لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (التلخيص باستخدام خوارزمية التجزئة)

ومعنى ذلك عنده: أن النص لا يرتبط بصاحبه أو الجمهور الأوَّل الذي نوجِّه إليه النص فقط، ثم لا يرتبط كذلك بعملية القراءة على أساس أنها حدثٌ يسعى عبره المتلقِّي إلى بناء فهمه للنص أو التعبير عن الوقع الجمالي الذي أحدث فيه؛ وإنما هو قارئ يعمل بدوره على تطوير طاقة تشارك في صنع التاريخ؛ ولذلك فإن حياة العمل الأدبي ضمن هذا التاريخ لا يمكن أن تدرك دون المشاركة الفعَّالة التي يُبدِيها هؤلاء الذين وُجِّه إليهم ذلك العمل، إن تاريخية الأدب وطبيعته التواصلية تستتبعان علاقة تبادلية وتطوُّرية بين الأثر الموروث والجمهور والأثر الجديد، أي: إلى تقاليد أدبية وتراث فني تتكوَّن منهما المرجعية الضمنية أو الصريحة للنص والمتلقِّي على حدٍّ سواء؛ والمظهر الثاني ذو بعد تاريخي يتمثَّل في أن الاستيعاب المبدئي للأثر "يستطيع أن يتطوَّر ويغتني من جيل إلى جيل، 1- التجربة المسبقة التي يتوفَّر عليها المتلقِّين في مجال الجنس الذي ينتمي إليه الأثر. ولأنه يظلُّ بموضوعه وشكله منبعًا للدهشة واللذَّة الفنيتين، وقد حدَّد ياوس مسار التلقِّي الذي يواجه به القارئ هذا النص بثلاثة أزمنة موازية لثلاثة أنواع من القرَّاء: ويتحقق عن طريق تبرير الدهشة بقراءةٍ تسعى إلى الفهم والتأويل. ليكوِّن عبر التاريخ سلسلة من التلقِّيات هي التي تحدِّد الأهمية التاريخية وتبيِّن مكانته ضمن التراتب الجمالي أو الفني"[6]. يُفهَم من قول ياوس أن الدلالة الجمالية الضمنية - للنصوص الحية - تتمثَّل في حقيقة أنَّ أولَ استقبالٍ من القارئ لعملٍ ما يشتمل على اختيارٍ لقيمته الجمالية، وفيما يلي نقدِّم شاهدًا تطبيقيًّا على ما سبق من تنظير، وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًي كُلَّ حَاجَةٍ  وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ  وَشُدَّتْ عَلَى حُدْبِ المَهَارَى رِحَالُنَا  وَلاَ يَنْظُرُ الغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ  أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا  وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ  عرض ابن قتيبة لهذه الأبيات في كتابه "الشعر والشعراء" في أثناء تقسيمه للشعر وفقًا لعلاقته باللفظ والمعنى، فبعد أن تحدَّث عن الشعر الذي يجمع بين حسن اللفظ وجودة المعنى - وضرب لذلك أمثلة من أبيات متفرِّقة، في مواقف مختلفة - ينتقل إلى الحديث عن الصنف الثاني فيقول: "وضرب منه حَسُنَ لفظه وحلاَ، ثم علَّق عليها بقوله: "هذه الألفاظ أحسنُ شيءٍ مخارجَ ومطالعَ ومقاطعَ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منًى، ويدلُّنا هذا التعليق منذ الوَهْلَة الأولى على انقسام عملية التلقِّي إلى مستويَين مختلفَين يستقلُّ أحدهما عن الآخر؛ فهي ألفاظ وتراكيب لا طائل وراءها - كما يقول - ولذلك فإنه عندما راح يشرحها لم يَزِدْ على إعادة صياغة النص بألفاظه نفسها صياغة نثرية، ولأبيات كثير هذه وضعٌ خاص في تاريخ الشعر العربي قديمًا؛ فقد عرض لها معظم النقاد العرب الذين جاؤوا بعد ابن قتيبة؛ وهؤلاء يختلفون من حيث اهتماماتهم المعرفية الأصلية اختلافًا واضحًا؛ • اعتنى ابن قتيبة بالقيمة اللفظية في المخارج والمطالع والمقاطع، فلم يلتفت إلى ما في الأبيات من استعارة ومجاز واستخدام فريد للغة، • وكان ابن طباطبا أكثر رفقًا بالشعر، وشرح البيت شرحًا متقدِّمًا على سابقيه، وإن لم يصل إلى قيمتها الجمالية ومزاياها الفنية الكامنة[10]. يقول ابن طباطبا: "هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قُفُوله إلى بلده، ووصفا الأبيات بأنها من الشعر الذي يحلو لفظه وتقل فوائده[12]. فقد وقف مع ابن قتيبة - كما أشار إلى ذلك ابن الأثير - إذ استشهد به لدعم فكرته في أن "الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، ونكتفي - بعد أن أوردنا قراءات النقَّاد السابقين - بقراءتين مهمَّتين في معاينة مستوى التطوُّر في قراءات الشعر لدى نقَّادنا القدامى، أمَّا ابن جني فقد وضع رؤية شاملة لقراءته قبل المباشرة بها، ونلحظ في هذا القول لابن جني كأنَّه تكرار لما قاله سابقوه من النقَّاد، وأكبر الظن أنه ما قدَّم ذلك إلا ليُعلِن قراءة أدق وأشمل، فهو يُردِف كلامه السابق بالقول: "قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلُّق به مَن لم ينعم النظر فيه، وذلك أن في قوله: "كل حاجة" ما يفيد منه أهلُ النسيب والرقَّة، ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهرُ عليه، لتراه فتعجَب ممَّن عجب منه ووَضَعَ من معناه، ونحو ذلك - لكان فيه معنى يُكبِرُه أهلُ النسيب. والفكاهة بجمع شمل المتواصلين، وَإِنَّ حَدِيثًا مِنْكِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ  جَنَى النَّحْلِ فِي أَلْبَانِ عُوذٍ مَطَافِلِ  رَاعِي سِنِينَ تَتَابَعَتْ جَدْبَا  فَأَصَاخَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَيًا  وَيَقُولُ مِنْ فَرَحٍ هَيَا رَبَّا  وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فَزِدْتَنِي  وإذ يعزو ابن جني الموقف القديم من هذه الأبيات - وهو أساسًا موقف ابن قتيبة - إلى (جفاء طبع الناظر) فيها؛ ولا يمكن أن تكون صياغتها اللغوية - التي ظفرت بالإجماع على حسنها - مجانبة على مستوى المعنى، حيث تتكشَّف عندئذٍ الدلالات النفسية المجاوزة للمدلول الحرفي للكلمات، وعند ذاك يتأكَّد أن الصياغة لم تكن منفصلة مطلقًا عن أبعاد النص الدلالية، ودعمًا من ابن جني لما أدركه من تلك الدلالات كانت قراءته للنص (في صحبة) نصوص شعرية أخرى، لكنه في قراءاته هذه لم يُفصِح إفصاحًا كاملاً عن العلاقة بين النسيب الذي بنى كلا البيتين عليه تقريبًا وبين الحج؛ فلقد أراد الشاعر بواسطة موضوع معين - انتهاء الحج - أن يصوِّر ما يلقاه الحجيج من السرور والأنس ساعة قفولهم ورجوعهم، مشيرًا إشارة واضحة إلى القراءات الإيجابية التي توصَّلت إلى فهم مغزى النص وكشف دلالاته الجمالية، ولا يخفى أن قراءات النقَّاد السابقين تشكِّل إحدى المرتَكَزات الفنية والمعرفية التي تُتِيح للناقد قراءة وافية مستكمَلة الجوانب، فبيَّن للمتلقِّي كيف يحسن الكلام أو يسوء وفقًا للترتيب الذي يسوق فيه المتكلِّم عبارته، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، ومعنى هذا: أن المتلقِّي لا يمكن أن يرتاح لكلامٍ استمع إليه دون أن يكون قد وقَع من قلبه واستقرَّ في فهمه، لا بُدَّ إذًا أن تكون قد خاطبت قلوبهم وعقولهم وحرَّكتها بقدرِ ما أطربت أسماعهم، فإذا به - أي: النص - ينفتح أمامه على أفق رحب من الدلالات والمشاعر الإنسانية التي تلابس المشهد كما تُصَوِّره الأبيات، ومن ثَمَّ اتَّجه الجرجاني إلى الكشف عن السرِّ في استحسان المتلقِّين لتلك الأبيات بالربط بين الأداء اللغوي فيها والأفق المعنوي الذي تفتحه[19]، قال: "أوَّل ما يتلقَّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبَّر عن قضاء المناسك بأجمعها، ثم دلَّ بلفظة "الأطراف" على الصفة التي يختصُّ بها الرفاق في السفر من التصرُّف في فنون القول وشجون الحديث، وكما يليق بحال مَن وُفِّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حُسْنَ الإيَاب، فصرَّح أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الحديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، فقد أوضح أن السبب الكامن وراء هذا اللطف هو الاستخدام البارع للاستعارة، فإنه قد فصَّل القول وركَّز على الشطر الثاني "وسالت بأعناق. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتَذَل. "، أراد أنها سارت سيرًا حثيثًا في غاية السرعة، حتى كأنها كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجَرَتْ بها[21]. فهذا التناقض يؤكِّد قول الجرجاني على البحث عن العلاقات المكوِّنة للنص ومعرفة الجديد منها؛ إذ إنَّه بنى رؤيته للنص على كلمة "سالت" والسيول لا تجري عادة بلطف ولين، إذ إنَّ محور الكلام الشعري هو إظهار الفرح والغبطة والسعادة بالعودة والقفول من الحج، يقول: "وليست الغرابة في قوله: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" على هذه الجملة؛ ولكن الدقَّة واللطف في خصوصية أفادَها بأن جعل (سال) فعلاً للأباطح، ثم عدَّاه بالباء بأن أدخل الأعناق في البيت فقال: "بأعناق المطي"، وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ  ثم يقول: "إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتْهم لذة الحديث عن إمساك الأزمَّة، وكذلك شأن مَن يَشْرَه وتغلبه الشهوة في أمرٍ من الأمور، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، فالعرب إنما تحسن ألفاظها وتزخرفها عناية منها بالمعاني التي تحتها، إذًا فقد كانت تلك الأبيات في حاجة إلى مَن ينعم النظر إليها حتى يجني المعنى المتضمَّن فيها، إنها دعوة إلى التأمُّل في النصوص الأدبية، وقد رأينا كيف تطوَّر موقف التلقِّي لتلك الأبيات على يد ابن جني، وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نجد تحليلاً آخر لهذه الأبيات عند الناقد الأديب عباس العقاد، نَقَعْنَا قُلُوبًا بِالأَحَادِيثِ وَاشْتَفَتْ  بِذَاكَ قُلُوبٌ مُنْضَجَاتٌ قَرَائِحُ  وَلَمْ نخْشَ رَيْبَ الدَّهْرِ فِي كُلِّ حَالَةٍ  وَلاَ رَاعَنَا مِنْهُ سَنِيحٌ وَبَارِحُ  ثم قال معلقًا عليها: "ولو أن الأبيات نقلت إلى اللوحة لملأت فراغًا من الشريط المصور لا يملؤه أضعافها من قصائد (المعاني) وقصص الوقائع؛ ثم تنقل لك صور البطحاء تعلو فيها أعناق الإبل وتسفل وتنساب أحيانًا كما تنساب الأمواج كرَّة بعد كرَّة، ويذهبون في ذلك كلَّ مذهب تلمُّ به الأذهان في حشد كبير مختلف الأوطان والأعمار، ومع ذلك لم يُشِر العقاد إلى جمال الاستعارة في قول الشاعر: "نقعنا قلوبنا بالأحاديث" وفي قوله: "ولم نخشَ ريب الدهر"، كذلك لم يُشِر أحدٌ من هؤلاء جميعًا إلى جانب الإيقاع الموسيقي الذي برز في الأبيات منذ بدايتها وحتى نهايتها، تناسبًا مع الفكرة وحركة النفس في تشوُّقها للديار والأحبة، فالشاعر منذ البداية أشعرنا بانتهاء حركة دؤوبة كان يمارسها ورفاقه في الحج، معززًا ذلك بإعادة تصوير طواف الوداع كآخِر مشهد في مكة، فإنها تُومِض صورًا وأحوالاً تُنزِل السامع في قلب الحدث. ونتوقف عند بيت النابغة الذبياني الذي يعتذر فيه للنعمان بن المنذر، فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي  وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ  ففي حكومة النابغة للخنساء بنت عمرو في قولها: "وإن صخرًا. " قال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، ثم قوله: "فخنس حسان" يدلُّ على انقباضه وتراجعه وتنحِّيه عن مجاراة فارس هذه الحَلَبة، ولقد جمع الأصمعي (ت216هـ) عن أحسن الشعر في أغراض مختلفة فقال: ما وصف أحدٌ (الثغر) إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي حازم: "يفلجن الشفاه. وقد عدَّ ثعلب (ت291هـ) بيت النابغة السابق من "الأبيات الغر"[29]؛ لإصابته المعنى وكشفه عن نفسية الشاعر وتصويرها تصويرًا مصيبًا. فالليل مثار ظلام وسكون ووحشة، لأن الفكرة التي يقدمها التعبير الجديد هي (إذا هربت منك استحالت الحياة كلها عليَّ ظلامًا)، فمن الخطأ اعتبار السواد الخاصيةَ المطلوبةَ على أساس أن الشاعر يقع بهذا تحت غضب الملك بحيث يرى كل شيء أسود"[33]. ولكن يمكن أن نلحظ أن اختيار الشاعر لكلمة (الليل) توضح أبعادًا دلالية أخرى يضيفها السياق الموقفي، فكأنه قال وهو في صدر النهار أو آخره: لو سرت عنك لم أجد مكانًا يقيني الطلب منك، ولكان إدراكك لي - وإن بعدت حاصلاً كإدراك هذا الليل المقبِل في عقب نهاري هذا إياي،  أنه اشتمل على تشبيه طريف جمع فيه الشاعر - بطاقته الإبداعية - بين متباينات ومتنافرات لها أصل في العقل، بل ينمُّ عن ذكائه ونفاذ خاطره وقدراته التعبيرية "ألاَ ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدَين في الجنس، ثم لطُفَ وحَسُنَ لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتّفاقٍ كان ثابتًا بين المشبَّه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهْتَ إلاَّ أنه كان خفيًّا"[37]، وعمق الأداء يمتدُّ إلى أداة التشبيه التي اتَّصلت بكلمة "الليل"، وأهمية الأداة هنا ينعكس على دلالة اللفظة التي بعدها. فالكاف في "كالليل" لها أثرُها القوي في أداء المعنى وتوجيه حركته الدلالية في البيت كله، والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا البيت أنه لا تتبيَّن لك صورة المعنى، حتى إن قطعت عنه قوله "مدركي"؛ لم يكن الذي تعقله مما أراده النابغة بسبيل؛ لأن غرضه التهويل من قوَّة وقدرة النعمان على إدراكه لا محالة، فأوحَتْ بفيضٍ من المعاني والدلالات الخاصة التي تشِعُّها في صياغتها المبتكَرَة ومن خلال موقعها السياقي. ويؤكِّد هذا قول عبدالقاهر: "وإنك لتنظر في البيت دهرًا طويلاً وتفسِّره، ثم يبدو لك فيه أمرٌ خفي لم تكن قد علمته"[41]. ويقول أبو نواس حول هذا المعنى: أَلاَ لاَ أَرَى مِثْلَ امْتِرَائِيَ فِي رَسْمِ  تَغَصُّ بِهِ عَيْنِي وَيَلْفِظُهُ وَهْمِي  أَتَتْ صُوَرُ الأَشْيَاءِ بَيْنِي وَبَينَهُ  فَظَنِّي كَلاَ ظَنٍّ وَعِلْمِي كَلاَ عِلْمِ  ولكنها وسائل تشترك بالتساوي مع الأصوات والإيقاع والانسجام والزينات في أن تثير نوعًا من التوتُّر أو الهياج، وغاية المتلقِّي أن يغوص في تأمُّل الكلام البليغ ويُعطِيه من فكره وحسِّه، وهذا شبيهٌ بما يراه ستانلي فيش بأن المعنى "ليس شيئًا يمكن استخراجه من القصيدة أو العمل الأدبي مثلما تخرج اللوزة من غلافها، إن "التلقِّي المبدِع" يسمح لنا بالانطلاق في أجواء النص وتأمُّله، وتلك هي الحقيقة التي تنبَّه إليها أسلافنا النقاد فأوْلوها عناية خاصة تسمح بالقول: إنَّ في تراثنا النقدي والبلاغي دررًا كامنة في حاجة إلى مَن يمدُّ يده إليها ليخرجها من مكامنها ويُجليها للناظرين.


النص الأصلي

إن تلقِّي النص الفني عند ياوس قراءة ممتدَّة عبر التاريخ البشري، ومعنى ذلك عنده: أن النص لا يرتبط بصاحبه أو الجمهور الأوَّل الذي نوجِّه إليه النص فقط، ثم لا يرتبط كذلك بعملية القراءة على أساس أنها حدثٌ يسعى عبره المتلقِّي إلى بناء فهمه للنص أو التعبير عن الوقع الجمالي الذي أحدث فيه؛ وإنما له علاقة بذلك وبما يمكن أن نسميه (تاريخ القراءة)، أو (تاريخ التلقي).


 


"إن القارئ ليس عنصرًا سلبيًّا ذا نتائج متوالدة ضمن الثالوث الذي يشكِّله مع المؤلف والأثر الأدبي، وإنما هو قارئ يعمل بدوره على تطوير طاقة تشارك في صنع التاريخ؛ ولذلك فإن حياة العمل الأدبي ضمن هذا التاريخ لا يمكن أن تدرك دون المشاركة الفعَّالة التي يُبدِيها هؤلاء الذين وُجِّه إليهم ذلك العمل، إن مشاركتهم هاته هي التي تُدخل الأثرَ في الاستمرارية المتحركة للتجربة الأدبية، حيث لا يفتأ أفقها يتغيَّر، وحيث يحدث باستمرارٍ الانتقال من التلقِّي السلبي إلى التلقِّي الإيجابي؛ أي: من مجرَّد القراءة الأوَّلية (البسيطة) إلى الفهم النقدي المؤصل، أو من المأثور الجمالي المتواضَع عليه إلى مجاوزة ذلك عبر إنتاج جديد.


 


إن تاريخية الأدب وطبيعته التواصلية تستتبعان علاقة تبادلية وتطوُّرية بين الأثر الموروث والجمهور والأثر الجديد، وهي علاقة يُمكِن أن ندركها في ضوء مقولات من مثل: (رسالة ومتلقٍّ)، (سؤال وجواب)، (مشكل وحل)، إن هذا التيار المنغلق الذي يقتصر على دراسة جمالية الإنتاج، وتقديمه إلى القراء؛ حيث ظل منهج البحث الأدبي في أساسه منحصرًا إلى الآن، يجب أن ينفتح على جمالية للتلقِّي والوقع الذي يحدثه (الأثر الأدبي في قارئه)؛ حتى ندرك فعلاً كيفية تواتر الأعمال (الفنية) ضمن تاريخ أدبي متلاحم"[1].


 


إن العلاقة التفاعلية بين الأثر والمتلقِّي تتميَّز بمظهرين اثنين؛ أولهما يسمِّيه ياوس (المظهر الجمالي)؛ ويتحدَّد في أن تلقِّي الأثر من طرف قرَّائه الأوائل يتضمَّن بالضرورة حكم قيمة جمالي يستند إلى آثار مقروءة سلفًا؛ أي: إلى تقاليد أدبية وتراث فني تتكوَّن منهما المرجعية الضمنية أو الصريحة للنص والمتلقِّي على حدٍّ سواء؛ وهو ما يحيلنا على مفهوم (الذخيرة) عند إيزر.


 


والمظهر الثاني ذو بعد تاريخي يتمثَّل في أن الاستيعاب المبدئي للأثر "يستطيع أن يتطوَّر ويغتني من جيل إلى جيل، ليكوِّن سلسلة من أنواع التلقِّي هي التي تحدِّد الأهمية التاريخية للأثر، وتبيِّن مكانته ضمن التراتب الجمالي الذي يشكِّله مع غيره من الآثار الفنية"[2].


 


ومعنى هذا: أن الأثر الأدبي لا يمكن أن يمارس وجوده إلا من خلال عملية التفاعل بينه وبين المتلقِّي، إن خلوده متوقِّف على مدى تفاعله مع أوساط مختلفة من القراء والمستهلكين، وهو قادر على ذلك بحكم أن محاولة استيعابه ليست هي هي لدى كلِّ جيل أو فئة من القرَّاء، ويتوقَّف أمر قدرته هاته على ما يتضمَّنه من فعالية يمارسها في مستوى أفق انتظار قرَّائه".


 


إن (أفق الانتظار)، أو (أفق التوقُّعات) عند ياوس ناتج عن ثلاثة عوامل أساسية تشترك في تكوينه:


1- التجربة المسبقة التي يتوفَّر عليها المتلقِّين في مجال الجنس الذي ينتمي إليه الأثر.


 


2- أشكال الآثار السابقة وموضوعاتها، وهي آثار يفترض في العمل الجديد أن يكون مُلِمًّا بها وواعيًا لمكوِّناتها.


 


3- التعارض بين الشعر والكلام اليومي؛ أي: بين المتخيَّل والواقع[3].


 


وتتحدَّد الطبيعة الجمالية للأثر بمدى انزياحه عن أفق انتظار القارئ؛ إذ يكتسب الأثر بحكم درجة ابتعاده عمَّا تعوَّده المتلقِّي من هذه العوامل الثلاثة، قيمة فنية يعبِّر عنها مبدئيًّا بالدهشة الأوَّلية التي يحسُّ بها القارئ حين وقوعه تحت تأثير الوقع الجمالي الذي ينطوي عليه العمل الفني، وهي دهشة يصحُّ اعتبارها منبعًا للذة أو المتعة التي تتحقَّق في كلِّ تواصل فني.


 


إن كلَّ عمل أدبي ذي قيمة فنية كبيرة، إنما هو عمل منفتح على أفق انتظار متعدِّد الجوانب؛ أي: إنه يتضمَّن فعالية تزيحنا عن الحياة اليومية باستمرار، وتتجاوَز التجربة التي اكتسبناها بحكم تعرفنا المتواتر على الجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل، ولأنه يظلُّ بموضوعه وشكله منبعًا للدهشة واللذَّة الفنيتين، كما يظلُّ مثارًا لمحاولة الفهم والتأويل، فنُعِيد قراءته على هذا الأساس، لا على أساس أنه قد اندمج في أفق انتظارنا بحكم اندماجه ضمن تراثنا الفني.


 


وقد حدَّد ياوس مسار التلقِّي الذي يواجه به القارئ هذا النص بثلاثة أزمنة موازية لثلاثة أنواع من القرَّاء:


1- زمن التلقي الجمالي، وتوازيه القراءة الفنية المقترنة إلى الدهشة.


 


2- زمن التأويل الإرجاعي، ويتحقق عن طريق تبرير الدهشة بقراءةٍ تسعى إلى الفهم والتأويل.


 


3- زمن يعيد تكوين أفق الانتظار، وهو زمن القراءة التاريخية المتنوِّعة والمتعاقبة[4].


 


ولكن ما يجب التأكيد عليه من جديد هو أن الزمن التاريخي زمن منفتح، ينطوي بالضرورة على إمكانيات متعدِّدة إعادة بناء آفاق الانتظار السابقة، واستحضار أنواع السياق الذي تَمَّ في كلِّ قراءة منتمية إلى الماضي، وهو ما يؤول إلى أن فعالية النص الفني الحق فعالية دائمة ومتجدِّدة ومسيطرة على الزمن[5].


 


يرى ياوس أن العلاقة بين الأثر الفني وقارئه علاقة تتميَّز بمظهر مضاعف، جانب منه جمالي صميم، وجانب تاريخي متسلسل؛ وذلك لأن تلقِّي الأثر من طرف قرَّائه الأوائل يتضمَّن من جهة حكم قيمة جمالي، يستند مرجعيًّا إلى آثار مقروءة في السابق، ثم إن هذا التلقِّي المبدئي يستطيع من جهة أخرى أن يتطوَّر ويغتني من جيل إلى جيل، ليكوِّن عبر التاريخ سلسلة من التلقِّيات هي التي تحدِّد الأهمية التاريخية وتبيِّن مكانته ضمن التراتب الجمالي أو الفني"[6].


 


يُفهَم من قول ياوس أن الدلالة الجمالية الضمنية - للنصوص الحية - تتمثَّل في حقيقة أنَّ أولَ استقبالٍ من القارئ لعملٍ ما يشتمل على اختيارٍ لقيمته الجمالية، مقارنًا بالأعمال التي قُرِئت من قبل، والدلالة التاريخية الواضحة لهذا هي أن فهم القارئ الأوَّل سيُؤخَذ به وسينمى في سلسلة من عمليات التلقِّي من جيل إلى جيل، وبهذه الطريقة سوف تتقرَّر الأهمية التاريخية للعمل، وينمُّ عن إيضاح قيمته الجمالية.


 


وفيما يلي نقدِّم شاهدًا تطبيقيًّا على ما سبق من تنظير، وهو أبيات كثير[7] التي يقول فيها:


وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًي كُلَّ حَاجَةٍ 


وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ 


وَشُدَّتْ عَلَى حُدْبِ المَهَارَى رِحَالُنَا 


وَلاَ يَنْظُرُ الغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ 


أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا 


وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ 


 


عرض ابن قتيبة لهذه الأبيات في كتابه "الشعر والشعراء" في أثناء تقسيمه للشعر وفقًا لعلاقته باللفظ والمعنى، فبعد أن تحدَّث عن الشعر الذي يجمع بين حسن اللفظ وجودة المعنى - وضرب لذلك أمثلة من أبيات متفرِّقة، لشعراء مختلفين، في مواقف مختلفة - ينتقل إلى الحديث عن الصنف الثاني فيقول: "وضرب منه حَسُنَ لفظه وحلاَ، فإذا أنت فتَّشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:..."، وذكر الأبيات، ثم علَّق عليها بقوله: "هذه الألفاظ أحسنُ شيءٍ مخارجَ ومطالعَ ومقاطعَ، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منًى، واستلمنا الأركان، وعاليْنا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطيُّ في الأبطح"[8].


 


ويدلُّنا هذا التعليق منذ الوَهْلَة الأولى على انقسام عملية التلقِّي إلى مستويَين مختلفَين يستقلُّ أحدهما عن الآخر؛ أحدهما يتمثَّل في ألفاظ النص، والثاني فيما سماه (ما تحت الألفاظ)، والمقصود به هو المعنى، وفيما يتعلَّق بالألفاظ يبدي ابن قتيبة ارتياحه لها؛ فهي أحسن ما تكون في مطالعها ومخارجها ومقاطعها؛ وهذا معناه: أن الأذن ترتاح إليها من حيث هي أصوات منسَّقة على نحوٍ بعينه، وكأن هذه الألفاظ - مفردة ومركبة - في وادٍ، والمعاني التي تدلُّ عليها في وادٍ آخر، فهي ألفاظ وتراكيب لا طائل وراءها - كما يقول - ولذلك فإنه عندما راح يشرحها لم يَزِدْ على إعادة صياغة النص بألفاظه نفسها صياغة نثرية، مع اختزال هذه الألفاظ إلى الحد الأدنى.


 


ولأبيات كثير هذه وضعٌ خاص في تاريخ الشعر العربي قديمًا؛ فقد عرض لها معظم النقاد العرب الذين جاؤوا بعد ابن قتيبة؛ كابن طباطبا، وقدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري، وابن جني، والباقلاني، وعبدالقاهر الجرجاني، وابن الأثير، وهؤلاء يختلفون من حيث اهتماماتهم المعرفية الأصلية اختلافًا واضحًا؛ فابن قتيبة فقيه، والعسكري بلاغي، وابن جني لغوي، والباقلاني أساسًا متكلِّم (أشعري)، وابن الأثير بياني، والذي يعنينا كيف تلقَّى هؤلاء هذا النص؟ وإلى أيِّ مدًى اتَّفقت هذه القراءات أو اختلفت؟


 


والطريف هنا أن كلاًّ من هؤلاء كان إذ يتلقَّى النص الشعري في ذاته يتلقَّى معه قراءة مَن سبقه، ومن ثَمَّ كان ما يقدِّمه كلٌّ منهم بمثابة قراءة للقراءة، فعلى أيِّ نحوٍ كان هذا؟


 


• اعتنى ابن قتيبة بالقيمة اللفظية في المخارج والمطالع والمقاطع، وأن المعنى كان دون اللفظ[9]، فلم يلتفت إلى ما في الأبيات من استعارة ومجاز واستخدام فريد للغة، مما يمنحها بُعدًا جماليًّا مؤثرًا.


 


• وكان ابن طباطبا أكثر رفقًا بالشعر، وأكثر توفيقًا من ابن قتيبة، فقد توجَّه إلى المعنى دون اللفظ، وشرح البيت شرحًا متقدِّمًا على سابقيه، وتوصَّل إلى أن المعنى على قدر المراد، وهي ميزة حسنة التفت إليها، وتحسب من الجديد الذي قدَّمه في قراءته، وإن لم يصل إلى قيمتها الجمالية ومزاياها الفنية الكامنة[10].


 


يقول ابن طباطبا: "هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قُفُوله إلى بلده، وسروره بالحاجة التي وصفها؛ من قضاء حجِّه وأُنْسه برفقائه ومحادثتهم، ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطيِّ كما تسيل بالمياه، فهو معنى مستوفًى على قدر مراد الشاعر"[11].


 


• أمَّا قدامة بن جعفر والباقلاني، فقد اقتفيا أثر ابن قتيبة في العناية باللفظ، ووصفا الأبيات بأنها من الشعر الذي يحلو لفظه وتقل فوائده[12].


 


• أمَّا أبو هلال (ت390هـ)، فقد وقف مع ابن قتيبة - كما أشار إلى ذلك ابن الأثير - إذ استشهد به لدعم فكرته في أن "الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، وسلسًا سهلاً، ومعناه وسطًا - دخل في جملة الجيِّد، وجرى مع الرائع النادر"[13]، ثم ذكر الأبيات وعلَّق عليها بقوله: "وليس تحت هذه الألفاظ كبيرُ معنى، وهي رائقة معجبة..." ونثَر الأبيات كما فعل ابن قتيبة، وهو بذلك لم يُضِف جديدًا.


 


ونكتفي - بعد أن أوردنا قراءات النقَّاد السابقين - بقراءتين مهمَّتين في معاينة مستوى التطوُّر في قراءات الشعر لدى نقَّادنا القدامى، وهما قراءة ابن جني، وقراءة عبدالقاهر الجرجاني؛ أمَّا ابن جني فقد وضع رؤية شاملة لقراءته قبل المباشرة بها، وأساسًا يبني عليه هيكل هذه القراءة، يقول ابن جني: "فقد ترَى إلى عُلوِّ هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلاقح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسُّه وتراه، إنما هو: لما فرغنا من الحج، ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل"[14].


 


ونلحظ في هذا القول لابن جني كأنَّه تكرار لما قاله سابقوه من النقَّاد، وأكبر الظن أنه ما قدَّم ذلك إلا ليُعلِن قراءة أدق وأشمل، لولاها لما كشفت براعته وفطنته، فهو يُردِف كلامه السابق بالقول: "قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلُّق به مَن لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ممَّا رآه القوم منه؛ وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق، وذلك أن في قوله: "كل حاجة" ما يفيد منه أهلُ النسيب والرقَّة، وذوو الأهواء والمِقة، ما لا يفيده غيرُهم، ولا يشاركهم فيه مَن ليس منهم، ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهرُ عليه، والمعتاد فيه سواها؛ لأن منها (التلاقي)، ومنها (التشاكي)، ومنها (التخلي)، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له، ومعقود الكون به، وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت: "ومسح بالأركان مَن هو ماسح"؛ أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان، وما هو لاحِق به، وجارٍ في القربة من الله مجراه"[15].


 


وأمَّا البيت الثاني، فإن فيه: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، وفي هذا ما أذكره، لتراه فتعجَب ممَّن عجب منه ووَضَعَ من معناه، وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، ونحو ذلك - لكان فيه معنى يُكبِرُه أهلُ النسيب... وذلك أنهم قد شاع عنهم، واتَّسع في محاوراتهم، علوُّ قدر الحديث بين الإلْفَين، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول الهذلي:


وَإِنَّ حَدِيثًا مِنْكِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ 


جَنَى النَّحْلِ فِي أَلْبَانِ عُوذٍ مَطَافِلِ 


 


وقول آخر:


وَحَدِيثُهَا كَالْغَيْثِ يَسْمَعُهُ 


رَاعِي سِنِينَ تَتَابَعَتْ جَدْبَا 


فَأَصَاخَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَيًا 


وَيَقُولُ مِنْ فَرَحٍ هَيَا رَبَّا 


 


وقول الآخر:


وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فَزِدْتَنِي 


جُنُونًا، فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ 


 


واختلاف ابن جني مع ابن قتيبة في موقفه من معنى الكلام وفي انفعاله به، غاية في الوضوح، بل إنه ليوشك أن يكون ردًّا مباشرًا عليه، وإذ يعزو ابن جني الموقف القديم من هذه الأبيات - وهو أساسًا موقف ابن قتيبة - إلى (جفاء طبع الناظر) فيها؛ أي: إلى عيب وقصور في المتلقِّي وليس في النص، فإنما يلحظ (خفاء غرض الشاعر) فيها، أو لنقُل: خفاء المعنى الشعري، فالأبيات ليست تافهة المعنى أو خالية منه، ولا يمكن أن تكون صياغتها اللغوية - التي ظفرت بالإجماع على حسنها - مجانبة على مستوى المعنى، وإنما اقتضَى الأمر شيئًا من التأمُّل فيها، وقراءتها في الأفق المعنوي الذي تنتمي إليه، حيث تتكشَّف عندئذٍ الدلالات النفسية المجاوزة للمدلول الحرفي للكلمات، على نحو ما استنبطها ابن جني، وعند ذاك يتأكَّد أن الصياغة لم تكن منفصلة مطلقًا عن أبعاد النص الدلالية، ودعمًا من ابن جني لما أدركه من تلك الدلالات كانت قراءته للنص (في صحبة) نصوص شعرية أخرى، تتواصَل معه في نفسه، صانعة له الأفق الدلالي الذي تحرك فيه[16].


 


وينبغي ملاحظة محاولة ابن جني في تأويل النص وقدرته على توجيهه، لكنه في قراءاته هذه لم يُفصِح إفصاحًا كاملاً عن العلاقة بين النسيب الذي بنى كلا البيتين عليه تقريبًا وبين الحج؛ إذ إنَّه أراد أن يوحي بأن المعاني يجب أن تقدَّم في الشعر هذا التقديم، فلقد أراد الشاعر بواسطة موضوع معين - انتهاء الحج - أن يصوِّر ما يلقاه الحجيج من السرور والأنس ساعة قفولهم ورجوعهم، وقد انتبه ابن جني لهذا على خلاف سابقيه، وفصله في قراءة دقيقة، بَيْدَ أن هذه القراءة ليست نهائية، فالنص ما زال يُغرِي بقراءات أخرى تكمِّل قراءة ابن جني وتُضِيف إليها.


 


ويبدو أن الذي تحمَّل عبء هذه القراءة عبدالقاهر الجرجاني، فقد توقَّف عند هذه الأبيات في كتابيه: "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة"، واستقرأ ما قاله سابقوه، مشيرًا إشارة واضحة إلى القراءات الإيجابية التي توصَّلت إلى فهم مغزى النص وكشف دلالاته الجمالية، وعُمْق الاستعارة فيه، وكأنه قصَد بذلك قراءة ابن جني، ولا يخفى أن قراءات النقَّاد السابقين تشكِّل إحدى المرتَكَزات الفنية والمعرفية التي تُتِيح للناقد قراءة وافية مستكمَلة الجوانب، فبيَّن للمتلقِّي كيف يحسن الكلام أو يسوء وفقًا للترتيب الذي يسوق فيه المتكلِّم عبارته، وقد أوردها في البداية كما لو كان ذلك بطريقة عَرَضَيَّة؛ ليمثل بها للقارئ الأشعار التي أثنى عليها الناس "من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلاسة، ونسبوها إلى الدماثة"[17]، ثم طلب إلى المتلقِّي أن يراجع فكرته، ويشحذ بصيرته، ويحسن التأمُّل في هذا الكلام؛ ليعرف أن سرَّ استحسان الناس إياه، وثنائهم عليه، راجع "إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرَّ في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن..."[18].


 


وواضح هنا أن عبدالقاهر لا يفصل في عملية التلقِّي بين اللفظ والمعنى في النص المُتلقَّى، كما أنه لا يفصل في جهاز التلقِّي لدى المتلقِّي بين القلب والسمع، أو بين الفهم والأذن؛ فكما يتَّحد اللفظ والمعنى، يتزامَن السمع والفهم؛ ومعنى هذا: أن المتلقِّي لا يمكن أن يرتاح لكلامٍ استمع إليه دون أن يكون قد وقَع من قلبه واستقرَّ في فهمه، وتلك الأبيات الثلاثة التي لقيت القبول لدى عامة المتلقِّين على مستوى الأداء اللغوي، لا بُدَّ إذًا أن تكون قد خاطبت قلوبهم وعقولهم وحرَّكتها بقدرِ ما أطربت أسماعهم، ومن ثَمَّ يتطلَّب الأمر الوقوفَ على سرِّ إعجاب المتلقِّين لهذه الأبيات على مستوى المعاني كذلك، مرتبطة بأدائها اللغوي، ومن ثَمَّ يمضي الجرجاني في استبطان المعاني التي انطوَتْ عليها عبارات النص، فإذا به - أي: النص - ينفتح أمامه على أفق رحب من الدلالات والمشاعر الإنسانية التي تلابس المشهد كما تُصَوِّره الأبيات، والتي تتعلَّق بالممارسة أو التجربة الخاصة، كما تُوحِي بها أو تومئ إليها شخوص هذا المشهد، ومن ثَمَّ اتَّجه الجرجاني إلى الكشف عن السرِّ في استحسان المتلقِّين لتلك الأبيات بالربط بين الأداء اللغوي فيها والأفق المعنوي الذي تفتحه[19]، قال: "أوَّل ما يتلقَّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبَّر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها من طريقٍ أمكنه أن يقصر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبَّه بقوله: "ومسَّح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع الذي هو آخِر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، فوصل بذكر مسح الأركان، ما وَلِيَه من زَمِّ الرِّكابِ وركوبِ الرُّكبَان، ثم دلَّ بلفظة "الأطراف" على الصفة التي يختصُّ بها الرفاق في السفر من التصرُّف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطوِّفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوَّة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه أُلفَة الأصحاب وأُنسَة الأحباب، وكما يليق بحال مَن وُفِّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حُسْنَ الإيَاب، وتنسَّم روائح الأحبَة والأوطان، واستماع التهاني والتحايَا من الخِلاَّن والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرًا من الشواهد بلطف الوحي والتنبيه، فصرَّح أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الحديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجُّه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظهر؛ إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكِّد ما قبله؛ لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الركبان، ومع زيادة النشاط يزداد الحديث طيبًا، ثم قال: "بأعناق المطي" ولم يقل: "بالمطي"؛ لأن السرعة والبطء يظهران غالبًا في أعناقها، ويبين أمرهما من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثقل والخفة"[20].


 


فقد أوضح أن السبب الكامن وراء هذا اللطف هو الاستخدام البارع للاستعارة، إذا وقعت موقعها، وأصابت غرضها؛ إذ ليس كلُّ استعارة تملك هذا الشأن من الجمال، وإذا كان الجرجاني لم يوضح تشخيص مواطن الجمال في الاستعارة، فإنه قد فصَّل القول وركَّز على الشطر الثاني "وسالت بأعناق..."، والاستعارة مفتاح التأويل، وطريق تفسير النص الشعري، يقول: "اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوَت التفاوُت الشديد، أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتَذَل... والخاص النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال، كقوله: "وسالت بأعناق..."، أراد أنها سارت سيرًا حثيثًا في غاية السرعة، وكانت سرعة في لينٍ وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجَرَتْ بها[21].


 


وقراءة عبدالقاهر قائمة على تفسير القصد عن طريق دلالة الكلمة في السياق، ويلاحظ نوع العلاقة التي افترضتها القراءة بين السرعة واللين والسلاسة، فهذا التناقض يؤكِّد قول الجرجاني على البحث عن العلاقات المكوِّنة للنص ومعرفة الجديد منها؛ إذ إنَّه بنى رؤيته للنص على كلمة "سالت" والسيول لا تجري عادة بلطف ولين، بل إن بعضها مثلٌ للاضطراب والفوضى، وبعض منها مدمِّر... فكيف استطاع الجرجاني أن يتوقَّف عند هذا التفسير دون غيره؟


 


الحق أن سياق الأبيات كلها كان يشير إلى هذه السلاسة والليونة؛ إذ إنَّ محور الكلام الشعري هو إظهار الفرح والغبطة والسعادة بالعودة والقفول من الحج، وصنعت الأبيات الثلاثة مُناخًا مفعمًا بالإيحاء، حتى إذا وصلنا إلى نهايتها في الاستعارة الفريدة التي أشار إليها عبدالقاهر، كانت الصورة الشعرية قد أخذت مداها الجمالي في ذهن القارئ المتلقِّي للنص، وربط الجرجاني بين السرعة والسلاسة واللين؛ إذ إنَّ تبادل أطراف الحديث لا يكون إلا بالسلاسة واللين، وقد بنى رؤيته الشعرية على وحدة النص، وليس البيت منفردًا، وواضح أن الاستعارة وإن جاءت في موضعها الصريح، بَيْدَ أن إدراك أبعادها الجمالية لا يكون إلا من خلال وحدة المقطع الشعري، يقول: "وليست الغرابة في قوله: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" على هذه الجملة؛ وذلك أنه لم يُغرِب؛ لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف؛ ولكن الدقَّة واللطف في خصوصية أفادَها بأن جعل (سال) فعلاً للأباطح، ثم عدَّاه بالباء بأن أدخل الأعناق في البيت فقال: "بأعناق المطي"، ولم يقل: بالمطي، ولو قال: سالت المطي بالأباطح، لم يكن شيئًا"[22].


 


• ويبقى الآن أن ننظر في موقف ابن الأثير من تلك الأبيات فقد أخذ من كلام ابن جني كثيرًا، واستظهر كثيرًا من كلام عبدالقاهر، ولكنه استقلَّ عنهما في تعليقه على قول الشاعر:


........................... 


وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ 


 


حيث يقرِّر أن به "من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به"، ثم يقول: "إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتْهم لذة الحديث عن إمساك الأزمَّة، فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن مَن يَشْرَه وتغلبه الشهوة في أمرٍ من الأمور، ولمَّا كان الأمر كذلك، وارتخت الأزمَّة عن الأيدي، أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسَن لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى، فالعرب إنما تحسن ألفاظها وتزخرفها عناية منها بالمعاني التي تحتها، فالألفاظ إذًا خدم المعاني، والمخدوم لا شكَّ أشرف من الخادم، فاعرف ذلك وقِس عليه"[23].


 


إذًا فقد كانت تلك الأبيات في حاجة إلى مَن ينعم النظر إليها حتى يجني المعنى المتضمَّن فيها، إنها دعوة إلى التأمُّل في النصوص الأدبية، وقد رأينا كيف تطوَّر موقف التلقِّي لتلك الأبيات على يد ابن جني، ثم على يد عبدالقاهر بصورة مُوَسَّعة، ثم ابن الأثير.


 


إن هذا التطوُّر في تلقِّي النص يسجِّل نقلة لافتة في طريق النقد العربي، وتؤرخ لوعي جمالي عربي في طريقة تلقِّي النصوص الأدبية، من مستوى الشرح الناحل المتآكِل - كما رأينا عند ابن قتيبة والباقلاني - إلى مستوى التأويل المُنتِج الخصب، ويرتبط فيه التحقُّق الجمالي الشكلي بالتحقُّق المعنوي أوثق الارتباط[24].


 


وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نجد تحليلاً آخر لهذه الأبيات عند الناقد الأديب عباس العقاد، إلا أنه أضاف إليها بيتين آخرين، وهما:


نَقَعْنَا قُلُوبًا بِالأَحَادِيثِ وَاشْتَفَتْ 


بِذَاكَ قُلُوبٌ مُنْضَجَاتٌ قَرَائِحُ 


وَلَمْ نخْشَ رَيْبَ الدَّهْرِ فِي كُلِّ حَالَةٍ 


وَلاَ رَاعَنَا مِنْهُ سَنِيحٌ وَبَارِحُ 


 


ثم قال معلقًا عليها: "ولو أن الأبيات نقلت إلى اللوحة لملأت فراغًا من الشريط المصور لا يملؤه أضعافها من قصائد (المعاني) وقصص الوقائع؛ لأنها تنقل لك صور الحجيج غادين رائحين، يجمعون متاعهم ويشدُّون رواحلهم، ويحثُّهم الشوق إلى أوطانهم بعد أن قضوا فريضتهم التي فارقوا من أجلها ديارهم وأصحابهم، ثم تنقل لك صور البطحاء تعلو فيها أعناق الإبل وتسفل وتنساب أحيانًا كما تنساب الأمواج كرَّة بعد كرَّة، وفوجًا بعد فوج، ثم تنتقل إليك في المنظر نفسه صور الركبان أقبل بعضهم على بعض جماعات جماعات، يتجاذَبون أطرافًا من الحديث، ويتطارَحون آلافًا من الروايات والأنباء، ويذهبون في ذلك كلَّ مذهب تلمُّ به الأذهان في حشد كبير مختلف الأوطان والأعمار، متبايِن التجارب والأطوار، ثم تنقل إليك صورة القائل وما في نفسه من الشَّجَن واللَّوْعَة، وما يحرِّكه من ذلك إلى التسلِّي بالحديث واللياذ بغِمَار الناس، ولا تفوتك من تلك الصورة قصةٌ كاملةٌ تنبئك عنها "القلوب المنضجات القرائح"... وإلى جانب هذه المناظر والخواطر حواشٍ شتَّى يُضِيفها الخيال، وتُملِيها البديهة، فإذا أنت من الأبيات الخمسة في وادٍ يموج بالشاهد، ويتتابع بدواعي الشعور، وفي ذلك ما نرى في شيء غير اللفظ السهل الذي يحسب قومٌ من النقَّاد أنه كل ما في هذه الأبيات من فضيلة الجودة ومزية الإعجاب[25].


 


ومع ذلك لم يُشِر العقاد إلى جمال الاستعارة في قول الشاعر: "نقعنا قلوبنا بالأحاديث" وفي قوله: "ولم نخشَ ريب الدهر"، كذلك لم يُشِر أحدٌ من هؤلاء جميعًا إلى جانب الإيقاع الموسيقي الذي برز في الأبيات منذ بدايتها وحتى نهايتها، متأججًا حينًا، وخابيًا حينًا آخر، تناسبًا مع الفكرة وحركة النفس في تشوُّقها للديار والأحبة، وفي تسرُّب الطمأنينة والراحة إليها، فالشاعر منذ البداية أشعرنا بانتهاء حركة دؤوبة كان يمارسها ورفاقه في الحج، لكنه أبقى بصيصًا من الحركة حينما اختار "قضينا"؛ لما تشعره من استمرار الحركة، معززًا ذلك بإعادة تصوير طواف الوداع كآخِر مشهد في مكة، في قوله: "ومسح بالأركان من هو ماسح"؛ تمهيدًا لإعلاء إيقاع الحركة، بقوله: "وشدت على هدب المهارى رحالنا"، وهنا يصوِّر مدى الشوق للأهل واللهفة للعودة؛ حتى لم ينظر الغادي الذي هو رائح، محافظًا بذلك على استمرار الحركة، ومضيفًا للإيقاع صوتًا تناغميًّا مع أطراف الأحاديث؛ إيغالاً في تصوير رتَابة الحركة في اتجاه واحد، فأسبغ بذلك معنى الانسجام على الإيقاع رغم تبدُّل بواعثه، وتبدُّل الأمكنة التي مرُّوا بها، ثم أضعف الحركة في نهاية الأبيات، لتكون معادلة في قوَّتها لتلك التي بدأت بها، فالحركة كما بدأت انتهت، وبذلك فقد تحقَّق في هذا الشعر قول العسكري: "تعادل أطرافه، ومباديه لمآخيره"[26].


 


لا شكَّ في أن الجانب الصوتي يكون مدخلاً لتفهُّم الجماليات وإدراكها؛ لأن الصوت "في معظم الحالات هو مفتاح التأثيرات الأخرى"[27]؛ لقدرته على أن يستقطر الحس الجمالي في نفس المتلقِّي، وإن سلاسة النغم وتواليه يكشف المعنى المستور في الصدور، بقدرته على تتبُّع الحركة الداخلية للطبائع المبدِعة، كما أن فيه دلالة على تملُّك الطبع للصنعة، وإحكام الأصل قبل الفرع، كما أنه يسيطر على استجابة القارئ فينفعل مع النص وللنص، وتفسير ذلك أن الإيقاع والموسيقا وإن كانت لا تعطي أفكارًا محدَّدة، فإنها تُومِض صورًا وأحوالاً تُنزِل السامع في قلب الحدث.


 


ونتوقف عند بيت النابغة الذبياني الذي يعتذر فيه للنعمان بن المنذر، والذي يقول فيه:


فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي 


وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ 


 


لنرى ما دار حوله من مناقشات لغوية وأسلوبية، متتبِّعين ما قاله النقَّاد حوله، ففي حكومة النابغة للخنساء بنت عمرو في قولها: "وإن صخرًا..." قال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك، ومن أبيك: فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تُحسِن أن تقول[28]: فإنك كالليل، قال: فخنس حسان لقوله.


 


إن قول النابغة لحسان: إنك لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل... دليلٌ على تمكُّن النابغة من شاعريته، وأنها تفوق شاعرية حسَّان، ثم قوله: "فخنس حسان" يدلُّ على انقباضه وتراجعه وتنحِّيه عن مجاراة فارس هذه الحَلَبة، وهو النابغة في هذا المستوى من الشاعرية التي تفرز مثل هذه البلاغات المُفحِمة، غير أنَّا نفهم من ذلك الحوار أن هذه التعبيرات علامات على طريق النقد، وإبداء لوجهة نظر أحد فحوله مما يمثِّل قراءة أولى للنص.


 


ولقد جمع الأصمعي (ت216هـ) عن أحسن الشعر في أغراض مختلفة فقال: ما وصف أحدٌ (الثغر) إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي حازم: "يفلجن الشفاه..."، ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة: "فإنك كالليل...".


 


وقد عدَّ ثعلب (ت291هـ) بيت النابغة السابق من "الأبيات الغر"[29]؛ لأنه يكشف عن شاعرية صاحبه، كما عدَّه ابن وهب (ت330هـ) من "التشبيه المصيب"[30]؛ لإصابته المعنى وكشفه عن نفسية الشاعر وتصويرها تصويرًا مصيبًا.


 


على كلِّ حال إن هذه الأقوال تعبِّر عن وجهة نظر أصحابها في بيت النابغة، وفي الوقت نفسه تمثِّل قراءات متعدِّدة للبيت.


 


ولابن طباطبا (ت332ه) رأي في هذا البيت، حيث يقول: "وإنما قال: "كالليل الذي هو مدركي"، ولم يقل: كالصبح؛ لأنه وصفه في حال سخطه، فشبَّهه بالليل وهَوْله، فهي كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة"[31].


 


فحتمية إدراك النعمان للنابغة، هي الفكرة المدركة التي يتمثَّلها ابن طباطبا في البيت السابق، والتي يمكن - في نظره - أن تؤَدَّى بصورة أخرى كالتشبيه بالصبح، ولكنه يحسُّ بأن في صورة الليل معاني خاصة، ودلالات إيحائية فوق الفكرة السابقة، فالليل مثار ظلام وسكون ووحشة، وهو بذلك أقرب إلى تجسيد رهبة الشاعر وقلق نفسه، وتوجُّسه من ذلك القدر المحتوم الذي يتوقَّعه، ومن ثَمَّ كانت صورة الليل في نظر ابن طباطبا "جامعة لمعانٍ كثيرة"[32].


 


وعندما يتلقَّى عبدالقاهر بيت النابغة السابق يختلف الأمر، فيدرك بحسِّه اللغوي استحالة كون المعنى "إن فررت أظلني الليل"، أو "فإنك الليل الذي هو مدركي"؛ لأننا إذا ارتضينا التعبير الأول ضاعت الفكرة الأساسية في البيت، وهي أن الشاعر يعجز عن الهرب من الملك؛ لأن الفكرة التي يقدمها التعبير الجديد هي (إذا هربت منك استحالت الحياة كلها عليَّ ظلامًا)، أو (ضللت طريقي مثل مَن يضرب في الليل)، وهذا ما لم يهدف إليه الشاعر، بل إن هذا سوف يؤدِّي إلى فقدان كلِّ الإمكانات التعبيرية التي تُشعِرنا بسطوة هذا الملك وقوته، وقدرة يده على الوصول إلى كلِّ مكان بنفسه أو بعمَّاله، ولو اقتصرنا في رصد الدلالة على ما يفهم من الليل باعتبار الإظلام، لفاتت الفائدة، فمن الخطأ اعتبار السواد الخاصيةَ المطلوبةَ على أساس أن الشاعر يقع بهذا تحت غضب الملك بحيث يرى كل شيء أسود"[33].


 


ولكن يمكن أن نلحظ أن اختيار الشاعر لكلمة (الليل) توضح أبعادًا دلالية أخرى يضيفها السياق الموقفي، وتركيب الكلام، فالنهار هو الآخَر بمنزلة الليل في الوصول إلى كل مكان... فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روَّى في نفسه، فلمَّا علم أن حالة إدراكه - وقد هرب منها - حالة سخط، رأى التمثيل بالليل أولى[34].


 


وربما كان هذا هو ما دفع عبدالقاهر إلى التماس تفسير دقيق لاختيار كلمة (الليل)، حيث يرى أن النابغة كان أثناء حديثه بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلم الملك وهو بالنهار بعُد أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر، وطريانه على النهار متوقَّع، فكأنه قال وهو في صدر النهار أو آخره: لو سرت عنك لم أجد مكانًا يقيني الطلب منك، ولكان إدراكك لي - وإن بعدت حاصلاً كإدراك هذا الليل المقبِل في عقب نهاري هذا إياي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض[35].


 


ويقول أسامة بن منقذ (ت584هـ): "ومعلومٌ أن هذا الشعر في حال الخوف، والليل بحال الخوف أَوْلَى؛ لأنه يشبه الاستتار والاختفاء"[36].


 


وإذا كان لنا أن نضيف شيئًا إلى ما سبق من قراءات في بيان جمال الصياغة الفنية في هذا البيت، أنه اشتمل على تشبيه طريف جمع فيه الشاعر - بطاقته الإبداعية - بين متباينات ومتنافرات لها أصل في العقل، لا يمكن إدراكها ببديهة السمع أو بلمحة الناظر المتعجِّل، وإنما بالتأمُّل الذي يكشف عن تفاضُل المتلقِّين في الفهم والتصوُّر، ويُعرِب عن شرف الصنعة وفضيلة القول، ويوحي بدقَّة الشاعر في إيجاد المشابهة أو التناسب والتلاؤم بين المتباعدات، بل ينمُّ عن ذكائه ونفاذ خاطره وقدراته التعبيرية "ألاَ ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدَين في الجنس، ثم لطُفَ وحَسُنَ لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتّفاقٍ كان ثابتًا بين المشبَّه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهْتَ إلاَّ أنه كان خفيًّا"[37]، يحتاج إلى تأمُّل ورويَّة من متلقٍّ ماهر حاذق، يستطيع قراءة الوجه الغائب من الوجه الحاضر.


 


وعمق الأداء يمتدُّ إلى أداة التشبيه التي اتَّصلت بكلمة "الليل"، وأهمية الأداة هنا ينعكس على دلالة اللفظة التي بعدها... فالكاف في "كالليل" لها أثرُها القوي في أداء المعنى وتوجيه حركته الدلالية في البيت كله، ليس هذا فحسب، بل إنها تنقله من إطارٍ إلى آخر، تنقله من الهجاء إلى المديح الممزوج بالاستعطاف[38].


 


والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا البيت أنه لا تتبيَّن لك صورة المعنى، الذي هو معنى النابغة، إلا عند آخِر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله "مدركي"؛ بل "الياء" التي هي ضمير النابغة، لم يكن الذي تعقله مما أراده النابغة بسبيل؛ لأن غرضه التهويل من قوَّة وقدرة النعمان على إدراكه لا محالة، وفي ذلك المدح له ضمنًا[39].


 


فلغة شعر النابغة - في هذا الرأي - لغة شعرية مكثَّفة الدلالة، ثريَّة المحتوى، قد استُخدِمت فيها الألفاظ استخدامًا ابتكاريًّا، فأوحَتْ بفيضٍ من المعاني والدلالات الخاصة التي تشِعُّها في صياغتها المبتكَرَة ومن خلال موقعها السياقي.


 


وبعد هذه الوقفة التي نحسبها قد طالت، نرى أن هذا البيت على قصره وإيجازه قد أثار هذه المعاني والأفكار، ولفَتَ النقادَ وحرَّك هذه الأقلام على كثرتها واختلاف أنواعها، "ولا ريب أن لهذا الإبداع في الوصف والتصوير تأثيرًا عظيمًا في الوجدان، فمَن ذا الذي يقرأ هذا البيت ويفهم معناه ولا تهزه أريحية من الطرب والسرور؟"[40]، إنه عبَّر عن المعنى الواسع بصورة لغوية مختَزَلة، والاختزال - بلا شك - من أهم السمَات الجمالية في لغة الشعر.


 


على كلِّ حال، إن اللغة الفنيَّة في الشعر لا تؤدِّي معنى عقليًّا خاصًّا يمكن للرموز الجافَّة أن تؤدِّيه، فالشاعر إذ يحشد قدراته التعبيرية ووسائله الفنية في خلق تلك اللغة لا يفعل ذلك عبثًا، أو لكي يؤدِّي إلى المتلقِّي مجرَّد الفكرة المتداوَلة التي تعيها ذاكرته سلفًا، ولكن لأن في تلك اللغة تصويرًا لأحاسيسه وخواطره الخاصَّة، وتجسيدًا لتجربته بكلِّ آفاقها، وحينئذٍ فإن المعنى الخاص بتلك اللغة الفنية هو أكثر وأغزر من مجرَّد الفكرة التي تنهض بها اللغة الأدائية المجرَّدة، فهو كلُّ ما تفجِّره تلك اللغة بخصائصها الفنية في وجدان القارئ وخياله من صور، وما تُوحِي به إليه من دلالات وأحاسيس، وهذا بعض ما اشتمل عليه بيت النابغة.


 
وأقول "بعض" لأنه مهما تصوَّر القارئ أنه قد أحكم الفهم، وأتى على ما في البيت من جمال الصياغة ومن دلالات وإيحاءات، فلم يأتِ بما اشتمل عليه البيت، ويؤكِّد هذا قول عبدالقاهر: "وإنك لتنظر في البيت دهرًا طويلاً وتفسِّره، ولا ترى أن فيه شيئًا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمرٌ خفي لم تكن قد علمته"[41].


 


ويقول أبو نواس حول هذا المعنى:


أَلاَ لاَ أَرَى مِثْلَ امْتِرَائِيَ فِي رَسْمِ 


تَغَصُّ بِهِ عَيْنِي وَيَلْفِظُهُ وَهْمِي 


أَتَتْ صُوَرُ الأَشْيَاءِ بَيْنِي وَبَينَهُ 


فَظَنِّي كَلاَ ظَنٍّ وَعِلْمِي كَلاَ عِلْمِ 


 


على كلِّ حال، لم تَعُدْ مهمة القارئ/ المتلقِّي الواعي الناقد الخبير، مقصورةً على البحث عمّا إذا كان الشاعر قصر أم لم يقصر، أجاد أم لم يُجِدْ، بل أصبحت مهمَّته تكاد تنحصر في محاولته اكتشافَ رؤيةَ الشاعر من خلال تحليل عمله تحليلاً فنيًّا نابعًا من داخله، والنظر إلى كلِّ "ما يحتشد من روابط ونغمات مستمدَّة من جميع المفهومات والتصوُّرات وصور الفكر والتقاليد البلاغية، مع الاهتمام بالعلاقات المتداخلة بين المعاني، والتطرُّق إلى أدقِّ صنوف تلك العلاقات، مع العناية بأصغر العناصر في البنية التي يتألَّف منها النصُّ وما تشعُّه من إيحاءات جانبية وظلال لا يلمحها إلا ذو تمرُّس"[42].


 


إذًا "ليست الأفكار التي تظهر أو يوحي بها نصٌّ من القصيدة، هي الشيء الوحيد والرئيس في الكلام، ولكنها وسائل تشترك بالتساوي مع الأصوات والإيقاع والانسجام والزينات في أن تثير نوعًا من التوتُّر أو الهياج، وأن تخلق فينا عالمًا - أو حالة من الوجود - غاية في الانسجام"[43].


 


"إن جمالية البلاغة هي جمالية التلقِّي والتأويل"[44]؛ لأن غاية البليغ أن يُؤثِّر في المتلقِّي، وغاية المتلقِّي أن يغوص في تأمُّل الكلام البليغ ويُعطِيه من فكره وحسِّه، ويتفاعل مع معطياته؛ بحثًا عن الدلالة الجمالية الضمنية؛ ليصل إلى كمال اللذة.


 


وهذه نظرة إلى الشعر من الداخل "تبين للقارئ المسؤول شروط الاستجابة الموافقة"[45]، وهذا شبيهٌ بما ذهب إليه إيزر فعنده "أن العمل الفني يتشكَّل عن طريق فعل القراءة وفي أثنائه، وجوهر العمل الأدبي ومعناه لا ينتميان إلى النص، بل إلى العملية التي تتفاعَل فيها الوحدات البنائية النصيَّة مع تصوُّر القارئ"[46]، ومن هنا ينتفي القول أن يكون المعنى هنا هو المختبئ في النص - حسب الفهم التقليدي - بل المعنى الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين القارئ والنص[47]، وهذا شبيهٌ بما يراه ستانلي فيش بأن المعنى "ليس شيئًا يمكن استخراجه من القصيدة أو العمل الأدبي مثلما تخرج اللوزة من غلافها، وإنما هو تجربة يمارسها الإنسان خلال عملية القراءة"[48].


 


إن "التلقِّي المبدِع" يسمح لنا بالانطلاق في أجواء النص وتأمُّله، ومحاولة ملء فراغاته، فربما خرجنا بمعنًى لم يخطر للشاعر على بال، ولهذا قال دايمان: "كلُّ قراءة هي قراءة خاطئة"[49]، بمعنى: أن فهم القارئ لا يُطابِق فَهْمَ الشاعر، ومن هذا المعنى غير المطابق (القراءة الخاطئة) يستمدُّ النص بعض غذائه وصداه في سمع الزمان.


 


فبهذه الصورة يتحقَّق الاتِّحاد بين الإبداع والتلقِّي، وتذوب الفروق وتتقلَّص إلى أبعد حدٍّ بين المؤلف والمتلقِّي، وتلك هي الحقيقة التي تنبَّه إليها أسلافنا النقاد فأوْلوها عناية خاصة تسمح بالقول: إنَّ في تراثنا النقدي والبلاغي دررًا كامنة في حاجة إلى مَن يمدُّ يده إليها ليخرجها من مكامنها ويُجليها للناظرين.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

أساس الحكم على ...

أساس الحكم على كلمة ما بالخطأ أو الصواب : تنقسم مادة اللغة العربية قسمين : 1 نوع يخضع لقاعدة عامة تج...

Problem in Capa...

Problem in Capacity Planning The company has also faced problem in the capacity planning in terms of...

المطلب الثالث: ...

المطلب الثالث: الخلاف الفقهي في المسؤولية الجنائية الدولية لقد اختلف فقه القانون الدولي الجنائي حول...

قضايا نق دية في...

قضايا نق دية في النثر (1) التكثيف في القصة الأدبي حفل القرن العشرين بمتغيرات وثورات عدة على المستوى ...

إليك النسخة الم...

إليك النسخة المعدلة من النص بعد إزالة التكرار المطلوب: يا منجد، أعترف لك بكلام، ويشهد الله أن كل حر...

أولا- تعريف اله...

أولا- تعريف الهجرة تعرف على أنها ظاهرة اجتماعية تعني انتقال الفرد من مكان إقامته الأصلي إلى مكان آخر...

في الوقت الحاضر...

في الوقت الحاضر، تحتاج المؤسّسات إلى التعلّم أكثر من أي وقتٍ مضى، لتتمكّن من مواجهة المواقف الصعبة، ...

مقدمة : في اطار...

مقدمة : في اطار تطوير الادارة الرقمية وتحسين الخدمات الموجهة لفئة المجاهدين وذوي الحقوق , تم اعتماد ...

تابعت كما تابع ...

تابعت كما تابع غيرى العملية الأخيرة لحركة حماس، وكان انطباعي الأول على رؤية المشاهد المتتابعة عبر ال...

The document “T...

The document “Training Evaluation: Its Role, Methods and Impact in Organizations” offers insights on...

الخواف (الفوبيا...

الخواف (الفوبيا) تعريف الخواف : يقصد بالخواف أو الرهاب أو الفونيا "المخاوف المرضية" وهي المخاوف غير ...

تعتبر دراسة موض...

تعتبر دراسة موضوع القيد في السجل التجاري ذات أهمية بالغة في إطار القانون التجاري ، بحيث تشكل الأساس ...