Lakhasly

كان الجهاز الإداري الذي ورثه السلطان قابوس هو العائق الأول أمام إحداث
التغيير. ولم يكن بالإمكان تنفيذ مشروع واحد حتى في حال توفر المال اللازم للتنمية
دون توفر الآليات والكوادر الإدارية الضرورية. وكان السلطان الشاب خبيرا بكيفية
عمل الأجهزة الإدارية الحكومية والمحلية في أوروبا كما كان واضحا له أن هرم
السلطة في عمان يجب أن يبنى على أسس أخرى تقليدية ولكن بمراعاة تجربة الدول
المتقدمة. كانت السلطنة كلها في سنة ۱۹۷۰م تعتمد على ١٧٥٠ موظفا حكوميا فقط.
وقد واجه تكوين الأجهزة الإدارية الأساسية للوزارات الجديدة إشكالا كبيرا، ناهيك
عن الهيئات الإدارية المساعدة ومن ثم لم يتم تشكيل الحكومة إلا بعد مضي عدة
شهور على أحداث يوليو.
تولى مهام الإدارة العاجلة آنذاك مجلس استشاري مؤقت ضم شخصيات تتمتع
بثقة السلطان. وقد لعب المجلس المذكور - حقيقة - دورا مهما أثناء فترة غياب
السلطة، إلا أن الوقت لم يتسع له كي ينفذ برامج التنمية الاقتصادية المطلوبة، ذلك
أن بعض وظائفه انتقل إلى الحكومة وبعضها الآخر إلى الهيئات المتخصصة التي
كلفت بمهمات تنسيق مشاريع التنمية ولما كانت فلسفة الإصلاح في بدايات التكوين
الجنينية، فإن نشاط شتى مجالس التنمية لم يدم طويلاً. ففي أعقاب تأليف الحكومة
تشكلت على سبيل المثال لجنة المناقصات، إلا أن وظائفها أحيلت في مارس
۱۹۷۲م إلى المجلس المؤقت للتخطيط الذي كان قد تشكل توا، والذي لم يطل به العمر
أكثر من ستة شهور.
وفي سبتمبر من العام ذاته تشكل المجلس الأعلى لتخطيط التنمية الاقتصادية، إلا
أنه هو الآخر لم يكن فاعلا بالشكل المطلوب ، فحلت محله في إبريل ١٩٧٣م المؤسسة
العامة للتنمية التي لم يدم عمرها طويلا أيضا ) عاشت حتى نهاية العام المذكور)
ورثت كل تلك التشكيلات - في النهاية - وزارة شئون التنمية التي أجريت عليها كذلك
تعديلات تنظيمية بعد أقل من عام. وفي الوقت ذاته ألف السلطان في نهاية ١٩٧٤م
مجلس الشئون المالية ومجلس التنمية وكانت كل تلك التغييرات تقف دليلا على
صعوبة البدء بتشكيل بنى فاعلة من نقطة الصفر. ومع ذلك، ورغم الصعوبات الهائلة
المتجسدة في قلة الكوادر الإدارية وغياب البنية الأساسية والانشغال في الحرب، إلاّ
أن تلك السنوات الأولى من قيام الجهاز السياسي والاقتصادي الجديد أثمرت باكورة
ثمارها.
كان السلطان قابوس يشاطر عمه السيد طارق بن تيمور الرغبة في إشراك الشعب
في العمل من أجل تجديد البلاد، إلا أنه كان يرى منذ البداية أن نظام الإدارة التقليدي
القائم على البنى القبلية يجب إلا يتعرض للتدمير الكامل. فالمستقبل ينبغي أن يأخذ
من الماضي كل ما هو قيم وذو شأن؛ ولذا وعد السلطان قابوس في خطابه الإذاعي
في 9 أغسطس ۱۹۷۰م، وهو يعالج أهم مسائل حياة البلاد، أن الدولة ستساعد
المشايخ. أما النظام الملكي أو السلطاني كمؤسسة سياسية فإن السلطان قابوس لم
يخامره شك في ضرورته للبلاد. والأكثر من ذلك أن تعزيز هذا الشكل من الحكم بكل
الوسائل وإغناءه بالمرونة والفاعلية إنما يضمن سلامة سلطنة عمان في مواجهة
الهزات التي يمكن أن تتعرض لها. ومن أجل تلك الأهداف في الواقع تقرر عزل سعيد
بن تيمور عن السلطة.
لقد اندلعت الحرب المرهقة طوال سنوات في ظفار من أجل الحفاظ على التواصل
بين الماضي والمستقبل. وتحمل الجيل الأكبر الذي كان يمتلك خبرة الإدارة في
مختلف الظروف والملابسات التاريخية مسئوليته ليس فقط تجاه الجيل الحالي، بل
تجاه جميع الذين شيدوا صرح عمان وذادوا عنها دون الأعداء الخارجيين ومن
المستبعد أن يكون هؤلاء الأكارم كانوا راضين عن زعزعة استقرار وطنهم الحبيب
وإعادة بنائه وفق وصفات أجنبية غريبة. كان السلطان قابوس يعيد ذلك بكل جوارحه
على الرغم من أنه كان يعرف أفضل من الجميع الجوانب الطيبة في الحضارة
الغربية. ولقد عبر جلالته بعد سنين طويلة عن رؤيته الشخصية لرسالة الحاكم
الوراثي فقال: إن دور الحاكم في عالمنا المتغير يكمن في كونه يقود الآخرين ويتعين
عليهم أن يستعينوا به ويعتبروه مرجعا لهم. وعليه أن يلعب دور القاضي والمحكم
ويقترح الحلول والقرارات السياسية بخطوطها العامة حتى تنفذها الحكومة من أجل
مصلحة الشعب ))
. (٢٦)
في كل مجتمع يجتاز مرحلة التغيرات العميقة تختلف الآراء حول مضمون
الإصلاحات ووتائرها. وإذا تفوقت وجهة نظر الراديكاليين المتطرفين تجري
التغيرات الاقتصادية مع التغيرات السياسية والاجتماعية في وقت واحد. وإذا علت
كلمة أنصار الاتجاه المتزن المتأني الحذر فإن الجهود الرئيسية تتركز في ميدان
الاقتصاد، فيما تؤجل التغيرات الاجتماعية إلى ما بعد إقامة القاعدة أو الأساس
المطلوب.
ويؤدي الانفتاح السياسي غير المستند إلى منجزات اقتصادية جدية إلى تدهور
سريع للدولة وإلى قيام ثورات اجتماعية عادة وهذا ما حدث في فرنسا في نهاية
القرن الثامن عشر وفي روسيا في بداية القرن العشرين فعندما فقد المصلحون
أداتهم القيمة المتمثلة في النظام الملكي حرموا من فرصة التأثير في
الأحداث
وتوجيهها ووقعوا رهائن في يد الظروف المتقلبة والمتغيرة بسرعة، إلا أن التاريخ
يعرف سيناريوهات أخرى للانقلابات الاجتماعية. فإن بعض الملوك المدفوعين
بفكرة التقدم المتسارع تولوا بأنفسهم دور الثوريين ومن هؤلاء القيصر الروسي
بطرس الأكبر وشاه إيران محمد رضا بهلوي. فكلاهما طرحا مهمة اللحاق بالدول
الأوروبية بأسرع ما يمكن وكانا يعتقدان أن العائق الأول في هذا الطريق هو التحجر
والنزعة المحافظة لدى الأمة.
ولذا أصبح تدخل الدولة في جميع ميادين حياة الناس عبئا ثقيلا فيه الكثير من
اللجاجة. وفي بعض الأحيان جرى التطاول على العادات والتقاليد المستقرة ومبادئ
الأخلاق من أجل ما يعتبر تقدميا في تصورات الحاكم الأعلى. وبأمر القيصر بطرس
الأكبر حلقت لحى الوجهاء الروس وحلق اللحى القسري يعتبر من أفظع الإهانات في
روسيا القديمة ، وغيرها وأرغمت فتيات من العوائل الكريمة على الرقص في المحافل.
أما زعيم الثورة البيضاء شاه إيران فقد أمر بشراء العديد من معامل الجعة
والمشروبات الكحولية من الخارج ومن الاتحاد السوفييتي وشجع على اتباع أساليب
الحياة الأوروبية. وكان يسره أن يسمع تشبيه إيران ببلدان جنوب أوروبا.
إن التطرف اللفظي غالبا ما يتحول إلى تطرف سياسي مع ما يرافقه من سياسات
ومؤامرات وعمليات إرهابية أحيانًا . وكان من اللازم توفير العمل للناس كي ينصرفوا
عن اللغو الفارغ. فالسلطنة بحاجة إلى العمل الجاد وليس إلى المساجلات والشعارات
الجوفاء.
ويتذكر السلطان قابوس تماماً كيف بدأ هو شخصياً التعرف على عيوب الحياة
ونواقصها في عمان، وكيف أخذت تختمر في ذهنه خطط الإصلاحات. فهو بعد أن
درس بعمق تاريخ بلاده وتاريخ البلدان الأخرى خلص إلى أن المجتمع، أي مجتمع، إنما
يمر بمراحل صعود وهبوط. ومن ثم كان على يقين راسخ بأن تخلف عمان ظاهرة
وقتية عابرة.
كانت الحكومة هي الأداة الأولى بالطبع لتنفيذ الإصلاحات العاجلة. وفي المرحلة
الأولى من قيام بنية الحكم والإدارة لعب السيد طارق بن تيمور وبمنزلته الرفيعة
دورا إيجابيا معروفًا، وبعد استقالة السيد طارق في ديسمبر
وطاقاته النشيطة

۱۹۷۱م احتفظ السلطان قابوس برئاسة الحكومة والشئون الخارجية والدفاع والمالية.
وهكذا أخذ على عاتقه كامل المسئولية عن نجاح التغيرات أو فشلها. وكانت تلك خطوة
جريئة باسلة؛ لأن الصعوبات التي اعترضت طريق الإصلاح كانت لا تعد ولا تحصى.
وعندما ذللت تلك الصعاب قال السلطان عن تلك المرحلة الحرجة الصعوبات
الرئيسية التي واجهتني إضافة إلى الموقف العسكري العصيب في جنوب بلادنا هي
الحاجات الملحة للغاية والواسعة النطاق والتي أحاطت بي من جميع الجهات، إلا أن
الحظ حالفنا بمعنى ما كون عمان أخذت تتطور بعد العديد من دول العالم، ومنها
دول هذه المنطقة؛ ولذا استطعنا أن نتعلم من أخطاء الآخرين ونستثمر مواردنا
المالية بأفضل صورة.
ويسرني أن أفكر بأننا نجحنا في ذلك. بديهي أنه وقعت أخطاء، فهي كانت حتمية
في ذلك البرنامج الذي نفذ بجميع الوسائل المتيسرة في العديد من ميادين التنمية
إلا أن تلك الأخطاء صححت بسرعة، بقدر ما كنا نكتسب خبرة وبقدر ما كانت عائدات
النفط تزداد أكثر فأكثر (۲۷) .
كانت الحكومة تتطور كلما تعقدت المهام التي واجهتها البلاد. ففي خريف ۱۹۷۰م
استحدثت عدة وزارات ذات صلاحيات محدودة بعض الشيء، إلا أن أبعاد مسئوليات
كل من تلك الوزارات صارت بعد بضع سنوات أكثر وضوحا وثباتا؛ مما ترك أثرا
إيجابيا في فاعلية الإدارة وبقدر بلوغ البلاد الحدود التي رسمتها القيادة السياسية
كانت تظهر مهمات جديدة ووزارات جديدة ذات واجبات محددة بدقة. ففي السنوات
الأخيرة مثلا نشأت وزارة البلديات الإقليمية والبيئة ووزارة الشئون القانونية ووزارة
الخدمة المدنية وكلها نشأت بسبب تعقد البنية الاجتماعية في البلاد والمفهوم
الجديد لقضايا التنمية. وتتألف الحكومة العمانية الآن من ثلاثين وزيرا محنكين
يتمتعون بصلاحيات واسعة للغاية في صنع القرارات اليومية العاجلة، وهم مسئولون
أمام السلطان مباشرة، ويمارسون مهامهم سنين طوالا ، ولا يستبدلون إلا فيما ندر.
وإذا كان هذا يعد دليلاً على أن الحكومة يقوم عليها فريق متوائم متعاضد، وأن اختيار
السلطان للعاملين لا تشوبه شائبة، فإن هذا لا يعني أن السلطان متساهل.
فالهفوات التي تحدث أثناء ممارسة العمل ومخالفات آداب الخدمة تؤدي إلى
عواقب وخيمة لم تكن تمر دون حساب بالنسبة لكبار المسئولين قبل صغارهم. والمثال
على ذلك أن السلطان حدد ذات مرة موعدا لجلسة مجلس الوزراء في وقت مبكر على
غير المعتاد، في السابعة صباحا. فأخذ الوزراء يضربون أخماسا في أسداس
متصورين أن شيئا ما طارئا قد حدث. وعندما دخل السلطان القاعة وشغل مقعده في
موضع الرئاسة جلس الجميع في أماكنهم كالعادة عندئذ خاطب السلطان أحد
الوزراء قائلا: أما أنت فلا تجلس وأبلغ السلطان الحاضرين أنه اطلع أمس على
عريضة من أحد المواطنين يقول فيها: إن الوزير المذكور بت في أمر لصالح
الموظفين المقربين إليه، وليس في صالح الشاكي. وفي الحال بحثت المسألة ولم يكن
الشاكي أمينا فيما ذكره لكنه وجد فرصة متاحة أمامه لتحقيق العدل من وجهة نظره
ولسماع أقواله التي كانت افتراء ، الأمر الذي تسبب في مساءلته.
ويرى قابوس بن سعيد أن القانون فوق الجميع، ولا يحق لأي رجل في الدولة أن يعلو
عليه، والسلطان نفسه يسعى ليكون مثالا وقدوة من هذه الناحية أيضا. فلا وجود في
عمان لامتيازات الأقوياء على الضعفاء حتى في قواعد السير والمرور. وعندما يقود
السلطان سيارته ينتظر بصبر أمام كل إشارة ضوئية إلى أن يظهر الضوء الأخضر.
ولا تعرف سلطنة عمان موكب الزعماء المعتاد في موسكو حيث الصفارات الزاعقة
والإشارات الصارخة تدفع سيارات الناس إلى جانب الطريق...
ونظرا للنمو المتزايد في كافة ميادين الحياة في عمان ازداد عدد مستخدمي
وموظفي الدولة. وخلال سبع سنوات من بدء الإصلاحات تضاعفت هذه الشريحة من
شرائح المجتمع العماني عشر مرات ١٧ ألف موظف، وهي تتزايد كل يوم بالطبع إذ
الآن جيش من الموظفين آلاف المؤسسات في السلطنة كالمدارس
والمستشفيات والمصانع والمراكز الثقافية، فضلا عن الجهاز الإداري الحكومي
المركزي والمحلي. ويرفرف العلم بألوانه الثلاثة فوق كل مؤسسة ودائرة تابعة للدولة.
عندما كان السلطان قابوس يخطو خطواته الأولى في تشكيل البنى الإدارية
العصرية ظل نظام الإدارة في الولايات دون تغييرات جوهرية. وكان يديرها ولاة
يعتمدون بدورهم على شيوخ القبائل. وفيما بعد أجرى السلطان قابوس تعديلات على
تشكيل الأسس التي تقوم عليها أبنية السلطة بكل حرص وعناية، وعلى سبيل المثال
ففي السابق كان السلطان يعين الولاة مباشرة، والآن يجري تعيينهم مباشرة من قبل
وزارة الداخلية.
وقد أوضح وزير الداخلية للمؤلف بعض خصائص مسئولي الإدارة المحلية: الوالي
بالطبع يعتبر على رأس المؤسسات الحكومية في الولاية. فيقصده المواطنون لأغراض
التقاضي، كبداية للتقاضي أو للمنازعة إذا استطاع أن يحل المشكلة بين الخصمين
بالصلح تنتهي القضية عند الوالي. وإذا لم يستطع أو لم يتمكن من التوفيق بين
الطرفين يحيل الوالي القضية إما إلى القاضي أو إلى المحكمة أو إلى الشرطة أو إلى
البلدية أو حسب الجهة التي لها الشأن في البت في الموضوع. أيضا عمل الوالي تلقي
طلبات المشايخ التي دائما تعبر عن حاجة الولايات من الخدمات ومن القضايا التي
تهم المواطنين، ويقوم برفعها إما مباشرة إلى الدوائر الموجودة في الولاية أو
المنطقة أو إلى الوزارة وتقوم هي أيضا بمخاطبة الجهات إذا كان المطلوب مخاطبة
جهة أعلى مثل وكيل وزارة أو وزارة في الجهة المعنية.
أيضا بالنسبة للجان الحكومية لها خطط وبرامج، وعادة الوالي يرأس هذه اللجان
المشكلة للتوعية سواء الصحية أو بالنسبة للتربية والتعليم أو غيرها من الأعمال التي
تقوم بها الجهات الحكومية فدور الوالي هنا الالتقاء بالمشايخ وتعريفهم بخطط
الحكومة والخطط الرسمية التفصيلية كنوع من التوعية والتوجيه والإرشاد للمواطنين.
وبالتدريج أخذ الانفلات القبلي الذي شكل طوال القرون مصدرا للبلبلة وغياب
الاستقرار، وخصوصا في عمق عمان، يختفي تدريجيا في طيات الماضي. فالدولة
الحديثة المعتمدة على الجهاز الإداري الجيد التنظيم والقادرة على حفظ النظام،
وتأمين الشرعية، وجباية الضرائب، وإدارة شئون البنى المهمة اجتماعيا قد ضيقت
نطاق نفوذ العديد من الأنظمة والبني القبلية التقليدية.
لم يعمد السلطان قابوس بما اتصف به من حكمة وبعد نظر أبدا إلى تسريع عملية
العصرنة والتجديد في ميدان حساس مثل النظام القبلي، بل على العكس استطاع أن
يجعل الدولة العمانية تفيد من خبرة المشايخ والأعيان وزعماء القبائل ومنزلتهم في
مرحلة التحولات الجذرية هذه. وتحدث وزير الداخلية أيضًا عن بعض جوانب نشاط
المشايخ فقال: في بداية السبعينيات لم تكن هناك وثائق شخصية للمواطنين مثل
جواز السفر أو البطاقة أو شهادات الميلاد أو غيرها.
ففي الفترة الماضية كان الشيخ له دور كبير في التعريف بالمواطنين لدى الجهات
الحكومية، إن هذا مواطن ولد في عمان ولا يملك وثيقة عمانية بحكم العادة الموجودة
في عمان لعدم الحاجة أصلا لهذه الوثائق في ذلك الوقت. ولكن في عهد السبعين، في
عهد صاحب الجلالة، كان هناك التزام أن يحمل كل مواطن وثيقة يثبت فيها عمانيته.
فكان دور الشيخ هو التعريف لدى الوالي، وهم مشايخ معتمدون وشخصياتهم
معروفة، يقومون بالتعريف بهذا المواطن. وفي بعض الأحيان يرفعون حاجات قراهم
النائية التي لا تصلها الخدمات، فيقومون بزيارة الوالي وينقلون حاجة المواطنين إلى
هذه الخدمات الطرق، والتعليم والصحة.
وكثير من الخدمات كان للمشايخ دور كبير في توصيلها والتعريف بالقرى لدى
الحكومة. أيضا في بعض الأحيان يقوم بالصلح بين المتخاصمين قبل أن يصل إلى
الوالي، إذا كان الخصمان من جماعته أو أي طرف آخر يريد أن يرجع إليه ويحل
مشاكله داخليا ، وبإمكان هذا الشيخ أن يسعى بالصلح وحل القضية.
في هذه الأمثلة يتجسد بمنتهى الوضوح أسلوب حكم السلطان قابوس، وسعيه دوماً
خلافا للكثيرين من المصلحين في الأقطار الأخرى - إلى الكشف عن الطاقات
الخلاقة في البنى التقليدية التي تضرب بجذورها في أعماق الماضي.
لقد أنهى قابوس بن سعيد الممارسات التي كانت قائمة طوال القرون، والتي كانت
تركز السلطة وأبنيتها في يد زعماء القبائل وحدهم. ومن ثم أصبح أمام كل عماني
اليوم فرصا متكافئة لصعود سلم المناصب. والجدير بالملاحظة أن المشايخ لم
يتحولوا إلى معارضين؛ ذلك أن سلطتهم الفعلية قد سحبت منهم برفق دون إهانتهم
أو التقليل من شأنهم، ومن ثم لم تحدث أية مشكلات. لقد تم الحفاظ على مكانتهم
المعنوية واحترام منزلتهم الاجتماعية، وأصبح هذا النهج ركيزة للمستجدات التي
يطبقها السلطان
كان للقبائل العُمانية منذ القدم نظاماً فريدا للتعاضد والتكافل الاجتماعي، فإن
١٠% تقريبا من أفراد القبائل نساء عوانس ومريضات وأرامل ومطلقات لا معيل لهن
ولا يستطيعن حسب التقاليد أن يكسبن رزقهن، والقبيلة ملزمة بإعالتهن. وتقدم
القبيلة أيضا المعونات للمعاقين الفقراء من أبناء القبيلة. وقد ظلت هذه التقاليد
الأخلاقية الرفيعة باقية مصانة، وانعكست آثارها على جميع قرارات السلطان
المتعلقة بالقضايا الاجتماعية.
كان غياب التشريعات والقوانين العصرية عندما بدأت خطط الإصلاح تأخذ
طريقها إلى حيز الوجود مع فجر النهضة العمانية أحد أكبر العوائق في طريق
التجديد، فبدونها ما كان بإمكان الدولة أن تؤدي وظائفها الطبيعية ولا أن تنفذ
مشاريع التنمية وعلى ذلك واكب إصدار أولى القوانين واللوائح في عمان تشكيل
الحكومة آنذاك. وكان يجري إنفاذ هذه القوانين واللوائح عن طريق المراسيم
السلطانية أو قرارات مجلس الوزراء ومنها على سبيل المثال، قانون الجنسية الذي
أقر في سنة ١٩٧٢م.
وفي غضون ربع قرن تم إقرار كثير من القوانين والتشريعات التي تحدد العلاقات
في الميادين الاقتصادية والاجتماعية في السلطنة. ومع أن مصدر القانون هو
الشريعة الإسلامية فإن التحكيم في ميدان المال والأعمال بات من اختصاص
المحكمة التجارية وجاء صدور النظام الأساسي ليختتم بناء القاعدة القانونية في
عمان المعاصرة.
وقال السلطان قابوس في خطابه بمناسبة العيد الوطني السادس والعشرين بمدينة
صور في ١٨ نوفمبر ۱۹۹٦م وتتويجا لجهود ربع قرن من العمل الباذل والعطاء المثمر
فقد أصدرنا النظام الأساسي للدولة الذي هو خلاصة التجربة الرائدة التي خضناها
خلال الفترة الماضية.
ويحدد النظام الأساسي، وهو دستور البلاد الذي منحه إياها السلطان قابوس،
المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها سلطة الدولة وسياستها. ولأول مرة في تاريخ البلاد
حددت هذه الوثيقة الأحكام الخاصة بالسلطان ومجلس الوزراء والقضاء، ومن ثم
أصبح نشاط رئيس الدولة خاضعا للضبط الحقوقي القانوني، كما تم إيضاح واجباته
تجاه البلاد، وكذلك حقوق المواطن وواجباته، وحق الفرد في الحصانة الشخصية
وحرمة الملكية الخاصة، وحق التعبير عن الرأي بكل الوسائل المشروعة. وأُمنت لكل
فرد حرية المعتقد وفرصة تأسيس الجمعيات والروابط أو المشاركة فيها، ولن نبالغ
إذا قلنا أن هذه الوثيقة هي حجر الزاوية في بناء المجتمع العماني والدولة العمانية.
لقد انتهز السلطان قابوس فرصة موفقة لإصدار النظام الأساسي، الأمر الذي
يدل على التفكير المتزن العميق في هذه الخطوة ومقارنتها بخبرة الأنظمة الملكية
الأخرى. وخلافا لمعظم الوثائق التشريعية المماثلة ظهر النظام الأساسي إلى الوجود
ليس كنتيجة التنافس بين القوى الاجتماعية بل باعتباره ثمرة عهد من النهضة
الوطنية والازدهار؛ حيث يعم المجتمع الوئام والوفاق والاتفاق على كل المسائل
المبدئية. ففي روسيا، مثلا، أدى الصراع بين مؤيدي الدستور ومعارضيه إلى انقسام
المجتمع، فعندما وافق القيصر على إصداره في خضم الخلافات السياسية القائمة
هناك آنذاك، أدى ذلك إلى تفاقم الخلافات والتناقضات أكثر مما كانت عليه قبل
إصدار هذا الدستور. ويمكن القول إن الموقف في عمان الحديثة على عكس ما كان
عليه في روسيا؛ ذلك أن صدور الدستور يلعب الآن دورا هاما في توحيد صفوف الشعب
العماني.
كما أنه هو الذي أرسى نموذج الدولة القائم الآن الذي لا يضعف العهد السلطاني
بل يقويه؛ عندما لا يجعله مقيَّداً بمنطق التقاليد والحق العادي، ويضفي عليه صفة
البنية المكونة لكيان الدولة الحديثة
ويسعى السلطان قابوس إلى إلغاء عنصر المصادفة ويُدخل تاريخ بلاده في مجرى
المصير المحتوم والعناية الإلهية وهو ينظر بعيدا إلى الأمام ويفحص صحة نهجه
بمقارنته مع أحداث الماضي التي تبحر فيها وأدركها خير إدراك.
وفي
أعقاب صدور النظام الأساسي، صدر مرسوم تشكيل مجلس الدفاع الذي
يترأسه السلطان نفسه، ويتألف من وزير المكتب السلطاني والمفتش العام للشرطة
والجمارك ورئيس أركان قوات السلطان المسلحة وقادة أسلحة قوات السلطان
المسلحة . وإضافة إلى المهام التي يتولاها المجلس وفقا لتسميته فإنه مدعو إلى أداء
دور القوة الكفيلة بتأمين الاستقرار والاطمئنان في فترة انتقال السلطة.
كان أعظم المصلحين في تاريخ سلالة سلاطين عمان، سعيد بن سلطان قد اعتمد
في سنوات بناء الإمبراطورية لا على مؤسسة الحكم المطلق فحسب. وإنما سعى إلى
توطيد السلطة عن طريق توسيع قاعدتها. وكان المجلس السلطاني الذي شكله يضم
ممثلي مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية.
وأبدى سلطان آخر هو تركي بن سعيد الذي حكم البلاد في فترة عصيبة، عندما
اضطرت عمان إلى التكيف مع تعدد القوى الجديدة في العالم، أبدى اهتماما كبيرا
بلقاء أبناء القبائل، وسعى دوما إلى مشاركتهم أتراحهم وأفراحهم. ثم إن جد
السلطان قابوس بن سعيد كان يقوم بجولات طويلة في ربوع البلاد يقوم خلالها بحل
الخلافات، ويستمع إلى آراء علماء الدين والمشايخ
واتضح أن تجربة تيمور بن فيصل هي الأعز والأقرب إلى قلب السلطان الشاب
الذي كان يبحث عن آلية فاعلة للتواصل مع الشعب. فهو يعرف جيدا تاريخ بلاده ويحب
تقاليدها لدرجة عصمته من التقيد بنصائح الذين اعتبروا البرلمانية الغربية
النموذج | الأمثل للبناء السياسي فهو على أية حال عزم على الإصلاح ليس من أجل
كسب ثناء لندن أو باريس، بل من أجل تحسين معيشة شعبه الذي عاش قرونا طويلة
في ظل التقاليد الديمقراطية القبلية. لقد وجد قابوس بن سعيد طريقا آخر، فغدت
البلاد كلها برلمانا له.
صمم السلطان - بعد الجولة الأولى القصيرة نسبيا في المنطقة الداخلية - على
معرفة باقي المناطق بأفضل شكل ممكن والتعرف شخصيا على أبرز المشايخ
والأعيان والإصغاء إلى حاجات الناس.
وعندما تسلم السلطان قابوس السلطة لم يكن قد زار كل مناطق البلاد ولكن بعد
سنوات قليلة أصبح من أكثر العمانيين إطلاعا على أحوال وطنه. وتحولت جولاته
الطويلة مع مرور الزمن إلى صيغة من صيغ العمل السياسي، وإلى دورات فريدة
لمجلس عام يحضره أبناء الشعب لمعرفته بأن السلطة الفعلية في ظل نظام الحكم
السلطاني والملكي تعود إلى القادرين على الوصول إلى الحاكم فقد قرر السلطان أن
يكون هذا الشكل من العلاقة ذا مضمون ديمقراطي. فلئن كان والده الذي لازم القصر
في صلالة سنين طويلة مثالا حيا على هذه الحقيقة فقد بذل السيد السلطان قابوس
قصارى جهده ليكون وصول أي فرد من أفراد الشعب إليه، سهلاً ميسورا.
أبناء
كان يجوب المناطق بانتظام ، الواحدة تلو الأخرى، ويتلقى أثناء لقاءاته مع
الشعب عددا هائلا من الطلبات والمقترحات، فيصوغ بناء على ذلك كله مهمات
واضحة للوزارات والسلطات المحلية وتتكرر الرحلات والجولات ويتأكد قابوس بن
سعيد شخصيا من تحقق ما وجه إليه. وبهذه الصورة لم يستطع الموظفون أن يتحولوا
إلى فئة عازلة أو حجاب حاجز بين السلطان والمواطنين؛ ذلك أنهم أصبحوا خاضعين
للمراقبة والمتابعة سواء من السلطان شخصيا أو من أجهزة الدولة.
وقال السلطان بحق لقاءاتي هذه مع شعبي ذات أهمية بالغة بالنسبة لي. ومن
تقاليد بلادنا توفير الفرصة لكل عماني أن يلتقي سلطانه من دون وسطاء (۲۸) .
خلال ثلاثين عاما من حكم قابوس بن سعيد نشأ سيناريو فريد للجولات السلطانية
السنوية في ربوع البلاد. وكما هو حال أي عمل من هذا النوع تغدو تلك الجولات عيدا
لجميع المشاركين فيها ، فأقواس النصر العفوية مزينة بصور السلطان والرايات
المرفرفة تستقبل موكب الحافلات الطويل الذي يشق الطريق إليهم.
وبينما يقود السلطان قابوس السيارة بنفسه وقف الرجال بدشاديشهم البيضاء
على جانبي الطريق يلوحون بأيديهم تحية للقادم الكريم والأطفال يهرعون من
مدارسهم ليحيوا سلطانهم المحبوب. وبين الفينة والفينة تسرع نساء من وسط
الجموع ينثرن الورود على سيارة السلطان، بينما يرفع قابوس بن سعيد يده عن المقود
من آن لآخر ليحيي مستقبليه المستبشرين بقدومه إنه هو الذي يقود سيارته بنفسه،
فإذا لفت نظره شيء يتوقف ، ويدخل في حوار حميم مع المواطنين. ويعرج على القرى
وبيوت الشعر ويتفقد المشاريع التنموية وعلى مقربة من القرى، وسط البادية أو على
السفح الذي تنمو فوقه أشجار الأكاسيا المتناثرة هنا وهناك، يقام للسلطان ومرافقيه
مخيم متواضع وليس بعيدا عنه ترابط وحدة عسكرية نقالة مسئولة عن حراسة المقر
المؤقت لرئيس الدولة، وعلى أطرافها الخفراء الذين يسهرون على حراسة المقر ليل
نهار. وعلى مسافة من المكان تحت ظلال الأشجار، تقضي النهار جموع من الناس
محتمية من أشعة الشمس. بعضهم يأمل فقط أن يرى السلطان في جولته وبعضهم
يريد أن يسلمه عريضة أو التماسا.
وفي اليوم المقرر عند العصر عادة تصل المخيم مئات السيارات، ويتوجه إلى
مصاطب الساحة الفسيحة على مهل أبرز وجهاء وأعيان المدن والقرى وبأيديهم
العصي . ويتناقلون الأخبار المحلية، ويتناقشون في الأحداث السياسية بصوت خفيض
في انتظار السلطان.
عندما يصل جلالته يرحب به الجميع ثم يصافحونه فردا فردا ويسلمونه الكثير
ن مع
من المظاريف الحاوية للطلبات والالتماسات. وبعد ذلك يتحدث السلطان م
الحاضرين بحديث هو أقرب إلى التأملات المسموعة وإلى أحاديث الأصدقاء في
الشئون والشجون والخطط المرتقبة وعما تم أو لم يتم وعما يشغل بال السلطان اليوم
وكل يوم.
ويسترشد السلطان بمشورة الرعية وهو يشعر فعلا بحاجة ماسة إلى نصائح
المواطنين ،العارفين، فالعديد من قراراته ومراسيمه تظهر إلى الوجود عادة بعد لقائه
في البرلمان الشعبي أو برلمان عمان المفتوح أثناء الجولات السلطانية.
ويقترب المساء. وتتكاثف زرقة السماء سريعا، ولا يرى الشفق القاني إلا عند مغيب
الشمس. ثم تتلألأ .النجوم. وتنطلق أطياف الطيور القادمة على خلفية الشفق الوردي
وكأنما هي أيضا تسرع لتسمع ما يقوله زعيم هذه البلاد.
ويأتي دور الراغبين في توصيل آرائهم وأفكارهم إلى السلطان. وهذه المرة أيضا
يختلف شكل الحوار والمناقشة عن كل ما هو معتاد من الممارسات في المحافل
والندوات الغربية السلطان جالس على مصطبة بسيطة مسندا يديه إلى العصى
وإلى جانبيه، وعلى مسافة قريبة، تجد كبار رجالات الدولة جلوسا أو وقوفا. والجميع
في دشاديش ناصعة البياض وعمائم الكشمير أو القطن وخناجر معلقة في الحزام.
والبنادق الرشاشة في أيديهم، وسائر الحاضرين تقريبا في نفس اللباس وعلى
مصطبة أخرى مقابل السلطان يتعاقب الوافدون للمقابلة فيجلس الواحد منهم ويتكلم
دقائق معدودات والسلطان يصغي بكل انتباه، وفي أحيان نادرة يوجه سؤالا أو يطلب
تفصيلا في الموضوع. ويحدث أن يستدعي أحد معاونيه أو وزرائه ويكلفه بالمتابعة
وبحث فكرة ما جذبت أو لفتت انتباهه. وقد يحدث أن يسلم بعض القادمين السلطان
بحوثا كاملة أعدوها في موضوع ما .
وتنتهي اللقاءات بقصائد يلقيها الشعراء في مدح السلطان أو مقطوعات يتحدثون
فيها عن اهتمامات المناطق التي يقيمون فيها. واحياناً يختم اللقاء بمنوعات غنائية
متواضعة، فيصدح الناي وتقرع الطبول والرجال ينشدون حماسياً أو موالاً مأثوراً.
وعلى ضوء المواقد تلمع النصال والراقصون يقفزون ملوحين بالسيوف، فرحين
سعداء.
يزور السلطان عادة في سياق جولته في ربوع البلاد ثلاثا من المحافظات
والمناطق الثماني. وهو يحط الرحال في عدة مخيمات ويقضي في كل منها أسبوعين
أو ثلاثة.
.ة وفي تلك الفترة يتفقد الوزراء وكبار الموظفين المرافقون له القرى
والأرياف ومقامات البدو ويستفسرون من الناس عن حاجاتهم وهمومهم ويتخذون
القرارات ميدانيا. وبناء على هذه المناقشات توضع خطط عمل الوزارات في مسقط
ودوائرها المحلية.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا الشكل المثمر من الاتصال بالشعب لم تحل
الجولات السلطانية السنوية طبعا محل المؤسسات التمثيلية الديمقراطية الدائمة.
فالسلطان منذ أن اعتلى العرش أعرب عن نيته في تطوير الأسس الديمقراطية
للسلطة، وهو بالطبع ماض في تنفيذ وعده فما إن وضعت الحرب الأهلية الطويلة
أوزارها في ظفار حتى شرع قابوس بن سعيد بوضع آلية مجلس شبيه بالمجلس
السلطاني لجده العظيم. وفيما بعد أشار إلى أهمية المؤسسات التمثيلية قائلا: بالطبع
التمثيل الشعبي يساعد على الاستقرار الوطني. فإن حرمان الشعب من تقرير مصيره
ومعاملة الناس معاملة العبيد الذين لا يصلحون إلا للانقياد دون الأخذ برأيهم – ذلك
هو طريق الويلات والمصائب ولم يكن ذلك أبدا هو طريق عمان. وأنا أريد أن أعاهد
المواطنين بأن التمثيل الشعبي سيتطور في المستقبل لخيرهم وخير البلاد
كان من المقرر في المرحلة الأولى تشكيل هيئة دورية يعين رئيس الدولة أعضاءها.
ففي سنة ۱۹۸۱م صدر المرسوم السلطاني بتأسيس المجلس الاستشاري للدولة الذي
ضم ١٧ من ممثلي الولايات و ۱۷ موظفا في الدولة و ۱۱ من ممثلي القطاع الاقتصادي
الأهلي الخاص. وفي ٣ نوفمبر من العام ذاته اجتمع أعضاء المجلس الجديد في قصر
العلم العامر في أول جلسة رسمية لهم، وصاغ السلطان قابوس في خطابه أمامهم
مهمات المجلس على النحو التالي: إننا إذ نعهد إلى مجلسكم بمهمة إبداء الرأي
والمشورة في السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، فإننا نريد بذلك أن
يكون المجلس إطارا لجهد مشترك بين القطاعين الحكومي والأهلي، يتناول بالدراسة
أهداف وأبعاد خططنا الإنمائية، والأولويات المقررة لمشروعاتها والمعوقات التي قد
تصادف تنفيذ هذه الخطط والحلول المناسبة لها، ولهذا كان حرصنا على تمثيل
القطاعين الحكومي والأهلي معا في هذا المجلس تمثيلا يحظى فيه القطاع الأهلي
بالأغلبية في عدد الأعضاء الذين يمثلون مختلف المناطق؛ وذلك لكي يكون المجلس
على مستوى الهدف النبيل الذي أنشئ من أجله، وهو أن تؤخذ رغبات وحاجات
المواطنين بعين الاعتبار في رسم سياستنا الوطنية في المجالين الاقتصادي
والاجتماعي، ولكي يكون المجلس أيضا مجالا حيويا للتفاعل والتكامل بين الآراء.
والتعاون التام بين الحكومة والمواطنين فيما نحن بصدده من مهام وواجبات المرحلة
الراهنة من مراحل التنمية.
كان المجلس يتجدد مرة كل سنتين. ويقوم أعضاؤه برحلات كثيرة في ربوع البلاد
ويتقابلون مع الولاة وممثلي السكان، مما وفر الفرصة لتقديم تحليل موضوعي لأنشطة
الحكومة وتقويم فاعلية برامج التنمية ومردودها بالإضافة إلى ذلك غدا المجلس
الاستشاري للدولة بمثابة مدرسة للنشاط الاجتماعي الفاعل لمواطني السلطنة. ومع
مرور الوقت صار التلفزيون ينقل دورات المجلس، وتوفرت لكل فرد فرصة متابعة
المداولات فيها.
وفي سنة ۱۹٩١م حل مجلس الشورى محل المجلس الاستشاري. وكان تغيير
التسمية يشير إلى التغييرات الجذرية التي طرأت على كيفية تشكيله وعلى صلاحياته.
فقد استند نشاطه هذه المرة إلى مبدأ الشورى الاسلامي
(۳۰). وتوفرت للمواطنين
أحقية التصويت على المرشحين لعضوية المجلس (۳۱) ولم يعد موظفو الحكومة
أعضاء فيه بعد ذلك.
وأصبح مجلس الشورى وسيلة لمساعدة الحكومة في بحث القضايا ووضع
التوصيات في مجالي السياسة والاقتصاد والمالية وتعقد دورات المجلس الاعتيادية
أربع مرات في السنة وتستغرق الواحدة منها أسبوعا.
أما العمل الأساسي فكان يجري في الهيئات الدائمة المشكلة من قبل أعضاء
المجلس. وتألفت لهذا الغرض عدة لجان مهمتها النظر في اللوائح القانونية التي
تقترحها الوزارات قبل أن تصبح سارية المفعول عن طريق المراسيم السلطانية التي
يتم إصدارها. ويلتزم الوزراء بحضور جلسات اللجان وإعطاء بيانات وردود على
(۳۰) في حديثه مع المؤلف بمدينة مسقط في ٢٦ ديسمبر ۱۹۹۸م قال رئيس مجلس الشورى ان مبدأ الشورى
الإسلامي يعني مشاركة كل فرد في تصريف شئون الدولة. وثمة تفاسير عديدة للآية الكريمة بهذا
الخصوص، والعادة أن يشارك في الشورى أبرز رجالات المجتمع وأرفعهم منزلة من المؤهلين لإعطاء
الفتوى والأحكام في أكثر قضايا حياة المجتمع إلحاحا. وفي عمان تبنى مبادئ الشورى على هذا الأساس،
بالإضافة إلى ذلك يطبق المسئولون بمرونة وسداد كل المستجدات الرشيدة في هذا المجال. فالانفتاح
على التجارب الجديدة هو ما يميز عمان.
(۳۱) قال وزير الداخلية في حديث مع المؤلف عن الأطراف والجهات المشاركة في انتخاب مجلس الشورى
بأن الفئات التي حددها القانون للمشاركة في الانتخابات هي واحد من كل ٢٥ مواطنا في الولاية، وبأن
لا يقل سنه عن ۲۱ سنة، وأن يكون من الفئات المحددة في القانون والتي تمثل مختلف عناصر المجتمع،
وبأن الولايات التي يزيد عدد سكانها عن ٣٠ ألفا فما فوق يمثلها عضوان في مجلس الشورى والذين
يحصلون على أعلى الأصوات هم الذين يصبحون أعضاء في المجلس.
الاستجوابات (٣٢) . وذلك بهدف اطلاع أعضاء المجلس بشكل أوسع.
بعد ثلاثة أعوام جرت الانتخابات الثانية لمجلس الشورى، وتجلى عنصر الإثارة
فيها أن امرأتين عمانيتين انتخبتا لعضويته لأول مرة. وقد ازداد عدد الأعضاء عموما
إلى ۸٠ شخصا بموجب نتائج إحصاء النفوس الأول الذي أجري في عمان في ديسمبر
۱۹۹۳م
ودشن المرسوم السلطاني رقم ۱۰۱ الصادر في ٦ نوفمبر ١٩٩٦م بداية
مرحلة جديدة في حياة البلاد فيه غدا النظام الأساسي للبلاد ساري المفعول.
وتحدث السلطان قابوس بن سعيد في احدى مقابلاته الصحفية عن قصة وضع هذا
المرسوم فقال: عندما اقترب يوبيلي الفضي قلت لنفسي: آن الأوان واستدعيت أربعة
أشخاص ممن أضع فيهم كامل ثقتي، وكلهم عمانيون وجلست معهم وعرضت عليهم
(۳۲) حدد رئيس مجلس الشورى في حديثه مع المؤلف الاتجاهات الأساسية لنشاط المجلس مؤكدا أنه يتمتع
بصلاحية المبادرة التشريعية لتعديل بعض القوانين السارية حاليا، وهو يبحث الأوضاع الاقتصادية
والاجتماعية في البلاد ويتقدم بمبادرات في شأنها كما يقدم المجلس توصيات في أهم مسائل تطوير
المجتمع العماني والمشاركة في إعداد الخطط التنموية الخمسية. وبعد أن ترد الخطة الخمسية من
الحكومة يناقشها مجلس الشورى في اللجنة الاقتصادية وبمساهمة الوزراء ثم تحال إلى السلطان
للمصادقة. ويجري إعداد الخطط الخمسية وفقا للتقسيمات الجغرافية والإدارية للبلاد.
ويتضح من أقوال رئيس مجلس الشورى أن التدابير المذكورة وكثيرا غيرها مما ينظر فيه المجلس تلازم
عمل أي مجلس نيابي أو برلمان في سائر البلدان خاصية الهيئات التمثيلية العمانية تكمن في آلية
تشكيلها وفي حجم صلاحياتها، وكذلك بالطبع في أسلوب عمل أعضائها مع عامة الناس. فالاتصالات
فيما بينهم وبحث شتى المسائل يتم في الغالب ليس في المكاتب، بل في منازل أعضاء المجلس وهم
يحتسون الشاي أو القهوة، الأمر الذي يشبه اجتماع أبناء القبيلة إن التقاليد الديمقراطية في عمان
وعمرها آلاف السنين تغني التصورات السائدة في العالم عن الحكم الشعبي. فهذه التقاليد تصادفك ،
كل خطوة تخطوها في ربوع هذه البلاد. ويكفي أن تلقي نظرة على سجل أرقام التليفونات في أي فندق أو
أية دائرة بريد حتى تدرك مدى ديمقراطية هذا البلد التي تجسد العادات والأعراف الأزلية، فهناك تقرأ
أرقام تليفونات جميع كبار المسئولين وجميع أفراد العائلة السلطانية، ما عدا السلطان نفسه. وهي أرقام
حقيقية يرد على مكالمتك بها ليس السكرتير أو المعاون بل المسئول الكبير المذكور اسمه في أرقام دليل
الهاتف. فهل نعرف بلدانا كثيرة فيها مثل هذا الانفتاح على السلطة وانفتاح السلطة على عامة الناس؟
ما يدور في بالي وأمهلتهم سنة حتى يصوغوا ذلك في وثيقة قانونية، وبحثناها
مجددا ثم عقدنا الجلسة الختامية. وأعلنت النظام الأساسي أثناء جولتي السنوية
التي نسميها لقاء . مع الشعب من مخيم في الصحراء وسط عمان. ثم انتظرت رد
الفعل، وكان طيبا . والآن يطبق النظام الأساسي من خلال اللوائح التشريعية
والقرارات الإلزامية نقلا عن مجلة فورين افيرز، العدد ٣ سنة ١٩٩٧م.
ونصت المادة ٥٢ من النظام على وجود كيان جديد للتمثيل الشعبي هو مجلس
عمان. فأصبح مجلس الشورى الهيئة الأولى من مجلس عمان، فيما جرى تشكيل
مجلس الدولة ليكون هيئته الثانية.
۲۲
وجرت انتخابات مجلس الشورى الثالثة في عام ١٩٩٧م، وأصبح يضم ۸۲
عضوا . وآنذاك عين السلطان العضو الحادي والأربعين في مجلس الدولة وعهد
السلطان قابوس بالرئاسة للرئيس السابق الذي سبق أن اكتسب خبرة عميقة في
رئاسته للمجلس الاستشاري للدولة وفي عدد من المناصب الوزارية. وفي حديثه مع
المؤلف في " ديسمبر ۱۹۹۸م مستعرضا صلاحيات الهيئة الثانية لمجلس عمان قال
رئيس مجلس الدولة هذا المجلس الآن هو المرحلة الأخيرة في بناء المؤسسات.
وبالتالي هذه المؤسسات لكل منها دور معين في مرحلة معينة، فلا تؤسس إلا في الوقت
المناسب وعند الحاجة. فكانت أولى المؤسسات . الحكومة وأسست فعلا في سنة
۱۹۷۰م، لأن المرحلة كانت تقتضي وجود حكومة، لأنه لم تكن هناك حكومة من قبل.
وكان لهذه الفلسفة التي تكلمت عنها تصور في مخيلة صاحب الجلالة وكان يريد
أن يضع آليات لتنفيذها، وأن يقيّم نتائجها مرحلة مرحلة، وعند الوقت المناسب ينشئ
بجانبها مؤسسات أخرى تساعدها وتشد من أزرها. وأما في هذه المرحلة الأخيرة
هي
شهدت النهضة العمانية المباركة خلال ثلاثين عاماً إثراء المجتمع العماني بكل
عناصره وفئاته سواء على صعيد الشعب أو على صعيد أجهزة الدولة وآليات الاقتصاد
والثقافة والعلوم والتعليم. ومن عام لآخر تكتمل شبكة المؤسسات الصحية وتنتشر هنا
وهناك وتغدو العلاقات الدولية للبلاد والعلاقات فيما بين المواطنين أكثر تنوعا
وعمقا. إلا أن ذلك لم يؤد إلى التشرذم الاجتماعي ونشوء التناقضات الطبقية كما في
أرجاء أخرى من المعمورة بالعكس فالبلاد اليوم على أكبر قدر من الوحدة والإجماع.
وسياسة المصالحة التي طبقها قابوس بن سعيد سحبت منذ بداية عهده، البساط
من تحت أقدام الذين كانوا يحلمون بالتغيير من خلال العنف. فقد حرمتهم النهضة
المباركة التي أنجزها السلطان من أي سند في البلاد. وقد حقق العفو عن الخصوم
السياسيين ونهج عفا الله عما سلف ما لا تستطيع تحقيقه أشد أنواع القسر
والملاحقات بديهي أن هذه السياسة ليست فقط ثمرة الحسابات الواقعية الواعية، بل
هي أيضا سمة من السمات الروحية والإنسانية لرئيس الدولة. هذا بالإضافة إلى ما
تكشف عنه تدابير السلطان العصري من إرهاصات التاريخ وإشراقاته.
إن سماحة خلق السيد قابوس تذكرنا بسماحة الإمام ناصر بن مرشد الذي كسب ود
مجادليه وخلب البابهم بالعفو عن خصومه المغلوبين وتمكن من تهدئة البلاد بعد أن
استنزفتها الحرب الأهلية وأرسى أساس عظمتها التي غدت فيما بعد صرحا راسخا رائعا.
ويلاحق المتتبع لمجريات الأمور في عمان شعور بأن السلطان قابوس الملم أعمق
إلمام بتاريخ عمان قد نسج لنفسه صورة ومثالا أعلى للحاكم الرشيد الذي يستلهم
سجايا أعظم الحكام الذين سبقوه وخصالهم. متتبعًا خطاهم، سائرا على منوالهم
مضيفًا ما تميز به هو، ولا يشاركه فيه غيره.
قال وزير المكتب السلطاني في تصريح إلى الصحفيين في عمان في نوفمبر
١٩٩٩م الرأفة من سمات العظماء، ولا يجوز اعتبارها دليلا على الضعف. ولذا
فمرسوم العفو الذي وقعه صاحب الجلالة يعكس صلابة الدولة وتضامنها. ولا يوجد
في السلطنة سجناء سياسيون، إلا أن الدولة بالمرصاد لكل من يحاول أن يلحق الضرر
بمنجزات البلاد وهكذا فالرأفة والرحمة ليس من مرادفات ضعف الإرادة، وإنما هي
دليل السماحة الملازمة للمحارب العظيم. فاللين رديف الشدة وليس نقيضها. وذلك
هو الفارق بين الرؤية السلطانية وبين اللبرالية الفاترة الواهنة التي تتراجع خطوة
خطوة أمام التسيب والعيوب.
والحمد لله الذي أنهى قرنا من الفتن والحروب التي هزت العروش والمحاريب
وزعزعتها، فلم يصمد الكثير منها تحت ضربات الشر المسيطر الذي لبس لبوس
المناداة بالعدالة والمساواة. وعلى أنقاض الإمبراطوريات العظمى والحضارات قامت
معابد الأصنام والأوثان القاسية المتعطشة إلى الملايين من الأضاحي والقرابين
يقول المثل الروسي لا تخلو قرية من الصالحين وعلى نطاق البشرية جمعاء
الصالحون هم الشعوب القليلة التي تمكنت من الحفاظ على أسمى منجزات الحضارة
المتمثلة في نظام الدولة التاريخي الراسخ من يدري؟ قد تنبت هذه الشجيرات
القليلة المتبقية لتتحول من جديد إلى غابة كثيفة تكسو الأرض المتعبة بالخضرة
والهناء.
في العالم المعاصر حوالي ثلاثين دولة ملكية ، ۱۳ منها في آسيا و ١٠ في أوروبا و ٣
في إفريقيا و ۲ في أوقيانيا. ومن تلك الدول أكبر الأقطار التي دشنت العصر ما بعد
الصناعي، ومنها الأقطار التي حققت نجاحات تنموية كبرى في العقود الأخيرة. أما
الممالك المتخلفة فهي استثناء من القاعدة - النيبال وبوتان في هملايا، وليسوتو
وسوازيلاند في جنوب أفريقيا، وتانجو وجزر سليمان في بولينيزيا.