لخّصلي

يُبرز الشاعر والناقد الدكتور خليفة الوقيان حضورًا متميزًا في المشهدين الأدبي والثقافي الكويتي. فهو شاعر مبدع يتميز بموهبة فذة وبلاغة عالية، وقد ترك بصمة خاصة في الشعر. كما يتميز بكتاباته النقدية في الدراسات الشعرية، بإضافة رؤية نقدية عقلانية أثرت النقد الأدبي، مع تجاوز محدود لهذا المجال في كتابه "الثقافة في الكويت". يُعرف الوقيان بشجاعته الفكرية ومعارضته للتطرف الفكري في قصائده وكتاباته، مدافعًا عن القضايا الإنسانية ومناهضًا للغلو الفكري، مكررًا هذا الرفض باستمرار نظرًا لتكرار التطرف. قصائده تجمع بين الحداثة والأصالة، وتُظهر عمقًا إنسانيًا وعروبية قوية وطنية عالية، متضمنة عوالم إنسانية من شغف وصداقة ووفاء، مع أبوة حانية، ومضات تعليمية تتجاوز الذاتية إلى العالمية. تتميز قصائده بإرث تاريخي مشترك، ورؤى خاصة تتقاطع مع غيرها دون تكرار، مُظهرة روح شعراء التجديد كلسياب والبياتي. يُجسّد صمته حكمة كما في قوله "الصمت يُحمد في زمان الثرثرة". يُعدّ الوطن قصيدة خالدة لديه، يتناولها بمباحث متعددة، بخصوبة تعكس حبه للكويت، مُجسّدًا إياها بجمالها وخصبها، ومقاومتها للظلام، كما في قصيدة "العروس والقرصان". لكنّ هذا الجمال يتحول إلى غضب عند مواجهة العدوان، كما في "إشارات" التي تُظهر تشظي الذات أمام أهوال الغزو، وعنف العدوان. يُظهر "برقيات كويتية" مفارقة شعبٍ محبٍ للعروبة يُغتال من قبل شقيقه العربي، مُنكِرًا ادعاءاتهم بتحرير القدس. كما يُظهر وفاءً للعروبة وقضاياها، مع مكانة خاصة لفلسطين في قصيدته "ذكرى وعد بلفور". يستخدم التاريخ في قصائده لفهم الحاضر، مُبيّنًا ارتباطه بأحداث الماضي، كالنكبات العربية، متسائلاً عن أسباب تكرار هذا الاستخدام، وهل هو تفسيراً لماضي بعيد، أم آلية أدبية؟ في قصيدة "القضية"، ينتقد السياسيين بوصفهم وجوهًا خشبية، مُكررين أخطاء الماضي كالدولة العباسية، مُسائلاً دور الشعر والفكر في مواجهة الظلم. في مقدمة ديوان "تحولات الأزمنة"، ينتقد من يضع أصابعهم في عيون الباطل. يُوضح كتاب "خليفة الوقيان في رحلة الحلم والهم" تحولاته الفكرية من النص العمودي إلى التفعيلة، ومن التقليد إلى الإبداع، والبحث عن شخصية مميزة. يُناقش الوقيان في مقابلة قدرة الناس على مواجهة الباطل، مؤكدًا دور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والضعف الإنساني. "تحولات الأزمنة" تُظهر تغيرات راديكالية في الواقع والمفاهيم، صراعًا بين الأضداد كـ"قورش" و"نبوخذ نصر"، وانقلاب القيم، وصراع البداوة والحضارة، مع غربة الروح وخيبة الأمل في فقدان قيم البداوة. ينتهي الوقيان بقصائده إلى دعوة مستمرة للديموقراطية والسلام والتعايش، كما في ديوانه "الدروش والصبرا"، مُعارضًا التطرف بلغة مباشرة تُناسب مخاطبة المتطرفين.

سجل الشاعر والناقد الدكتور خليفة الوقيان حضوره في المشهدين الأدبي والثقافي في الكويت على أكثر من صعيد، فهو من ناحية الشعر شاعر مبدع يغرف من منهل الشعر بكل بلاغة واقتدار، إذ جمع الموهبة والفكر الأصيل والإلمام بفنون الشعر، واستطاع أن يضع بصمته الخاصة في هذا المجال. وفي جانب الكتابة النقدية، نجده يكتب في مجال الدراسات النقدية في الشعر برؤية نقدية ثاقبة تحاول إضفاء النزعة النقدية العقلانية على كل ما يطرحه من مشاريع بحثية أغنى بها النقد الأدبي. وهو هنا وفي للشعر بحيث إنه تخصص في دراساته النقدية في مجال الشعر ولم يتجاوزه إلا إلى مجالات محدودة مثل كتابه «الثقافة في الكويت».

المجال الثالث، شجاعته الفكرية وطرحه آراءه بكل قوة وشجاعة وجرأة وثبات محارباً ذوي العقول المتطرفة محدودة الفكر، رافضاً الانغلاق الفكري سواء في قصائده أم في مقالاته الفكرية ودراساته ومقابلاته المتعددة. إنَّ ما يلفت النظر هنا هو ثباته على هذا النهج المناصر للقضايا الإنسانية، الرافض لكل أشكال الغلو والانحراف الفكري، وهو في كل مرحلة يعبر عن هذا الرفض، وفي كل مرحلة يجد نفسه مضطراً إلى قول الكلام نفسه لأن التطرف صار يكرر نفسه في كل مناسبة وموقف، وعند كل تراجع سياسي أو ثقافي.

شاعرنا اليوم شاعر جمع في قصيدته أطياف الحداثة والأصالة جميعها، التجديد والتقليد. يُعد أحد أبرز أعلام الحركة الشعرية في الكويت والخليج العربي. اسم يتردد لزمن إبداعى أصيل متفرد في عطائه الإنساني، ومتمايز عن الغير ببصمته الإنسانية العالية، وبحث العروبي القوي، ووطنيته العالية، فقصيدته عوالم إنسانية رحبة ممتلئة بالشغف والحل والصداقة والوفاء وبأبوة تحاور الطفولة بدفقات شاعرية حانية، وومضات تعليمية ثانية همه هم إنساني موضوعي خرج من نطاق الدوائر الذاتية إلى حدود العالمية، بشار للإنسانية فتتحرك همم أولي البصيرة. قصائده تحدثك . عن إرث تاريخي مشترك، يقاربه من زاوية ورؤى تخصه وحده تتقاطع مع الغير، ولا تتشابه أو تكرر نفسها ... تقرا له فم بالروح الشعرية لدى شعراء التجديد العرب، من أمثال السياب والبياتي وغيرهما. رؤاه رؤى مثقف أصيل، نهم في منابع المعرفة التي تتجلى بوضوح في النص، وإن من صمته حكمة وترفع الحكماء عن ا الجهلاء. مثلما يقول في قصيدة ثرثرة»: فقي .

الصمت يُحمد في زمان الثرثرة

والصامتون عيون حق مضمرة والصامتون مسامع وبصائر

ومدارك وسيوف رصد مشهرة . (1)

الوطن قصيدة خالدة

لعل الوطن وكل ما يمس ترابه، يصبح موطناً خلاقا لبناء القصيدة، فيمسي الوطن ففة للقصيدة، تتراوح مبانيها في أفقه. وحين الحديث عن موضوع الوطن في قصيدة خليفة الوقيان فإن الأمر إما يحيل إلى تعدد المباحث، كونه عنصراً مهيمناظرة كثيراً في قصائد الشاعر، وإما يكون التخصيص الجانب من جوانب حديث الشاعرة الوطن، فخصوبة الموضوع تأتي من توهج قلب الشاعر في حب الوطن، الكويت، فهم فجرها نكهة، ونداها نفحة شذى، وأشعة شمسها بردة تذيب برد الشتاء، هذي هي الكويت في عيون معشوقها، أسطورة متجددة في الخصب والعطاء، بأرضها وسمائها، وعروس.
بهية متألقة، وحينما يحاول القرصان مباغتتها بمخالب الظلام، فإن الشطآن تزمجر ثورة وغضبا، كما يتبدى في قصيدة العروس والقرصان» من مجموعة «حصاد الرياح»:

وحين يشرق الربيع

في الكويت

تزغرد الصحاري

فترتدي فستانها العشبي

عقدها ... أقراطها.

لآلئ الخليج

وتسكب الخزامي

والأقحوان والنوار غيمة الأريج

تغرد البلابل

ويصدح اليمام

والقطا يرجع الألحان ... (1)

كل هذه العذوبة في المفردات، والسلاسة والانسيابية في الوصف مع التناغم الذي يؤلف عناصر النص، ينقلب إلى سمفونية غاضبة وصاخبة، ساخطة على الأعداء البغاة حين يجتاحون شطآن الخليج، ويدنسون رمال الكويت، فإنَّ الذات العاشقة للعروبة تنشطر بين صراع الأنا والآخر، بين المواطن الكويتي والآخر، الجار والجائر في آن، وتتلاشى بعين الشاعر والمثقف المنادي لمد العروبة كل القيم التي طالما نادى بها وتغنى لها، فماذا عساها الكلمات تقول، وكيف تنظم قصيدة متوالفة متناسقة مادام الحدث يدعو إلى التشطي والتلاشي والتنافر. هذا ما حدث في نص إشارات حيث العنوان يُنبئ بالاختلاف وعدم الائتلاف، والإشارات تحمل ضعف وتشتت الذات أمام أهوال الأحداث، والعنوان تسرب

في ثنايا النص ليحمل بعثرة الأشياء وتشظيها وتفرقها، من مثل: حشرجات الرصاص، المنافذ الطرقات الحزينة، تـ تمزق العاب أطفالي، ترتج كل الشبابيك، تعوي الرصاصات (1)

تعبيره عن الغزو تمثل، كما توضح د. نجمة إدريس . يبرز فى توضيحه لقسوة ومن الحرب، وإن الخلل كان من الجار الغازي. هنا، فى النص، تظهر الذات الكويتية التي طا. تغنت بالعروبة، بأناشيدها الوطنية، تحيا الأمة العربية، تعيش وقت كتابة النصر الله القاتل والمقتول، العدوّ الشقيق والمعتدى عليه الشقيق، ليعيش النص حالة الصدر والموت والانشطار الذي يعبر عن قـ قوة المعاناة، وليتفشى الموت في فضاء النصر فيك احد نقاد مصر بين قوة وضعف، أحياء وأموات، أصوات دوتي الرصاص واللون المهيمن لون الله ليصبح نص إشارات» نص ا العنف بامتياز، عنف العدوان والغزو، ما يد ما يدفع إلى أن يتساءل: أين هي مروية الغزو العراقي للكويت؟ ولم لا توضح معاناة المقهورين وما هذه إلا دعوة منا إليه ليقرأ الأبيات التالية بعنفها وصخبها، فستكشف له شيئا مثانة أبناء الوطن في معالجة ما حدث

ها هم السادة الظافرون الأباة

يجيئون بابنة جاري الصبية

مشطورة الوجه

مثقوبة الرأس

مقطوعة الكف

يرمون بالجسد

المستحم ببحر الدماء (2)

يعد نص برقيات كويتية مرئية للعروبة والقيم الجميلة التي اغتالها العدو من اغتاله من قيم حرصت الكويت على توثيقها طوال مسيرتها الحضارية والإنسابية النص على رصد روح المفارقة بين شعب محب للعروبة، يغتاله شقيقه وأخوه العربي، لتنفضح ادعاءاتهم تحرير القدس، إذ تنقلب عدواناً على الكويت:

أيها القادمون مع الليل

إن العروق التي نزفت

فوق رمل الكويت لم يكن نبضها غير خفق العروبة

في كل بيت.

قل للرفاق

الغارسين رماحهم بظهورها

الناذرين سيوفهم لنحورنا الدرب نحو القدس سالكة فكيف عبر تم نحو الجنوب ؟ (1)

القصيدة وفاء للعروبة

عند الانتقال من ثيمة الوطن والمواطنة إلى قضايا أخرى تشغل حيز قصيدة الشاعر خليفة الوقيان، نعثر على إشارات قوية إلى القضايا العربية التي تشغل الشعراء العرب المنتسبين إلى مد القومية والعروبة، على مستوى النص الشعري، والنقدي، فقد ألف كتاب «القضية العربية في الشعر الكويتي.
لفلسطين مكانة راسخة فى قلب وعقل شاعرنا، فهى وجعه الإنساني، يعتصر قليل وتجلى ذلك واضحاً في أكثر من نص من نصوصه من مثل في ذكرى وعد بلفور، القصيدة التي تصوّر كثرة الوعود بالنصر والحرية والسلام، فلا يجد الموعود إلا الوعيد من آلة الموت الإسرائيلية، وتمر السنون والمواعيد عليه وهو ولا يزال يقبع تحت من العنف والعدوان

قد رأيت الصباح في كل عين صلبتها على الطريق الوعود في دموع المعذبات الثكالى يرتوي من نجيعها المولود في عيون الصغار تستنبت البؤس

وتشقى فيستقي العنقود. (1)

يسكن التاريخ خلايا النص، فيصبح وحدة دلالية ملحة في تسيير أفق القراءة والتلقي، منتقلاً إلى مراحل التاريخ بما تحمله من فظاعة وبشاعة ووجوه ذوات بصمة سوداء في الرجوع تقهقراً إلى الوراء، ويظهر تاريخ النكبات العربية الشهيرة، تاريخ تحول إلى نصب مشتركة لدى الشعراء العرب، يعولون عليها كثيراً في تفسير أسباب النكبة والتخلف عن ركب الحضارة. هذه النصية التاريخية المشتركة بين الشعراء العرب تجعلنا نتساءل عن سبب ورودها كثيراً في نصوصهم. نمثل بالدولة العباسية، وانغماس رجالاتها في حياة الترف والدعة، تاركين الأمتين العربية والإسلامية وليمة سهلة للأطماع الخارجية. فهل أصبح الماضي البعيد والسحيق تفسيراً مقنعاً لما حدث اليوم، وهل هي رؤية شعرية تبنى المدا ما جاء به الأمس ؟ لكنه أمس بعيد، وبعيد بمسافة زمنية لا علان النساء بل تجعلنا نتجاوزه في قراءة أحداث حاضرنا الماسوي. هل القضية تكمن في عدم رغبة المثقف العربي في الصدام مع الحكومات العربية التي هي، فيما هو مؤكد بعد سبب النكبات المتوالية؟ أليست مئات السنين بكافية للتجاوز والعبور إلى الراهن وتفكيك وحدات الحاضر قراءة وتحليلاً لمعرفة موطن الخلل؟ وهل القضية قضية السياف مسرور الذي يلاحق أفواه الحقيقة ليكممها عن البوح، أو أن القضية تكمن في كونها آلية يتبعها الشعراء العرب في المعالجة الأدبية للتاريخ وفاق آليات التناص واستدعاء الشخصيات التراثية وترميزها وإسقاطها على الحاضر ؟ ... مدعاة هذا القول ليس لأن الدكتور خليفة الوقيان مكبل بعقدة السياف وتكميم الأفواه، فهو يعيش في وطن يزهو بالديموقراطية والحرية، وهو أيضاً من أهل الفكر الحر والجريء، الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، لكنها محاولة لبحث علاقة الشعر بالراهن والمعاصر، وحول رجم الواقع والممارسات الخطأ بالكلمات بكل ما تحمله من قوة وتوهج.

هذه مساءلة هدفها إيجاد أكثر من قراءة للنص الشعري عندما يطرح التاريخ موضوعاً للقصيدة.

الشاعر خليفة الوقيان من الشعراء الذين اعتنوا بالتاريخ كثيراً في نصوصهم، وداروا حول أهم محطاته المهمة والمفصلية في القراءة، وكان التاريخ لديه مادة طيعة لقراءة الحاضر المأساوي، وبيان أنه رهين لأحداث الماضي من تفكك ونكبات متوالية شهدتها الأمة العربية.

ضياع القضية في قصيدة «القضية»

عند قراءة قصيدة «القضية»، أوّل ما يلوح لآفاق الذهن «القضية الفلسطينية»، بما أنها أصبحت قضية شائكة لدى المواطن العربي البسيط، والسياسي، بما هو معني به كناشط سياسي مسؤول عن قضايا الأمة العربية الشائكة. يخلص الشاعر في القصيدة إلى رؤية مفادها العودة إلى التاريخ، ورؤية رموزه وما فعلت في الأمس، فيجد أن هؤلاء الناشطين صور متكررة السابقيهم في التاريخ العربي، لذا ا يخاطبهم يخاطبهم بـ بتألم وأسى السياسيين ما هم ! مستكين، واصفا إياهم بالوجوه الخشبية، ولعل هذا الوصف بما فيه من انحراف أسلوبي ومفارقة بين المشبه والمشبه به، يوضح مدى رخصهم في عين الشاعر، واستخفافه بهم، كما هو الخشب رخيص، ومدى جمودهم كجمود الخشب وعدم وجود مظهر من مظاهر الحياة

فيه:

إيه، يا أهل الوجوه الخشبية والعيون المطفآت الحجرية يا أسى أمس، ويا أحلام وحش ينهش الشمس بأنياب غبية

لينتقل الشاعر إلى الزمن الماضي في المقطع التالي من النص، زمن الدولة العباب ورموزها، التي يراها الشاعر تتكرر وتتناسل عبر التاريخ، فما أهل الوجوه الخشية الامن

بقايا نسلهم:

و بنو العباس» في كل سرير يعشقون الأرض ! كأساً وصبية يحلبون الضرع إن جاد، وإما جف، يمتصون أعراق الرعية

كل هذا الاندماج في معطيات الضياع والتلاشي يجعل من الأراضي العربية لعبة سباب بأيدي الأعاجم، من مثل الفتح بن خاقان، وابن سهل، اللذين لا محالة لهما أمثال وأشباه كثر في عصرنا الحاضر ، صيرونا مثل الدمى الخشبية، يديرونها وفاق مصالحهم الاستراتيجية، والنزعات المعادية لحضارة الإسلام، التي ما إن شيد صرحها فترة من الزمان، تداعى الصرح بتداعي أبنائه وتهافتهم على الجلوس فوق عرش المتعة والله.

وهذا ما بدا جليا في قوله:

دينهم أن يقتل العرب وليس

الخطب أن تفنى العروش الأموية

وينتهي نص «القضية» بمساءلة وجودية حول دور كل من الشعر والفكر في الحياة، وهل يكمن دورهما في تجميل القبيح وتزيين تلك الوجوه الخشبية بما هي ليست أهلاً له أصلاً:

لست أدري ما حديث الشعر، ماذا يفعل الشعر، إذا اغتال نبيه هل يعود الفكر شحاذاً بغيا يغزل الفكر بروداً ذهبية

الأبيات السابقة فيها نقد عميق لوظيفة الشعر في الحياة، وتنقيح لدور المثقف والمفكر، الذي يفترض فيه أن يقف ضد الظلم والعدوان بدلاً من الرقص في حلبة المذابح الإنسانية، وتأطير رموز البغي بإطارات عسجدية، باذخة الجمال، كأننا بالشاعر هنا ينتقد الشعراء الذين خلدوا الخلفاء والملوك والأمراء بقصائدهم، منحرفين بذلك عن دور ووظيفة الشعر الحقيقية من الالتزام بهموم الشعر، التي تخالف الأدوار النمطية للشعراء في الماضي.

يقول الشاعر في مقدمة ديوان تحولات الأزمنة:

إنَّ الذين يضعون أصابعهم في عيون الباطل، ويسمون الأشياء بأسمائها، مع احتفاظهم بالحد المطلوب من الشروط الفنية، مقصرون فنيا. وربما

يوصمون بالتقصير في مواقفهم أيضاً، وإن هم عرضوا أنفسهم للمخاطر

الحقيقية» . (1)

بين عامي (١٩٧٦) - ۱۹۸۸ ) يمر الشاعر بتحوّلات فكرية توضحها نجمة إدريس في كتابها «خليفة الوقيان في رحلة الحلم والهم:

يمكن أن تفهم أهم التحديات التي كانت تواجه الوقيان في هذه المرحلة، أنها تتمثل في ثلاثة:

الأول: قضية الخروج من شكل النص العمودي إلى التفعيلة.
الثاني: الخروج من التقليد والنمطية في الطرح إلى فضاء الكشف

والإدهاش.

الثالث: البحث عن شخصية مميزة تخصه هو » . (1)

ديوان تحولات الأزمنة»، الترابية والرمادية والنحاسية، التى شهدت المفارقات الساخن التحول والتبدل والتناقض، والمفارقات الكبيرة، والسخرية اللاذعة، كانت كلها من الانقلابات الراديكالية، فرجال التقوى والورع أصبحوا آلات أصولية لتدير البشر والدين لم يعد وسما الأرواح المتدينين، بل غدا ذريعة للخارجين من إطار الدين تم العنف ونبذ الآخر، والرأي المتوحد والمستبد للحياة، فالفكر والمعرفة الحقيقة لا ينها. إلا من روافدهم وأصولهم المعرفية.

هذه القوة في مواجهة التطرف يحللها الوقيان في واحدة من مقابلاته، إذ يقول:

أعتقد أن الناس يمتلكون قدرات متفاوتة في مواجهة الباطل والانتصار للحق، ويعود ذلك إلى ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وتكوينهم الثقافي. في رأيي، ليس هناك من يرغب في الانتصار للباطل أو مهادنته، غير أن تلك الظروف قد تدفع بعضهم إلى المهادنة، أو إمساك العصا من منتصفها، وإلى جانب ذلك يبقى للضعف الإنساني دور هنا، فالترهيب والترغيب عاملان مؤثران في تغيير القناعات، فكم من مُدَّع للنضال أغراه بريق الكرسي، فانقلب على عقبيه وكم من مناضل حقيقي أرهقه الترهيب فاضطر إلى الاستسلام وعلينا أن نتفهم ظروف الطرفين، ونلتمس لهما الأعذار، فهما نتاج ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية أملت عليهم سلوكهم» . (2)

هذه التحولات ، وتحولات الأزمنة التي انتشرت في الكون الشعري، وفي فضا النصوص، تظهر في صورة تغيرات راديكالية مستمرة تفجر بنى الواقع، وتغير مفاهيم الحجة السائدة. إنها نذير للحالمين والواهمين بثبات الأزمنة، فلا البداوة أعمدتها راسخة أمام مد البحر الزاحف إليها بكل قوة الحضارة والتمدن ومغريات المدينة، ولا الأبطال بقوا متمسكين بروح البطولات والقيم والمبادئ المتوارثة من الأزمنة الماضية، ولا القدس يحررها ثوارها الذين باعوها في قصور الحكام الفارهة. هذه تحولات الأزمنة التي كان بنان الشاعر داميا منها، وباكياً عليها، فماذا تبقى للقصيدة أن تقول غير الرثاء وبكاء زمن

البطولات

مرثية البطولات في تحولات الأزمنة»

يشيد الشاعر نص تحولات الأزمنة على بنية التحول والتغير، وينسجه على صراع الأضداد، بل إن روح المفارقة في النص تكمن في وجود أطراف قوية تأخذ النص بقوة وشجاعة وإقدام، أما الأطراف الأخرى فصفتها الخضوع والخنوع السطوة القوي. هذه التحولات تمر عبر أزمنة ومسميات عدة يضعها الشاعر في إطارها الرخيص، بخس الثمن فالأزمنة التالية: الزمن الترابي، الزمن الرصاصي، الزمن النحاسي، الزمن الخلاسي تقابلها أزمنة ومسميات عدة لا تصلح لأن تكون متوافرة في النص لعدم تحقق شروطها، من مثل الزمن الذهبي أو الفضي أو حتى البرونزي.

وعلى ما ذكر سابقاً، فإنَّ الأضداد، هنا في النص، لا تتركب وفاق فكرة الصراع بل إنها

تسير في قالب الخضوع والاستسلام، كما سيتضح فيما يلي:

يوضح الشاعر طرفي علاقة تضاد في التاريخ: «قورش» و «نبوخذ نصر»:

في الزمان الرصاصي

يلبس «قورش» جبته

يرتدي العمة

الخوذة الأزلية

يهدي جحافلنا
نحو بوابة القدم

يقتاد أسرى اليهود

إلى بابل العربية. (1)

ليكون الطرف الثاني في العلاقة الصراع التاريخي، نبوخذ نصر يترقب جالب

الأحداث

يبقى نبوخذ» يرقب

كيف يدور الزمان

تغير أشكالها الكائنات

ويكتسب الماء لوناً جديداً. (2)

وما حدث في الزمن الرصاصي، يتكرر في الزمن النحاسي الذي تصدق فيه كل البومات فيكون سيف بن ذي يزن في موضع حيرة، ولا بطولة لمن يقلب سيفه منتظراً المعين، إلا يكون الطرف الثاني أقوى في النص، حيث جحافل وهرز» تقتطف النص كما تفتق

الزهور.

و آخر مفارقات النص اللاذعة، صورة الثوار، رمز البطولة المفترضة، وعناصر النصر المنشود، ينحرفون عن مفهوم البطولة والنصر، ليكون دورهم التملق في قصور الحكام وتقبيل اللحى والعمائم، يؤمنون بالوهم والضعف والوهن بدلاً من منطق القوة والكفاح

ويتمتمون في معابد النار:

هنيئا لثوارنا

في ثغور العواصم

يقيمون صرحاً

من الخزف الفارسي المنطق
يبوسون كل اللحى والعمائم يسلون سيف الكرامات

والمعجزات. (1)

صراع البداوة والحضارة

من أهم التحولات التي شهدها ديوان تحول الأزمنة» انقلاب القيم والعادات، وروح البداوة التي أصبح البدوي يبكي ويئن لأجلها، ويفتقدها، ويعيش معزوفة الفقد والحداء على أطلالها وبقاياها. حوار بين الأصدقاء، فيه كشف وبوح بما فقد، وفيه تناوح أرواح على ما تتلم. الفعل المضارع يسيطر على بنية النص ليعيش حالة الاستمرارية، مع التأكيد على فعلي التألم والتورم، وإن جاء في النص رسالة إلى: مخبر بدوي» فعل ماض فهو لإقناع الصديق والقارئ بما تداعى وانهار وتتلم أمام تحولات الأزمنة التي دمرت قيم الأشياء، فها هو ذا البدوي، ابن قحطان مجهول في أحياء المدينة الزاحفة بكل قوة، ولا يجد من يكرم الضيف، ولا من يعرف قدره، وتاريخ أبناء الصحراء، الذين حققوا البطولات

في ماضي الأزمنة:

يا بقايا عزة الصحراء

والصحراء تاريخ تهدم

حفرت في وجنتيه

غضبة الريح ندوبا

فتبدى شائه الوجه غريبا

ليس يدري كيف يستهدي الدروبا.

هذه الفجوة، والصدام، بين أهل المدينة والبادية جعلت من فضاء النص مداراً لغربة

الروح وتكوم الأحزان، فتزيا بلباس الخوف، وبصمت يسود الفضاء، فيغدو هو اللغة الناطقة بعد الصمت الذي استأثر بالبدوي، والحيرة التي . الذي تتضح رؤية الشاعر له في آخر النص، بقوله: خيمت على هذا العالم الجديد

قل لهم إن وراء البحر تنينا غريبا

همه أن يطفئ الشمس وأن يسرق من طفلي قوته قل لهم إن وراء البحر غولاً

يقدم

تبين نجمة إدريس في كتابها خليفة الوقيان: رحلة الهم والحلم ما يلي:

وتأتي الإشارة إلى ضيق مساحة الحرية ملمحاً مهماً من ملامح مرحلة مصادرة الار وغياب الحياة النيابية الفاعلة، وفيها إيماء واضح إلى الأذى الذي يلاحق المجاور بموافقهم ) وهذا ما دفع الشاعر في مواضع كثيرة لينتقد هذا الفكر المتطرف مدينة تجربته ويستمر على هذا الخط المقاوم في ديوانه الشعري الأخير: الدروشو الصبرا الصادر عام ٢٠١٧م، حيث يقول في مقدمة قصيدته:

وهذه القصيدة لم تكن الأولى التي نبهت إلى مخاطر الغلو، فقد سبقتها

كتابات عدة، وقصائد أخرى نشرت منذ نحو ثلاثة عقود، ومنها قصيدة. التعويذة في زمن الاحتضاره ١٩٨٤م.

وإن من أكثر الأدلة على ديموقراطية الشاعر نشره للنصوص المؤيدة والمعارضة لدي عرضها في الديوان

المجد أن تستسلموا

وأن يسود فيكم

جهل وحل معتم

مضى زمان اشرقت
العقول فيكم

وأقبلت جحافل

من الظلام ترزم

تحوا رقابكم

فللسكاكين قم. (1)

ومن المفارقات الواضحة هنا أن البنية الشكلية للنص تماشت تماماً مع لغة المتطرفين حيث اللغة المباشرة والمقاطع الشعرية القصيرة التي تدل على أن هذه الوسيلة غدت الوحيدة الممكنة لمخاطبة المتطرفين فكريا، الذين لا يأبهون الجمال النص والشكل والأسلوب، ويناهضون المعنى تماماً.

ختاماً، تبقى تجربة الشاعر خليفة الوقيان دعوة مستمرة إلى طريق الديموقراطية الممتلئ بالمحبة والسلام والتعايش السلمي المشترك، دعوة متوهجة بالجمال والإشراق.