لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (45%)

ولكنَّ الطَّير كان قد مضى إلى حاله. كيفَ تركتُ السَّمكة تسبب لي جُرحًا بتلك السَّحبة السّريعة التي قامتْ بها؟ لابُدَّ أنني أصبحتُ غبيًّا جدًّا، أو ربما كنتُ أنظر إلى الطَّير الصَّغير، سأنتبه إلى عملي ثمّ يجب عَليَّ أن آكل سمكة التونة لِئلّا تخور قواي. وقال بصوتٍ مرتفع: «أتمنّى لو كان الصَّبيُّ هنا، وكان لديّ بعض الملح»
ليغسل يده في مياه المحيط، ويبقيها مغمورةً هناك أكثر من دقيقة، وهو يشاهدُ الدَّمَ ينساب بعيدًا، فيما كان القارب يواصل سيره. قال: «لقد تباطأَ سيرُ السَّمكة كثيرًا. كان الشّيخ يُفضِّل أن يبقي يده في الماء المالح مدّةً أطول ، كان مجرَّد احتزاز الخيط في يده هو اّلذي جرح لحمها، ولكنَّ الجرح كان في الجزء الفاعل من يده، وقال، وآكلها هنا وأنا مرتاح. وسحبها بالخطّاف نحوه، مُبعِدًا إيّاها عن الخيوط المُلتفَّة، وأَسْندَ الخيط إلى كتفه اليُسْرى مرّةً أخرى، وأخذ سمكة التَّونة من رأس الخطّاف، وأعاد الخطّاف إلى مكانه. وقطع منها شرائح من اللَّحم الأحمر الدّاكن بصورةٍ طولية من مؤخَّر الرَّأس إلى ذيل السَّمكة، قطعها من منطقة قريبة من عظم الظَّهر نزولًا إلى حافة البطن، وعندما أتمَّ قطع ستّ شرائح، نشرها على خشب مُقدَّم القارب، ورفع بقايا السَّمكة من الذيل، ورماها في البحر . اجعلي من نفسكِ مخلبًا، وستقوّي يدَكَ، إنَّها ليست غلطة اليد، أو الليمون، أيتها اليد؟ سآكل المزيد من أجلكِ». وتناولَ شريحةً كاملةً أُخرى، وقال في نفسه: «إنها سَمكةٌ قويّةٌ مليئةٌ بالدّم، وأنا محظوظ لوقوعي عليها، وليس على سمكة دولفين؛ أمّا هذه السمكة فحلاوتها خفيفة، وفكَّرَ: «ومع ذلك لا معنى في أن يكون المرء غير واقعيّ، تمنيتُ لو كان لديّ بعض الملح، فأنا لا أعرف ما إذا كانت الشَّمس ستفسِد ما تبقّى من السَّمكة أم ستجفِّفه، والسَّمكة ما زالت هادئةً وثابتة، سآكل ُكُلَّ ما تبقّى ، وحينئذٍ سأكون على استعداد. وقال في نفسه: «تمنَّيتُ لو كنتُ أستطيع إطعام السَّمكة ، فهي أختي، ولكن يجب أن أقتلها، ثمّ أكلَ -ببطءٍ ووعي- جميعَ شرائح السَّمكة الإسفينية الشَّكل. قال: الآن، وتتابع خطّتها ، »وفكّرَ مُتسائلًا: «ولكنْ ما خطَّتها؟ وما خطَّتي؟ خطَّتي يجب أن أُعَدِّلها حسب خطَّتها، فإذا قفزَتْ أستطيع أن أقتلها، وحاولَ تليينَ الأصابعِ، فسأفكُّها من تشنجها، مهما كلفَ ذلك، وبعد ذلك كله فأنا الذي بالغْتُ في استخدامها في أثناء اللَّيل عندما كان من الضَّروريّ حَلُّ مختلفِ الخيوط وربطها ببعضها . ألقى نظرةً عبر البحر فأدركَ كم هو وحيدٌ الآن، والخيطَ المُمتدّ طويلًا، ثمّ يظهر مَرَّةً أخرى، لاسيّما في الشّهور ذات المناخ السَّيئ المُتقلب، ولكنهم الآن في أشهر الأعاصير، يكون الجوُّ في هذه الأشهر الأفضل في العامِّ كلِّه. لأنهم لا يعرفون ما الذي ينبغي أن يتطلَّعوا إليه، فاليابسة لا بدّ أن تسبب فرقا في شكل الغيوم كذلك ، قال: «نسيمٌ عليل، أو من جرّاء التَّقيؤ الناتج عنه، أما التَّشنج، خصوصًا عندما يكون بمفرده . وقال في نفسه: «لو كان الصَّبيُّ هنا لاستطاع تدليكها لي، وتليينها ابتداءً من الذِّراع فنازلًا، ولكنها ستحلُّ عقدتها بنفسها . وفجأَةً أحسَّ -من خلال يده اليمنى- بِفَرقٍ في سحبِ الخيط حتّى قبل أن يُلاحِظ التَّغير في ميلانه في الماء، فانحنى على الخيط، أرجوكِ، ارتفعَ الخيطُ ببطءٍ وباطِّراد، والماء يقطر من جانبيها، ثمّ غطستْ فيه بنعومة مثل غطّاسٍ ماهر، وكان الخيط ينفد بسرعةٍ، ولكن باطِّراد، فراح الشّيخ يحاول بكلتا يديه الحيلولةَ دون انقطاع الخيط، فقد أدركَ أنه ما لم يتمكَّن من إبطاء السَّمكة بالضغط المستمرِّ فإنَّها قد تستنفد الخيط كله، وفكّرَ: «إنها سمكةٌ ضخمةٌ، ويجب عَليَّ ترويضها، شُكرًا لله؛ نحن الذين نقضي عليها، على الرّغم من أنها أكثرُ نُبلًا، ولكنه لم يكُن بمفرده بتاتًا، أما الآن فهو وحدَه، وبعيدًا عن مشهد اليابسة، ويده اليسرى مازالت مُتصلبة مثل مخالبِ النسرِ الناشبةِ في فريسة. قال في نفسه: «ومع ذلك، من المؤَّكَّد أنها ستتخلص من تشنجها لتساعد يدي اليمنى ، إذْ لا يليق بها أن تكون مُتشنِّجة ، وأبطأَتِ السَّمكةُ مرّةً أخرى، وفكَّرَ الشّيخ مُتسائلًا: «لماذا قفزَتْ؟ لقد قفزَتْ كما لو كانت تُريني كم هي كبيرة!»، وقال في نفسه: «وعلى أيّة حال، ولكنها حينئذٍ سترى يدي المُتشنجة، وسأكون كذلك . وقال في نفسه: «تمنّيتُ لو كنتُ أنا السَّمكة، مُقابل ما لَديّ من إرادةٍ وذكاءٍ فقط. وَتقبلَ أَلمَه كما هو ، وراحَتِ السَّمكةُ تسبح سباحةً ثابتة، والقارب يتحرَّك ببطءٍ في المياه الدّاكنة اللون. أيتها السَّمكة. كان مرتاحًا، على الرَّغم من أنه لم يعترف بأَلَمه مطلقًا. قال: «من الأفضل أن أُجدِّد طُعْم الصِّنارة الصَّغيرة الموجودة في مؤخَّر القارب، وقد نقصَ الماءُ في القنّينة، لا أَظنُّ أنني أستطيع أن أصطاد غيرَ سمكة دولفين صغيرة هنا، ولكنْ إذا أكلتها وهي طازجة فإني سأستسيغ طعمها، أتمنى أن تحطَّ سمكةٌ طائرة في القارب هذه اللّيلة، يا إلهي، وقال:
«ومع ذلك فإني سأقتلها، ولكني سأريها ماذا يستطيع الرَّجل أن يفعل، وقال:
«أخبرتُ الصَّبيَّ أنني شيخٌ غريبُ الأطوار، وفكّرَ: «ليتَ السَّمكة تنام، وأحلُم بالأسود، وقال مُخاطِبا نفسه: «لا تُفكِّرْ، كان النهار يقترب من العصر، فأبحرَ الشّيخ بلطفٍ مع الأمواج، وصار أَلمُ الحبل على ظهره أيسرَ وأخفّ. وعند حلول العصر، الآن وقد رأى السَّمكة مَرَّةً، وذيلها المنتصب الضَّخم يشقّ الظَّلام. والفرس التي لها عَينٌ أصغرُ بكثير تستطيع أن تبصر في الظَّلام، ولكن كما ترى القطَّة تقريبا. وحرَّكَ عضلات ظهره؛ فلابُدَّ أنَّكِ غريبةٌ جدًّا. وكان يعلم أنَّ الليل سيحلُّ عمّا قريب، فحاول أن يفكِّر في أشياءَ أخرى، وكان يعرف أن فريق يانكيّي نيويورك سيلعب ضدَّ فريق نمور ديترويت. وفكّرَ في نفسه: «هذا هو اليوم الثاني الذي لم أطَّلع فيه على نتائج الألعاب، ولكن يجب أن تكون لديّ الثقة بـِديماجيو العظيم الذي يفعل ُكُلَّ شيءٍ على الوجه الأكمل، حتى عند اشتدادِ ألمِ نتوءِ العَظْم في َكَعبه». أو أحتمل فقدانَ عَينٍ أو كلتا العَينَيْن ، إنَّ الإنسان ليس كثيرًا إذا ما قورن بالطُّيور العظيمة والوحوش الضّارية، وأضافَ بصوتٍ عالٍ:
«ما لم تأتِ أسماكُ القرش، فإذا جاءتْ أسماك القرش ، ما دام أنًّه شابٌّ وقويّ، ولكن هل سيؤلمه نتوءُ العَظْم بصورةٍ لا تُحتمَل؟
وعندما آلتِ الشَّمس إلى الغروب، تذَّكَّرَ كيف أنه -ذات مرّة- لعبَ في أحد مقاهي الدّار البيضاء لعبة قوّة اليد مع زنجيٍّ عظيم من ثينفويغوس ، وكان ذلك الزّنجيُّ أقوى الرّجال في المرفأ، أمضيا نهارًا وليلةً، وَمِرفقاهُما مرتكزان على خطٍّ رُسِمَ بالطَّباشير على المنضدة ، وكلُّ واحدٍ منهما يحاول إنزال يد الآخر إلى المنضدة، وراح النّاس يدخلون إلى الغرفة ، ويخرجون منها تحت أضواء فوانيس الكيروسين، لكي يتمكّن المحكّمون من النّوم. وكان كلُّ واحدٍ منهما يحملق في عيني الآخر ويده وساعِده، ويراقبون ، ويتحرّك على الجدار عندما يُحرِّك النسيمُ القناديلَ. وكانوا يسقون الزِّنجيَّ عصير قصب السُّكَّر، وبعد أن يشرب الزِّنجيّ العصير، يحاول أن يبذل جهدًا جَبّارًا، وقد استطاع مَرَّةً أن يزحزح يد الشّيخ الذي لم يكن شيخًا يوم ذاك وإنما سنتياغو البطل، ثلاثَ بوصات تقريبا عن الخطِّ، ولكنَّ الشّيخ رفع يده إلى الأعلى ليعود إلى التعادل التامّ مرَّةً أُخرى ، كان متأِّكِّدًا حينذاك أنه سيتغلب على الزِّنجيّ الذي كان رجلًا لطيفًا ورياضيًّا عظيمًا، وأجبر يد الزِّنجيِّ على الانثناء إلى الأسفل. فالأسفل. حتى استقرَّتْ على الخشب. وانتهت صباح يوم الإثنين، وكان عددٌ من المتراهنين قد طالبوا بالتعادل، أو للعمل في شركة هافانا للفحم الحجريِّ، كان ُكُلُّ واحدٍ يدعوه بـالبطل، ثمّ كانت هناك مباراةُ الإياب في فصل الرَّبيع ، ولكنْ لم يراهنوا بكثيرٍ من المال، لأنه كان قد حَطّم ثقة ذلك الزِّنجيّ من ثينفويغوس في المُباراة الأولى، وبعد ذلك انخرط في مبارياتٍ قليلة ثمّ توقف بالمَرّة، ويجب ألّا تتشنج عليَّ مرَّةً أخرى، ما لم يشتدّ البرد في الليل ، وإنني أتساءل ما اّلذي ستجلبه هذه الليلةُ»؟
وهي في طريقها إلى ميامي ، وراقبَ ظلَّها الذي أفزع مجموعات الأسماك الطّائرة، وقال: «مع وجود هذه الكثرة من الأسماك الطّائرة هُنا، ولكنه لم يتمكَّن، وبقي الخيط على توتّره وارتعاشه، وتحرّك القاربُ إلى الأمام ببطءٍ، وأتساءل كيف يبدو البحر من ذلك الارتفاع؟ أحسب أَنَّهم يستطيعون رؤيةَ الأسماك بوضوحٍ ما لم يُحلقوا على علوٍّ شاهق، ففي قوارب صيد السَّلاحف كنتُ أقف على رأس السّارية، من هناك تبدو الدَّلافين أكثر اخضرارًا، وبإمكانك أن ترى خطوطها وبقعها القرمزية، وباستطاعتكَ أن ترى المجموعةَ كلها وهي تسبح، وعادةً خطوطًا أو بقعًا قرمزيّةَ اللون؟ طبعًا يبدو الدّولفين أخضر؛ لأنَّه في حقيقته ذهبيُّ اللون، ألا يمكن أن يعزى بروز هذه الخطوط إلى الغضب أو إلى السُّرعة الفائقة؟. وقُبيل حلول الظَّلام، وبينما كانا يمرّان بجزيرةٍ كبيرةٍ من أعشاب السّراخس المرتفعة والمتمايلة في البحر الضَّحل بلعَتْ سمكةُ دولفين صغيرة صنارته الصّغيرة. رأى سمكة الدّولفين تلك أوّل مرَّةٍ عندما قفزت في الهواء وبدا لونها ذهبيا خالصًا على ضوء الشَّمس الأخير، وكانت تتلوّى، وتخبط ذيلها بضراوةٍ في الهواء، وأمسك بالحبل الكبير بيده اليمنى وذراعه، ضاغطًا على ما يكسبه من الخيط في كلِّ مرّةٍ بقدمه اليسرى الحافية، وعندما صارت سمكة الدّولفين في مستوى مؤخَّر القارب، وتتخبَّط، انحنى الشّيخ ، وكان فكّاها يعملان بعصبية في عضّات سريعة على الشِّصّ، وأمطرَتْ قاع المركب بضرباتٍ من جسدها المُسطَّح الطَّويل ومن ذيلها ورأسها، حتى قام الشّيخ بضربها بهراوته على رأسها الذّهبيّ اللّامع إلى أن ارتعشَتْ، خلَّصَ الشّيخ السَّمكة من الشِّصّ، ثمّ رجعَ على مهل إلى مُقدَّم القارب، ثمّ حوّل الحبل الثقيل من يده اليمنى إلى يسراه، فيما كان يشاهد الشَّمس وهي تغطس في المحيط، «إنّها لم تتغيَّر على الإطلاق. ولكنه عند مشاهدة حركة الماء البطيئة على يده لاحظ أنَّها أبطأ بشكلٍ واضح، وقال: «سأثبِّتُ المجدافَين معًا في مؤخَّر القارب، إنها مُستعدّةٌ لليل، وأنا كذلك. وفكّرَ: «من الأفضل نَزْع أحشاء سمكة الدّولفين بعد وقت قصير؛ يُمكنني أن أفعل ذلك بعد قليل، ويحسنُ بي أن أدع السَّمكة الكبيرة هادئةً الآن، وألّا أُزعِجها كثيرًا عند مغيب الشَّمس، وترك نفسه يُجَرُّ إلى الأمام في اتّجاه خشب مُقدَّم القارب؛ وسمّاها السَّمكة الذّهبية، ربّما ينبغي أن أتناول شيئا منها عندما أنظِّفها، أَيَّتُها السَّمكة؟ فأنا أشعر بخير، ويدي اليسرى أحسن حالًا، ولديّ طعام لليلةٍ ونهار، اسحبي القارب، أَيتها السَّمكة. لم يكُنْ يشعر حقًّا بخير، فالألم من جرّاء الحبل على ظهره قد تعدّى حدَّ الألم تقريبا،


النص الأصلي

تلفّتَ حوله باحثا عن الطَّير، لأنه كان سيرتاح لرفقته ،ولكنَّ الطَّير كان قد مضى إلى حاله.
وفكّرَ الرَّجل: «إنَّكَ لم تبقَ طويلًا، ولكنَّ طريقك أصعب حتّى تصل الشّاطئ، كيفَ تركتُ السَّمكة تسبب لي جُرحًا بتلك السَّحبة السّريعة التي قامتْ بها؟ لابُدَّ أنني أصبحتُ غبيًّا جدًّا، أو ربما كنتُ أنظر إلى الطَّير الصَّغير، وأفكِّر فيه. والآن ،سأنتبه إلى عملي ثمّ يجب عَليَّ أن آكل سمكة التونة لِئلّا تخور قواي.»
وقال بصوتٍ مرتفع: «أتمنّى لو كان الصَّبيُّ هنا، وكان لديّ بعض الملح»
حوّلَ ثقل الخيط إلى كتفه اليسْرى، وانحنى في حذرٍ؛ ليغسل يده في مياه المحيط، ويبقيها مغمورةً هناك أكثر من دقيقة، وهو يشاهدُ الدَّمَ ينساب بعيدًا، وحركةَ الماء الثّابتة على يده، فيما كان القارب يواصل سيره.
قال: «لقد تباطأَ سيرُ السَّمكة كثيرًا.»
كان الشّيخ يُفضِّل أن يبقي يده في الماء المالح مدّةً أطول ،ولكنَّه كان يخشى جذبةً مُفاجِئةً أخرى من السَّمكة؛ فنهضَ مُتماسِكًا، ورفعَ يده في اتجاه الشَّمس. كان مجرَّد احتزاز الخيط في يده هو اّلذي جرح لحمها، ولكنَّ الجرح كان في الجزء الفاعل من يده، وكان يعلم أنّه سيحتاج إلى يدَيه قبل أن تنتهي المُهمّة، ولم يرِد أن يصاب بالجرح قبل أن تبدأ تلك المهمّة.
وقال، عندما جفّتْ يده: «الآن، يجب أن آكل سمكة التّونة الصَّغيرة، وأستطيع أن آخذها بالخطّاف، وآكلها هنا وأنا مرتاح.»
انحنى، ووجد سمكة التّونة تحت مؤخَّر القارب، وسحبها بالخطّاف نحوه، مُبعِدًا إيّاها عن الخيوط المُلتفَّة، وأَسْندَ الخيط إلى كتفه اليُسْرى مرّةً أخرى، واستندَ إلى ذراعه ويده اليسْرى ،وأخذ سمكة التَّونة من رأس الخطّاف، وأعاد الخطّاف إلى مكانه.
وضعَ إحدى ركبتيه على السَّمكة، وقطع منها شرائح من اللَّحم الأحمر الدّاكن بصورةٍ طولية من مؤخَّر الرَّأس إلى ذيل السَّمكة، كانت شرائح إسفينية الشَّكل، قطعها من منطقة قريبة من عظم الظَّهر نزولًا إلى حافة البطن، وعندما أتمَّ قطع ستّ شرائح، نشرها على خشب مُقدَّم القارب، ومسحَ سكّينه على سرواله، ورفع بقايا السَّمكة من الذيل، ورماها في البحر .
قال: «لا أظنُّ أنَّني أستطيع أن آكل سمكةً كاملة.»
وأعملَ سكّينَهُ في إحدى الشَّرائح، وكان يشعر بشدّةِ ضغط الخيط المستمرّ، وتشنّجتْ يده اليسرى؛ لأنها كانت تُمسِك بالخيط بشدّة، فنظر إليها باشمئزاز، وقال:
«أيّ نَوعٍ من اليد هذه، تشنّجي إذنْ إذا أردْتِ، اجعلي من نفسكِ مخلبًا، ولن ينفعكِ ذلك بشيء.»
وقال في نفسه وهو ينظر في اتجاه الماء الدّاكن إلى ميلان الخيط: «هيا، ُكُلْ سمكة التونة الآن، وستقوّي يدَكَ، إنَّها ليست غلطة اليد، بل أنتَ الذي أمضيتَ ساعات طويلة مع السَّمكة، ولكنك تستطيع أن تبقى معها إلى الأبد، ُكُلِ التَّونة الآن.»
تناول قطعةً، ووضعها في فمه، ولاكها ببطء، لم تكُن سيِّئةَ الطَّعم.
وقال في نفسه: «امضَغْها جيّدًا، وخُذْ عصيرها ُكُله، ليست سيئة إذا أُكِلَتْ مع قليلٍ من الحامض، أو الليمون، أو الملح .»
وسأل يدَه المتشنجة: «كيفَ تشعرين، أيتها اليد؟ سآكل المزيد من أجلكِ».


وأكلَ الجزء الآخر من الشَّريحة، التي كان قد قسمها إلى شطرَيْن، ولاكها بعنايةٍ، ثمّ بصق الجلد.
«كيف تسير الأمور، أيتها اليد؟ أمْ أنه من المُبكِّر أن تعرفي»؟
وتناولَ شريحةً كاملةً أُخرى، ومضغها.
وقال في نفسه: «إنها سَمكةٌ قويّةٌ مليئةٌ بالدّم، وأنا محظوظ لوقوعي عليها، وليس على سمكة دولفين؛ سمكة الدولفين حلوة أكثر مما ينبغي، أمّا هذه السمكة فحلاوتها خفيفة، ولا تزال بكامل قوّتها.»
وفكَّرَ: «ومع ذلك لا معنى في أن يكون المرء غير واقعيّ، تمنيتُ لو كان لديّ بعض الملح، فأنا لا أعرف ما إذا كانت الشَّمس ستفسِد ما تبقّى من السَّمكة أم ستجفِّفه، ولهذا فمن الأفضل أن آكلَ جميع ما تبقّى على الرَّغم من أنني لستُ جائعًا، والسَّمكة ما زالت هادئةً وثابتة، سآكل ُكُلَّ ما تبقّى ،وحينئذٍ سأكون على استعداد.»
وقال:«اصبري -أيَّتها اليد- فأنا أفعل هذا من أجلكِ».
وقال في نفسه: «تمنَّيتُ لو كنتُ أستطيع إطعام السَّمكة ،فهي أختي، ولكن يجب أن أقتلها، ولكي أفعل ذلك يتعين عليَّ أن أبقى قويًّا .»
ثمّ أكلَ -ببطءٍ ووعي- جميعَ شرائح السَّمكة الإسفينية الشَّكل.
اعتدلَ وهو يمسحُ يدَهُ على سرواله.
قال: الآن، بإمكانكِ أن تطلقي الحبل -أيتها اليد- وسأتدبَّر السَّمكة باليد اليمْنى وحدها، حتى تنتهي أنتِ من هذه السَّخافة.
وضعَ قدمَه اليسرى على الخيط السَّميك الذي كانت تمسك به يده اليسرى، واضطجعَ على ظهره لمجابهة الضَّغط الواقع عليه.
قال: ساعدني يا ربِّ للتخلص من التشنج؛ لأنني لا أعرف ما ستفعله السَّمكةوقال في نفسه: «ولكنَّها تبدو هادئةً، وتتابع خطّتها ،»وفكّرَ مُتسائلًا: «ولكنْ ما خطَّتها؟ وما خطَّتي؟ خطَّتي يجب أن أُعَدِّلها حسب خطَّتها، بسبب ضخامة حجمها، فإذا قفزَتْ أستطيع أن أقتلها، ولكنّها تبقى في الأعماق إلى الأبد، ولهذا فأنا سأظلّ معها إلى الأبد.»
فَرَكَ يدَهُ المُتشنجةَ بسروالِهِ، وحاولَ تليينَ الأصابعِ، ولكنّها لم تَتخلص من التشنجِ، وفكّرَ: «ربما ستتخلص من تشنجها بفضل الشَّمس، ربما ستنفكّ من تشنجها عندما تُهضَم سمكة التونة النيئة القوية اّلتي أكلتها، وإذا كان عَليَّ أن أستعمل هذه اليد، فسأفكُّها من تشنجها، مهما كلفَ ذلك، ولكنَّني لا أريد فكَّها الآن بالقوَّة، سَأدَعها تتلين بنفسها لتعود إلى حالتها الطبيعية برضاها. وبعد ذلك كله فأنا الذي بالغْتُ في استخدامها في أثناء اللَّيل عندما كان من الضَّروريّ حَلُّ مختلفِ الخيوط وربطها ببعضها .»
ألقى نظرةً عبر البحر فأدركَ كم هو وحيدٌ الآن، ولكن كان في ميسوره أن يرى مخروطاتِ الضَّوء في المياه العميقة المُظلمة، والخيطَ المُمتدّ طويلًا، والتموّجَ الغريب للسُّكون .
أخذتِ الغيوم تتكاثف الآن بفعل الرّياح التِّجاريّة، ونظر أمامه فرأى سِربا من البطِّ البَريّ يُحلق على صفحة السَّماء فوق الماء، ثمّ يختفي، ثمّ يظهر مَرَّةً أخرى، وأدركَ أنّه لم يخرج قطّ إنسانٌ بمفرده إلى عُرض البحر.
وراح يُفكِّر في بعض الرِّجال الذين يخافون أن يبتعدوا عن مرأى اليابسة في قاربٍ صغير، فأدركَ أنهم على صوابٍ، لاسيّما في الشّهور ذات المناخ السَّيئ المُتقلب، ولكنهم الآن في أشهر الأعاصير، وعندما لا توجد أعاصير، يكون الجوُّ في هذه الأشهر الأفضل في العامِّ كلِّه.
وعندما يوجد إعصار فأنتَ دائمًا ترى علاماته في السَّماء قبل أيام، إذا كنتَ في البحر، ثمّ فكَّرَ: «بيد أنهم لا يرون تلك العلامات من البَرِّ؛ لأنهم لا يعرفون ما الذي ينبغي أن يتطلَّعوا إليه، فاليابسة لا بدّ أن تسبب فرقا في شكل الغيوم كذلك ،ولكن ليس ثمّةَ إعصارٌ قادمٌ الآن .»
صوَّب نظره إلى السَّماء فرأى السَّحاب الأبيض يتجمَّع مثل أكوامٍ لذيذةٍ من البوظة، وفوقها ريشُ الغمامٍ الرَّقيق على سماءِ شهر سبتمبر/أيلول العالية .
قال: «نسيمٌ عليل، هذا طقسٌ أفضل لي، وليس لكِ أيَّتها السَّمكة.»
كانت يده اليسرى ماتزال مُتشنجة، ولكنه كان يتخلص من التشنُّج تدريجيا.
وفكَّرَ: «إنني أكره التشنج؛ فهو يمثل خيانةَ الجسدِ لصاحبه ،وإنَّ المرء يشعر بالإذلال أمام الآخرين من جَرّاءِ إسهالٍ يصيبه بسبب التَّسمُّم بالتومين، أو من جرّاء التَّقيؤ الناتج عنه، أما التَّشنج، فقد كان يعتبره الشّيخ بمثابة إذلال الإنسان لنفسه ،خصوصًا عندما يكون بمفرده .»


وقال في نفسه: «لو كان الصَّبيُّ هنا لاستطاع تدليكها لي، وتليينها ابتداءً من الذِّراع فنازلًا، ولكنها ستحلُّ عقدتها بنفسها .»
وفجأَةً أحسَّ -من خلال يده اليمنى- بِفَرقٍ في سحبِ الخيط حتّى قبل أن يُلاحِظ التَّغير في ميلانه في الماء، فانحنى على الخيط، وهو يضرب يدَه اليسرى المُتشنجة على وِرْكِهِ بشدَّةٍ وبسرعة، فرأى أنَّ الخيط يرتفع ببطءٍ إلى الأعلى .
قال: «إنَّ السَّمكة تصعد إلى الماء، هيا، أرجوكِ، يا يدي ،أَسْعِفيني.»
ارتفعَ الخيطُ ببطءٍ وباطِّراد، ثمّ انفتحَ سطحُ المحيط أمام القارب، وانبثقت السَّمكة، وبرزت إلى الأعلى بطولها اّلذي لا نهاية له، والماء يقطر من جانبيها، كانت تلمع في الشَّمس ،ورأسها وظهرها بلونٍ قرمزيٍّ داكن، على حين بدت الخطوط على جانبَيها -في الشَّمس- عريضةً ذات لونٍ أرجوانيٍّ خفيف ،وسيفها بطول مضرب البيسبول، ومُدبب في نهايته مثل سيفٍ مستقيم، وارتفعَتْ من الماء بكامل طولها، ثمّ غطستْ فيه بنعومة مثل غطّاسٍ ماهر، ورأى الشّيخ ذيلها الضّخم ذا النَّصل المِنجليِّ الشَّكل يغوصُ في الماء، وراح الخيط يجري بسرعة.
قال الشّيخ: «إنَّها أطول من المركب بِقدَمَين.»
وكان الخيط ينفد بسرعةٍ، ولكن باطِّراد، ولم تكُنْ السَّمكة مذعورة، فراح الشّيخ يحاول بكلتا يديه الحيلولةَ دون انقطاع الخيط، فقد أدركَ أنه ما لم يتمكَّن من إبطاء السَّمكة بالضغط المستمرِّ فإنَّها قد تستنفد الخيط كله، وتقطعه.


وفكّرَ: «إنها سمكةٌ ضخمةٌ، ويجب عَليَّ ترويضها، يجب ألّا أَدَعها تُدرِك قوَّتها وما تستطيع أن تفعله إذا انطلقتْ هاربةً، لو كنتُ مكانها لبذلتُ قصارى جهدي الآن، وابتعدتُ حتى ينقطع شيءٌ ما، ولكنْ، شُكرًا لله؛ لأنّ الأسماك ليست في مثل ذكائنا، نحن الذين نقضي عليها، على الرّغم من أنها أكثرُ نُبلًا، وأكبر قابليّةً منّا.»
كان الشّيخ قد رأى بضع سمكاتٍ ضَخْمات، كما شاهد سمكاتٍ عديدةً تَزِنُ الواحدةُ منها أكثر من ألف رطل، واصطاد في حياته اثنتين لهما مثل ذلك الحجم، ولكنه لم يكُن بمفرده بتاتًا، أما الآن فهو وحدَه، وبعيدًا عن مشهد اليابسة، وهو مشدود إلى أكبر سمكة شاهدها في حياته كلِّها، بل أكبر من أية سمكة سمع بها على الإطلاق، ويده اليسرى مازالت مُتصلبة مثل مخالبِ النسرِ الناشبةِ في فريسة.
قال في نفسه: «ومع ذلك، سَتتخلص من تشنُّجها، من المؤَّكَّد أنها ستتخلص من تشنجها لتساعد يدي اليمنى ،هنالك ثلاثة أشياء متآخية متلازمة: السَّمكة ويداي، يجب أن تتخلَّص من تشنجها، إذْ لا يليق بها أن تكون مُتشنِّجة ،وأبطأَتِ السَّمكةُ مرّةً أخرى، وراحتْ تسير بسرعتها العاديّة.»
وفكَّرَ الشّيخ مُتسائلًا: «لماذا قفزَتْ؟ لقد قفزَتْ كما لو كانت تُريني كم هي كبيرة!»،
وقال في نفسه: «وعلى أيّة حال، فأنا أعرف الآن، أتمنى لو كنتُ أستطيعُ أن أُريها أيَّ نوعٍ من الرّجال أنا، ولكنها حينئذٍ سترى يدي المُتشنجة، دعها تحسبُ أنني أكثر رجولةً ممّا أنا عليه، وسأكون كذلك .»
وقال في نفسه: «تمنّيتُ لو كنتُ أنا السَّمكة، بجميع ما لديها، مُقابل ما لَديّ من إرادةٍ وذكاءٍ فقط.»
استندَ استنادًا مُريحًا إلى الخشب، وَتقبلَ أَلمَه كما هو ،وراحَتِ السَّمكةُ تسبح سباحةً ثابتة، والقارب يتحرَّك ببطءٍ في المياه الدّاكنة اللون.
كان هنالك مَدٌّ محدود للبحر مع هبوبِ الرّيح من جهة الشَّرق، وعند الظُّهر زال تشنُّجُ يدِ الشّيخ اليسرى .
قال الشّيخ وهو يعدّل الخيط على الكيس الذي يُغطّي كتفَيه:
«خبرٌ سَيِّئٌ لكِ، أيتها السَّمكة.»
كان مرتاحًا، ولكنَّه يتألم، على الرَّغم من أنه لم يعترف بأَلَمه مطلقًا.
صارت الشَّمسُ حارَّة على الرَّغم من هبوب النسيم العليل.
قال: «من الأفضل أن أُجدِّد طُعْم الصِّنارة الصَّغيرة الموجودة في مؤخَّر القارب، فإذا قرَّرتِ السَّمكةُ البقاء ليلةً أُخرى فسوف أَحتاج إلى أن آكل مرّةً ثانية، وقد نقصَ الماءُ في القنّينة، لا أَظنُّ أنني أستطيع أن أصطاد غيرَ سمكة دولفين صغيرة هنا، ولكنْ إذا أكلتها وهي طازجة فإني سأستسيغ طعمها، أتمنى أن تحطَّ سمكةٌ طائرة في القارب هذه اللّيلة، غير أنني ليس لَديّ ضوءٌ لاجتذاب الأسماك الطّائرة، فالسَّمكة الطّائرة لذيذة عندما تؤَكَل نيئة، كما لا يتعين عليَّ تقطيعها، يجب أن أحتفظ بِقِواي جميعها الآن. يا إلهي، لم أُكُنْ أعلم َكَمْ هي كبيرة هذه السَّمكة.»
وقال:
«ومع ذلك فإني سأقتلها، رغم كلِّ عظَمتها ومجدها.»
وأضاف في نفسه: «على الرَّغم من أنَّ ذلك ليس عَدلًا، ولكني سأريها ماذا يستطيع الرَّجل أن يفعل، وما يحتمله الرَّجل.»
وقال:
«أخبرتُ الصَّبيَّ أنني شيخٌ غريبُ الأطوار، وعليَّ الآن أن أُبرهن على ذلك.»
وكأَنَّ آلاف المَرّات التي برهن فيها على ذلك لم تَعْنِ شيئًا، الآن يُبَرهِن على ذلك مَرّةً أخرى، فكلُّ مرّةٍ هي جديدة ،ولم يفكِّر في الماضي قطّ وهو يفعل ذلك.
وفكّرَ: «ليتَ السَّمكة تنام، فأستطيعُ أن أنام، وأحلُم بالأسود، لماذا تكون الأسود الشَّيء الوحيد المُتبقّي لي؟
وقال مُخاطِبا نفسه: «لا تُفكِّرْ، أيها الشّيخ، استرحْ بلطفٍ الآنَ على الخشب، ولا تفكِّرْ في شيء، السَّمكة تعمل حاليًّا ،أمّا أنتَ فاعملْ أقلَّ ما يُمكِنك.»
كان النهار يقترب من العصر، ومازال القارب يتحرَّك ببطءٍ وثبات، ولكنْ ثمّةَ سَحْبٌ إضافيٌّ بفعل النسيم الشَّرقيّ، فأبحرَ الشّيخ بلطفٍ مع الأمواج، وصار أَلمُ الحبل على ظهره أيسرَ وأخفّ.
وعند حلول العصر، أخذ الخيط يرتفع مَرَّةً أخرى، ولكنَّ السَّمكة ظلّتْ تسبح في مستوى عمقٍ أعلى بقليل من السّابق ،وكانت الشَّمس على ذراع الشّيخ اليسرى وكتفه اليسرى وعلى ظَهره؛ ولهذا عرف أنَّ السَّمكة قد تحوّلت نحو الشَّمال الشَّرقيّ.
الآن وقد رأى السَّمكة مَرَّةً، أصبح في إمكانه أن يتصوَّرها وهي تسبح في الماء، وزعانفها الأرجوانيّة الزّاهية منبسطة مثل الأجنحة، وذيلها المنتصب الضَّخم يشقّ الظَّلام.
وتساءل الشّيخ في نفسه: ما مَدى رؤية تلك السَّمكة في الأعماق، عَينها ضخمة، والفرس التي لها عَينٌ أصغرُ بكثير تستطيع أن تبصر في الظَّلام، وفي السّابق كنتُ أستطيع أن أبصر جيّدًا في الظَّلام ،وليس في الظُّلمة الحالكة، ولكن كما ترى القطَّة تقريبا.
وساعدتِ الشَّمسُ وتحريكُه المستمرّ للأَصابع على إزالة تشنج يده اليسرى تمامًا الآن، فشرعَ بنقل بعض الضَّغط إليها ،وحرَّكَ عضلات ظهره؛ ليخفِّفَ من وطأة الحبل قليلًا.
قال بصوتٍ عالٍ:
«إذا لم تكوني مُتعَبة أيتها السَّمكة، فلابُدَّ أنَّكِ غريبةٌ جدًّا.»
شعرَ الآن بتعبٍ شديد، وكان يعلم أنَّ الليل سيحلُّ عمّا قريب، فحاول أن يفكِّر في أشياءَ أخرى، فَكّرَ في المباريات الكبرى اّلتي كانت بالنسبة إليه بالإسبانية كران ليخاس ،وكان يعرف أن فريق يانكيّي نيويورك سيلعب ضدَّ فريق نمور ديترويت.
وفكّرَ في نفسه: «هذا هو اليوم الثاني الذي لم أطَّلع فيه على نتائج الألعاب، ولكن يجب أن تكون لديّ الثقة بـِديماجيو العظيم الذي يفعل ُكُلَّ شيءٍ على الوجه الأكمل، حتى عند اشتدادِ ألمِ نتوءِ العَظْم في َكَعبه».


ثمّ سأل نفسه: «ما هو نتوء العظم؟ نحن لم نقاسِ منه، أيمكن أن يكون الألم النّاتج عنه مثل نقرة الدّيك المُقاتل في كعب إنسان؟ لا أظنُّ أنَّني أستطيع أن أحتمل ذلك، أو أحتمل فقدانَ عَينٍ أو كلتا العَينَيْن ،وأواصل القتال كما تفعل الدّيوك المُقاتلة، إنَّ الإنسان ليس كثيرًا إذا ما قورن بالطُّيور العظيمة والوحوش الضّارية، ومع ذلك، فأنا أفضِّل أن أكون ذلك الحيوان في أعماق البحر المظلمة»
وأضافَ بصوتٍ عالٍ:
«ما لم تأتِ أسماكُ القرش، فإذا جاءتْ أسماك القرش ،فالله يرحم تلك السَّمكة، ويرحمني.»
وفكّرَ: «هل تعتقد أَنَّ دي ماغيو العظيم سيبقى مع سمكةٍ المُدَّة الطويلة نفسها التي سأمضيها مع هذه السَّمكة؟ أنا متأِّكِّد من أنه سيمكث تلك المُدَّة وأكثر، ما دام أنًّه شابٌّ وقويّ، إضافةً إلى أنَّ والده كان صيّادَ سمك، ولكن هل سيؤلمه نتوءُ العَظْم بصورةٍ لا تُحتمَل؟
وأجابَ بصوت مرتفع: «لا أدري، فأنا لم أُصَب أبدًا بنتوء العظْم.»
وعندما آلتِ الشَّمس إلى الغروب، ولكي يُعزِّز نفسه بثقةٍ أكبر، تذَّكَّرَ كيف أنه -ذات مرّة- لعبَ في أحد مقاهي الدّار البيضاء لعبة قوّة اليد مع زنجيٍّ عظيم من ثينفويغوس ،وكان ذلك الزّنجيُّ أقوى الرّجال في المرفأ، أمضيا نهارًا وليلةً، وَمِرفقاهُما مرتكزان على خطٍّ رُسِمَ بالطَّباشير على المنضدة ،وساعِداهُما مُنتصبان باستقامة، ويداهما متشابكتان بشدّة ،وكلُّ واحدٍ منهما يحاول إنزال يد الآخر إلى المنضدة، وكان هناك رهان كثير عليهما، وراح النّاس يدخلون إلى الغرفة ،ويخرجون منها تحت أضواء فوانيس الكيروسين، وكان هو يحدّق في ذراع الزِّنجي ويدِه ووجهِه، وغيروا المُحكِّمين كلَّ أربع ساعات بعد السّاعات الثمّاني الأولى؛ لكي يتمكّن المحكّمون من النّوم.
وسال الدّم من تحت أظافر يده وأظافر يد الزِّنجي، وكان كلُّ واحدٍ منهما يحملق في عيني الآخر ويده وساعِده، وطفق المُتراهنون يدخلون الغرفة، ويخرجون منها، ويجلسون على َكَراسٍ عالية عند الحائط، ويراقبون ،وكانت الجدران مَطليّةً باللون الأزرق اللَّمّاع، ومصنوعةً من الخشب، والقناديل تلقي بظلالها عليها، وكان ظِلُّ الزِّنجيِّ ضخمًا، ويتحرّك على الجدار عندما يُحرِّك النسيمُ القناديلَ. كان احتمال الفوز يتأرجح بينهما طَوالَ الليل، وكانوا يسقون الزِّنجيَّ عصير قصب السُّكَّر، وبعد أن يشرب الزِّنجيّ العصير، يحاول أن يبذل جهدًا جَبّارًا، وقد استطاع مَرَّةً أن يزحزح يد الشّيخ الذي لم يكن شيخًا يوم ذاك وإنما سنتياغو البطل، ثلاثَ بوصات تقريبا عن الخطِّ، ولكنَّ الشّيخ رفع يده إلى الأعلى ليعود إلى التعادل التامّ مرَّةً أُخرى ،كان متأِّكِّدًا حينذاك أنه سيتغلب على الزِّنجيّ الذي كان رجلًا لطيفًا ورياضيًّا عظيمًا، وعند انبلاج ضوء النَّهار، وفيما كان المتراهنون يطالبون بأن تكون النّتيجةُ التعادلَ، وكان الحَكَم يهزّ رأسه موافقًا، أطلقَ الشّيخ مجهودًا، وأجبر يد الزِّنجيِّ على الانثناء إلى الأسفل... فالأسفل... حتى استقرَّتْ على الخشب...
كانت المُباراة قد بدأتْ صباحَ يومٍ من أيام الآحاد، وانتهت صباح يوم الإثنين، وكان عددٌ من المتراهنين قد طالبوا بالتعادل، لأنه كان يتعيَّن عليهم الذّهابُ إلى الميناء للعمل في تحميل أكياس السُّكَّر، أو للعمل في شركة هافانا للفحم الحجريِّ، ولولا ذلك لرغب كلُّ واحد في أن تستمرَّ المباراة حتى النهاية، ولكنه أنهاها على أيّة حال قبل أن يضطرّ أيُّ واحدٍ إلى الذَّهاب للعمل .
ولوقتٍ طويلٍ بعد تلك المُباراة، كان ُكُلُّ واحدٍ يدعوه بـالبطل، ثمّ كانت هناك مباراةُ الإياب في فصل الرَّبيع ،ولكنْ لم يراهنوا بكثيرٍ من المال، وقد فاز هو كذلك بسهولةٍ تامّة؛ لأنه كان قد حَطّم ثقة ذلك الزِّنجيّ من ثينفويغوس في المُباراة الأولى، وبعد ذلك انخرط في مبارياتٍ قليلة ثمّ توقف بالمَرّة، لقد قرَّرَ أنه يستطيع التغلب على أيِّ فَردٍ إذا أراد، ولكنه ارتأى أنَّ ذلك سيضرُّ بيده اليمنى التي يستعملها في الصَّيد، وجرّب يده اليسرى في بعض المُباريات التدريبيّة ،ولكنَّ يده اليسرى كانت تخونه دائمًا، ولا تفعل ما يأمرها به ،وهو لم يثِقْ بها .
وفكّرَ في نفسه: «إنَّ الشَّمس ستحمِّصها جيّدًا الآن ، ويجب ألّا تتشنج عليَّ مرَّةً أخرى، ما لم يشتدّ البرد في الليل ،وإنني أتساءل ما اّلذي ستجلبه هذه الليلةُ»؟
ومرّتْ طائرةٌ فوق رأسه، وهي في طريقها إلى ميامي ،وراقبَ ظلَّها الذي أفزع مجموعات الأسماك الطّائرة،
وقال: «مع وجود هذه الكثرة من الأسماك الطّائرة هُنا، لابُدّ أن تكون هنالك دلافين»


ومالَ إلى الخلف شادًّا الخيط معه ليرى ما إذا كان من المُمكِن كسبُ أيِّ شيءٍ منه على حساب سَمكته، ولكنه لم يتمكَّن، وبقي الخيط على توتّره وارتعاشه، وظلّ الماء يقطر منه وهو على وشك الانقطاع، وتحرّك القاربُ إلى الأمام ببطءٍ، وراح هو يراقب الطّائرةَ حتّى لم يَعُد في وسعه رؤيتها.
وفكّرَ في نفسه: «لابدَّ أنَّ السَّفر بالطّائرة أمرٌ عجيبٌ جدًّا ،وأتساءل كيف يبدو البحر من ذلك الارتفاع؟ أحسب أَنَّهم يستطيعون رؤيةَ الأسماك بوضوحٍ ما لم يُحلقوا على علوٍّ شاهق، َكَمْ أودّ أن أحلق على ارتفاع مائتي قامة على مهل؛ لأرى الأسماك من الأعلى، ففي قوارب صيد السَّلاحف كنتُ أقف على رأس السّارية، وحتى من ذلك الارتفاع، رأيتُ الكثير.
من هناك تبدو الدَّلافين أكثر اخضرارًا، وبإمكانك أن ترى خطوطها وبقعها القرمزية، وباستطاعتكَ أن ترى المجموعةَ كلها وهي تسبح، فلماذا نجد أنَّ للأسماك السَّريعةِ الحركة جميعها في اّلتيار الدّاكن ظُهورًا قرمزية، وعادةً خطوطًا أو بقعًا قرمزيّةَ اللون؟ طبعًا يبدو الدّولفين أخضر؛ لأنَّه في حقيقته ذهبيُّ اللون، ولكنه عندما يأتي ليتغذّى -وهو جائعٌ حقًّا- تظهر خطوطٌ قرمزيّةٌ على جانبَيه، كما تظهر على جانبي سمكِ المرلين، ألا يمكن أن يعزى بروز هذه الخطوط إلى الغضب أو إلى السُّرعة الفائقة؟.»
وقُبيل حلول الظَّلام، وبينما كانا يمرّان بجزيرةٍ كبيرةٍ من أعشاب السّراخس المرتفعة والمتمايلة في البحر الضَّحل بلعَتْ سمكةُ دولفين صغيرة صنارته الصّغيرة.
رأى سمكة الدّولفين تلك أوّل مرَّةٍ عندما قفزت في الهواء وبدا لونها ذهبيا خالصًا على ضوء الشَّمس الأخير، وكانت تتلوّى، وتخبط ذيلها بضراوةٍ في الهواء، لقد قفزَتْ سمكة الدّولفين تلك مرَّةً تلو الأُخرى بطريقةٍ بهلوانيّةٍ من خوفها، فارتدَّ الشّيخ إلى مؤخَّر القارب، وأمسك بالحبل الكبير بيده اليمنى وذراعه، وسحب سمكة الدّولفين بيده اليسرى، ضاغطًا على ما يكسبه من الخيط في كلِّ مرّةٍ بقدمه اليسرى الحافية، وعندما صارت سمكة الدّولفين في مستوى مؤخَّر القارب، وهي تَثِبُ، وتتخبَّط، وتعبر من جانبٍ إلى آخر في يأسٍ، انحنى الشّيخ ،ورفع السَّمكة الذهبية الصّقيلة ببقعها الأرجوانية إلى مؤخَّر القارب، وكان فكّاها يعملان بعصبية في عضّات سريعة على الشِّصّ، وأمطرَتْ قاع المركب بضرباتٍ من جسدها المُسطَّح الطَّويل ومن ذيلها ورأسها، حتى قام الشّيخ بضربها بهراوته على رأسها الذّهبيّ اللّامع إلى أن ارتعشَتْ، وهمدَتْ. خلَّصَ الشّيخ السَّمكة من الشِّصّ، وأعاد وضع طُعْمٍ جديدٍ -سمكة سردين أخرى- على الشِّصّ، ورمى به إلى البحر ،ثمّ رجعَ على مهل إلى مُقدَّم القارب، وغسلَ يده اليسرى ،ومسحها على سرواله، ثمّ حوّل الحبل الثقيل من يده اليمنى إلى يسراه، وغسل يمناه في البحر، فيما كان يشاهد الشَّمس وهي تغطس في المحيط، وينظر إلى مَيلان الحبل الكبير ،وقال:
«إنّها لم تتغيَّر على الإطلاق.»
ولكنه عند مشاهدة حركة الماء البطيئة على يده لاحظ أنَّها أبطأ بشكلٍ واضح، وقال: «سأثبِّتُ المجدافَين معًا في مؤخَّر القارب، وهذا سيبطئ من سير السَّمكة في الليل، إنها مُستعدّةٌ لليل، وأنا كذلك.»
وفكّرَ: «من الأفضل نَزْع أحشاء سمكة الدّولفين بعد وقت قصير؛ من أجل حفظ الدَّم في لحمها، يُمكنني أن أفعل ذلك بعد قليل، وأُثبت المجدافين لإعاقة الحركة في الوقت نفسه ،ويحسنُ بي أن أدع السَّمكة الكبيرة هادئةً الآن، وألّا أُزعِجها كثيرًا عند مغيب الشَّمس، فغروبُ الشَّمس وقتٌ صعبٌ للأسماك جميعها.»
تركَ يده تجفُّ في الهواء، ثمّ أَمسكَ الحبل بها، وأراح جسده قَدْرَ استطاعته، وترك نفسه يُجَرُّ إلى الأمام في اتّجاه خشب مُقدَّم القارب؛ لكي يتحمّل القارب ضغط الحبل بقدْر ما يتحمَّله هو أو أكثر.
وفكّرَ: «أنا أتعلم الآن كيف أفعل ذلك، أو هذا الجزء منه على أية حال، ثمّ تذَّكَّرَ كذلك أنَّ السَّمكة لم تأكل شيئًا منذ أن ازدردت الطُّعم، وأنها ضخمة، وتحتاج إلى كثير من الطّعام، أمّا أنا فقد أكلْتُ سمكة التّونة كاملةً، وغدًا سآكل سمكة الدّولفين... وسمّاها السَّمكة الذّهبية، ربّما ينبغي أن أتناول شيئا منها عندما أنظِّفها، وسيكون أكلها أصعب من أكل التّونة، ولكن ليس ثمّةَ شيءٌ سهل.»
وسأل بصوتٍ عالٍ:
«كيف تشعرين، أَيَّتُها السَّمكة؟ فأنا أشعر بخير، ويدي اليسرى أحسن حالًا، ولديّ طعام لليلةٍ ونهار، اسحبي القارب، أَيتها السَّمكة.»
لم يكُنْ يشعر حقًّا بخير، فالألم من جرّاء الحبل على ظهره قد تعدّى حدَّ الألم تقريبا، وتحوّلَ إلى خدرٍ يثير هواجسه ،وفكّرَ: «ولكنني عانيتُ أشياء أَسْوأ من هذا، إنَّ يدي مجروحة قليلًا فقط، وزال تشنج يدي الأخرى، وساقاي على ما يُرام ،وأنا الآن تفوّقتُ على السَّمكة في مسألة الغذاء كذلك.»


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

. وُلد عبد الق...

. وُلد عبد القادر الحسيني في إسطنبول بتركيا عام 1908، حيث كان والده موسى كاظم الحسيني من أشهر الشخص...

French serves a...

French serves as an official language in international organizations such as the United Nations and ...

ثاني أكسيد الكر...

ثاني أكسيد الكربون (CO2): يتم إطلاق ثاني أكسيد الكربون (وهو عنصر ثانوي ولكنه مهم للغاية في الغلاف ال...

الواقع الافتراض...

الواقع الافتراضي غير الغامر: نظام الواقع الافتراضي الفريد غير الغامر لتعزيز تجربة الزائر. بدلاً من ا...

ويعرف هذا القصو...

ويعرف هذا القصور على انه التوقف المفاجئ والمؤقت من بضع ساعات إلى أيام للوظيفة الإطراحية للكلية مع ان...

يتم تعريف حالة ...

يتم تعريف حالة التوتر على أنها اضطراب فسيولوجي ناتج عن عنصر ضاغط ومرتبط بالمعاناة أو الضيق النفسي، ...

دير السيدة العذ...

دير السيدة العذراء ومسجد اللمطي والعمراوي. تعتبر مصر غنية بالآثار الإسلامية والكنائس القبطية القديمة...

المبحث الأول: ا...

المبحث الأول: الخدمة التأمينية المطلب الأول: مفهوم الخدمة التأمينية توجد العديد من التعاريف الخاصة...

Democratic and ...

Democratic and Popular Algerian Republic Ministry of Higher Education and Scientific Research Ahmed ...

The first model...

The first model has an accuracy of 0.5, which is equivalent to random guessing, indicating that the ...

Au cours de nou...

Au cours de nouveau siècle, la technologie est devenue une partie importante de nos vies. Depuis ce...

التفريق بسبب ال...

التفريق بسبب الردة أو إسلام أحد الزوجين المقصود بالمرتد، وأحكامه فيما يتعلق بعقد الزوجية الردة تكو...