لخّصلي

ذاتَ يَوْمٍ، بَينَمَا كُنت في غرفتي، دَخَلَتْ عَلَيَّ والدتي، وَقَالَتْ: مَا بِكَ يَا هند ؟! أراك كتيبة حزينة (1) قُلتُ: غَدًا سَتُنَظُمُ مَدْرَسَتُنَا رِحْلَةً لِصَفْنَا الصَّفِ السَّادِسِ. قَالَتْ: إِنِّي أَرَى هَذَا الْأَمْرَ مَدْعَاةَ لِلْفَرِحِ وَلَيْسَ لِلْحُزْن. قُلْتُ إِنَّ الرَّحلَةَ سَتَكُونُ إِلَى مَعْرِضُ الكِتَابِ، وَأَنَا كُنتُ أتمنى أن تَكُونَ لإحدى المدن الترفيهية، فَأَيُّ مُتْعَةِ سَتَكُونُ فِي مكان تَصْطَفُ فِيهِ الكُتُبُ، وَأَيُّ تَسْلِيَةٍ سَتَكُونُ فِي . هذا المكان؟! قَالَتْ: أَمَّا أَنَا يَا بِنْتِي فَأَرَى أَنَّهَا سَتَكُونُ رِحْلَةً جَمِيلَةَ وتجربة مثيرة تستمتعون فيها جَمِيعًا، إِيَّاكَ أَنْ تَحْكُمِي عَلَى

شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ تُجَرِّبِيهِ ! فِي صَبَاحِ اليَومِ التَّالِي، كُنَّا عَلَى مَوعِدٍ مَعَ رِحْلَةٍ إِلَى معرض الكِتَابِ، وَكُنتُ طَوالَ الطَّرِيقِ أُحَدِّثُ نَفْسِي: أَيُّ مُتَعَةٍ

ساجِدُها في هذه الرحلة ؟!

دَخَلْنَا المَعْرِضَ، كَانَ مُزْدَحِمًا رِجَالًا وَنِسَاءً وَفِتْيَانًا
وَفَتَيَاتٍ، بَلْ كَانَ هُنَاكَ أَطْفَالٌ صِغَارٌ. صَحِبَتْنَا المُعَلِّمَةُ إِلَى

إِحْدَى قَاعَاتِ العَرْض، حَيْثُ اجْتَمَعَ فِيهَا عَدَدٌ مِنَ الزُّوَّارِ

وَقَالَتْ: قَبْلَ أَنْ تَأْخُذُوا جَوْلَةً في المعرض، أودُّ أَنْ تَسْتَمِعُوا مُؤْنِسٌ : مُلَاطِفٌ وَمُزِيلٌ

إلى الكتاب، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَكُم عَنْ نَفْسِهِ.

تعجِبْتُ وَقُلْتُ: كِتَابٌ يَتَحَدَثُ ..!!
بدأ العرض، وأصبحت ذاهلة ظهر أمامنا كتاب أنيق ذو تجليد فاخر وَالْوَانِ جَميلة، كُنتُ أتأمل منظره، وعُيونُ الزَّوارِ تَنظُرُ إِلَيْهِ، ابتسم إلينا بحب، ثُمَّ قَالَ أَشْكُرُكم على هذه الزيارَةِ الَّتِي خَصَصْتُمُونِي بها، ثم أكمل حديثه قائلا : ربما فَضْلَ بَعْضُ أَنْ يَقْضِيَ هَذَا الوَقْتَ في مكان للترفيه، أو في رحلة سياحية لإحدى المدن الجميلة وَرُبَّمَا فَضْلَ بَعْضُ أَنْ يَكُونَ في صفه الدراسِي يَتَلقَّى العِلْمَ والمعرفة من معلمه، وقد بود أَحَدُكُم أَنْ يَقْضِي سَاعَةَ النَّهَارِ هَذِهِ فِي تَنَاوُل وجبة إفطار شهية، لكن الذي لا يَعْرِفُهُ بَعْضُكُم عَنِّي أَنِّي أَقَدِّمُ كُلَّ

ذلك: متعة الترفيه، وجمال السياحة، ومَخْزُونَ العِلْمِ، وَكُلَّ مَا لَنَّ

وطاب من غذاء العقل. إنَّنِي اتَقُلْ بِكُم بَينَ المَاضِي وَالحَاضِرِ وَالمُسْتَقْبَلِ دُونَ أَنْ تُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُم مَشَقَّةَ السَّفَرِ، وَأَقَدِّمُ لَكُم أَلْوَانَا من المعارف والخبرات، فَمَعِي لَا يَشْعُرُ إِنْسَانُ بِضَجَرٍ أَوْ مَلَلٍ، فَأَنا مُؤنس في الوَحْدَةِ، وَصَدِيقُ صَدُوقُ فِي

الرَّجَاءِ وَعِندَ الشَّدَائِدِ، لَا أَفْشِي سِرًّا، وَلَا أَكْتُمُ نَفْعًا.

أخذني حَدِيثَهُ السَّاحِرُ الذي وَاصَلَهُ بأسلوبه الجميل، فلقد نعم المتحدثُ، فَقَالَ: مُنذُ نحو سَبْعَةِ آلاف

سنة ولدت في أرض الرافدين، لَقَدْ كُنتُ يَومَئِذٍ الْوَاحًا

فِيهَا وَتُجَفَّفُ، وَظَهَرَتْ نُقُوشي

في مواضع كثيرة من الجزيرة العربية، حتى اخترع

الورق، فَأَصْبَحْتُ لُفَافَاتِ وَرَقِيَّةً سَهْلَةَ الحفظ

ثُمَّ ظهرت المطابعُ فَتُمْقَتْ صَفَحاتِي بالخطوط الجميلة والصور الملونة، وَكَثُرَتَ المَكْتَبَاتُ الَّتِي تَحْتَوِينِي

رُفُوفُهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى قراءتي الكبيرُ وَالصَّغِيرُ.

ومع التطور الذي يَعِيشُهُ العَالَم تطورت أشْكَالِي فَإِضَافَةً إِلى الكِتابِ الورقي ظَهَرَ الكِتَابُ الإِلتَرُونِي الَّذِي تقروه في جهازك الحاسوبي أو جهازك الهاتفي المتَنَقْلِ حَيثُ كُنْتَ، بَلْ أَصْبَحْتُ كِتَابًا نَاطِقَا كَمَا أَنَا أَمَامَكُم

الآنَ، أَفَلَا يَسُرُّكُم أَنْ تَعْرِفُوا عَنِّي مَزِيدًا مِنَ المَعْلُومَاتِ فِي هَذَا المَعْرِضِ الَّذِي كَافَةَ أَنْوَاعِي وَأَشْكَالِي انْصَرَفَ الكِتَابُ، وَبَقِيَ انْبِهَارُ الجَمِيعِ بِمَا قَدَّمَ، وَتَدَفَقنَا بِكُلِّ حَمَاسَةٍ بَينَ أَرْكَانِ الْمَعْرِضِ، مَا زَالَتْ كَلِمَاتُ الْكِتَابِ قرن فِي أُذُنِي، وَأَنَا أَكْثَرُهَا، لأحَدْثَ أَمِّي عَنْ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ الثَّرِيَّةِ وَالمُثِيرَةِ، وَأَقُولُ: الْكِتَابَ الكِتَابَ فَإِنَّهُ خَيْرُ
رفيق