لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (72%)

(تلخيص بواسطة الذكاء الاصطناعي)

الفصل السادس: موقف الإمبراطورية البيزنطية من البرابرة في القرن السادس

كان جستنيان الأول (٥٢٧ - ٥٦٥) حاكماً فعلياً للإمبراطورية قبل توليه العرش رسمياً في عام ٥٢٧م، وقد اكتسب خبرة واسعة في شؤون الحكم والإدارة. كان جستنيان معروفاً ببساطته، وتودده للناس، وعمل ليل نهار حتى أطلق عليه لقب "الإمبراطور الساهر". كما كان يميل إلى التحكم في كل شيء، وعدم قبول أي قرار إلا قراره. ورغم ظاهره الحازمة، إلا أنه كان شديد التأثر بآراء حاشيته، خاصة زوجته ثيودورا.

ثورة نيقا (النصر) ٥٣٢م

في عام ٥٣٢م، أي بعد خمس سنوات من حكمه، واجه جستنيان ثورة داخلية كادت أن تسقط عرشه. عرفت هذه الثورة باسم "ثورة نيقا" (أي النصر باللغة اليونانية). نشأت هذه الثورة من انقسام سكان القسطنطينية إلى أربعة أحزاب رياضية، كل حزب يدعم لونًا معينًا لسائقي عربات السباق في الهيبودروم (المكان الذي كان يتم فيه تتويج الإمبراطور حتى نهاية القرن السادس الميلادي).

مع مرور الوقت، تحول هذا التضامن الرياضي إلى تضامن اجتماعي وديني، فأصبح في العاصمة حزبان: الزرق والخضر. حزب الزرق دعم المذهب الأرثوذكسي، بينما دعم حزب الخضر القول بالطبيعة الواحدة. تطور الأمر ليشمل السياسة، حيث أصبح حزب الزرق يتظاهر ضد الإمبراطور أناستاسيوس، ومع اعتلاء جستنيان عرش الإمبراطورية، استمر الزرق في معارضته.

زادت المشكلة تعقيداً بسبب تعاطف ثيودورا مع الخضر، مما أدى إلى صراع طبقي امتد إلى البلاط الإمبراطوري.

أدت عدة عوامل متشابكة إلى إشعال نار الثورة، منها العوامل الدينية والطبقية، وعدم رضا البعض عن اعتلاء جستنيان العرش.

كان العامل المباشر هو تجاوز يوحنا القبادوقي وتريبونيان (وزير الخزانة وقاضي الإمبراطورية على الترتيب) في ابتزاز الأموال من الشعب، وهو ما أثار غضب الزرق والخضر.

اندفعت الحشود إلى الهيبودروم، ودمرت وحرقت المباني، وصرخوا "نيقا" (أي النصر)، وهو ما أعطى اسمًا للثورة.

تطورت الحركة بسرعة، وانضم إليهم سكان الريف بسبب الضرائب الفادحة، وهدد الثوار بعزل الوزراء.

حاول جستنيان مفاوضة الثوار، ولكنه تأخر.

زادة حدة الصراع بانضمام بعض النبلاء إلى الثورة، ووصلت الأمور إلى حد تتويج هيباتيوس (ابن أخ الإمبراطور أناستاسيوس) إمبراطوراً.

أصبح جستنيان محاصراً في القصر، ولم يبق لديه سوى أربعة آلاف من الحرس الإمبراطوري وحوالي خمسمائة من الخيالة.

اختار جستنيان الحرب، ووضع بلزاريوس على رأس القوات للقضاء على الثورة.

اشتعلت المعارك في الميدان الكبير، وأدت إلى احتراق كنيسة آيا صوفيا وكنيسة سانت إيرين.

أقنعت الإمبراطورة ثيودورا زوجها بعدم الفرار، وهددت بإشعال النار في القصر، مما دفع جستنيان إلى مواجهة الثوار.

نجح بلزاريوس في حصار الثوار داخل الهيبودروم، وانتهى القتال بمقتل آلاف من الثوار، ويقال أن خمسة وثلاثين ألف رجل قتلوا خلال الستة أيام التي دامت فيها الثورة.

الإصلاحات الداخلية

ظهر في بعض أجزاء الإمبراطورية، خاصة الشرقية، عدد من أصحاب الأملاك الكبيرة الذين اغتصبوا أراضي الإمبراطورية وسيطروا على أهاليها.

لم تقف الحكومة البيزنطية مكتوفة الأيدي، وواجهت هذا الأمر بمنع الملاك من الإرث أحياناً، وإجبارهم على وقف أملاكهم لصالح الإمبراطورية.

كان الأمر أصعب في حالة أملاك الكنائس والأديرة، فكانت الدولة تلجأ إلى اتهام الدير بأكمله بالزندقة لتحويل موارده إلى خزانة الدولة.

لم يتمكن جستنيان من القضاء على طبقة الملاك، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة، فقد زادت المشكلات الداخلية بسبب الزلازل، وانتشار الأوبئة، مما أدى إلى هجرة السكان، وانتشرت المجاعة.

قرر جستنيان إصلاح عيوب إدارة الدولة، و رأى أن أفضل طريقة هي تقوية الحكومة المركزية واختيار أفضل الرجال للقيام بشؤون الحكم.

ركز على ضبط موارد الدولة، وطلب من الأهالي دفعها بانتظام، والتزم الجباة بمعاملة الأهالي بالحسنى، والعدل.

لجأ جستنيان إلى مهادنة بعض الدول المعادية وشراء رضاهم بالأموال لخفض نفقات الحرب.

كما قلل من عدد الموظفين وزاد من رواتبهم، وأعاد نظام الحكم المحلي إلى ما كان عليه قبل عهد قسطنطين.

أنشأ جستنيان نظاماً لربط المقاطعات الغنية بالفقيرة، و عاد إلى سياسة دقلديانوس بربط الأولاد بمهنة آبائهم، ووضع رقابة شديدة على التكتلات الرياضية والسياسية.

اهتم جستنيان بأمر العاصمة، فمنع أي شخص من دخولها دون عمل، وعين حكام للنظر في حوادث السرقات والاغتيالات.

أصدر تعليمات مشددة إلى الحكام بالمحافظة على الطرق والجسور وخزانات المياه وأسوار المدن، مما أدى إلى إنشاء الطرق الجديدة، الجسور وحفر الآبار وبناء الحمامات .

أعاد جستنيان بناء كنيسة آيا صوفيا عام ٥٣٢م بعدما أصابها من دمار، فضلاً عن العناية ببناء عدد من الكنائس والمستشفيات.

موقف جستنيان من التجارة الخارجية

أراد جستنيان تحرير تجار الإمبراطورية من احتكار الفرس للتجارة، حيث أن الفرس كانوا يحتكرون كل أنواع التجارة الآتية من الهند والصين مثل الحرير والبخور والأحجار الكريمة.

سعى جستنيان إلى الوصول إلى مركز هذه التجارة في مدينة بخارى عبر البحر الأسود وبحر قزوين، كما اتصل بملك الحبشة لنقل تجارة الصين إلى البحر الأحمر، وشجع تجار مصر والشام على استيرادها.

الإصلاحات القانونية

رأى جستنيان أن أفضل وسائل جمع المال من الأهالي هي حمايتهم من ظلم الحكام، فجمع القوانين القديمة، وعهد إلى تريبونيان ولجنة تحت إدارته بهذا العمل.

ظهرت مجموعة القوانين، ووضعت قوانين للأحوال الشخصية، وصدر في عام ٥٣٣م المصنف الهائل المسمى بالموجز.

استمرت سلسلة مطولة من القوانين التكميلية أطلق عليها إسم القوانين المستجدة، حتى نهاية عهد جستنيان، وهو ما أدى إلى تنظيم القانون البيزنطي بشكل كامل.

حروب جستنيان مع الفرس

وقع الصراع بين الفرس والبيزنطيين بسبب محاولة تسوية مشكلة الحدود عند مدينة لازيكا الغنية بالنفط.

نجح بلزاريوس في وقف تقدم القوات الفارسية، وتجددت الحرب مع تولي كسرى أنو شروان العرش الفارسي.

قبِل جستنيان الصلح مع الفرس ليتفرغ لمشاريعه في الغرب، وأمن الحدود الشرقية بإقامة تحالفات مع أمراء القوقاز وملك الحبشة.

تجددت الحرب مرة أخرى مع الدولة الفارسية في عام ٥٤٠ م، بسبب انتصارات جستنيان في الشمال الإفريقي وإيطاليا، وتشجيع القوط للملك الفارسي لمحاربة الإمبراطورية البيزنطية.

استمرت الحرب، و انتهت بعرض جستنيان الصلح على كسرى.

لم يدم الصلح طويلًا، فهاجم كسرى أملاك الإمبراطورية في عام ٥٤١ م، مستهدفاً المناطق الأرمينية وشرقي البحر الأسود.

استمرت الحرب حتى عقد هدنة بين الطرفين في عام ٥٤٤ م، وتعهد كسرى بمراعاة حقوق المسيحيين من رعاياه، وأن يمنع جستنيان المبشرين المسيحيين من التبشير في الأراضي الفارسية، ودفع جستنيان جزية سنوية.

حروب جستنيان في الغرب

كان القسم الغربي من الإمبراطورية تحت سيطرة الجرمان، فكان القوط الشرقيون يحكمون في إيطاليا، والقوط الغربيون في أسبانيا، والفرنجة في غالة، والوندال في الساحل الإفريقي، والأنجلوسكسون في الجزر البريطانية.

ركز جستنيان على استعادة أملاك الإمبراطورية في الغرب، ونجح في إعادة فتح بعض البلاد مثل إفريقية وإيطاليا.

جستنيان والوندال

بدأت أحداث فتح إفريقية في عام ٥٣٣ هـ عندما سار بلزاريوس على رأس ستة عشر ألف محارب، وذلك بعدما عزل جليمر ملك الوندال هيلدريك عن العرش.

نزلت الجيوش البيزنطية على الساحل الإفريقي دون مقاومة، واتخذت طريقها إلى العاصمة قرطاجة.

انتصر بلزاريوس في معركتين، وسقطت قرطاجة، و سلم جليمر نفسه لبلزاريوس.

عاد الساحل الإفريقي لحكم الإمبراطورية الرومانية، وعاد بلزاريوس إلى بلاده بعدما ترك جيشاً صغيراً للسيطرة على البلاد.

أعاد جستنيان الأحوال إلى ما كانت عليه قبل الغزو الوندالي، وأعاد الأراضي والمزارع إلى أصحابها الرومان.

واجهت الإمبراطورية صعوبات بسبب تذمر الناس من الضرائب، وخروج البربر من حصونهم في غارات للسلب والنهب.

ولكن بفضل القادة البيزنطيين، وتنازع قبائل البربر، تمكنت القوات البيزنطية من السيطرة على الموقف في عام ٥٤٨ م.

جستنيان والقوط الشرقيون

خطط جستنيان في عام ٥٣٦ م لغزو إيطاليا، بحراً وبرا، وسقطت جزيرة صقلية دون مقاومة.

هدف بلزاريوس إلى الاستيلاء على نابولي، ورغم استبسال حاكم القوط في الدفاع عنها، إلا أنه لجأ إلى التفاوض.

رفض بلزاريوس عروض حاكم القوط، وسقطت نابولي في أيدي قوات بلزاريوس.

خلع الجيش القوطي حاكماً وعيّنوا مكانه ويتيجز.

انسحب ويتيجز إلى رافنا لينظم قواته، وأعطى الفرصة للقوات البيزنطية للسيطرة على مدينة روما.

أظهر جستنيان استعداده للصلح مع القوط، ولكن بلزاريوس رفض التخلي عن انتصاراته.

عُرض على بلزاريوس أن يكون ملكاً للقوط، ولكنه ما كاد يدخل رافنا حتى قبض على وينيجز وحاشيته وأرسلهم أسرى إلى القسطنطينية.

ثار القوط بزعامة توتيلا، الذي تمكن من السيطرة على سهول إيطاليا.

نجح توتيلا في عام ٥٤٩ م من استعادة مدينة روما.

أرسل جستنيان حملة ضخمة وعلى رأسها نارسيس، الذي استولى على تحصينات توتيلا في إقليم دالماشيا.

انهزمت القوات القوطية في عام ٥٥٢م، و لقى توتيلا مصرعه.

استسلمت الحاميات القوطية في جنوب إيطاليا، في عام ٥٥٥م.

صمدت فيرونا وبريسكيا حتى عام ٥٦٣م بفضل مساعدات الفرنجة.

وانتهى حكم القوط الشرقيين في إيطاليا، وعادت ولاية بيزنطية، حتى الغزو اللومباردي في عام ٥٦٨، الذي استمر حتى عام ٧٧٤م حين خضعت إيطاليا للفرنجة بقيادة شارلمان.

سياسة جستنيان في أسبانيا

استقر المقام بالقوط الغربيين في أسبانيا في عهد ملكهم ثيودريك الأول.

تمكن القوط الغربيون من مد نفوذهم إلى مدينة سبتة، ولكن بلزاريوس تمكن من إجلائهم عنها أثناء حروبه مع الوندال.

حاول ثيودس استعادة سبتة لتقوية نفوذه ولاشغال قوات جستنيان، ولكن هذه المحاولة فشلت عندما هزمت قوات جستنيان القوط الغربيين في عام ٥٤٤م.

اختار القوط ثيوديجيزل ملكا عليهم بعد مقتل ثيودس.

رأى جستنيان فرصة للتدخل في أسبانيا، وأصدر تعليماته إلى ليبوروس حاكم الشمال الإفريقي بجمع قواته والعبور إلى أسبانيا.

نجح ليبوروس في الاستيلاء على الساحل الجنوبي، بمساعدة السكان الأصليين، وانضمام بعض الثوار إلى جيوش جستنيان.

سيطرت القوات البيزنطية على عدد من المدن، مثل قرطاجنه وقرطبة وغرناطة.

حاول القوط إجلاء القوات البيزنطية عن أسبانيا، ولكنهم لم ينتصروا إنتصارا حاسما.

تم عقد الصلح بين الطرفين، احتفظ بموجبه كل من الطرفين بما تحت يده من أراضي.

لم تتمكن القوات البيزنطية من التوسع في أسبانيا بسبب طبيعة البلاد، وانشغال قوات الإمبراطورية بالحرب في جبهات أخرى.

يرى بعض المؤرخين أن حملة جستنيان على أسبانيا كانت فاشلة، بينما يرى آخرون أن جستنيان حقق نجاحا بالسيطرة على جانب كبير من أسبانيا.

نهاية عصر جستنيان

لم تتناسب مشاريع جستنيان العظيمة مع طاقة الإمبراطورية المالية، فالعظمة والبذخ والإنشاء والتعمير في طول البلاد وعرضها، فضلاً عن الحرب، تطلبت مالاً كثيراً.

مع نهاية عهد جستنيان عجزت الدولة عن القيام بالتزاماتها، فتوقفت إصلاحاته وتناقص عدد قوات الجيش.

لجأ جستنيان إلى تغيير سياسته المالية، وبدأ بزيادة الضرائب، مما أدى إلى عودة الأحزاب السياسية إلى الظهور مرة أخرى، وقاموا بالاضطرابات داخل العاصمة.

رغم هذا، فليس من الصواب أن نحكم على عهد جستنيان بالأحداث الأخيرة في حياته، لأن أهدافه في الاصلاح الداخلي كانت رائعة، ومحاولاته إعادة مجد الإمبراطورية في أوروبا والساحل الإفريقي كان عظيما.


النص الأصلي

الفصل السادس


موقف الإمبراطورية البيزنطية من البرابرة في القرن السادس


إذا كان جستنيان الأول (٥٢٧ - ٥٦٥) قد تولى عرش الإمبراطورية بصفة رسمية في عام ٥٢٧ م ، فواقع الأمر أنه كان حاكماً للإمبراطورية في الفترة الأخيرة على الأقل من حكم سلفه الإمبراطور جستين وبتعبير آخر كان جستنيان ولياً للعهد وإنه كان الحاكم الفعلي للإمبراطورية ، ولا شك أن هذه الفترة قد أكسبته خبرة واسعة في شؤون الحكم والإدارة ويقول معاصرو جستنيان إنه كان يميل إلى البساطة في العيش والتودد في معاملة الناس وإنه كان يعمل ليل نهار حتى أطلق عليه لقب الإمبراطور الساهر ، كما أنه كان حريصاً على أن يعلم كل شيء وأن يناقش كل أمر، وألا يكون هناك قرار إلا قراره ولا يعارضه أحد ، ورغم أن مظهر جستنيان كان يدل على العزم والحزم إلا انه كان متردداً شديد التأثر بآراء حاشيته خاصة زوجته ثيودورا Theodora‏


ثورة نيقا Nika ( النصر ) ٥٣٢ م


واجه جستنيان عام ٥٣٢م أي بعد توليه الحكم بخمس سنوات ثورة داخلية كادت تقضي على عرشه ، وهذه الثورة عرفت بإسم ثورة نيقا أي النصر في اللغة اليونانية، وحتى يمكن تتبع أحداث هذه الثورة يجدر بنا إلقاء الضوء على نشأة الأحزاب التي قامت بهذه الثورة.
يرجع منشأ هذه الأحزاب إلى سباق الخيل الذي كان يقام في الهيبودروم Hippodrome وهو المكان نفسه الذي كان يتم فيه تتويج الإمبراطور حتى نهاية القرن السادس الميلادي، وفي الهيبودروم اهتم سكان القسطنطينية بمتابعة هذا السباق وتحموا له . وكان سائقوا عربات السباق يرتدون أربعة ألوان هي الأحمر والأزرق والأخضر والأبيض ، فانقسم المشجعون إلى أربعة أحزاب رياضية وأصبح شعار كل حزب اللون الذي يشجعه، وقام كل حزب بجمع التبرعات والاشتراكات للعناية بالسائقين وشراء الجياد والاهتمام بها، ومع مرور الوقت انقلب التضامن الرياضي إلى تضامن اجتماعي وانضم البيض إلى الخضر كما انضم الحمر إلى الزرق ، وأصبح في العاصمة حزبان هما الخضر والزرق، ثم انقلب هذا التضامن إلى الناحية الدينية فساند حزب الزرق المذهب الأرثوذكسي كما ساند حزب الخضر القول بالطبيعة الواحدة. وفي عهد الإمبراطور أناستاسيوس حل بالزرق اضطهاد شديد لأن هذا الإمبراطور كان يميل إلى تأييد الطبيعة الواحدة ، فانقلب الوضع الى أحزاب سياسية ، واتجه


حزب الزرق إلى الهيبودروم ونادى بسقوط الإمبراطور أناستاسيوس.


وبعدما اعتلى جستنيان عرش الإمبراطورية عاود الزرق نشاطهم لأنهم لم يرتضوا بجستنيان إمبراطوراً ، وزادت المشكلة تعقيداً أن ثيودورا زوجة الإمبراطور تعاطفت مع الخضر ، ولما كان الخضر من طبقات الشعب. الدنيا والزرق من الطبقات العليا فقد أصبح الأمر صراعاً طبقياً امتد أثره إلى البلاط الإمبراطوري.


وعلى ذلك يتبين لنا أن أسباب ثورة نيقا متعددة ومتشابكة منها ما هو ديني، ومنها ما هو طبقي ، يضاف إلى ذلك أن البعض لم يكن راضياً عن اعتلاء جستنيان عرش الإمبراطورية.


وأخيراً يأتي العامل المباشر الذي أشعل نار الثورة أن جستنيان اعتمد في بداية عهده على بعض الشخصيات في شؤون الحكم والإرادة ، ومن هؤلاء يوحنا القبادوقي وزيرا للخزانة، وتريبونيان في القضاء، وتجاوز الاثنان حدهما في ابتزاز الأموال حتى أن خزائن الدولة كانت عامرة في أقصى أيام الحرب أو المجاعة ، ولم يتحمل شعب القسطنطينية أكثر من ذلك فهب الزرق والخضر معاً واتجهوا إلى الهيبودروم واندفعوا منه يدمرون ويخربون ويحرقون، وينطقون بكلمة نيقا أي النصر فسميت الثورة بهذا الاسم.


ولم تمض بضعة أيام حتى تطورت الحركة واتخذت شكلاً بالغ الخطورة ، فقد أشعل الثوار النار في المباني ، وانضم إليهم سكان الريف الذين


أرهقتهم الضرائب الفادحة وأصبحت الثورة ثورة شعبية عامة ، وطالب


الثوار بعزل الوزراء المستبدين، وجزع جستنيان لما حدث من اضطراب ولجأ إلى مفاوضة الثوار في بداية الأمر، وظهر بشخصه وأقسم أمام الثوار على رفع المظالم، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان.


وزاد من غليان الثوار انضمام بعض النبلاء الذين يكرهون آل جستين إلى الثورة، وتطور الأمر وتوج الثوار هيباتيوس Hypatius ابن شقيق الإمبراطور أناستاسيوس، أما الإمبراطور جستنيان فصار محاصراً في القصر الإمبراطوري وأضحى وضعه في غاية السوء، وزاد من حرج الموقف أن العاصمة البيزنطية كانت خالية من الجند لأن الحامية كانت قد أرسلت للمشاركة في الحرب الفارسية ، ولم يعد لدى الإمبراطور سوى أربعة آلاف من الحرس الإمبراطوري وحوالي خمسمائة من الخيالة وقليل من الجنود.


لم يعد أمام الإمبراطور سوى الحرب أو الاستسلام فاختار الحرب ووضع قائده بلزاريوس على رأس القوات الموجودة بالعاصمة من أجل القضاء على الثورة، ولكن الثوار أبدوا مقاومة شديدة ، ودار قتال حول الميدان الكبير واشتعلت النار في مبنى مجلس الشيوخ، وامتدت حتى قضت على كنيسة آيا صوفيا St. Sophia. وكنيسة سانت ایرین St. Irene‏


وأثناء ذلك خيم الفزع على القصر الإمبراطوري وعقدت مجالس عديدة للتشاور وتدارك الأمر ، وأخيراً اقتنع الإمبراطور جستنيان بالفرار عن طريق البحر والاتجاه إلى مدينة هرقلية Heraclea ، ولكن الإمبراطورة ثيودورا رفضت الفرار وحثت زوجها على مهاجمة الثوار مرة أخرى


وكان لكلماتها الشهيرة أثراً كبيراً في انقاذ الموقف . فتحول جستنيان إلى الثبات بدلاً من الفرار والحرب بدلاً من المفاوضة ، وأمر بهجوم كبير على الثوار وتولى بلزاريوس أمر القيادة مرة أخرى. وكان هجومه على الثوار في الوقت الذي تجمعوا فيه داخل الهيبودروم يستعدون للهجوم على القصر ، ونجح بلزاريوس في حصار الثوار داخل الهيبودروم ، ودار قتال شديد انتهى بنجاح بلزاريوس في القضاء على الثوار وسقط آلاف منهم صرعى، ويقال أن خمسة وثلاثين ألف رجل قتلوا في الأيام الستة التي اندلعت فيها الثورة.


الإصلاحات الداخلية


ظهر في بعض أجزاء الإمبراطورية وخاصة الشرقية - مثل آسيا الصغرى ومصر - عدد من أصحاب الأملاك الكبيرة الذين استغلوا الظروف التي تمر بها الإمبراطورية واغتصبوا جانباً من أراضي الإمبراطورية وسيطروا على أهاليها وتمكنوا من احتواء جباة الضرائب بالرشوة ، وكان المالك يستولي على القرية بعد الأخرى ويقوم رجال الضرائب التابعين له بجمع الضرائب لحسابه دون أي اعتبار للسلطة المركزية ، وعاش الملاك في قراهم عيشة الأمراء ، وبالإضافة الى ذلك فقد إتسعت أملاك الكنيسة والأديرة وتمتع رجالها بنفوذ قوي ، وأمام كل هذا لم تقف الحكومة البيزنطية مكتوفة الأيدي فقاومت هذا العبث بطرق كثيرة ولفترة طويلة وكان من وسائلها أنها تدخلت في حق الإرث أحياناً، أو أجبرت بعض كبار الملاك على وقف أملاكهم لصالح الإمبراطورية ، كما لجأت أيضاً إلى مصادرة بعض الأملاك لعدم ثبوت ملكيتها .


وإذا كان هذا ما يتعلق بالأملاك الخاصة بالعامة، فكان الأمر صعباً في تطبيق هذا الأمر على أملاك الكنائس والأديرة ، لذلك لجأت الدولة إلى طرق أخرى للمصادرة وهو اتهام دير بأكمله بالزندقة وتحويل موارده إلى خزانة الدولة . ورغم الجهود الكبيرة التي قامت بها الدولة للقضاء على نفوذ الملاك فإن الإمبراطور جستنيان لم يتمكن من القضاء على طبقة الملاك.


ومما زاد في سوء الأحوال الداخلية وقوع بعض الزلازل، وانتشار الأوبئة خاصة الطاعون الذي انتشر في الجانب الشرقي من الإمبراطورية ، وجزء من الجانب الغربي وامتد إلى العاصمة ، وقد أدى ذلك كله إلى هجرة السكان وإهمال الزراعة فانتشرت المجاعة، ومن أجل النهوض بالإمبراطورية وجد جستنيان أن يبدأ بإصلاح عيوب إدارة الدولة، ولما كان الإمبراطور ينادي بالحكم المطلق ، فقد رأى أن أفضل الطرق الإصلاح أحوال الدولة هي تقوية الحكومة المركزية واختيار أفضل الرجال للقيام بشؤون الحكم، وعني عناية خاصة بضبط موارد الدولة وطلب من الأهالي دفعها بانتظام لجباة الحكومة ، وفي الوقت نفسه طلب من الجباة معاملة الأهالي بالحسنى ، والتزام العدل.


ولم يؤد هذا إلى النتيجة المرجوة، لأن الدولة كانت في حاجة إلى المزيد من المال من أجل نفقات الحرب، ولما كان جستنيان لا يريد أن يرهق الأهالي بضرائب فوق طاقتهم لجأ إلى طريقة أخرى لخفض النفقات وهي مهادنة بعض الدول المعادية وشراء رضاءهم بالأموال ولكي يقلل جستنيان أيضاً من نفقات الدولة، قام بإدماج بعض الولايات مع بعضها،


فقلل عدد الموظفين وزاد من رواتبهم حتى يشجعهم على العمل ، وأنعم على الحكام الجدد بالألقاب تشجيعاً لهم، ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الموضع أن الإمبراطور قسطنطين كان قد قسم الولايات الكبيرة إلى ولايتين أو أكثر ، وفصل بين السلطة العسكرية والمدنية ، تجنباً لحركات التمرد والعصيان، وبذلك يكون جستنيان قد أعاد نظام الحكم المحلي إلى ما كان عليه الحال قبل عهد قسطنطين.


وفوق هذا أنشأ جستنيان نظاماً لربط المقاطعات الغنية بالفقيرة حتى تسدد الأولى بعض ما على الثانية، كما عاد إلى سياسة الإمبراطور دقلديانوس التي تقضي بربط الأولاد بمهنة آبائهم وبخاصة ما يتصل منها بالأرض واعتنى جستنيان عناية خاصة بالعاصمة ، فعين عدداً من الحكام كانت مهمتهم العمل على ألا يدخل القسطنطينية أي شخص من المقاطعات إلا وله عمل فيها حتى لا يعقدون الحياة بتصرفهم، وإن كان هناك عاطل من الأهالي يكلف بالعمل في مخابز الدولة أو مصانعها . كما عين عدداً من الحكام للنظر في حوادث السرقات والاغتيالات والقضايا المخلة بالشرف داخل العاصمة كما اهتمت ثيودورا بأمر الساقطات وجعلت من قصر قديم على الضفة الأسيوية الشاطيء البسفور ديراً للتائبات وأطلقت عليه دير التوبة . وحتى لا تتكرر أحداث ثورة (نيقا ) منع جستنيان حفلات سباق الخيل في الهيبودروم ووضع رقابة شديدة على التكتلات الرياضية والسياسية.


كما أصدر جستنيان تعليمات مشددة إلى الحكام بالمحافظة على الطرق والجسور وخزانات المياه وأسوار المدن ، وأمدهم بالأموال اللازمة وترتب على ذلك إنشاء الطرق الجديدة، والجسور وحفر الآبار وبناء الحمامات . كما قام جستنيان بإعادة بناء كنيسة آيا صوفيا عام ٥٣٢ م بعد ما
أصابها من دمار ، فضلا عن العناية ببناء عدد من الكنائس والمستشفيات.


وكان لجستنيان موقفاً من التجارة الخارجية ، وأراد أن يحرر تجار الإمبراطورية من احتكار الفرس للتجارة ، حيث أن الفرس كانوا يحتكرون كل أنواع التجارة الآتية من الهند والصين مثل الحرير والبخور والأحجار الكريمة، وكانوا يتحكمون فيها ويبيعونها بأسعار باهظة ولا يصدرون منها إلا القليل حتى تظل غالية الثمن . وسعي الإمبراطور إلى الوصول إلى مركز هذه التجارة في مدينة بخارى عبر البحر الأسود وبحر قزوين، كما اتصل جستتيان بملك الحبشة وزين له نقل تجارة الصين إلى البحر الأحمر ، وشجع تجار مصر والشام على استيرادها.


واستكمالاً لعملية الاصلاح التي بدأها جستنيان رأى أن أفضل الوسائل لجمع المال من الأهالي هو حمايتهم من ظلم الحكام وضبط أحوالهم ،


فعني بجمع القوانين القديمة وتبويبها وتعديل ما وجب تعديله، وعهد إلى تريبونيان ولجنة تحت إدارته بهذا العمل ، وظهرت مجموعة القوانين كما تم في عهده وضع قوانين للأحوال الشخصية ، وفضلاً عن ذلك فقد صدر في عام ٥٣٣م المصنف الهائل المسمى بالموجز الذي ظل المرجع الأول في جميع المسائل القانونية . ولم يتوقف نشاط جستنيان


التشريعي عند هذا الحد، فمنذ عام ٥٣٤م حتى نهاية حكمه ظهرت سلسلة مطولة من القوانين التكميلية أطلق عليها إسم القوانين المستجدة Novellae وعند نهاية حكم جستنيان كان القانون البيزنطي أصبح منقحاً تنقيحاً تاماً ومتمشياً مع مستلزمات عصره. وكان جستنيان منذ بداية عهده يريد عودة الإمبراطورية إلى عظمتها القديمة، وأن يحقق ما كان لها من سيادة على غرب أوروبا والساحل الإفريقي ولو أدى ذلك إلى الحرب . ولكن هذه الفكرة لم تدخل مرحلة التنفيذ قبل عام ٥٣٣ م ، وذلك لانشغاله بالحرب مع الدولة الفارسية ولذلك يجدر بنا التعرف على ملامح هذه الحرب قبل الدخول في العمليات العسكرية التي قامت بها الإمبراطورية في غرب أوروبا والساحل الأفريقي


حروب جستنيان مع الفرس


وقعت أحداث الحرب الفارسية الأولى في الفترة من ٥٣٢ ٥٢٧ م، والواقع أن الصراع بين الفرس والبيزنطيين له جذور عميقة ، ولكن السبب المباشر في هذه المرحلة يرجع إلى محاولة تسوية مشكلة الحدود عند مدينة لازيكا Lazica الغنية بالنفط الواقعة شرقي البحر الأسود، بعد أن وضع جستنيان شروط لم يرض عنها الفرس فتوترت العلاقات مرة أخرى ، وأصبح الصدام وشيكاً بين الإمبراطورية البيزنطية والفارسية.


فوضع جستنيان قواته تحت قيادة بلزاريوس الذي نجح في وقف تقدم القوات الفارسية، وظلت الحرب مشتعلة بين الطرفين حتى تولى كسرى أنو شروان العرش الفارسي فعرض الصلح على الإمبراطور جستنيان ولم يتردد جستنيان في قبول الصلح حتى يتفرغ لمشروعاته في الغرب وإعادة الامبراطورية إلى سابق مجدها ، ولكي يؤمن جستنيان الحدود الشرقية أقام حلفا مع أمراء القوقاز في الشمال وحلفاً آخر مع ملك الحبشة لاتقاء خطر الحرب المباشر مع الدولة الفارسية


وتجددت الحرب مرة أخرى مع الدولة الفارسية في عام ٥٤٠ م . وترجع أسباب الحرب هذه المرة إلى انتصارات جستنيان في الشمال الإفريقي وفي ايطاليا ، وهي الانتصارات ازعجت کسری آنو شروان وخشي أن تدور الدائرة عليه، هذا فضلا عن تشجيع القوط للملك الفارسي لمحاربة الإمبراطورية البيزنطية . ولم يتردد كسرى في القتال فجهز جيشاً كبيراً وسار إلى الشام وأغار عليها كما استولى على بعض مدن الحدود في أعالي الفرات ، وسلبت وأسرت القوات الفارسية الكثير ، ثم صارت الى مدينة منبج التي استسلمت بالأمان . واتجه كسرى بنفسه إلى انطاكية فانزعجت حاميتها ولازت بالفرار ، ولكن نجدة بيزنطية وصلت اليها في الوقت المناسب فقاومت القوات الفارسية إلى حين حتى سقطت في أيدي كسرى . واتجهت القوات الفارسية إلى سلوقية، ولم تكف القوات الفارسية عن القتال حتى عرض الإمبراطور جستنيان الصلح على كسرى فقبله الأخير.


لم يدم الصلح طويلاً بين الدولتين ففي العام التالي ٥٤١ م هاجم كسرى أملاك الإمبراطورية وكانت وجهته هذه المرة المناطق الأرمينية وشرقي البحر الأسود ، فقد هاجم كسرى مدينة لازيكا واقليم إيبيريا وحدود الفرات الشمالية ، واستمرت الحرب هذه المرة من عام ٥٤٢ حتى ٥٤٤ م . وبعد طول القتال شعر الطرفان بصعوبة الحرب في المناطق الجبلية الوعرة فعقدوا هدنة بين الطرفين في عام ٥٤٤ م . ونصت شروط الهدنة على عقد الصلح لمدة خمسين سنة وتعهد كسرى بمراعاة حقوق المسيحيين من رعاياه ، وأن يمنع جستنيان المبشرين المسيحيين من التبشير بالمسيحية في الأراضي الفارسية ، وأن يدفع جستنيان جزية سنوية.


حروب جستنيان في الغرب


عندما اعتلى جستنيان العرش كان القسم الغربي من الإمبراطورية قد أصبح تحت سيطرة الجرمان ، فقد كان القوط الشرقيون يحكمون في إيطاليا والقوط الغربيون في أسبانيا ، وبين هؤلاء حكم الفرنجة في غالة أما الساحل الإفريقي فقد كان تحت حكم الوندال ، وفي الجزر البريطانية كان الأنجلوسكسونن وفي محاولة جستنيان استعادة أملاك الإمبراطورية في الغرب فإنه لم يحاول مع الفرنجة والأنجلوسكسون، ولكنه صادف نجاحاً ملحوظاً في البلاد الأخرى . وكان مما ساعده في إعادة فتح هذه البلاد كون الجرمان غاصبين للبلاد التي دان سكانها بمذهب الدولة الرسمي وهو المذهب الأثناسيوسي ، وأن الجرمان كانوا يدينون بالمذهب الأريوسي، ولذا كان الجرمان بمثابة سادة كفره ، لا يستطيع سكان البلاد الأصليين الإخلاص لهم والوقوف إلى جانبهم عندما يتعرضون للأخطار، وهذا ما حدث عند فتح إفريقية وإيطاليا.


جستنيان والوندال


بدأت أحداث فتح إفريقية في عام ٥٣٣ هـ عندما سار بلزاريوس وهو أبرز قادة الإمبراطورية البيزنطية ، على رأس ستة عشر ألف محارب ثلثهم من الفرسان والباقي من المشاة . وكان السبب الذي اتخذ ذريعة للحرب هو أن الملك الوندالي هيلدريك Hilderic كان يميل إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وقام جليمر Gelimer بعزله عن العرش ، وكان يتزعم الجانب المعادي لبيزنطة، فخطط جستنيان لغزو إفريقية عندما أصبح الموقف في صالحه . ذلك أن الأسطول الوندالي وجانباً كبيراً من قوات الوندال، قد توجهت قبل فترة قليلة إلى جزيرة سردينيا لقمع فتنة قامت بها ، فنزلت الجيوش البيزنطية على الساحل الإفريقي دون مقاومة واتخذت طريقها إلى العاصمة قرطاجة، فاستقبلهم السكان الرومان بالترحاب ، والتحم الوندال مع القوات البيزنطية في معركتين انتصر فيها القائد البيزنطي بلزاريوس كما سقطت قرطاجة، وسلم جليمر نفسه لبلزاريوس، وعلى هذه الصورة عاد الساحل الإفريقي لحكم الإمبراطورية الرومانية ، وعاد بلزاريوس إلى بلاده بعدما ترك جيشاً صغيراً للسيطرة على البلاد حاملاً معه حشداً من نبلاء الوندال، وعمل جستنيان على إعادة الأحوال إلى ما كانت عليه قبل الغزو الوندالي ، فأصبغ علي رجال الدين رعايته ، وأنزل الاضطهاد بالمسيحيين أتباع المذهب


الأربوسي وبالوثنيين كذلك ، وأعاد الأراضي والمزارع إلى أصحابها


الرومان .


ولم يكن ذلك بالأمر اليسير فقد اعترضته مصاعب كثيرة ، منها أن التذمر ما لبث أن انتشر بين الناس عندما اتضح لهم أن كل ما يؤدونه من الضرائب هو السبب الرئيسي في إهتمام جستنيان بهم، يضاف إلى ذلك أنه في الوقت الذي كانت تحتفل فيه الإمبراطورية البيزنطية بالنصر على الوندال ، هددت هجمات بربر إفريقيا قوات جستنيان ، وقد دأب البربر على الخروج من حصونهم الجبلية في غارات للسلب والنهب ، وظلت هذه الغارات لفترة ليست بقصيرة . ومما ساعد البربر على إنزال الخسائر بقوات جستنيان أن خطط القتال لدى القوات البيزنطية الذين يحاربون وفق قواعد عسكرية منظمة ، لم تكن صالحة للبربر الذين يمتطون الإبل ، يضاف إلى ذلك أن طول القتال أدى إلى تذمر القوات البيزنطية . ولكن بفضل القادة البيزنطيين قد تهيأ للإمبراطورية البيزنطية أن تتغلب على تلك المصاعب ، يضاف إلى ذلك ما هو معروف بين شيوخ قبائل البربر من شقاق بسبب العداوات القبلية قد جعل من العسير قيامهم بعمل موحد ضد القوات البيزنطية . وأخيراً وفي عام ٥٤٨ م تمكنت القوات البيزنطية من السيطرة على الموقف واستتب الأمر.


جستنيان والقوط الشرقيون


خطط جستنيان في عام ٥٣٦ م لغزو إيطاليا بحراً وبراً ، بحراً من شمال إفريقيا وبرا من نواحي دالماشيا ، كما سقطت جزيرة صقلية دون مقاومة على الاطلاق نظراً لقلة الحامية القوطية بالجزيرة، واستقبل أصحاب الأراضي والعقارات القوات البيزنطية بالترحاب . وكان هدف بلزاريوس قائد الجيوش البيزنطية بعد ذلك هو الاستيلاء على نابولي ورغم استبسال حاكم القوط ثيوداهاد في الدفاع عنها إلا انه لجأ إلى التفاوض بعدما شاهد ترحيب السكان بالقوات البيزنطية، ولكن بلزاريوس رفض عروض ثيوداهاد بعد النصر الذي أحرزته قوات الجيش البيزنطي في جبهات متعددة، وما لبث أن سقطت العاصمة في أيدي قوات بلزاريوس، وعلى اثر سقوط العاصمة نابولي خلع الجيش القوطي ثيوداهاد وعينوا مكانه قائداً يدعى ويتيجز Witiges‏


وانسحب ويتيجز إلى رافنا لينظم قواته بعد سقوط نابولي فأعطى الفرصة للقوات البيزنطية بقيادة بلزاريوس للسيطرة على مدينة روما في شتاء عام ٥٣٦ وظل متحصناً بها حتى وصلته الامدادات ، فبدأ بالزحف على معاقل القوط في وسط إيطاليا، وأثناء هذه الأحداث شعر جستنيان باحتمال قيام الفرس بمهاجمة الإمبراطورية البيزنطية ، لذلك أظهر استعداده للصلح مع القوط بأن يترك لهم الأراضي الواقعة شمال نهر البو ليستقروا فيها ، لكن بلزاريوس رفض التخلي عن انتصاراته ، ولإرضاء بلزاريوس عرض القوط عليه أن يكون ملكاً للقوط فوافق . ولكن بلزاريوس ما كاد يدخل رافنا ويسيطر على زمام الأمور حتى حنث بوعده وسحب موافقته وقبض على وينيجز وحاشيته وأرسلهم أسرى إلى القسطنطينية.


كان من الطبيعي ألا يخضع القوط للإمبراطورية البيزنطية بهذه السهولة فثار القوط بزعامة توتيلا Totila الذي تمكن من السيطرة على سهول إيطاليا تاركا لبيزنطة السلطان في المدن الساحلية ، وقد نجح توتيلا في عام ٥٤٩ م من استعادة مدينة روما . ولم ييأس جستنيان فأرسل حملة ضخمة وعلى رأسها القائد البيزنطي نارسيس Narses الذي استولى على تحصينات توتيلا في إقليم دالماشيا واتخذ طريقه إلى رافنا.
وفي معركة كبرى حاسمة انهزمت القوات القوطية في عام ٥٥٢م ولقى توتيلا مصرعه رغم استماتة القوط في القتال وبعد ثلاث سنوات أي في عام ٥٥٥م استسلمت الحاميات القوطية في جنوب ايطاليا


اما فيرونا Verona ، وبريسكيا Brescia فقد صمدوا حتى عام ٥٦٣م


وذلك بفضل مساعدات الفرنجة . وعلى هذه الصورة انتهى حكم القوط الشرقيين في إيطاليا وعادت ولاية بيزنطية ، واستمر هذا الحال حتى الغزو اللومباردي لإيطاليا عام ٥٦٨ ، والذي استمر حتى عام ٧٧٤م حين خضعت إيطاليا للفرنجة بقيادة شارلمان.


سياسة جستنيان في أسبانيا


إستقر المقام بالقوط الغربيين في أسبانيا في عهد ملكهم ثيودريك الأول ٤٥١ م بعدما أجبروا قبائل الوندال التي كانت قد ٤١٩ Theodoric استقرت من قبلهم في أسبانيا على النزوح إلى شمال إفريقيا في عام ٤٢٩ م وخلال قرن من الزمان تمكن القوط الغربيون من تثبيت دعائم حكمهم .


وفي عهد حكم ملكهم ثيودس تمكنوا من مد نفوذهم إلى مدينة سبتة الواقعة في الشمال الإفريقي . ولكن هذا النفوذ ما لبث أن تلاشى على يد بلزاريوس الذي تمكن من إجلاء القوط الغربيين عن سبتة أثناء حروبه مع الوندال في الشمال الإفريقي.


لم يستسلم القوط بعد ضياع مدينة سبتة ، فعندما كانت قوات جستنيان تحارب القوط الشرقيين في إيطاليا حاول ثيودس استعادة سبتة مرة أخرى لتقوية نفوذه من ناحية، ولاشغال قوات جستنيان من ناحية أخرى حتى تخفف من ضربها للقوط الشرقيين من ناحية أخرى. لذلك قام ثيودس بمحاولة السيطرة على الساحل الإفريقي ولكن هذه المحاولة فشلت تماما عندما هزمت قوات جستنيان القوط الغربيين عند قلعة سبتة في عام ٥٤٤م، وكانت هزيمة قاسية، ولم يتمكن ثيودس من العودة إلى أسبانيا إلا بعد جهد كبير ثم ما لبث أن قتله القوط بعد أربع سنوات.


إختار القوط بعد ثيودس القائد ثيوديجيزل Theodigisel ملكا عليهم لما تمتع به من شهرة عسكرية عند تصديه للفرنجة في عام ٥٤٢م ، ولكن حكمه لم يستمر طويلا ، فبعد عام ونصف لم يحتمل النبلاء عبثه ولهوه فثاروا عليه وقتلوه وهو جالس إلى جوارهم في إشبيليه على مائدة العشاء وكان في تصدع دولة القوط الغربيين في أسبانيا فرصة ذهبية للإمبراطور جستنيان عليه أن يستغلها للتدخل في أسبانيا لاتمام مشروعه الخاص بإعادة الإمبراطورية الرومانية إلى سابق عهدها ، فأصدر جستنيان تعليماته إلى ليبوروس Liborus حاكم الشمال الإفريقي بجمع قواته والعبور إلى أسبانيا، لأن هذه القوات هي أقرب قوات الإمبراطورية إلى القوط الغربيين


وقد أسرع ليبوروس بالعبور وباغت القوط ونجح في الاستيلاء على الساحل الجنوبي . وكان من عوامل هذا النجاح مساعدة السكان الأصليين لقوات جستنيان ، بالإضافة إلى إنضمام بعض الثوار الجيوش جستنيان كما أن الحرب الأهلية بين القوط قد أنهكت قواهم، وأصبح من السهل على قوات جستنيان السيطرة على ما وقع تحت أيديها من أراضي، وتقدمت القوات القوطية جنوبا حتى وصلت أشبيلية حيث دارت معركة طاحنة هزم فيها أجيلا واضطر إلى الفرار من أرض المعركة عام ٥٥٤م ، وسيطرت القوات البيزنطية على عدد من المدن مثل قرطاجنه وقرطبة وغرناطة


وكانت سياسة القوط في هذه المرحلة تهدف إلى إجلاء القوات البيزنطية عن أسبانيا فاستعدوا لملاقاة القوات البيزنطية ونجحوا في إلحاق بعض الهزائم بها في عدة معارك ، ولكنهم لم ينتصروا إنتصارا حاسما يجبرهم على الجلاء ، وظلت القوات البيزنطية مسيطرة على المدن التي استولت عليها . وفي النهاية تم عقد الصلح بين الطرفين احتفظ بموجبه كل من الطرفين بما تحت يده من أراضي، ولم تتمكن القوات البيزنطية بعد ذلك من التوسع في أسبانيا لعدة أسباب منها طبيعة البلاد الأسبانية وجبالها الوعرة، وانشغال قوات الإمبراطورية البيزنطية بالحرب في جبهات أخرى هذا بالاضافة إلى انتهاء الحرب الأهلية ووقوف القوط صفا واحدا ضد قوات جستنيان.


ويرى بعض المؤرخين أن حملة جستنيان على أسبانيا كانت فاشلة لأنها لم تتمكن من استعادة أسبانيا تماما إلى حظيرة الإمبراطورية البيزنطية ، بينما يرى آخرون أن جستنيان قد حقق نجاحا بالسيطرة على جانب كبير من أسبانيا وأنه استطاع أن يعيد إلى الإمبراطورية الساحل الإفريقي من الوندال ، وإيطاليا من القوط الشرقيين، وجانبا كبيرا من أسبانيا من القوط الغربيين. نهاية عصر جستنيان


لم تتناسب مشاريع جستنيان العظيمة مع طاقة الإمبراطورية المالية فالعظمة والبذخ والإنشاء والتعمير في طول البلاد وعرضها، فضلا عن الحرب التي خاضتها الإمبراطورية قد تطلبت مالاً كثيراً عجزت عنه موارد الدولة، والحقيقة أن ما ساعد جستنيان على القيام بكل ذلك هي الأموال الطائلة التي تركها الإمبراطور جستين الأول، ومع نهاية عهد جستنيان عجزت الدولة عن القيام بالتزاماتها، فتوقفت إصلاحاته وتناقص عدد قوات الجيش ، لذلك لجأ جستنيان إلى تغيير سياسته المالية، وبدأ بزيادة الضرائب حتى أثقل كاهل الأهالي ، فعادت الأحزاب السياسية إلى الظهور مرة أخرى وقاموا بالاضطرابات داخل العاصمة، ورغم هذا فليس من الصواب أن نحكم على عهد جستنيان بالأحداث الأخيرة في حياته ، لأن أهدافه في الاصلاح الداخلي كانت رائعة ، ومحاولاته إعادة مجد الإمبراطورية في أوروبا والساحل الإفريقي كان عظيما ، وأن ما بذله في محاولة توحيد كلمة الدولة والكنيسة كان في مصلحة الاثنين معاً، والجهود التي قام بها في تنظيم الإدارة والتشريع والقضاء كانت نابعة من رغبة أكيدة لنشر الأمن، والعدل بين المواطنين.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

Lakhasly. (2024...

Lakhasly. (2024). وتكمن أهمية جودة الخدمة بالنسبة للمؤسسات التي تهدف إلى تحقيق النجاح والاستقرار. Re...

‏ Management Te...

‏ Management Team: A workshop supervisor, knowledgeable carpenters, finishers, an administrative ass...

تسجيل مدخلات ال...

تسجيل مدخلات الزراعة العضوية (اسمدة عضوية ومخصبات حيوية ومبيدات عضوية (حشرية-امراض-حشائش) ومبيدات حي...

My overall expe...

My overall experience was good, but I felt like they discharged me too quickly. One night wasn't eno...

- لموافقة المست...

- لموافقة المستنيرة*: سيتم الحصول على موافقة مستنيرة من جميع المشاركين قبل بدء البحث. - *السرية*: سي...

تعزيز الصورة ال...

تعزيز الصورة الإيجابية للمملكة العربية السعودية بوصفها نموذجًا عالميًا في ترسيخ القيم الإنسانية ونشر...

وصف الرئيس الأم...

وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مساء الثلاثاء، الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بأنها "مأساوية"، متعه...

Mears (2014) A ...

Mears (2014) A system of justice that could both punish and rehabilitate juvenile criminals was the ...

تراجع مكانة الق...

تراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة الدولية فرض على الجزائر تحديات كبيرة، لكنه لم يغيّر من ثواب...

أيقونة الكوميدي...

أيقونة الكوميديا والدراما بقيمة 100 مليون دولار. قابل عادل إمام ولد عام 1940 في المنصورة، مصر، وبدأ ...

أتقدم إلى سموكم...

أتقدم إلى سموكم الكريم أنا المواطن / أسامة سلطان خلف الله الحارثي، السجل المدني رقم/١٧٣٧٣٨٣ ، بهذا ا...

[1] الحمد لله ...

[1] الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا أخذه ورسوله صلى ...