لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة وتخضَع لمنطقها الداخلي البحت، حتى ليكاد يصحُّ القول بأن كل مجتمع يَنال من العلم بقدر ما يريد. يتضمَّن أدلةً وشَواهدَ مُتعدِّدة على الارتباط الوثيق بين حالة العلم في أي عصر وبين أهم العناصر في الحياة الاجتماعية لذلك العصر؛ بحيث يُكوِّن العلم جزءًا من كل، ويُكوِّن وجهًا واحدًا لحياة متكاملة يحياها المجتمع. فالتاريخ يقدم أمثلة كثيرة تُثبت أن المجتمع يُحدد — بقدر معقول من الدقة — نوع العلم الذي يحتاج إليه، وهذا لا يَتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالَم، فلا أحدَ يَزعم أن العالم مجرَّد «أداة» يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، أو أن الكشوف العِلمية يمكن أن تتمَّ على أيدي أناس لم تتوافَر لهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب وفي الوقت المناسب. وحقيقة الأمر هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافُر العامِلَين معًا؛ وكلُّ ما في الأمر أنه عندما تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية؛ ذلك لأنَّ أفراد البشرية — الذين يُعدُّون بالملايين — لا يَخلُون في كل عصر من عباقرة، ولكنه كان يعيش في عصرٍ تُوجد فيه «آلات آدمية» — هم العبيد — فما الداعي إلى التفكير في آلات طبيعية مادية؟
وهو حالة ابن خلدون؛ فهذا العالم العبقري قد توصَّل — في «مقدمته» المشهورة — إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري؛ وكثير من آرائه قد تردَّدت — فيما بعد — بطريقة تكاد تَتشابه حتى في التفاصيل عند أولئك الذين اعتبرهم الأوروبيون روَّادًا لعلم الاجتماع، فلم يَظهر في مجتمعه من يُنبِّه إلى أهميته، ولم يتنبَّه إليه الناس إلا عند «إعادة اكتشافه» بعد عصره بقرون عديدة، وما هذه إلا أمثلة نودُّ أن نثبت بها أن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملَين؛ وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والفارق الوحيد في تأثير هذَين العاملين يرجع إلى أن أحدهما جماعي والآخر فردي؛ فحين تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب على المُجتمع أن يُفرز — من بين الملايين من أفراده — العبقرية القادرة على تلبية هذه الحاجة. ٢) الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر
يستطيع القارئ أن يستنتج أن البحث في الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر ينبغي أن يسير في كلا الاتجاهين؛ فليس يكفي أن نشير إلى أهمية العلم في مجتمعنا الحالي — بما فيه من سمات مميزة — في تحديد معالم العلم المُعاصِر وإعطائه طابعه الذي أصبح مألوفًا لدينا. فصحيح أن الإنسانية تَفخر — عن حقٍّ — بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتَعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولا يَعني هذا أننا لا نفخر بمذاهبنا الفكرية أو أعمالنا الأدبية والفنية، والأهمُّ من ذلك — بالنسبة إلى مكانة العلم في العصر الحاضر — أن العلم هو الإنجاز الذي يُمكِننا أن نُسمِّيَه «مصيريًّا» بحق في هذا العصر، فلأول مرة في تاريخ تجربة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، إذ تعيش البشرية في خوف دائم من أن تُدمِّر حياتها وحضارتها حرب نووية أو بيولوجية تَعتمِد اعتمادًا كُليًّا على العلم، ومن جهة أخرى فإن الأمل الأكبر لدى البشرية — في مستقبل أفضل وفي حلِّ مشكلاتها الغذائية والصحية المستعصية بل في استمرار قدرتها على البقاء والنماء — هو الآن معقودٌ على العلم. وقد انعكس ذلك بوضوح في اتِّساع نطاق الاهتمام بالعلم إلى حدٍّ هائل؛ أما اليوم فقد أصبح الجميع يتابعون تطور العلم باهتمام، أعني الاتساع الهائل في نطاق الاهتمام بالعلم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه العلم يَزداد غموضًا وتعقيدًا على الدوام، وابتعدَت فيه لغته الرمزية المتخصِّصة عن إفهام العقول العادية ابتعادًا تامًّا؟ لا شك أن التعليل الوحيد لذلك هو الطابع المصيري للعلم المعاصر؛ فإننا جميعًا نتساءل: هل يُمكن تجنُّب كارثة حرب عالمية ثالثة؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال المصيري — الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل كل منا وبمستقبل أجيالنا الجديدة — يعتمد على مجموعة من العوامل، كذلك نعلم أن مشكلات الحياة اليومية وهمومها — أعني مشكلات كالغذاء والإسكان والمواصَلات والطاقة والبيئة — سيتوقَّف حلُّها إلى حدٍّ بعيد على الطريقة التي يوجِّه بها الإنسان أبحاثه العلمية في المرحلة المقبلة. حتى تتكوَّن لدينا صورة متكاملة عن ذلك الوضع الفريد للعلم في مجتمعنا المعاصر:
٢-١) مشكلة الغذاء والسكان
ليس المرء في حاجة إلى أرقام أو جداول إحصائية لكي يُقرِّر أن العالم يُعاني — منذ الآن — من أزمة مُستحكمة في الغذاء؛ وفيه أقلية مُتخَمة يعاني كثير من أفرادها من الملل والأمراض الناتجة عن الإفراط في المأكل، وهو يهدد الأجيال الجديدة في مناطق شاسعة من الأرض بنمو جسمي وعقلي غير مُكتمِل. ومن المؤكَّد أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مشكلتَي الغذاء والسكان؛ فالازدياد الرهيب في عدد السكان يؤدِّي إلى تضاعُف الطلب على الغذاء، على حين أن موارد العالم من الغذاء محدودة، وكانت هناك موارد هائلة لم تُستغلَّ بعدُ في العالم، الذي تضاعَف فيه عدد سكان العالم أكثر من مرة بالنسبة إلى القرن الماضي. والأخطر من ذلك أن الفترة التي يتضاعَف فيها هذا العدد تقلُّ باستمرار؛ وبعد عشرين عامًا من القرن الجديد سيتضاعَف العدد مرة أخرى، فهل ستكفي موارد الأرض من الغذاء لإعاشة هذه الأعداد المهولة؟
ولعلَّ مما يزيد من قوة الارتباط بين مشكلة الغذاء ومشكلة السكان: أن البلاد التي تعاني من نقص واضح في التغذية، هي تلك التي يزداد عدد سكانها بمعدَّلات سريعة، على حين أن البلاد التي تتمتَّع بمستوًى جيد في الغذاء هي عادةً بلاد تقلُّ نسبة الزيادة في سكانها، وربما استقر عدد سكانها عند مستوًى معيَّن منذ مدة طويلة؛ وخاصةً في البلاد الفقيرة؟ لا شك أن هذا الحل لا يتناول إلا جانبًا واحدًا من جوانب الموضوع، ومن ثم يلجأ إلى تغيير وضع واحد فقط، ومن سمات هذا الحلِّ أنه يُلقي اللوم كله على البلاد التي تُعاني من أزمة الطعام؛ ويرمي بكل ثقل الإدانة على الضحية. إن معناه ببساطة هو أن هذه البلاد مسئولة عن المجاعة التي تُعاني منها؛ وذلك بأن تُخفِّض عدد هؤلاء السكان إلى الحد الذي تُصبح فيه مواردها كافية لإطعامهم. على أن هذا الحل يغفل عددًا هائلًا من العناصر الأخرى التي تنتمي إلى صميم هذا الموضوع، والتي يرجع الكثير منها إلى عوامل خارجة تمامًا عن إرادة البلاد الفقيرة؛ فهو يتجاهل — مثلًا — أن هناك بالفعل بلادًا غنية — كالولايات المتحدة — تدفع للمزارعين إعانات طائلة من ميزانيتها السنوية كيلا يَزرعوا حقولهم؛ وهو يُغفل أن زيادة السكان تَرتبط بعوامل من بينها الأمية والتخلُّف الاقتصادي والاجتماعي، وأن هذه العوامل ترجع أساسًا إلى خضوع كثير من البلاد الفقيرة لدول استعمارية كانت حريصة على استمرار تخلُّفها حتى تضمن استسلامها لها، وأن ذيول هذه السياسة ظلَّت باقية حتى بعد تخلُّص هذه الدول من قبضة الاستعمار المباشر. هو أن هذا الحل — الذي يَحصُر المشكلة في حدود العلاقة بين الموارد الغذائية وعدد السكان — يتجاهل الإمكانات الهائلة للعلم في إيجاد حلول أفضل لهذه المشكلة المعقَّدة؛ فلدى العلم — في هذا المجال — قدرات هائلة لم يُسْتَغل معظمها بعد؛ واستخلاص المواد ذات القيمة الغذائية الحالية من طحالب البحار والمحيطات — وهي مورد لا يَنفد — وتحويل مخلفات بعض الصناعات إلى مواد غذائية، فإن العلم لم يَقُلْ بعدُ كلمته النهائية في هذه المشكلة، ولم يُعلن يأسه من حل مشكلة الغذاء بأساليبه الخاصة حتى نفكر نحن في حلها عن طريق الإقلال من عدد السكان، وكل ما في الأمر أن العلم يَقف — في أغلب الأحيان — مكتوف الأيدي؛ ففي ظلِّ مناخ عالَمي يسوده العداء المتبادل بين الدول، وتكتسب فيه كل دولة نفوذها عن طريق القوة الغاشمة، بل إن الغذاء نفسه يَتحوَّل إلى سلاح في هذا الجو الذي يسود العلاقات الدولية في أيامنا هذه، فمن المرغوب فيه — بالنسبة إلى بعض الدول القوية — أن يظلَّ هذا التفاوت بين الجوع والشبع، لأنه يُتيح للدول التي تَملِك من الغذاء ما يفيض عن حاجتها أن تَضغط بسلاح التجويع على الدول التي لا تملك من الغذاء إلا القليل؛ وفي مثل هذا الجوِّ لا يكون هناك — أصلًا — استعداد لحشد الطاقات العلمية في حملة مركَّزة تستهدف القضاء على الجوع، من نوع تلك الحملة التي أدَّت في سنوات قلائل إلى صعود إنسان إلى سطح القمر. فليس في وسع أحد أن يَجزم بأن مشكلة الغذاء ترتبط بمشكلة السكان وحدها، وأن كمية الغذاء وعدد السكان يَتناسبان تناسبًا عكسيًّا، فواقع الأمر هو أن هذا لا يُمثل إلا جانبًا واحدًا من جوانب المشكلة، وأن للمشكلة جوانب أخرى كثيرة؛ من أهمها: نوع العلاقات السائدة بين الدول، وإمكان أو عدم إمكان إيجاد أسلوب إنساني في التعامل بين الجماعات البشرية. وإذا كنتُ فيما سبق قد حرصت على تأكيد وجود عوامل أخرى تؤثر في أزمة الغذاء إلى جانب عامل السكان، وأن من الخطأ الفادح أن نتصوَّر وجود علاقة ثنائية — لا تشترك فيها أية اطراف أخرى — بين كمية الغذاء وعدد السكان، إذا كنتُ قد حرصت على هذا التأكيد، فإن حرصي هذا لا يَنفي إيماني بأن تضاعف أعداد السكان دون ضوابط — وخاصةً في البلاد الفقيرة والمتخلِّفة — هو أمر ينبغي تلافيه. قد لا يكون بعضها متصلًا بمشكلة الغذاء على الإطلاق؛ فمن الواجب الحدُّ من التزايد السريع للسكان في هذه البلاد، لأسباب تتعلق أساسًا بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يُمكن أن تُقَدَّم إلى الأجيال الجديدة في المجتمعات النامية. وربما كان الأهم — حتى من هذا كله — الأسباب النفسية والتربوية العائلية؛ فمِن الصعب على الأسرة التي تعيش في الربع الأخير من القرن العشرين أن تُبْدِي عناية كافية بعدد كبير من الأبناء، ولكني أعتقد أنه حتى في المستويات الاقتصادية المرتفعة يَندر أن يجد أبناء الأسر الكبيرة العدد نفس الرعاية النفسية والاهتمام الشخصي والإرشاد التربوي الذي يَجدُه أبناء الأسر ذات الأعداد القليلة. ومن هنا لم يكن هناك مُبرِّر على الإطلاق لكي نترك الحبل على الغارب في مسائل الإنجاب، ثم نُجهد أنفسنا بعد ذلك في محاولة الحد من الأضرار المترتِّبة على تزايُد النسل الذي كان يمكن ضبطه بجهودٍ أقل بكثير من تلك التي نبذلها من أجل تلافي نتائجه. ولقد لاحظت في جميع المناقشات التي تدور — سواء في بلادنا العربية وفي خارجها — أن كل من يناقش هذا الموضوع يُسلِّم تسليمًا تامًّا باستحالة فرض قيود إجبارية على أعداد الأبناء، والحُجَج التي تُقال في هذا الصدد هي أن هناك أسبابًا نفسية أو اجتماعية — وربما دينية في بعض المُجتمعات — عميقة الجذور، على التوقُّف في النسل عند حدود معينة. ولكني أعتقد أن هذا الوضع السكاني يَستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وهكذا الحال في أمور البشر جميعًا؛ ومع ذلك فقد تناولها التنظيم والضبط في الوقت المناسب، فليس في استطاعة الإنسان — مثلًا — أن يَسير عاريًا في الطريق حتى ولو كان يشعر براحة كبيرة في هذا العمل؛ لأنه — حتى في الدول الرأسمالية — خاضعٌ للضرائب، وقِس على ذلك آلاف الأمثلة التي تُثبت أن مفهوم الحرية القديم — بمعنى الانطِلاق بغير قيود — يُخلي مكانه على نحو مُتزايد لمفهوم آخر هو التنظيم والتقييد الذي يؤدِّي إلى مزيد من الحرية الحقيقية.


النص الأصلي

الفصل السادس
الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
(١) العلم والمجتمع
ليس العلم ظاهرة مُنعزلة، تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة وتخضَع لمنطقها الداخلي البحت، بل إنَّ تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد؛ فحتى أشدُّ مؤرِّخي العلم ميلًا إلى التفسير «الفردي» لتطور العلم، لا يستطيعون أن يُنكروا وجود تأثير متبادَل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، حتى ليكاد يصحُّ القول بأن كل مجتمع يَنال من العلم بقدر ما يريد. ولا شك أن العرض الموجز الذي قدمناه من قبل للمراحل الرئيسية لتطور العلم وللنمو التدريجي لمعناه ومفهومه، يتضمَّن أدلةً وشَواهدَ مُتعدِّدة على الارتباط الوثيق بين حالة العلم في أي عصر وبين أهم العناصر في الحياة الاجتماعية لذلك العصر؛ بحيث يُكوِّن العلم جزءًا من كل، ويُكوِّن وجهًا واحدًا لحياة متكاملة يحياها المجتمع.
فالتاريخ يقدم أمثلة كثيرة تُثبت أن المجتمع يُحدد — بقدر معقول من الدقة — نوع العلم الذي يحتاج إليه، وهذا لا يَتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالَم، ودوره الأساسي في الكشف العلمي، فلا أحدَ يَزعم أن العالم مجرَّد «أداة» يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، أو أن الكشوف العِلمية يمكن أن تتمَّ على أيدي أناس لم تتوافَر لهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب وفي الوقت المناسب. بل إنَّ هذه أحكام باطلة تبخَس العالم الكبير حقَّه، وتُصوِّره كما لو كان وسيلة في أيدي قوة غيبية تتحكَّم فيه تحكمًا تامًّا، حتى لو كان المرء يُطلِق على هذه القوة الغيبية اسمًا يبدو في ظاهره علميًّا، هو «حاجة المجتمع».
وحقيقة الأمر هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافُر العامِلَين معًا؛ حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكلُّ ما في الأمر أنه عندما تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية؛ ذلك لأنَّ أفراد البشرية — الذين يُعدُّون بالملايين — لا يَخلُون في كل عصر من عباقرة، ولكن المُهم أن يأتي العبقري في وقتِه، وأن يُلبِّي حاجات عمره، ومِن المؤكَّد أن هناك حالاتٍ ظهر فيها عباقرة في غير أوانهم؛ أعني في وقت لم يكن المجتمع فيه مهيَّأً لقَبول كشوفهم، فكانت النتيجة أنْ لمعت عبقريتُهم فجأة ثم انطفأت فجأة كالشهاب البارق، دون أن يَترُكوا وراءهم تأثيرًا باقيًا. وهذه ظاهرة ضربنا لها من قبل مثلًا واضحًا؛ هو تلك الآلات التي اخترَعها العالم اليوناني المشهور «أرشميدس»، ولكنه خَجِل من إظهارها على الملأ، ونظر إليها كما لو كانت «لعبًا» للتسلية. ولو كان هذا العبقري يعيش في عصرنا الحديث لأدرَك على التوِّ أهمية هذا التنظيم الميكانيكي لعناصر الطبيعة في ميدان التطبيق العملي، ولتَوصَّل إلى ضرورة استخدام مبدأ الآلية من أجل توفير جهد الإنسان ووقته، ولكنه كان يعيش في عصرٍ تُوجد فيه «آلات آدمية» — هم العبيد — فما الداعي إلى التفكير في آلات طبيعية مادية؟
وفي الميدان النظري البحت، نستطيع أن نَضرب مثلًا آخر يَنتمي إلى صميم عالَمنا العربي، وهو حالة ابن خلدون؛ فهذا العالم العبقري قد توصَّل — في «مقدمته» المشهورة — إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري؛ أي لعلم الاجتماع (الذي أسماه «علم العمران»)، وكثير من آرائه قد تردَّدت — فيما بعد — بطريقة تكاد تَتشابه حتى في التفاصيل عند أولئك الذين اعتبرهم الأوروبيون روَّادًا لعلم الاجتماع، ولكن الكشف الرائع الذي توصَّلَ إليه ابن خلدون لم يجد مجتمعًا يستجيب له؛ فلم يَظهر في مجتمعه من يُنبِّه إلى أهميته، ولم يتابع آراءه وتعاليمه تلاميذُ يُكمِلون رسالته، ولم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصَّل إليه في مسيرتها، بل توقَّف كلُّ شيء، وظهرت عبقريته كما لو كانت شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، ولم يتنبَّه إليه الناس إلا عند «إعادة اكتشافه» بعد عصره بقرون عديدة، كل ذلك لأن الفترة التي ظهر فيها ابن خلدون والتي أعقبت ظهوره كانت فترة بداية الانهيار في الحضارة الإسلامية، وبداية عهد الغزوات الأجنبية وما ترتب عليها من انحلال داخلي فيها.
وما هذه إلا أمثلة نودُّ أن نثبت بها أن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملَين؛ بيئة اجتماعية مهيَّأة لها، وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والفارق الوحيد في تأثير هذَين العاملين يرجع إلى أن أحدهما جماعي والآخر فردي؛ فحين تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب على المُجتمع أن يُفرز — من بين الملايين من أفراده — العبقرية القادرة على تلبية هذه الحاجة. أما حين تتوافَر العبقرية الفردية وحدها دون أن تتهيأ الظروف الاجتماعية المواتية، فإن التاريخ قد يطويها في زوايا النسيان، أو قد يقول عنها — إذا أراد إنصافها — إنها عبقرية ظهرت في غير أوانها.
(٢) الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر
في ضوء التمهيد السابق، يستطيع القارئ أن يستنتج أن البحث في الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر ينبغي أن يسير في كلا الاتجاهين؛ فليس يكفي أن نشير إلى أهمية العلم في مجتمعنا الحالي — بما فيه من سمات مميزة — في تحديد معالم العلم المُعاصِر وإعطائه طابعه الذي أصبح مألوفًا لدينا.
إنَّ العلم قد اكتسب — منذ أوائل القرن العشرين — أهمية تفوق أهمية أي إنجاز آخر طوال تاريخ البشرية؛ فصحيح أن الإنسانية تَفخر — عن حقٍّ — بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتَعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولكن المكانة التي اكتسبها العلم في هذا القرن، والتأثير الذي استطاع أن يمارسه في حياة البشر (بغضِّ النظر عن كون هذا التأثير إيجابيًّا أم سلبيًّا، فهذه مسألة سنَعرض لها فيما بعد) يجعل العلم بغير شك هو الحقيقة الكبرى في عصرنا الحاضر، ومن ثم في كلِّ العصور. ولا يَعني هذا أننا لا نفخر بمذاهبنا الفكرية أو أعمالنا الأدبية والفنية، ولكنه يعني أن فخرنا بالعلم أعظم، وأن التغير الذي أدخله العلم على حياتنا أقوى من أي تغيُّر لحقها بفضل أي إنجاز آخر.
والأهمُّ من ذلك — بالنسبة إلى مكانة العلم في العصر الحاضر — أن العلم هو الإنجاز الذي يُمكِننا أن نُسمِّيَه «مصيريًّا» بحق في هذا العصر، فلأول مرة في تاريخ تجربة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، يُدرك أن العلم هو الذي سيُحدِّد مصيره سلبًا أو إيجابًا؛ إذ تعيش البشرية في خوف دائم من أن تُدمِّر حياتها وحضارتها حرب نووية أو بيولوجية تَعتمِد اعتمادًا كُليًّا على العلم، وتعمل الدول لهذه الحقيقة ألف حساب في استراتيجياتها وسياساتها الأساسية، وفي طريقة إنفاقها لموارِدِها. ومن جهة أخرى فإن الأمل الأكبر لدى البشرية — في مستقبل أفضل وفي حلِّ مشكلاتها الغذائية والصحية المستعصية بل في استمرار قدرتها على البقاء والنماء — هو الآن معقودٌ على العلم.
وقد انعكس ذلك بوضوح في اتِّساع نطاق الاهتمام بالعلم إلى حدٍّ هائل؛ ففي القرن الماضي كان العلم من شأن «المتخصِّصين» وحدهم، ولم تكن مشكلاته تُناقَش إلا في المجامع العلمية وفي المؤسسات المتخصِّصة، أما اليوم فقد أصبح الجميع يتابعون تطور العلم باهتمام، وأصبحت أخباره تحتلُّ مكان الصَّدارة في وسائل الإعلام الجماهيري؛ فكيف نُعلِّل هذه الظاهرة التي تبدو فيها مفارقة صارخة؛ أعني الاتساع الهائل في نطاق الاهتمام بالعلم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه العلم يَزداد غموضًا وتعقيدًا على الدوام، وابتعدَت فيه لغته الرمزية المتخصِّصة عن إفهام العقول العادية ابتعادًا تامًّا؟ لا شك أن التعليل الوحيد لذلك هو الطابع المصيري للعلم المعاصر؛ فمهما كانت صعوبة هذا العلم، فإننا جميعًا نتساءل: هل يُمكن تجنُّب كارثة حرب عالمية ثالثة؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال المصيري — الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل كل منا وبمستقبل أجيالنا الجديدة — يعتمد على مجموعة من العوامل، من أهمِّها العلم، كذلك نعلم أن مشكلات الحياة اليومية وهمومها — أعني مشكلات كالغذاء والإسكان والمواصَلات والطاقة والبيئة — سيتوقَّف حلُّها إلى حدٍّ بعيد على الطريقة التي يوجِّه بها الإنسان أبحاثه العلمية في المرحلة المقبلة.
فلنتأمل إذن بعضًا من هذه المشكلات؛ حتى تتكوَّن لدينا صورة متكاملة عن ذلك الوضع الفريد للعلم في مجتمعنا المعاصر:
(٢-١) مشكلة الغذاء والسكان
ليس المرء في حاجة إلى أرقام أو جداول إحصائية لكي يُقرِّر أن العالم يُعاني — منذ الآن — من أزمة مُستحكمة في الغذاء؛ ففي العالم أغلبية من السكان لا تَحصُل من الغذاء على الحد الأدنى اللازم لكي يَحيا الإنسان حياة سليمة، وفيه أقلية مُتخَمة يعاني كثير من أفرادها من الملل والأمراض الناتجة عن الإفراط في المأكل، وإذا كان النقصُ في كمية الطعام التي تحصل عليها الأغلبية الفقيرة خطرًا، فإن النقص في نوعيته أخطر؛ فالغذاء اللازم لبناء الجسم لا يتوافر إلا بنِسَب ضئيلة لدى شعوب كاملة، وهو يهدد الأجيال الجديدة في مناطق شاسعة من الأرض بنمو جسمي وعقلي غير مُكتمِل.
ومن المؤكَّد أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مشكلتَي الغذاء والسكان؛ فالازدياد الرهيب في عدد السكان يؤدِّي إلى تضاعُف الطلب على الغذاء، على حين أن موارد العالم من الغذاء محدودة، وبطبيعة الحال فإنَّ أحدًا لا يُردِّد اليوم آراء «مالثوس» الذي دقَّ ناقوس الخطر في القرن التاسع عشر، مؤكِّدًا أن العالم مهدَّد بمجاعة لأن السكان يَتضاعَفون بسرعة تفوق بكثير سرعة زيادة الموارد الغذائية؛ ففي الوقت الذي ردَّد فيه «مالثوس» هذا الكلام، كان سكان العالم ما زالوا قليلين، وكانت هناك موارد هائلة لم تُستغلَّ بعدُ في العالم، ولم يكن هناك بالفعل ما يُبرِّر تشاؤمه المفرط، ولكن نُذُر الخطر أصبحَت أوضح في عصرنا الحاضر، الذي تضاعَف فيه عدد سكان العالم أكثر من مرة بالنسبة إلى القرن الماضي. والأخطر من ذلك أن الفترة التي يتضاعَف فيها هذا العدد تقلُّ باستمرار؛ ففي نهاية هذا القرن يتوقَّع العلماء أن تحمل هذه الأرض ضعف عدد من يعيشون فيها اليوم، وبعد عشرين عامًا من القرن الجديد سيتضاعَف العدد مرة أخرى، فهل ستكفي موارد الأرض من الغذاء لإعاشة هذه الأعداد المهولة؟
ولعلَّ مما يزيد من قوة الارتباط بين مشكلة الغذاء ومشكلة السكان: أن البلاد التي تعاني من نقص واضح في التغذية، هي تلك التي يزداد عدد سكانها بمعدَّلات سريعة، على حين أن البلاد التي تتمتَّع بمستوًى جيد في الغذاء هي عادةً بلاد تقلُّ نسبة الزيادة في سكانها، وربما استقر عدد سكانها عند مستوًى معيَّن منذ مدة طويلة؛ فالازدحام السكاني وارتفاع نسبة المواليد مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بسوء التغذية.
ولكن هل يَعني ذلك أن البشرية ستقف عاجزة عن إيجاد حل، وستَنتظِر المجاعة المحتومة دون أن تُحرِّك ساكنًا؟ وهل المَخرج الوحيد من هذه الأزمة المرتقبة — والتي ظهَرت بوادرها بوضوح منذ الآن — هو أن تتوقَّف الزيادة في سكان العالم، وخاصةً في البلاد الفقيرة؟ لا شك أن هذا الحل لا يتناول إلا جانبًا واحدًا من جوانب الموضوع، وهو يفترض أن عددًا كبيرًا من الأوضاع الجائرة في العالم لن يطرأ عليه أيُّ تغيير، ولا يُمكن المساس به؛ ومن ثم يلجأ إلى تغيير وضع واحد فقط، هو عدد السكان.
ومن سمات هذا الحلِّ أنه يُلقي اللوم كله على البلاد التي تُعاني من أزمة الطعام؛ فهو يبرئ جميع المذنبين، ويرمي بكل ثقل الإدانة على الضحية. إن معناه ببساطة هو أن هذه البلاد مسئولة عن المجاعة التي تُعاني منها؛ لأن فيها من السكان عددًا زائدًا، وأنها هي أيضًا المسئولة عن الحل؛ وذلك بأن تُخفِّض عدد هؤلاء السكان إلى الحد الذي تُصبح فيه مواردها كافية لإطعامهم.
على أن هذا الحل يغفل عددًا هائلًا من العناصر الأخرى التي تنتمي إلى صميم هذا الموضوع، والتي يرجع الكثير منها إلى عوامل خارجة تمامًا عن إرادة البلاد الفقيرة؛ فهو يتجاهل — مثلًا — أن هناك بالفعل بلادًا غنية — كالولايات المتحدة — تدفع للمزارعين إعانات طائلة من ميزانيتها السنوية كيلا يَزرعوا حقولهم؛ لأن زراعة هذه الحقول وإنتاج كميات وفيرة من المحاصيل يؤدي إلى انخِفاض السِّعر العالمي لهذا المحصول؛ ولذلك ينبغي أن يظلَّ إنتاجه في حدود معينة لا يتعداها، بغضِّ النظر عن وجود أناس جائعين في مناطق أخرى من العالم. وهو يُغفل أن زيادة السكان تَرتبط بعوامل من بينها الأمية والتخلُّف الاقتصادي والاجتماعي، وأن هذه العوامل ترجع أساسًا إلى خضوع كثير من البلاد الفقيرة لدول استعمارية كانت حريصة على استمرار تخلُّفها حتى تضمن استسلامها لها، وأن ذيول هذه السياسة ظلَّت باقية حتى بعد تخلُّص هذه الدول من قبضة الاستعمار المباشر.
ولكن قد يكون الأهم من ذلك، من وجهة النظر التي نُركِّز عليها في هذا الكتاب، هو أن هذا الحل — الذي يَحصُر المشكلة في حدود العلاقة بين الموارد الغذائية وعدد السكان — يتجاهل الإمكانات الهائلة للعلم في إيجاد حلول أفضل لهذه المشكلة المعقَّدة؛ فلدى العلم — في هذا المجال — قدرات هائلة لم يُسْتَغل معظمها بعد؛ كالبحث في وسائل استزراع المناطق الصحراوية الشاسعة، وإسقاط المطر الصناعي، واستخلاص المواد ذات القيمة الغذائية الحالية من طحالب البحار والمحيطات — وهي مورد لا يَنفد — وتحويل مخلفات بعض الصناعات إلى مواد غذائية، فضلًا عن أن الأرض الصالحة للزراعة في العالم أوسع بكثير من الأرض المزروعة بالفعل، كما أن إمكانات مضاعفة غلَّة الأراضي الزراعية بأساليب علمية حديثة قائمة على الدوام.
وبعبارة أخرى، فإن العلم لم يَقُلْ بعدُ كلمته النهائية في هذه المشكلة، ولم يُعلن يأسه من حل مشكلة الغذاء بأساليبه الخاصة حتى نفكر نحن في حلها عن طريق الإقلال من عدد السكان، وكل ما في الأمر أن العلم يَقف — في أغلب الأحيان — مكتوف الأيدي؛ لأن طاقاته وموارده موجَّهة نحو تحقيق أهداف أخرى بعيدة كل البُعد عن هذا الهدف الإنساني. ففي ظلِّ مناخ عالَمي يسوده العداء المتبادل بين الدول، وتكتسب فيه كل دولة نفوذها عن طريق القوة الغاشمة، لا يُمكن أن تتهيأ الظروف التي تجعل المجتمعات تُخصِّص طاقاتها العلمية من أجل البحث عن موارد غذائية جديدة للملايين الجائعة، بل إن الغذاء نفسه يَتحوَّل إلى سلاح في هذا الجو الذي يسود العلاقات الدولية في أيامنا هذه، وقد يكون أحيانًا مُعادِلًا في تأثيره لأشد الأسلحة فتكًا؛ فمن المرغوب فيه — بالنسبة إلى بعض الدول القوية — أن يظلَّ هذا التفاوت بين الجوع والشبع، وبين الندرة والوفرة في الغذاء قائمًا؛ لأنه يُتيح للدول التي تَملِك من الغذاء ما يفيض عن حاجتها أن تَضغط بسلاح التجويع على الدول التي لا تملك من الغذاء إلا القليل؛ حتى تضمن خضوعها وتَأمنَ من تمرُّدها، وفي مثل هذا الجوِّ لا يكون هناك — أصلًا — استعداد لحشد الطاقات العلمية في حملة مركَّزة تستهدف القضاء على الجوع، من نوع تلك الحملة التي أدَّت في سنوات قلائل إلى صعود إنسان إلى سطح القمر.
وعلى ذلك، فليس في وسع أحد أن يَجزم بأن مشكلة الغذاء ترتبط بمشكلة السكان وحدها، وأن كمية الغذاء وعدد السكان يَتناسبان تناسبًا عكسيًّا، أو يُمثِّلان كفتي ميزان لا يمكن أن ترجح إحداهما إلا إذا خفَّت الأخرى، فواقع الأمر هو أن هذا لا يُمثل إلا جانبًا واحدًا من جوانب المشكلة، وأن للمشكلة جوانب أخرى كثيرة؛ من أهمها: نوع العلاقات السائدة بين الدول، وطريقة توجيه الموارد العِلمية، وإمكان أو عدم إمكان إيجاد أسلوب إنساني في التعامل بين الجماعات البشرية.
ومع كل هذا، فإنني لستُ من المؤمنين بسياسة ترك التزايُد السكاني يتضاعف دون ضوابط. وإذا كنتُ فيما سبق قد حرصت على تأكيد وجود عوامل أخرى تؤثر في أزمة الغذاء إلى جانب عامل السكان، وأن من الخطأ الفادح أن نتصوَّر وجود علاقة ثنائية — لا تشترك فيها أية اطراف أخرى — بين كمية الغذاء وعدد السكان، إذا كنتُ قد حرصت على هذا التأكيد، فإن حرصي هذا لا يَنفي إيماني بأن تضاعف أعداد السكان دون ضوابط — وخاصةً في البلاد الفقيرة والمتخلِّفة — هو أمر ينبغي تلافيه.
ولهذا الرأي أسباب ومُبرِّرات متعدِّدة، قد لا يكون بعضها متصلًا بمشكلة الغذاء على الإطلاق؛ فمن الواجب الحدُّ من التزايد السريع للسكان في هذه البلاد، لأسباب تتعلق أساسًا بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يُمكن أن تُقَدَّم إلى الأجيال الجديدة في المجتمعات النامية. وربما كان الأهم — حتى من هذا كله — الأسباب النفسية والتربوية العائلية؛ فمِن الصعب على الأسرة التي تعيش في الربع الأخير من القرن العشرين أن تُبْدِي عناية كافية بعدد كبير من الأبناء، وأن تُوجِّههم نفسيًّا وتؤهلهم لحياة ناجحة في المستقبل، وبطبيعة الحال فإن هذه الصعوبة تَتضاعَف إذا كان المستوى الاقتصادي لهذه الأسرة هابطًا. ولكني أعتقد أنه حتى في المستويات الاقتصادية المرتفعة يَندر أن يجد أبناء الأسر الكبيرة العدد نفس الرعاية النفسية والاهتمام الشخصي والإرشاد التربوي الذي يَجدُه أبناء الأسر ذات الأعداد القليلة.
بل إنَّ الإنجاب أصبح في ظلِّ العلم الحديث أمرًا يُمكن التحكم فيه دون عناء، ومن هنا لم يكن هناك مُبرِّر على الإطلاق لكي نترك الحبل على الغارب في مسائل الإنجاب، وكأنَّ هذا شيء يستحيل التدخل فيه، ثم نُجهد أنفسنا بعد ذلك في محاولة الحد من الأضرار المترتِّبة على تزايُد النسل الذي كان يمكن ضبطه بجهودٍ أقل بكثير من تلك التي نبذلها من أجل تلافي نتائجه.
ولقد لاحظت في جميع المناقشات التي تدور — سواء في بلادنا العربية وفي خارجها — أن كل من يناقش هذا الموضوع يُسلِّم تسليمًا تامًّا باستحالة فرض قيود إجبارية على أعداد الأبناء، حتى لو كان ممن يؤمنون إيمانًا قاطعًا بأن زيادة السكان هي وحدها سبب نقص التغذية وسوء الخدمات وهبوط مُستوى المعيشة في البلاد المتخلفة، والحُجَج التي تُقال في هذا الصدد هي أن هناك أسبابًا نفسية أو اجتماعية — وربما دينية في بعض المُجتمعات — عميقة الجذور، تمنع من إجبار الناس، بقوة القانون مثلًا، على التوقُّف في النسل عند حدود معينة. وأنا أسلِّم بأن الوضع الحالي هو كذلك بالفعل، ولكني أعتقد أن هذا الوضع السكاني يَستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن المستقبل سيشهد تغييرًا جذريًّا في موقفنا من هذه المشكلة.
ذلك لأننا لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظلَّ يَفرض على نفسه مزيدًا من القيود لكي يَنال مزيدًا من الحريات، وهذا تعبير يبدو متناقضًا؛ إذ كيف تُفرض القيود من أجل ضمان الحريات؟ ولكن من السَّهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسَّره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نَفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور؛ لكي ننال بذلك مزيدًا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطُّل إحدى الإشارات — الذي يبدو في الظاهر وكأنه يُعطي السائق أو السائر «حرية» السير كما يشاء — يؤدِّي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يُسبِّبه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعًا؛ إذ ننتقل من حالة «الحرية» العشوائية أو المتخبِّطة التي كانت تسود في البداية، إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يُحقِّق لنا مزيدًا من الحرية.
وخلال تاريخ الإنسان الطويل كانت هناك أمور يَعتقِد أنها يَنبغي ألا تُمَس، ومع ذلك فقد تناولها التنظيم والضبط في الوقت المناسب، فليس في استطاعة الإنسان — مثلًا — أن يَسير عاريًا في الطريق حتى ولو كان يشعر براحة كبيرة في هذا العمل؛ لأنه يؤذي مشاعر الآخرين بهذا السلوك، وليس في استطاعته أن يقول للناس أي شيء يريد قوله؛ لأنه قد يُحاكَم بتُهمة القذف العلني، وليس في استطاعته أن يَربح إلى غير حد؛ لأنه — حتى في الدول الرأسمالية — خاضعٌ للضرائب، وقِس على ذلك آلاف الأمثلة التي تُثبت أن مفهوم الحرية القديم — بمعنى الانطِلاق بغير قيود — يُخلي مكانه على نحو مُتزايد لمفهوم آخر هو التنظيم والتقييد الذي يؤدِّي إلى مزيد من الحرية الحقيقية.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

Properties of i...

Properties of ideal disinfectant : 1- Ideally, the disinfectant should have a wide spectrum of antim...

اتعرف أسرّت آن ...

اتعرف أسرّت آن لماريلا، لقد عقدت نيتي على الاستمتاع بهذه الرحلة، خبرتي تؤكد لي أنه بإمكانك الاستمتاع...

ويتضح مما سبق أ...

ويتضح مما سبق أنَّ مصادر كفاءة الذات تنبع غالبًا من خبرات الفرد وهذا يؤثر إما إيجابيًا على كفاءة الذ...

قال الشيخ ( أخب...

قال الشيخ ( أخبرت الصبي أنني شيخ غريب الأطوار، وعلي الآن أن أبرهن على ذلك )، فكان يبرهن على ذلك مرة ...

بدأ الكاتب بشرح...

بدأ الكاتب بشرح هدفه من تناول موضوع الكتاب بتأكيد هدف موضوع التنمية البشرية أن الأنسان هو غاية وهدف ...

كان نور النهار ...

كان نور النهار قد غمر الكون عندما استيقظت آن وجلست في السرير ّشـة الـذهـن بـاتـجـاه الـنـافـذة الـتـ...

الحمد لله رب ال...

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد ، فقد شهدت الساحة الإسلامية في ميدان ال...

اللاكتوز هو أنس...

اللاكتوز هو أنسب السكر لإطعام الأطفال كمُحلي للحليب لأنه: 1. وهو أقل سكر حلو بحيث يمكن للطفل إرضاع ...

Numerous protoc...

Numerous protocols have been put forth to enhance WSN routing performance.The idea behind the Mobile...

في عصر الاتصالا...

في عصر الاتصالات الرقمية والتكنولوجيا الحديثة، أصبحت الشبكة العنكبوتية عمودا فقريا للعديد من الأنشطة...

المبحث الأول: ت...

المبحث الأول: تعزيز الحرية التعاقدية من خلال قانون المنافسة تعد حرية التعاقد وسيلة قانونية منبثقة و...

consider a popu...

consider a population of insects in which females reproduce only once a year and then the adult popu...