لخّصلي

ذهبت لزيارة قريبي فضل اللّه مرة أخرى في أحد األيام التي
ا بالعمل، وعثرت في الغرفة النظيفة التي نقل
ً
لم أكن فيها مزدحم
إليها بناء على توصيتي، على أشخاص كثيرين، كلّهم من أقارب
صائغ الذهب البارك بجوار قريبي بال أمل في أن يقوم مرة أخرى،
ا، وبيض البشرة، ومعطرين بعطور راقية،
ً
وعراض
ً
اًلكانوا طوا
اذ، وتبدو على وجوههم آثار نعمة
ّ
ليست كعطر )ماكسي( النف
ال تشبه حي النور وما جاوره من األحياء، وال بد أنهم يتعالجون
في تلك العيادات المضيئة بفن، الختصاصيين في وسط المدينة،
ولم يسمعوا بعيادتي البعيدة، وربما يستغربون من وجود مريض
كفضل اللّه في تلك الغرفة التي فيها مريضهم.
قد التقيته من قبل في
ُ
تعرفني أحد هؤالء األشخاص، كنت
قطار الثالثاء المعروف بزحامه ومشاكله وتكدس المسافرين
ا من العاصمة
ً
ا في الجامعة، وقادم
ً
على ظهره، حين كنت طالب
التي زرتها في رحلة روتينية، ولم تكن ثمة طائرات منتظمة في
عن قطار الثالثاء ليسافر بها مثل أولئك
ً
اًلذلك الوقت، تخفف قلي
ياغ. جاء ذلك الرجل بأسرته كلها قبل أن يتحرك القطار من
ُ
الص
أجلس فيها وحدي بحجز صحيح
ُ
العاصمة، احتل الغرفة التي كنت
ا
ً
ا موجود
ً
ا غريب
ً
وتذكرة صحيحة، وطردني بعد ذلك باعتباري جسم
وسط أهله، غير عابئ بالقانون وال مفتش التذاكر وال بالورقة
الملصقة أعلى الباب وعليها اسمي، وال توسالتي الشخصية أمام
قامته الفارعة، وصوته الكبير ويده التي كانت تمتد إلى جيبه بين لحظة وأخرى، ترشو كل من يقترب أو يسأل عن الوضع.
ا في
ً
ا مؤرق
ً
في تلك الرحلة التي ال تنسى، قضيت ليلتي راقد
الممر الضيق إلحدى عربات الدرجة األولى، تزعجني األقدام التي
تتفادى جسدي الممدد، أو تطؤه، وانطبع وجه الرجل في ذاكرتي،
ا في ذاكرته؛ ألنه عرفني على الفور،
ً
وال بد أن وجهي انطبع أيض
ا وهو يطالع سماعتي الطبية التي علقتها حول رقبتي..
ً
وبدا مندهش
ـ
هل أنت طبيب؟
كان يسألني بينما يده تمتد إلى إحدى الطاوالت، تلتقط علبة
كبيرة الحجم من حلوى )الماكنتوش( اإلنجليزية الغالية، أكبر
ا من تلك التي جاءت بها سماسم - أيام أن كانت مهووسة
ً
كثير
وقبل أن تتزوج- إلى عيادتي، كانت العلبة مفتوحة وقد تناقصت
ا سؤاله:
ً
مردد
ّ
ا، وقدمها إلي
ً
ا كبير
ً
حباتها تناقص
ـ
؟
ً
اًلهل أنت طبيب فع
ـ
كما ترى..
أقول وأنا أشير إلى سماعتي حول العنق، وثمة ممرضة مختصة
ا للحرارة،
ً
بتلك الغرفة، وقفت متصلبة أمامي، تحمل بيدها مقياس
ا لقياس ضغط الدم، كأنها تدعم قولي.
ً
ا صغير
ً
وجهاز
ـ
لماذا لم تقل ذلك في القطار؟ كنا استضفناك بمحبة يا رجل!
ا عن عالج للمفاصل،
ً
أمي تحب األطباء، وتبحث دائم
وزوجتي تلك التي كانت ترتدي ثوب )الشيفون( األخضر،
وتكشر في وجهك، كانت ستحترمك بشدة، لو عرفت أنك
طبيب، إنها مصابة بمرض الذئبة الحمراء، وتبحث عن
االطمئنان عند أي طبيب تصادفه.. تصور أنني ذهبت بها إلى
لندن، وما زالت تعذب األطباء بأسئلتها. اعتذاري الشديد يا
ا لذلك السلوك
ً
مضطر
ُ
ا، كنت
ً
دكتور، ولو أن ذلك جاء متأخر
بسبب الزحام، وعدم وجود أماكن ألسرتي في القطار...
أرجوك تقبل اعتذاري.
ا في تلك الفترة، لم أتخرج
ً
ا جامعي
ً
لم أخبره أنني كنت طالب
بعد، ولم يكن في مقدرتي إسكات المفاصل عند أمه، أو طمأنة
ثوها عن مرض
َّ
زوجة ال بد أن كل األطباء الذين استشارتهم، حد
الذئبة الحمراء، ومضاعفاته التي تصيب كل شبر في الجسم ال
محالة، وحتى لو انضبط المريض، واستخدم عالجه بانتظام. خطر
في لياقة السلوك، حين تأتي
ً
اًللي أن أخبره بأن األمر ال يعدو خل
ا إلى غرفة رجل ال تعرفه، ثم تخبره بعد ذلك بجالفة،
ً
باألهل طائع
أنه يجلس في وسطها، وعليه أن يغادر، ويبحث عن مأوى آخر
ا. أنا مستغرب من نفسي ومسكنتي
ً
غير مأواه الذي دفع فيه سعر
الشديدة، وكيف غادرت الغرفة في ذلك اليوم؟ وكان عليه هو أن
يغادره.
ـ
اعتذاري الشديد يا دكتور.
ولم أوضح إن كنت قد قبلت اعتذاره أم ال، وال مددت يدي
والتقطت قطعة حلوى من تلك التي يقدمونها أمام رجلين شبه
في المستشفيات،
ً
اًلميتين، وال أدري لماذا يقدمون الحلوى أص
خاصة وأن المرضى أنفسهم، تجدهم في أحيان كثيرة، يبحلقون
في الحلوى، وتحس برغبتهم الشخصية أن يتذوقوها كما يتذوقه الزوار.
ا،
ً
طلبت إلى الممرضة المتصلبة أمامي، أن تخلي الغرفة فور
اغ
َّ
حتى يستطيع المريضان أن يتنفسا براحتهما، وعاتبني صي
الذهب المتجمهرون بنظرات واحتجاجات هامسة، ووجدت
رجل القطار، يتبنى تعليماتي كأنها صدرت له، ويمسك بأقاربه من
أكتافهم، ويدحرجهم إلى خارج الغرفة، وهو يردد:
ـ
دعوا المريضين يتنفسان من فضلكم.
ا في رقدته، ال يتحرك منه سوى لسانه الذي
ً
كان فضل اللّه ساكن
ا
ً
ا، لكن يمكن فهمه، وأخبرني راد
ً
ا ومقطع
ً
يخرج الكالم متحشرج
على استفساري عن صحته بعد ثالثة أيام من رقاده في المستشفى،
ا بأنه سيموت في
ً
بأنه ال يحس بتحسن على اإلطالق، ويعتقد جازم
أي لحظة من اللحظات القادمة. وبالرغم من ذلك ال يستطيع أن
ا، وأن مطعم السمك )الجنتلمان( قد ضاع.
ً
ينسى أنه كان غبي
ـ
هل وصلوا للمحتال الذي تسبب في مرضي؟
ـ
ليس بعد.
ـ
ال فائدة.. ال فائدة..
يردد ويغمض عينيه، كان وجهه وجه رجل ميت بالفعل، وثمة
ازرقاق حول شفته، ولن يفيده مطعم السمك في شيء حتى لو
امسكوا بالمحتال، وأعادوا المحل إليه.
أوصيت الممرضة أن تهتم بتقليبه باستمرار، حتى ال يصاب
بجروح السرير الصعبة الشفاء، وأن تراقب ضغط دمه ومعدل
السكر كل عدة ساعات، وكانت توصية مني، ال تعليمات؛ ألنني لم
أكن أعمل في ذلك القسم كما ذكرت، وال يحق لي إصدار تعليمات،
ا، ولكنني أشفق عليه بشدة.. وأتمنى أن
ً
ال أرتاح لفضل اللّه أبد
يعتقل إدريس حتى يرتاح الجميع، وقد علمت من صديقي العقيد
عمر الذي التقيته يوم أمس مصادفة، وكان يتابع األمر من بعيد،
أن حمالت شرسة حركها هو بواسطة زمالئه الكبار في الشرطة،
ا على
ً
تغربل المدينة اآلن للبحث عنه، لن يكون األمر مقتصر
أحياء الفقر واألحياء العشوائية هذه المرة، ولكن حتى األحياء
ا وسكنه، أو
ً
الراقية التي ربما يكون المحتال قد اشترى فيها بيت
يتخفى في وظيفة حارس أو أي شيء آخر ال يخطر على البال.