لخّصلي

عاصفة مثل ”يــوم القيامـــة“
السفینة "دارا" | عام 1961
متى كانت آخر مرة تقوم فیھا بشيء لأول مرة؟ كان ھذا سؤالاً لأحد الإعلانات الخاصة بشركة "طیران الإمارات". وبعد السؤال يبدأ الثلج في

النزول عبر نافذة أحد الفنادق، ثم يخرج مسافران للاستمتاع بالثلج لأول مرة في حیاتھما. رأي ُت الإعلان، فتذكر ُت أول مرة رأي ُت فیھا الثلج. كن ُت في السابعة، وكنت أرى بعض تج ُّمعاته في صحراء دبي الباردة في فصل
الشتاء في ذلك الوقت.
أ ذ ك ُ ر و أ ن ا ف ي ا ل ع ا ش ر ة م ن ع م ر ي ح د ی َث ك ب ا ر ا ل س ن م م ن ش ھ د و ا ز م ن ج ّدي الشیخ سعید عن تغیر البحر وأحواله، وعن عودة الصیادین بقص ٍص من البحر لا تحدث عندنا، وعن مجيء أسماك غریبة من أعماق البحر للشاطئ، وعن انتشار الطحالب في مناطق لا تناسب معیشتھا، وتحلیق طیور النورس في سماء دبي بصورة غیر مسبوقة وغیر مفھومة. تح ّدث كبا ُر الس ّن عن طائر الحبارى، وأرنب الصحراء، وتغی ُّر بعض عاداتھما، وتح ّدثوا عن صخب الریاح و ھیاجھا بغیر ما تعوّدنا علیه، وتح ّدثوا عن علاما ٍت وإشارا ٍت بھبوب عاصف ٍة عاتی ٍة شديد ٍة على دبي، قالوا بأنھا ستكون مثل "يوم القیامة". لكنني كن ُت أراقب ھدو َء البحر
وزرق َته وصفاءه، فلا ألتف ُت كثیراً لكلامھم.
كن ُت أغط ُّ في نومي في غرفتي بالبیت في لیلة 8 إبريل عام 1961، عندما أحسس ُت بض ّج ٍة كبیرة مفاجئة اشت ّدت على أثرھا ضربا ُت قلبي بتسارع كبیر لأجد سريري في وسط عاصفة، والنوافذ تغلق وتفتح بقوة كأنھا تريد أن تطیر من ش ّدة الریاح في جمیع أنحاء البیت الكبیر. سمع ُت صوت والدي يصی ُح بقوة: حمدان .. محمد .. أيديكما! قفز ُت وركض ُت باتجاه الصوت، ثم سمع ُت صوت حمدان: محمد أح ِض ْر فرشتك! نري ُد أن نس َّد الباب. ركضنا جمیعاً. تدافعت أمي وأخواتي بحثاً عن أية ألواح، لنضع ك َّل ثقلھا على الأبواب لمنع الریاح من تكسیرھا وتدمیر كل ما بدا لي في ذلك الوقت نھاية العالم من حولي. كانت بداية لیل ٍة طويل ٍة لن تنتھي. بدأ الناس بعدھا بالوصول أفواجاً للقصر فزعین للشیخ راشد، مستنجدين به. كنا نفتح لھم الباب بالقدر الذي يسمح لھم بالدخول فقط من شدة الريح التي كانت ترمي ك َّل شيء أمامھا. وكلما صفق الباب اھتزّ ما تبقى من سكینة في نفوسنا. كانت ريحاً مخیفة؛ عاصفة كما أخبرنا كبا ُر الس ّن كأنھا "يوم القیامة". بدأ الناس بالوصول فرادى وجماعات، يحملون معھم
قصصاً ألیم ًة ودموعاً كثیرة.
ما زل ُت أذك ُر منظر والدتي وھي تطمئن امرأ ًة ترتع ُش من الخوف ولا تقدر علىالكلام.مزّقتأخواتيوأميشراش َفالبیتلمداواةبعضالمصابین الذين التجأوا إلینا. بدأ والدي يستفسر عن الأضرار بصوت منخفض كي لا يخاف َمن في البیت، ومع كل إجابة كن ُت أرى الامتعاض على وجھه؛
البیوت لحقھا دما ٌر شديد، أشجار النخیل طارت في الھواء مثل ألعاب الصبیان، زوارق وقوارب الصید قذفتھا الريح في شوارع بعیدة داخل المدينة، كان ھناك قتلى وجرحى. لم ينتظر والدي سما َع كل التفاصیل. خلال دقائق ق َّسم الرجال إلى مجموعات، وأسند إلیھم مھماتھم. فكان على الفرقة الأولى أن تنقل الأدوية واللوازم الطبیة بأي وسیلة، ولا ب ّد من العمل على تخزينھا لأننا سنحتاجھا قريباً. كان ھناك الكثیر من
الجرحى في المستشفى.
ثم وصلت الأنباء التي جعلت والدي يتج ّمد في مكانه. فقد اندفع عد ٌد من الجنود البريطانیین مجتازين الباب، وھم بالكاد يستطیعون التقاط أنفاسھم: سموك، دارا! سفینة دارا يا سیدي! ثمة حريق في دارا سموك! عندھا، بدا وكأن العالم قد توقّف عن الدوران. كانت دارا "MV Dara" سفینة تابعة لشركة ملاحة بريطانیة. وعلى مدى 13 عاماً، كانت السفینة تنقل الركاب والبضائع من مومباي وموانئ الخلیج. وعند ھبوب العاصفة حدث انفجار قو ّي في أسفلھا تبعه حري ٌق ضخم. وكان على متنھا وقت وقوع حادث الغرق أكثر من 800 راكب. قال الجنود إن الكثیرين ُقتلوا جرّاء ما حدث، لكن المفجع أن الموت لم يتوقف بعد، فھناك المزيد من الركاب الذين كانوا يلقون حتفھم كل دقیقة بسبب تدافعھم أو غرقھم في المیاه الھائجة. كانت قوارب النجاة تنقلب وسط البحر لأن حمولتھا أكثر من طاقتھا. وما زالت الریاح تعبث بتلك القوارب وتطیح بھا يمن ًة
ويسرة.
جمعنا أبناء ع ّمي وعدداً كبیراً من سكان دبي في بیتنا. أرسل والدي
جمیع أفراد الأسرة بلا استثناء مع قوارب النجاة لإنقاذ من يمكن إنقاذھم.
أنقذنا قرابة 500 شخص في تلك اللیلة التي بدا لي أنھا لن تنتھي.
استمر ھذا الوضع المربك لبضعة أيام لم يعرف والدي فیھا طعم النوم
أبداً. ومع أ ّن الریاح ھدأت، إلا أن تداعیاتھا السیئة لم تتوقف، وظلت تخیم ِّ
كسحابة ثقیلة الوطء فوق دبي لأسابیع. حصیلة الضحايا كانت مھولة، ولم ي ْسلَم أي بیت من الخسائر. وتم تحويل المباني الفارغة إلى بیوت بديلة وملاجئ. ما زل ُت أذكر بكثی ٍر من الألم مشھ َد النساء اللواتي تر ّملن بسبب العاصفة وھن يتدافعن عبر أبوابنا المفتوحة، طلباً للعون والمساعدة، ولم يكن لوالدي ووالدتي إلا أن يق ّدما ك ّل ما لديھما لأجلھن.
تعلّم ُت ألا أستھین بالطبیعة أبداً، وتعلم ُت بعدھا أن نكون مستعدين دائماً لأي طارئ. رغم قسوة العاصفة، إلا أنھا أظھرت أنبل ما في أھل دبي، من تعاو ٍن وتعاض ٍد ووقف ٍة واحدة وقت الشدة. وعلى الرغم من كثرة
الخسائر، إلا أنني تعلّم ُت كیف يدي ُر القائد أزم ًة مفاجئة. وأكثر شيء استوقفني، وما زال، أن أبي بدأ بنا نحن أبناءه وأبناء ع ّمي لإرسالنا لإنقاذ الغرقى في البحر الھائج قبل أن يرسل أحداً من عموم الناس. حقاً
إن الأزمات تظھ ُر معادن الرجال.