأخرى استحال علينا أن نرى للحياة وجوداً كاملاً موحداً.
يجب علينا إذن أن نعد حياة الفرد وحدة متصلة، ويجب علينا فوق ذلك أن نلم بها مرتبطة بما حولها من صلات اجتماعية. فالأطفال يولدون ضعافاً، وهذا الضعف يحتم على غيرهم أن يعنوا بهم. وعلى هذا فإن أسلوب حياة الطفل أو نمطها لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الأشخاص الذين كانوا يعنون به، والذين يعوضونه عن ضعفه. وللطفل علاقات متبادلة مع أمه وأسرته، وهذه العلاقات لا يمكن إدراكها إذا قصرنا بحثنا على الطفل من حيث هو جسم مادي في فراغ؛ والحقيقة أن شخصية الطفل تعترض فرديته الجسمية، ويدخل فيها كل ما يحيط به من صلات اجتماعية.
ويصدق على الناس كافة إلى حدٍّ ما ما يصدق على الطفل الصغير، فضعف الطفل الذي يضطره إلى أن يعيش في أسرة يقابله ذلك الضعف الذي بضطر الناس إلى أن يعيشوا في مجتمع؛ ذلك أن الناس كلهم يشعرون بالعجز في بعض الظروف، ويحسون بأن صعاب الحياة تطغى عليهم، وأنهم أضعف من أن يواجهوها فرادى، ولذلك كان من أقوى ميول الإنسان أن يُكوِّن مع بني جنسه جماعات لكي يعيش عضواً في مجتمع لا فرداً منفصلاً عن غيره. وما من شك في أن هذه الحياة الاجتماعية قد أعانته كثيراً على التغلب على ما يشعر به في نفسه من ضعف ونقص. وتلك حال الحيوانات أيضاً، فالأنواع الضعيفة منها نعيش دائماً في جماعات حتى تستطيع بقواها المجتمعة أن تواجه حاجاتها الفردية. مثال ذلك آن في وسع قطيع من الجاموس أن يحمي نفسه من الذئاب جتمعاً، فالواحدة من هذا القطيع تعجز بمفردها عن الدفاع عن نفسها، لكنها إذا اجتمعت كلها تلاصقت برؤوسها وقاتلت بأرجلها حتى تنجو كلها من عدوها. وتستطيع الغيلان والأسود والنمورة أن تعيش منفردة، لأن الطبيعة قد وهبتها وسائل الدفاع عن نفسها. أما الإنسان فلم يُعطَ ما أُعطيت من قوة وبطش، وليس له مخالب أو أسنان مثلها، ولهذا فإن بني الإنسان لا يستطيعون أن يعيشوا فرادى، ومن ثم نرى أن ضعف الفرد هو منشأ الحياة الاجتماعية.
ولهذا السبب نفسه لا تتساوى كفايات الناس جميعاً ومواهبهم في المجتمع. ولكن المجتمع الذي أُحسن تنظيمه لن يتوانى عن تنمية قوى الأفراد الذين يتألف منهم. وتلك من الحقائق الهامة التي يجب ألا نغفل عنها حتى لا نظن أن الأفراد يجب أن يُحكَم عليهم حسب قواهم الموروثة دون غيرها.
والحقيقة أن الفرد الذي يبدو ضعيفا في بعض مواهبه إذا عاش في عزلة يستطيع أن يعوض هذا النقص إذا عاش في مجتمع حسن التنظيم.
وإذا فرضنا أن نقائصنا الفردية موروثة كان من أغراض علم النفس أن يُعوِّد الناس أن يعيشوا مع غيرهم على أحسن حال ليستعينوا بذلك على تخفيف آثار نقصهم الطبيعي. وإن تاريخ الرقي الاجتماعي ليقص علينا كيف يتعاون الناس ليتغلبوا على ما فيهم من ضعف ونقص، فما من أحد يجهل مثلاً أن اللغة من اختراع المجتمع، ولكن قلة من الناس من يدرك أن النقص الفردي هو سبب هذا الاختراع. وتظهر هذه الحقيقة في سلوك الأطفال الأول، فهم إذا لم تشبع رغباتهم حاولوا أن يلفتوا الأنظار إليهم بلغة من نوع ما، أما إذا لم يكن الطفل في حاجة إلى أن يلفت نظر غيره إليه، فإنه لا يحاول الكلام قط، وهذه حال الطفل في الشهور الأولى من حياته حين تجيبه الأم إلى كل ما يحتاجه قبل أن يتكلم. ولدينا أمثلة لأطفال لم يتكلموا حتى بلغوا السنة السادسة من عمرهم لأنهم لم يجدوا قط حاجة إلى الكلام قبل هذه السن. ولدينا شاهد آخر على هذه الحقيقة وهو حال طفل لأبوين أبكمين أصمين. فقد سقط هذا الطفل وجُرِح وصرخ، ولكنه صرخ من غير أن يُخرِج صوتاً، فقد عرف أن الصوت لا يفيده لأن أبويه لا يستطيعان سماعه. ولهذا مَثّل مظهر الصياح ليلفت إليه أنظار أبويه، ولكنه كان صياحاً من غير صوت.
من أجل هذا كان الواجب علينا دائما أن نلم بجميع الظروف المحيطة بالحقائق الاجتماعية التي ندرسها، يجب أن ندرس البيئة الاجتماعية لكي ندرك
(هدف التفوق) الخاص الذي اختاره الطفل لنفسه، ويجب أن ننظر كذلك إلى الظروف الاجتماعية لندرك ما فيها من عدم توافق، فكثير من الناس لا توافق ينهم وبين بيئتهم، لأنهم يجدون أن من المستحيل عليهم أن يتصلوا اتصالاً عادياً عن طريق اللغة بغيرهم من الناس. ومن أمثلة هؤلاء الشخص الذي بتمتم في كلامه، فإذا بحثت عن أمره تبين لك أن هذا الشخص لم يكن بينه وبين المجتمع توافق قط، فلم يكن مثلاً راغباً في أن يشترك في نواحي نشاطه المختلفة، ولم يكن راغباً في أن يختار له أصدقاء أو رفقاء. لقد كان نمو لغته في حاجة إلى أن يأتلف هو مع غيره، ولكنه لم يكن راغباً في هذا الائتلاف، ولهذا بقيت تمتمته. والواقع أن لدى المصابين بالتمتمة ميلين، أحدهما يدعوهم إلى الائتلاف مع غيرهم، وثانيهما يدعوهم إلى أن يطلبوا العزلة لأنفسهم.
وبعض الراشدين من الرجال الذين يحيون حياة اجتماعية يعجزون عن أن يخطبوا في الجمهور ويرهبون مواقف الخطابة، والسبب في هذا أن أولئك الناس يعدون مستمعيهم أعداء لهم، ويشعرون بأن فيهم هم أنفسهم نقصاً حين يواجهون مستمعين يظنونهم أعداء لهم متفوقين عليهم. والحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يحسن الكلام إلا إذا كان واثقاً من نفسه ومن مستمعيه، وفي هذه الحالة دون غيرها لا يخشى الوقوف على منصة الخطابة.
وهكذا نرى أن الشعور بالنقص ذو صلة وثيقة بالتربية الاجتماعية، فكما أن الشعور بالنقص ينشأ من عدم التوافق الاجتماعي بين الإنسان ووسطه، كذلك تكون التربية الاجتماعية هي الوسيلة التي يستطيع بها أن يتغلب على ما يشعر به من نقص.
وثمة اتصال مباشر بين التربية الاجتماعية والإدراك الفطري العام.
فإذا قلنا إن الناس يحلّون مشاكلهم بإدراكهم الفطري العام، فإن الذي نفكر فيه في هذه الحالة هو أنهم يحلونها بما تجمّع فيهم من ذكاء الهيئة الاجتماعية. أما الذين يعملون بلغة خاصة لهم وفهم خاص بهم، فإنهم كما قلنا في الفصل السابق يبدو عليهم مظهر الشذوذ. والمعتوهون ومرضى النفوس والمجرمون كلهم من هذا القبيل، يجدون أشياء معينة لا تلذلهم، فالناس والنظم والمعايير الاجتماعية لا تعنيهم، وخلق هذه اللذة فيهم هو السبيل التي يمكن سلوكها لإنقاذهم من ورطتهم.
والواجب علينا حين نعمل مع أمثال هؤلاء الناس أن نجعل الحقائق الاجتماعية تسترعي أنظارهم. ويظن الأشخاص العصبيون دائماً أن كل ما يجب عليهم هو أن يُظهروا حُسْن نيتهم واستعدادهم للعمل، ولا يدركون أن الذي يُطلَب إليهم شيء أكثر من حُسْن النية، ولذلك يجب أن نعلمهم أن الذي يهم لجتمع هو ما يعملونه، وما ينتجونه بالفعل، لا ما يريدونه فحسب.
ولما كان الشعور بالنقص والسعي للتفوق عامّين في كل الناس، فإن من الخطأ أن نعد وجودهما في الناس كلهم دليلاً على أنهم جميعاً متساوون. فالنقص والتفوق هما الحالتان العامتان اللتان تسيطران على كل سلوك الناس، ولكن يوجد غيرهما فروق في قوة الجسم وصحة البدن وفي الوسط الذي يعيشون فيه، ومن أجل هذه الفروق تختلف الأغلاط التي يرتكبها الأفراد في الظروف المماثلة. فإذا بحثت حال الأطفال رأيت أنه لا توجد طريقة صحيحة صحة مطلقة، ومحددة تحديداً مطلقاً، يستجيبون بها للمؤثرات، فهم يستجيبون بها بطرقهم الفردية الخاصة، وهم يسعون إلى أسلوب من الحياة خير من الأسلوب الذي هم فيه، ولكنهم يسعون إليه بطريقتهم الخاصة، ويقعون في أغلاطهم الخاصة بهم، ويحددون أساليبهم الخاصة التي يرون أنها تقربهم من النجاح.
ويجدر بنا أن نحلل بعض خواص الأطفال والفروق التي بينهم. ولنبدأ أولاً بالأطفال العسر. إن ثمة أطفالاً لا يعرفون أنهم عسر، لأنهم قد دُرِّبوا بعناية على أن يستخدموا أيديهم اليمنى. وهؤلاء في أول أمرهم لا يحسنون استعمال أيديهم اليمنى، وربما كانوا يُلامون على ذلك ويُنتقَدون، ويُسخَر منهم، لكن الاستهزاء بهم خطأ، والواجب أن تعالج هذه الحالة بأن تمرّن كلتا اليدين.
ويمكن أن تعرف الطفل الأعسر في مهده، لأن يده اليسرى تتحرك أكثر من يده اليمنى، وقد يشعر هذا الطفل في الحياة المستقبلية أن عليه عبئاً يثقله لعدم إتقانه استخدام يده اليمنى. وكثيرا ما يحدث عكس هذا، فيتولد لديه اهتمام كبير بيد اليمنى وذراعه اليمنى، وقد يبدو هذا الاهتمام مثلا في عنايته بالرسم والخط وما إلى ذلك. وليس من حقنا أن نعجب إذا رأينا طفلاً من أولئك الأطفال في حياته المستقبلية يفوق الطفل العادي في مرانه، ذلك أن هذا الطفل قد اضطر إلى الاهتمام بأمر نفسه، أو أنه قد (استيقظ مبكراً)) إذا جاز هذا التعبير، فأدى ما به من نقص إلى زيادة العناية بتدريب نفسه، وكثيراً ما يكون هذا ميزة كبرى في تنمية الموهبة الفنية والقدرة الفنية. والطفل الذي يجد نفسه في هذه الظروف يكون في العادة طموحاً يكافح للتغلب على ما يعترضه من صعاب. على أن الطفل قد يتولد فيه الحسد لغيره من الناس والغيرة منهم إذا كان هذا الكفاح حاداً شديداً؛ ولذلك ينشأ فيه شعور قوي بالنقص يكون التغلب عليه أصعب منه في الأحوال العادية. وقد يخلق منه هذا الكفاح، المستمر طفلاً أو رجلاً مقاتلاً دائم الكفاح، ثبت في فكره أنه يجب أن لا يكون سمجاً ناقصاً، ويكون عبء الحياة على هذا الفرد أثقل منه على غيره.
ويعمل الأطفال ويخطئون ويتطورون بطرق تختلف باختلاف المُثُل الأولى التي كونوها لأنفسهم في السنين الأربع أو الخمس الأولى من حياتهم.
ويختلف هدف كل منهم عن هدف غيره، فمنهم من يريد أن يكون نقاشاً، ومنهم من يريد أن يخرج من هذا العالم الذي لا يصلح له؛ وقد نعرف نحن كيف يستطيع هذا الطفل أو ذاك أن يتغلب على نقائصه، أما هو فلا يعرف ذلك، ويحدث في أغلب الأحيان ألا تُفسر له الحقائق التفسير الصحيح.
وكثير من الأطفال لهم عيون وآذان ورئات وبطون غير سليمة، ولذلك نرى اهتمامهم أكثر ما يكون في الناحية التي هم فيها ناقصون. ومن الأمثلة الغريبة هذه الحالات أن رجلاً كان لا يصاب بنوبات من الربو إلا حين يعود من مقر عمله في المساء ، وكان هذا الرجل في الخامسة والأربعين من عمره، وكان متزوجاً ويشغل منصباً حسناً. وسئل لمَ تصيبه النوبات على الدوام بعد أن يعود إلى منزله؟ فقال ((إن زوجتي مادية محضة، وأنا رجل مثالي، ولهذا فنحن لا نتفق. فإذا عدت إلى منزلي كان كل رغبتي أن أظل هادئاً، وأن أمتع نفسي فيه.
أما زوجتي فتريد أن تغشى المجتمعات، ولهذا تراها دائمة الشكوى من بقائها في المنزل، فأتضايق وتعتريني نوبات الاختناق) ولكن لِمَ يختنق هذا الرجل ولِمَ لا يتقيأ مثلاً؟ الواقع أنه كان وفياَ لمثاله الأول، إذ يلوح أنه وهو طفل كانت تلف أربطة حوله، لأنه كان مصاباً بضعف ما، وقد أثرت هذه الأربطة القوية في مجاريه التنفسية، وسببت له متاعب جمّة؛ وكانت له خادمة تحبه فكانت تجلس إلى جانبه وتسليه وتحصر كل عنايتها فيه لا في نفسها هي. ومن أجل هذا انطبع في ذهنه أنه يحق له على الدوام أن يُسَلّى ويُسَر فلما بلغ الرابعة من عمره تزوجت الخادمة وفارقته، وذهب هو معها إلى المحطة وهو يبكي بكاءً مراً، ولما فارقته قال لأمه ((لم يبقَ لي في العالم ما أهتم به بعد أن فارقتني خادمتي).
ولهذا ظل في سن الرجولة، كما كان في سن مثاله الأول، يتطلع إلى وجود شخص مثالي يسره دائماً ويسليه ويوجه إليه كل عنايته. فلم يكن سبب متابعه إذن قلة الهواء، بل كان سببها أنه لم يكن يُسَر ويُسلَّى في جميع الأوقات، وليس من السهل بطبيعة الحال أن يجد الشخص الذي يسره ويسليه على الدوام. وكان هذا الرجل فوق ذلك يرغب أن يسيطر دائما على ما حوله، ولما نجح في ذلك عاد عليه هذا النجاح ببعض الفائدة، وذلك أنه لما كان يختنق كانت زوجته تمتنع عن الذهاب إلى دور التمثيل وغشيان المجتمعات، ونجح بذلك في الوصول إلى ((هدف التفوق».
وكان سلوك هذا الرجل من حيث وعيه سليما على الدوام لا غبار عليه مطلقاً، ولكنه كان في قرارة نفسه راغباً في أن يكون هو الغالب المسيطر. لقد كان يريد أن يجعل زوجته مثالية غير مادية على حد تعبيره، ولكن الحقيقة أنه كانت تحركه بواعث خفية تختلف عن البواعث الظاهرة السطحية.
وكثيراً ما نرى الأطفال ذوي العيون الضعيفة يوجهون جلّ اهتمامهم إلى المرئيات، ومن ثم تنمو لديهم موهبة قوية في هذه الناحية. فالشاعر العظيم جستاف فريتاج Gustav Freitag كانت له عينان ضعيفتان مصابتان بعدم القدرة على تسديد البصر (الاستجماتزم) ولكنه جاء بالشيء الكثير. وكثيراً ما يصاب الشعراء والمصورون بأمراض في عيونهم، ولكن هذه الأمراض نفسها كثيراً ما تزيد من اهتمامهم بعملهم، وفي ذلك يقول فريتاج عن نفسه: ((لقد كانت عيناي تختلفان عن أعين غيري من الناس، ولذلك يخيل إليّ أنني اضطررت إلى استخدام خيالي وإلى تدريبه؛ ولست أعرف أن هذا قد جعلني كاتبا عظيماً، ولكن الذي أعرفه أن ضعف بصري قد جعلني أرى في الخيال خيراً مما يراه غيري في الحقيقة)).
وإذا نحن درسنا شخصيات العباقرة تبين لنا في أغلب الأحيان أنهم مصابون بعاهة في أبصارهم، أو بنقص آخر في حواسهم. وكانت آلهة الأساطير نفسها في جميع عصور التاريخ تُمثّل مصابة بعاهة من العاهات كالعور أو العمى مثلاً. وإن وجود عباقرة لا يكادون يبصرون لكنهم مع ذلك يستطيعون أن يدركوا أكثر من غيرهم ما بين الخطوط والظلال والألوان من فروق، ليدل على ما نستطيع أن نعمله للأطفال المصابين بهذه العاهة إذا نحن درسنا مشاكلهم وفهمناها على الوجه الصحيح.
ومن الناس من يهتمون أكثر من غيرهم بما يأكلون، ولهذا نراهم على الدوام يتحدثون عما يستطيعون أن يأكلوه وما لا يستطيعون، والغالب أن هؤلاء قد لاقوا متاعب خاصة بالطعام في مستهل حياتهم، فتولد فيهم هذا الاهتمام به أكثر من غيرهم. وأكبر الظن أن أمهاتهم كن كثيرات العناية بهم، وكن يحدثنهم عما يلائمهم من المأكولات وما لا يلائمهم. ويحتاج هؤلاء إلى أن يمرنوا على أن يتغلبوا على ضعف معدتهم، وهم لذلك في حاجة شديدة إلى العناية بما يطعمونه في الصباح والظهر والمساء. وقد يؤدي تفكيرهم الدائم في الطعام إلى أن يصبحوا مهرة في الطهي أو في غيره من الشؤون المتعلقة بالطعام.
وقد يحدث أحياناً أن يكون ضعف المعدة أو الأمعاء حافزاً للمصابين بهذا الضعف على أن يبحثوا عن شيء غير الطعام يوجهون إليه عنايتهم. وقد يكون هذا البديل هو المال، ومن ثم يصبح هؤلاء الناس بخلاء مقترين، أو من أصحاب المصارف وأرباب الأموال. وكثيراً ما يبذل هؤلاء أقصى جهودهم في جمع المال، ويدربون أنفسهم ليلاً ونهاراً على الوسائل التي توصلهم إلى جمعه، ولا ينقطعون قط عن التفكير في عملهم هذا. وقد يكسبهم هذا التفكير ميزة كبرى على غيرهم ممن يعملون في مثل مهنتهم، ومن الطريف أن نلاحظ هنا أننا كثيراً ما نسمع عن الأغنياء الموسرين الممعودين.
وجدير بنا في هذا المقام أن نستعيد ما يذكره الناس عادة من الصلة بين الجسم والعقل، فنقول إنه ليس من المحتم دائماً أن يؤدي كل نقص معين إلى نتيجة معينة، وليس من الضروري أن تكون الصلة بين عيب جسمي وأسلوب خاطئ من الحياة هي صلة العلة بالمعلول. وفي وسعنا أن نعالج النقص الجسمي علاجاً ناجعاً بالتغذية الصالحة، وننقذ المريض بذلك من متاعبه الجسمية بعض الإنقاذ؛ ولكن النقص الجسمي ليس هو سبب النتيجة السيئة التي وصل إليها المريض، بل إن سبب هذه النتيجة هو موقف المريض نفسه من هذه العلة. ومن أجل هذا فإن العيوب الجسمية المحضة، أو النقص الجسمي دون غيره، أمور لا وجود لها عند العالم بعلم النفس الفردي، وإنما الذي له وجود لديه هو الموقف الخاطئ الذي يقفه المريض من هذه الأمور. وهذا أيضاً هو السبب في أن العالم بعلم النفس الفردي يعمل لأن يخلق في الشخص الرغبة في مقاومة الشعور بالنقص وقت تكوين مثاله الأول.
ونرى في بعض الأحيان شخصاً ملولاً عاجزاً عن أن يصبر حتى يتغلب على الصعاب، أو نرى أشخاصاً دائبي الحركة مهتاجين ثائرين، أولئك قوم يستدل من حالتهم هذه على أنهم يتملكهم شعور قوي بالنقص. ذلك أن من بعلم أنه قادر على قهر الصعاب لا يكون ملولاً، وإن لم يكن في وسعه على الدوام أن ينجز ما لا بد له من إنجازه. وإذا رأيت أطفالاً متغطر سين وقحين مشاكسين دلّت هذه الصفات على أنهم أيضاً يتملكهم شعور بالنقص قوي، وعلينا في هذه الحالة أن نبحث عن أسباب هذا الشعور، أي عن الصعاب التي نعترضهم، حتى نصف لهم طريقة التغلب عليها، ولا يحق لنا مطلقاً أن ننتقد الأخطاء التي نشأت من أسلوب الحياة الذي كان يحياه المثال الأول، أو أن نعاقب عليها.
وفي وسعنا أن نتعرف بين الأطفال على صفات المثال الأول بما نشاهده من سلوكهم الخاص به، ومما يهتمون به من أشياء غير عادية، ومن سعيهم للتفوق على غيرهم، ومما يضعونه من خطط وما يقومون به من عمل لبلوغ هدف التفوق. ومن الأطفال من يثق بنفسه في حركاته وتعبيره، ويحب أن يبتعد عن غيره قدر استطاعته، ويفضل ألا يذهب إلى حيث يواجه مواقف جديدة، وأن يقيم في الدائرة الصغيرة التي يشعر بتمكنه من نفسه فيها. وهو يفعل هذا بعينه في الدراسة، وفي الحياة، وفي المجتمعات، وفي الزواج؛ وهو يرجو على الدوام أن يفعل الشيء الكثير في دائرته الصغيرة، لكي يصل من وراء ذلك إلى هدف من أهداف التفوق. وهذه صفة نجدها في الكثيرين من الناس، فتراهم جميعاً ينسون أن المرء لا يستطيع أن يصل إلى النتائج إلا إذا كان مستعداً لكل الاحتمالات ولمواجهة كل الصعاب. أما إذا تجنب بعض المواقف وبعض الأشخاص، فإنه لن يكون له ما يعتمد عليه إلا ذكاءه الخاص به، وليس هذا بالذي يكفيه. ذلك بأن الإنسان في حاجة إلى جميع الصلات الاجتماعية، وإلى الإدراك الفطري العام ليبعثا فيه القوة والنشاط.
نعم إن الفيلسوف الذي يريد أن ينجز عمله لا يستطيع أن يذهب في كل يوم للغداء أو العشاء في صحبة الناس، لأنه في حاجة إلى الانفراد بنفسه فترات طويلة من الوقت يستجمع فيها شوارد أفكاره، ويختار فيها الطريقة المثلى لأداء عمله؛ ولكن هذا الفيلسوف عينه لا يعظم شأنه فيما بعد إلا إذا اتصل بالمجتمع، وكان هذا الاتصال جزءاً هاماً من نمائه. ومن أجل هذا فإنا إذا التقينا شخص من هذا النوع وجب علينا أن نذكر هاتين الحاجتين، حاجته إلى الانفراد بنفسه، وحاجته إلى الاتصال بغيره؛ وعلينا أن نذكر أيضاً أن في مقدوره أن يكون نافعاً أو غير نافع، وأن علينا لهذا السبب أن نعني بمعرفة الفرق بين النافع وغير النافع من السلوك.
ومفتاح المسألة الاجتماعية كلها هو أن الناس يسعون على الدوام لأن يضعوا أنفسهم في وضع يبرزون فيه. ومن أجل هذا نرى الأطفال الذين يشعرون شعوراً قوياً بالنقص يريدون أن يبتعدوا عمن هم أقوى منهم من لأطفال، ويلعبوا مع من هم أضعف منهم، ومن يستطيعون هم أن يخضعوهم نسلطانهم ويسيطروا عليهم، وذلك مظهر مَرَضي شاذ من مظاهر الشعور بالنقص. ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن الشعور بالنقص في حد ذاته ليس هو الأمر المهم، بل المهم هو نوع هذا الشعور ومقداره.
وقد أطلق على الشعور الشاذ بالنقص اسم ((عقدة النقص)، ولكن لفظ «عقدة)) ليس هو التعبير الصحيح عن هذا الشعور الذي يسري في شخصية المرء بأكملها، فهو شيء أكثر من عقدة، ويكاد يكون مرضاً يفتك بالناس فتكاً يختلف باختلاف الظروف. وقد لا نلاحظ أحياناً شعور المرء بالنقص إذا كان بشتغل في عمله، لأنه يشعر بأنه واثق من نفسه فيه، ولكننا نستطيع أن نتبين هذا الشعور إذا رأيناه غير واثق من نفسه في المجتمعات، أو في علاقته بالجنس الثاني رجلاً كان أو امرأة.
ونرى الأخطاء شديدة واضحة في الظروف الصعبة أو التي تؤدي إلى توتر الأعصاب؛ وسبب ذلك أن المثال الأول للشخص يظهر على حقيقته في هذه الأحوال الصعبة أو الجديدة، والأحوال الصعبة تكاد تكون على الدوام هي بعينها الأحوال الجديدة؛ ومن أجل هذا قلنا في الفصل الأول من الكتاب إن درجة الاهتمام الاجتماعي تتضح في الأحوال الاجتماعية الجديدة.
وإذا أرسلنا الطفل إلى المدرسة كان في وسعنا أن نشاهد فيها عنايته لاجتماعية كما نشاهدها في الحياة الاجتماعية العامة. ففي وسعنا أن نرى مثلاً هل يختلط بزملائه أو يتجنبهم؟ فإذا رأينا أطفالاً ذوي نشاط شديد غير عادي، ومكر وصبر، كان علينا أن نفحص عن حالتهم العقلية لنرى منشأ هذه الصفات فيهم. وإذا رآينا بعضهم مترددين لا يعملون إلا على قدر، كان علينا أن نتوقع ظهور هذه الخصائص نفسها في حياتهم المستقبلية في المجتمع، وفي الحياة العامة، وفي الزواج،
ويقابل المرء على الدوام أشخاصاً يقول له الواحد منهم ((سأفعل هذا الشيء بهذه الطريقة))؛ (وسأعمل في هذه المهنة)؛ (وسأقاتل هذا الرجل...
ولكن...!»، وكل هذه الأقوال شواهد على وجود شعور قوي بالنقص في قائلها. والواقع أننا إذا نظرنا إليهم من هذه الناحية ألقت هذه النظرة ضوءاً جديداً على بعض انفعالاتهم به كالشك مثلاً. والشخص الشاك يبقى في الغالب شاكاً على الدوام ولا يتم عملاً قط، أما الشخص الذي يقول ((لا أريد))
فأكبر الظن أنه سوف يعمل ما يدل عليه قوله هذا.
وفي وسع العالم النفساني إذا عنى بالبحث أن يجد المتناقضات في الفرد الواحد من الناس. وقد تعد هذه المتناقضات شاهداً على الشعور بالنقص، ولكن علينا قبل أن نحكم هذا الحكم أن نلاحظ أيضاً حركات الشخص الذي فحص عن مشكلته، فقد تكون طريقة اقترابه من الناس ومقابلتهم غير ستحبة؛ وعلينا أيضاً أن نلاحظ هل يسير هذا الشخص نحو الناس بخطى غير ثابتة وهيئة مترددة؟ فإذا رأيناه كذلك فلا بد أن نرى هذا التردد نفسه يبدو غالباً في مواقف أخرى في الحياة. وإذا رأيت رجلاً يخطو خطوة إلى الأمام وخطوة أخرى إلى الوراء فاعلم أن هذا دليل على شعور قوي بالنقص.
وينحصر واجبنا في هذه الأحوال في أن ندرب هؤلاء الأشخاص على الخروج من ترددهم. وخير ما نعالجهم به أن نشجعهم لا أن نثبط من عزيمتهم؛ وعلينا أن نُفهمهم أنهم قادرون على مواجهة الصعاب وحل مشاكل الحياة، وبغير هذه الطريقة لا يستطاع بث روح الثقة بالنفس فيهم، وليس ثمة طريقة غير هذه لعلاج ما ينتابهم من شعور بالنقص.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

قد ظهرت دراسات ...

قد ظهرت دراسات الصمود منذ خمسين عاما، ولكنها نشطت في العشرين عام الأخيرة حيث زاد عدد الباحثين، وزادت...

البعد الأول: ال...

البعد الأول: الضوابط التربوية الإسلامية للعلاقة بين الأقران من المعلمين في الجانب المهني ويقصد بها ت...

والجدير بالذكر ...

والجدير بالذكر أن أنواع القهوة المختلفة تختلف في طرق تحضيرها ومعالجتها. هناك العديد من فوائد القهوة ...

مقدمة تمارس ال...

مقدمة تمارس الولايات المتحدة الامريكية نفوذا عالميا متعدد الاوجه يشمل الميدان التجاري و المالي والث...

Le screening ph...

Le screening phytochimique de la plante Atractylis révèle la présence de plusieurs composés phytochi...

أولا: تعريف عمل...

أولا: تعريف عملية التفاوض يعتبر التفاوض سلوك إنساني مصاحب لجميع أنشطة الحياة التجارية والاقتصادية و...

المقدّمة الحمد...

المقدّمة الحمد لله مُتِمِّ النِّعمِ على عباده، يعيدُ فضلَه عليهم كما يبديه لهم، وينشر لهم رحمته، وي...

يمتلك الزنجبيل ...

يمتلك الزنجبيل العديد من الخصائص العلاجية والتي تجعل منه أحد العلاجات البديلة التي يمكن استخدامها لع...

١- يعتبر التاج ...

١- يعتبر التاج الأحمر هو التاج الرسمى لحاكم مصر السفلى أو الدلتا وأحراشها وقد ظهر التاج الأحمر منقوش...

في إحدى القرى ،...

في إحدى القرى ، كان هناك كوخ صغير منفرد بين الحقول تسكنه امرأة تدعى" راحيل" مع ابنتها مريم التي تبلغ...

Many researcher...

Many researchers have addressed the use of search algorithms in artificial intelligence, and studies...

ضوابط الحد من ا...

ضوابط الحد من التجريم. مقتضى الحد من التجريم أن الضرورة الا تتوافر دائما للالتجاء إلى التجريم 1 وال...