لخّصلي

يتناول المبحث الأول معنى الشريعة والفقه لغوياً واصطلاحاً. للفظة "شريعة" معان لغوية ثلاثة: المنهاج والطريقة الإلهية، الطريق المستقيم، ومورد الماء. وترجع هذه المعاني لأصل واحد هو "الامتداد"، مُلاحظ في مشتقاتها كـ"شرع" (رفع، مد). أما اصطلاحاً، فتُطلق الشريعة على الأحكام الإلهية المُسنَّة عبر الرسل، متعلقة بالعبادات، العقائد، المعاملات، والأخلاق. ويرتبط المعنى الاصطلاحي بالمعاني اللغوية: منهاج يُقتفى، طريق مستقيم، وغذاء للأرواح. الشريعة، بهذا المعنى، اقتصرت على حياة الرسل فقط. يُشير القرآن الكريم إلى شمولية الشريعة، كما في سورة الشورى، مُستوعبةً كافة المباحث الدينية. مع التطور، صار استعمال "شريعة" مقيداً ببعض الأبواب. كلمات مثل "ملة" و"دين" تُستخدم مُرادفةً للشريعة، لكنها تختلف باختلاف زاوية النظر: وضع، خضوع، أو جملة التكاليف.

المبحث الأول:

معنى الشريعة والفقه في اللسانين

المطلب الأول : معنى الشريعة

للشريعة في لغة العرب معان شتى جماعها ثلاثة، وهي:

أ- المنهاج والطريقة، أي: ما شَرَعَ الله لعباده من الدين، وقد شَرَعَ لهم يَشْرَعُ شَرْعاً، أي سن (1)، ومنه قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى...) (2)، ويدل له قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةِ مِنَ الْأَمْر [الجاثية: 18]، وقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بقوله سبيلاً وسُنَّة، وقال الإمام الطبري: على طريقة وسُنَّة ومنهاج (3).

ب الطريق المستقيم، ومن هذا المعنى كلمة "الشارع، وهو: الطريق الأعظم، الذي يَشْرَعُ فِيهِ النَّاسُ عَامَّةً، وخُصَّ بما كَانَ نَافِذَ الطَّرَفَيْنِ، بخلاف الزقاق، وهو: مَا لَيْسَ بِنَافِةٍ، وَكَذَلِكَ الدَّرْبُ، وشَرَعَ المَنْزِلُ : إذا كان بابه على طريق نافذ (4).

ت مَشْرَعَةُ الماءِ، وهو موردُ الشَّاربة؛ أي المكان الذي ترده الإبل للشرب، لقول العرب: شَرَعَتِ الْإِبِلُ إِذا وَرَدَت مَورد الماء فَشَرِبَتْ وَرَوِيَتْ (5).

وهذه المعاني كلها تؤول إلى أصل واحد وهو شيء يُمَدُّ"، وقد ذكر ذلك ابن فارس بقوله: الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يُفتح في امتداد يكون فيه) (6)، ففي المنهاج امتداد معنوي، وفي الطريق المستقيم امتداد مادي، وهو كذلك في مورد الشاربة إذ العرب لا تُسَمِّيها شريعة حتى يكون الماءُ عِداً ، لَا انْقِطَاعِ لَهُ، وَيَكُونَ ظاهراً معيناً (7).

وهذا الأصل الذي هو "الامتداد" ملحوظ في مفردات أخرى من مشتقات الشريعة، فيقال: شرعت الشيء إذا رفعته جداً، وحيتان شُرع رافعة رءوسها، كما قال الله عز وجل: {إِذْ تَأْتِيهِمْحيتانهم يوم سبتهم شرعاً) [الأعراف: 163] (8) ، فهي ظاهرة على الماء لرفعها رؤوسها، وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما (9)، وأَشْرَعَ نحوَهُ الرُّمْحَ والسَّيْفَ وشَرَعَهُمَا: أَقْبَلَهُما إِيَّاهُ، وَسَدَّدهما )10( له

ومنه شراع السفينة، وجمعه شُرعُ ، وشَرَعْتُ السَّفينة تشريعا: جعلت لها شراعاً، وهو شيء يكون فوق خشبة كالملاءة الواسعة، ومن سماته أنه ممدود ، وَرَجُلٌ شِراعُ الأَنفِ، أَي: مُمْتَدُّ الأَنْفِ طويله، ورمح شراعى طويل، والشراع عُنُق البعير، وسمي بذلك لأن فيه طولا وامتدادا، والشراعية: الناقة الطويلة العنق، والإبل إذا باشرت الشُّربَ سُمِّيت إبلاً شروعاً؛ لأنها تَمُدُّ عُنُقَها لتشرب (1).

وتطلق الشريعة في الاصطلاح على ما سَنَّهُ الله تعالى لعبادة من الأحكام على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودون لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمّى أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام (12) وثمة قسم ثالث، وهو ما يتعلق بمحاسن الأخلاق وجميل الخلال، وسَيَرِدُ هذا التفصيل في مضمون الشريعة.

وَوَجْهُ ارتباط هذا المعنى الشرعي الاصطلاحي بالمعاني اللغوية ظاهر:

فهي باعتبار المعنى الأول: فهي منهاج يقتفى، وطريقة تتبع؛ فيها أوامر ونواه، وفرائض وواجبات، وسنن وفضائل ورغائب، وحدود ومُحرَّمات ومباحات، وكُلُّ ذلك مِنْهَاجُ، وَوَظِيفَتُه وُجوب الالتزام به.

وباعتبار المعنى الثاني: فهي مستقيمة كالطريق المستقيم لا اعوجاج فيه، موصلة صاحبها إلى غرضه من أَخْصَر السبل، كما يوصل الطريق المستقيم صاحبه إلى غرضه من أقرب المسالك، ووصف الشريعة بالصراط المستقيم مما تواتر في آيات القرآن الشريفة، وتظاهر في أحاديث السُّنَّة المنيفة.
وباعتبار المعنى الثالث: فهي غذاء للأرواح، وسبيل إلى حياة النفوس، لِكُلِّ من أُلهم اتباعها، وَوُفِّقَ إلى اقتفاء أثرها، كما أن مورد الماء سبيل إلى حياة الأبدان (13).

والشريعة بهذا المعنى الاصطلاحي العام - الذي ألمعنا إليه قبل - وهو ما سَنَّهُ الله تعالى لعبادة من الأحكام على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، لم يكن إلا في حياة الرسل عليهم الصلاة والسلام (14) ، ومنهم رسولنا الله، إذ كانوا هم المبلغين لشرعة ربهم، وأما بعد وفاتهم فليس لأحد هذه الصلاحية؛ لأنها من وظائف الرسل.

وتفسير الشريعة بهذا العموم من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وغير ذلك، مما ورد به القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَرْبِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَحينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تَتَفَرَّقُوا فيه ﴾ [الشورى: 13]، وهذا الربط بين الدين وفعل "شرع" دليل على استعمال الشريعة باعتبار واضعها وهو الله تعالى، واستعمال الدين باعتبار من يدين به وهو المكلف، وقد فسره الإمام السُّدِّي بهذا المعنى، فقال: هو الدين كله (15).

لأجل ذلك فإن الشريعة تستوعب كل المباحث الدينية والعلوم الملية، وتتضمن كل أنواع الأحكام بمختلف مجالاتها، سواء ما كان تكليفيا أو وضعيا، إلزاميا أم اختياريا، متعلقا بالعقيدة أم بالعبادة، أم بالمعاملات، أم بالأخلاق.

ومع التوسع المعرفي، وتشعب التخصصات العلمية، زادت حدة استعمال الشريعة على وجه التقييد، وصارت على نحو أكبر مُختصة ببعض الأبواب.

على أنه ثمة مفردات ذات صلة بالشريعة، قد تستعمل ويراد بها الشريعة، منها: الملة والدين، فهي قطعا وإن كانت تتوارد على معنى واحد؛ وهو ما سَنَّه الله تعالى من الأحكام، لكنها تسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه، وتسمى دِينًا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع به، وتسمى ملة باعتبار جملة التكاليف (16).