لخّصلي

المبحث الأول: الهجرة في زمن الرسول
لم تأتي هجرة الرسول ﷺ مباشرة بل هناك أسباب مهدت لعدة هجرات قام بها الرسول وصولا للهجرة العظيمة إلى يثرب، فهناك ظروف أدت إلى هجرة المسلمين ومن تبعهم من المستضعفين إلى الحبشة، لما أصابهم من ظلم وتعذيب من كفار قريش، وكذلك خروجه ﷺ إلى الطائف لدعوتهم إلى التوحيد، وعودته لمكة ومحاصرة قريش للمسلمين، وعرضه ﷺ نفسه على القبائل في مواسم الحج، وقبول وفد الأوس والخزرج للدعوة، مما ترتب على ذلك الهجرة العظيمة والخالدة في صفحات تاريخ الإسلام، لتكون بداية لعهد إسلامي جديد، وظهور تطورات ونتائج مثمرة.سنتناول هجرات الرسول ﷺ التي سبقت الهجرة العظيمة إلى يثرب والأسباب التي أدت إلى الهجرة، وكذلك النتائج التي ترتبت على تلك الهجرات.من المعلوم عند ذكر الهجرة في الإسلام يتبادر إلى ذهننا الهجرة إلى يثرب، ولكن في تاريخ الدعوة الإسلامية حدثت ثلاث هجرات قبل الهجرة الخالدة وهي: هجرتان إلى الحبشة، فهذه الهجرات مهدت للهجرة الكبيرة إلى يثرب.فهجرة المسلمين وبعض المستضعفين نتيجة للأذى الذي لحق بهم من كفار قريش، فكان على النبي حماية المسلمين من هذا البلاء، فعرض ﷺ على المسلمين الخروج إلى أرض الحبشة، حين قال:" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد،فخرج الصحابة مهاجرين إلى أرض الحبشة، وبلغ عدد المهاجرين خمسة عشر حيث أحد عشر رجلا وأربع نسوة (3)، وأول المهاجرين كان عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت الرسول ﷺ.لعلنا نلاحظ سبب اختيار موقع الحبشة للهجرة الأولى للمسلمين يكمن في الموقع الجغرافي للمنطقة وذلك لقربها من الجزيرة العربية، ومن الناحية الإدارية فملكهم اتصف بالعدل والتسامح. مما ترك بصمة عظيمة في نشر الدعوة الإسلامية، وهي انتشار خبر هجرة فريق من المسلمين بين العرب وغيرهم الذين لم يسمعوا من قبل عن هذا الدين، وكذلك إسلام شخصيات كبيرة ومهمة في مكة: عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب عم النبي، وهو الأمر الذي أدى إلى تقوية راية الدعوة الإسلامية.بعد ذلك وصل للمسلمين في الحبشة خبر مفاده أن قريش توقفت عن إيذاء الرسول ومن تبعه من المسلمين، فقرر المسلمون العودة لديارهم في مكة، ولكن عند بلوغهم إلى مكة عاد الكفار إلى الظلم والتعذيب، هنا انقسم المسلمون إلى قسمين: فمنهم من دخل مكة باستخفاء، ومنهم من عاد إلى أرض الحبشة صحبتها هجرة ثانية لأرض الحبشة بلغ عددها ثلاث وثمانون(3)، ففيه فقد الرسول الكريم زوجته خديجة وعمه أبو طالب، وأيضا تفاقم إيذاء قريش للرسول وأصحابه، حينها خرج الرسول الكريم إلى الطائف مع مولاه زيد بن حارثة حاملا لواء الدعوة الإسلامية إليهم، ونرى الموقف السلبي لأهل الطائف من دعوة الرسول لهم، فسلطوا على الرسول سفهاءهم وكلابهم وصبيانهم للاعتداء ومطاردة النبي عليه الصلاة والسلام، ومحاولة زيد بن حارثة في حماية الرسول حتى شج رأسه.ولعل الأسباب التي دفعت أهل الطائف لرفض الدعوة التي أتى بها الرسول ﷺ تكمن من الناحية الاجتماعية في علاقة القرابة والنسب بأهل مكة، ويقيم فيها أثرياؤها وبها بساتين وأراضي وعقارات، ومن الناحية الدينية كانوا وثنيين وعبدة اللات التي تعتبر أم الآلهة، وأيضا رفضهم لبعض المحرمات التي أتى بها الدين الإسلامي والتي هي بمثابة أمور مباحة لديهم مثل: الربا، لذلك رفضوا دعوة الحق التي جاء بها خير الأنام.ازداد كفار قريش تعذيبًا وظلمًا على المسلمين حتى قاموا بعمل صحيفة علقت في جوف الكعبة، وتنص على مقاطعة المسلمين اجتماعيًا، وما لقيه النبي من افتراءات والأذى.وبعد حصار طويل وشديد ضد المسلمين، حاول البعض الذين لم يعجبهم حال المسلمين في العزم على نقض الصحيفة، حتى تقدم المطعم بن عدي ليشق الصحيفة فرأى بأن الأرضة قد أكلتها إلا "باسمك اللهم".بعدها اتبع الرسول استراتيجية جديدة لنشر الدعوة الإسلامية، وهي عرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، حتى أثمرت جهوده من قبل أهل يثرب وذلك بقدوم ستة أنفار إلى مكة واستجابتهم للدعوة، وذاع خبر الدعوة الإسلامية عند رجوعهم.وما حدث بعدها قدوم هؤلاء الستة مع ستة آخرين ليسلموا ويبايعوا الرسول ﷺ على بيعة النساء، (3) لقوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا َلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".4) وذهاب مصعب بن عمير ليفقههم في أمور الدين.وفي العام التالي قدم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من أهل يثرب تحديدا من قبائل الأوس والخزرج، لمبايعة النبي على نصرة دين الحق، والدفاع عنه وسميت ببيعة العقبة الثانية.وفيها أذن الله لرسوله في القتال لقول ابن إسحاق: "وكانت بيعة الحرب، حين أذن الله لرسوله في القتال شروطا سوى شرطه عليهم في العقبة الأولى، كانت الأولى على بيعة النساء، وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله في الحرب، وبايعهم رسول الله في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه،وحال كفار قريش عندما علموا بتحالف المسلمين مع أهل يثرب ازدادوا أذًا وتعذيبا، حتى فكروا في قتل الرسول ﷺ، فأذن الرسول بالهجرة لاتباعه جماعة بعد جماعة، حتى بقي في مكة الرسول وصاحبه أبو بكر وعلي بن أبي طالب، ومن اعتقله المشركين كرهًا. وتعتبر من إحدى معجزات الرسول وأبقى علي بن أبي طالب في فراشه، وبدأت هجرتهم باتجاه المدينة هو وصاحبه بتخطيط سليم ومسبق، بدئًا من اختبائهم في غار ثور، واتخاذ عبد الله بن أريقط خبير الطرق، واستخدام أبناء صاحبه أبي بكر في نقل العلوم والأخبار والتزود بالطعام، وصولا إلى قباء، قال ابن إسحاق:" فأقام رسول الله بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس،المبحث الثاني: الآثار المترتبة على الهجرة إلى المدينة
أولًا: بناء المسجد النبوي
بدأ الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بتدعيم ركائز الدولة الإسلامية الناشئة بعد وصوله الى يثرب التي أصبحت بعد الهجرة النبوية تعرف باسم المدينة المنورة ، باعتبارها مهجر النبي محمد صلى الله عليه و سلم و مأوى المسلمين من اضطهاد و أذى مختلف قبائل مكة المكرمة ، و أساس الدولة الإسلامية التي انطلق منها الإسلام الى كافة أرجاء العالم ، حيث شيد رسول الله ﷺ مسجده الشريف في السنة الأولى من هجرته .1) و يعد المسجد النبوي من أول دعائم الدولة العربية الإسلامية ، وهو أحد المساجد المشرفة التي تشد إليها الرحال في الأرض، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس» . وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2)
ثم امر الرسول ببناء مسجده الشريف في المكان الذي بركت فيه ناقته، وقد كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين بركت به راحلته: «هذا المنزل إن شاء الله» (3) ، ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ، ليتخذ منه ارضًا لبناء المسجد النبوي ، رفض الغلامان اليتيمان أن يأخذوا قيمة الأرض، وأرادت قبيلة بني النجار أن تدفع قيمة الأرض، فأبى النبي ﷺ وابتاعه من الغلامين بعشرة دنانير، ودفع الثمن أبو بكر الصديق، و يتبين من ذلك أن الرسول ﷺ لا يريد أن يكون لأحد القبائل فضل التفرد ببناء المسجد ، و لذلك طلب من بني النجار أن يحددوا ثمن بيع الحائط لرسول الله ، و رفض عرضهم رفضًا قاطعًا في أن يعطوه الحائط بدون ثمن فابتاعه بعشرة دنانير ،وقد ساهم الرسول ﷺ في بناء المسجد النبوي بالتعاون مع أصحابه الأفاضل احتسابًا للأجر والثواب العظيم وترغيبًا لأصحابه للاستباق إلى عمل الخيرات، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة . وحرص الرسول الكريم أن يشارك جميع أصحابه في بنائه، وقد وزع الرسول أصحابه الكرام الى جماعات في العمل، لحمل الماء من الآبار القريبة ولعجن الطين وضرب اللبن.اتخذ الرسول سواري المسجد من النخيل وسقفه من الجريد، وكان ارتفاع المسجد الذي بنيت جدرانه من الطين اللبن ثلاثة أذرع، وكانت أعمدته جذوع النخيل وسقفه من السعف، حتى يتمكن الرسول الكريم وأصحابه من الوقوف على الجذع عند إلقاء الخطبة (2)، وكانت جدرانه مبنية بلبن مضروب، وكان تصميم المسجد يخلو من الزخارف والنقوش، ولم يشتمل المسجد النبوي على مئذنة ولا محراب مجوف، وقد استغرق بناء المسجد النبوي اثني عشر يوما (3).وقد استعان الرسول ﷺ في بناء المسجد النبوي بكثير من أهل الخبرة والمعرفة في صنع البناء في معظم الأقطار، فاستعان برجل من حضر موت كان يحسن عجن الطين، وبرجل من اليمامة يقال له طلق من بني حنيفة، وقال بنيت المسجد مع رسول الله فكان يقول: "قربوا اليمامى من الطين فأنه أحسنكم له مسكا واشدكم له منكبا". وتساوي بالأمتار ١٠٣٠ مترا مربعا تقريبا وظل المسجد النبوي الشريف على نفس حال البناء الذي شيده وأقامه رسول الله ﷺ في أوائل الفترات المبكرة من الهجرة النبوية الى العام السابع الهجري (1)، ومن تلك الحقبة الزمنية إلى عصرنا هذا استمرت الدول الإسلامية بمتابعة شؤون عمارته من ترميم وتشييد، وهكذا كانت المساجد في عهده ﷺ تمتاز بطابع البساطة في تصميمها، ولكنها كانت مساجد عامرة بالإيمان والتقوى،و عرف المسجد النبوي على عهد النبي الكريم باسم مسجد المدينة (2)، مما يؤكد على الغرض الأساسي من بنائه و تشييده ، و هو أن يكون مسجدًا جامعًا لشمل المسلمين في المدينة المنورة و كان بمثابة الدار للحكومة الإسلامية ، ففيه مصلى الرسول عليه الصلاة و السلام و عامة المسلمين من كافة أرجاء المدينة، وكما يتم في المسجد مناقشة أبرز القضايا التي تخص مجتمع المدينة، و فيه يتم عقد المعاهدات مع مختلف القبائل و الشرائح الاجتماعية، و كما يتم تشكيل الألوية للحرب و التشاور لمواجهة الأخطاء الخارجية و التي تؤدي بدورها الى تهديد سلامة مجتمع المدينة، و محاولة اجبار القبائل المعادية لسلطة الرسول في المدينة على الخضوع التام و الانصياع لسيادة الدولة الناشئة و حاضرتها في المدينة.لم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلاة فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي فيه العناصر القبلية المختلفة، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.كما ان الرسول الكريم اتخذ المسجد ليكون ميدانا للتدريب العسكري على القتال، وكما تم اتخاذه دار للقضاء، ولاستقبال الوفود ولمعالجة جرحى المسلمين في بقاع المسجد النبوي الشريف. تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، وقد ارتبط المسجد بفريضة الصلاة.يعتبر المسجد النبوي الشريف من المساجد المشرفة التي تشد اليها الرحال، ومن أهم ما يدلل على فضل مكانتها: الحارث حدثنا محمد بن عمر ثنا سلمة بن وردان قال سمعت أبا سعيد بن المعلى قال سمعت عليًا رضي الله عنه يقول قال رسول الله ﷺ "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام".وقال الحميدي حدثنا سفيان ثنا زياد بن سعد أخبرني سليمان بن عتيق قال سمعت ابن الزبير رضي الله عنهما يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد قال سفيان فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله ﷺ فإن فضله عليه بمائة صلاة.روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله ﷺ قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أن النبي ﷺ قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".أخرج ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ قال: "إن خير ما ركبت إليه الرواحل،وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ:"فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد" ((1)
المسجد النبوي الشريف له مكانته الكبرى و منزلته العظمى و فضله العظيم ، فقد أُنشئ و أسس على أساس التوحيد و تقوى و رضوان الله تعالى؛ حيث يحتل المسجد النبوي مكانة عظيمة في قلوب المسلمين جميعًا، حيث يجتمع فيه المصلون لأداء فرائضهم الدينية و يتقربون إلى الله تعالى بأدائها على أكمل وجه ، ويتعرفون على أحوال إخوانهم المسلمين و يتعاونون فيه على البر و التقوى ، و كما اصبح المسجد مركزًا هامًا لتعليم المسلمين و تثقيفهم، و هكذا تتنوع أدوار المسجد النبوي الشريف و تتعدد أدواره ما بين عبادة و علم و تقديم الخدمات الاجتماعية و الثقافية و العسكرية .في العام السابع الهجري رأى رسول الله ﷺ بعد عودته من غزوة خيبر ازدياد أعداد المسلمين، فأصبح المسجد النبوي لا تتسع مساحته لجميع أعداد مجتمع المسلمين في المدينة، فعزم الرسول الكريم على توسعة مساحة المسجد النبوي لتضم كافة المسلمين، وقد جعله في هذه المرة مربعا 100 ذراع في 100 ذراع، فأصبح بعد هذه الزيادة 2475 مترًا مربعًا فتكون الزيادة التي أحدثها ﷺ 1445 مترًا تقريبا. ويعود أصل المدن أنها مركز التبادلات التجارية، والسوق هو مركز الأنشطة التجارية بمختلف أشكاله ومراحله، ويرجع الفضل في ظهور الأسواق في المدن الإسلامية إلى عهد رسول الله ﷺ، وكان هذا السوق بداية التطور العمراني للمدن الإسلامية، واستمر ذلك التطور في المدن الإسلامية اللاحقة.كان السوق بالمدينة المنورة في عهد النبي ﷺ عبارة عن ساحة أرض خالية، وكان يتسنى لأهل المدينة أن يغتنموا الفرصة ويقيموا الأسواق بلا أجر للأرض، ومنع ﷺ أن يبنى فيها، كان التجار يضعون مظلات مصنوعة من الحصير؛ لكي تحميهم من أشعة الشمس في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء.كان نظام السوق مشابه لسنة المسجد، أي من كان يسبق إلى مكان أو موضع يكون له حتى ينتهي من البيع، وأكد على ذلك ابن الخطاب حينما قال: "الأسواق على سنة المساجد، فمن سبق إلى مقعده فهو له حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه". ولكن في زمن النبي اقتصرت مهام ومسؤوليات المحتسب على الإشراف على جودة المبيعات، وكذلك التأكد من المعاملات القائمة في السوق بما يتناسب مع المبادئ والقيم الإسلامية.ثالثا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ابتدأت المؤاخاة عند قدوم الرسول ﷺ إلى المدينة، وكانت عملية المؤاخاة مستمرة ومتجددة وفق من يدخل في الإسلام ومن يصل إلى المدينة، شرعت المؤاخاة لتأليف قلوب المسلمين وإرفاق بعضهم البعض، لم تكن المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين فقط، بل كانت المؤاخاة أيضا بين المهاجرين أنفسهم، ومن الأمثلة على ذلك مؤاخاة النبي زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب وكلاهما كانا من المهاجرين.كانت المؤاخاة قائمة على ركيزة ولم تكن عشوائية؛ حيث آخى الرسول ﷺ بين من يملك المال والقوة والقبيلة ومن لا يملكها، آخى الرسول بينهم حتى يزيد من ترابطهم ويواسي الأنصار إخوانهم المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأولادهم وعشائرهم واغتربوا عن بلادهم في سبيل نصرة الإسلام الذي هو دين الله الحق، قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِين) [الأحزاب: 6]، فرد التوارث إلى الأرحام دون عقد الأخوة.ضرب الأنصار أروع الأمثال في التآخي والتكافل والإيثار، ورحبوا برسول الله والمهاجرين أفضل ترحيب، فقد ورد ذكر ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وكانت الأنصار تتسابق في مؤاخاة المهاجرين، وكانوا يتقاسمون معهم أموالهم وبيوتهم ويؤثرون على أنفسهم (2)، فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع - وكان كثير المال - فقال سعد: قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين -نصفين- ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلّت تزوجتها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك. قال: (ما سُقت فيها) قال: وزن نواة من ذهب -أو نواة من ذهب – فقال: (أولِم ولو بشاة).هذا خير دليل على تضحية الأنصار وإيثارهم وودهم تجاه المهاجرين، فلم يستغلوا ذلك ونالوا قدر حاجتهم.رابعا: الصحيفة (دستور أهل المدينة)
بعد أن قام رسول الله ﷺ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبعد أن استقر في المدينة، أراد تنظيم علاقات أهل المدينة، فكتب وثيقة سميت ب صحيفة المدينة، ولها أيضا مسمى آخر وهو دستور المدينة، وتعد هذه الوثيقة ركيزة أساسية مهمة قام بها النبي ﷺ؛ فلم يترك ﷺ مجالاً لعادات وتقاليد الجاهلية، وبذلك أيضا تجنب إثارة اليهود للفوضى.أصل هذه الصحيفة ثابت بالأحاديث الصحيحة عن الأئمة لعدة أسباب منها إثبات المحالفة بين المهاجرين والأنصار، وتم الحصول على الصحيفة عبر وسائل متعددة، ويدل أسلوب الصحيفة على صحتها، حيث يتكون نصها من جمل قصيرة وغير معقدة وتحتوي على كلمات وعبارات مألوفة من زمن النبي، وأسلوب الصحيفة يشبه إلى حد كبير أسلوب الكتب النبوية الأخرى، مما يمنحه مستوى آخر من التصديق،ابن اسحاق كان أول من روى نص الصحيفة كاملًا التي قام بنقلها ابن هشام، (2) وتنص هذه الصحيفة على:
1) ((هذا كتاب من محمد النبي ﷺ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحِق بهم وجاهد معهم.3) المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.4) وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.5) وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.6) وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.7) وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.8) وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.9) وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.10) وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.12) وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.13) وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا ينصر كافرًا على مؤمن.15) وأن ذمة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم،16) وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسود غير مظلومين ولا متناصر عليهم. إلا على سواء وعدل بينهم.18) وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعض.19) وأن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.20) وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، إلا أن يرضى ولي المقتول وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه، فإن مرده إلى الله وإلى محمد.24) وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.25) وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم،26) وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.29) وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.30) وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.32) وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.33) وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف،35) وأن بطانة يهود كأنفسهم.36) وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لا يؤثم أمر امرء بحليفه،39) وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.40) وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.41) وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.42) وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.43) وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.44) وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.45) وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.47) وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم،من خصائص هذه الصحيفة أنها تجمع بين المسلمين وتجعلهم أمة واحدة، مما يتيح التكامل والوحدة بين المسلمين بجميع أشكاله، وأيضا من خصائص الصحيفة أنها ترسِّخ حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في حرية المعتقد والدين، وحرمة دماء المسلمين، وحق رعاية الجار سواء كان مسلماً أو كافراً،عمل الرسول ﷺ إلى تغيير اسم المدينة، ولو أبقى عليها يثرب لكان للأوس والخزرج دون غيرهما، ولو أطلق عليها دار الهجرة لكانت للمهاجرين فقط، فإن سماها الدولة المحمدية لكانت للمسلمين دون غيرهم،خامسا: محالفات الرسول مع القبائل الواقعة على الطريق بين مكة والمدينة
بعد استكمال أسس تنظيم مجتمع المدينة ووضع أسس سياستها الداخلية تمكن النبي ﷺ من إقامة علاقات ودية، وبخاصة مع القبائل القاطنة على طريق القوافل التجارية بين مكة والمدينة،والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم، وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم. كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها، أو مساعدة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها، ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.ولا شك أن عقد تلك المحالفات كانت خطوة عبقرية من جانب الرسول الكريم، إذ حققت المحالفات مع القبائل انتشار الأمان في محتمع دولة المدينة، وكما يهدف الارتباط بالأحلاف ضرورة تنبيه الرسول وأصحابه المسلمين بالمدينة في حالة قيام قريش بشن الغزوات المفاجئة،فيعتبر تنظيم علاقات الرسول في مجتمع دولة المدينة مع القبائل الواقعة على حدود المدينة وأطرافها ركيزة مهمة في تخطيط مستقبل الدعوة الإسلامية، ومن أهم نماذج المحالفات التي حرص الرسول على تأسيسها مع مختلف القبائل:
وقد تم عقد حلفها في الشهر السابع من الهجرة. هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، واخذوا في تدعيم ركائز الإسلام في مجتمع دولة المدينة، وأخذوا يحيون الإسلام المنزل عليهم قولا وعملا، وظهرت قوتهم في دولة للإسلام،فأخذوا بإعداد العدة للقضاء على المسلمين في المدينة المنورة والقضاء على نفوذهم تمامًا، وشعر المسلمون أن قريشًا تتعامل مع القبائل المحيطة بالمدينة، والتي تسكن على طريق مكة، وتنتقل بقوافلها التجارية في طمأنينة واستقرار، وفي نفس الوقت تحرم المسلمين من الخروج من المدينة،و قامت قبائل قريش بدورها الى القيام بتحريض أعراب البوادي و تأليب قبائل العرب و تحفيز العنصر اليهودي لتكوين مجموعة معادية و هدامة لدولة المدينة، وبذلك تعاون الأعراب معها تصديقًا و تأييدًا للفكرة التي أشاعتها قريش ، و كما أخذت قبائل قريش بالتفاخر باستيلائهم على أموال المهاجرين و سلبها منهم من غير رادع لهم، و تعتبر جميع تلك الأساليب التي اتخذتها قريش من المؤثرات التي أثرت على نفوس العرب و دفعتهم إلى البحث عن حقوقهم المسلوبة من أيدي الطغاة و استرجاعها منهم. فرأى أن هذه الظروف و التحديات الصعبة التي مر بها المسلمون تحتاج الى تطبيق تصرف عملي ليصحح مفاهيم الناس، ويبين لقريش أن حقوق المهاجرين لن تضيع، وأن قوة المدينة ثابتة بموقعها، وفوق ذلك بمعية الله لها.وقد اقتضى هذا الوضع حتمية القيام بما عرف بـ “السرايا والغزوات".السرية: هي عدد مسلح من الرجال لا يقل عن خمسة ولا يزيد عن أربعمائة، يسبقون الجيش للحصول على المعلومات والأخبار، أما الغزوة فإنها تخرج ظاهرة غالبا (1)
يقول ابن الأثير: السرية من الجيش الطائفة يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين الأشداء وتخرج خفية وسرا، وقد اصطلح علماء السيرة على أن الجماعة التي يقودها رسول الله ﷺ تسمى "غزوة" والجماعة التي يقودها أحد الصحابة تعرف بـ “السرية".كان على الدولة الإسلامية الناشئة أن تستكمل عناصر قوتها، فبدأ رسول الله ﷺ بإعداد السرايا لترسيخ دعائم الدولة الناشئة وتدعيم قوة نفوذها وسلطتها. منح الرسول ﷺ أولوية بعض السرايا للمهاجرين، وتعود أسباب ذلك الى مقاومتهم الشديدة لشتى أصناف عذاب قبائل قريش بمكة وكما قاسوا آلام الهجرة وفراقهم لموطنهم، وكما استطاعوا من خلال السرايا أن يثبتوا قدرتهم العظيمة على الدفاع عن أنفسهم ودرء الأخطار التي تحيط بهم.حيث تقوم السرايا بالدوريات الاستطلاعية و ذلك للمحافظة على حدود المدينة المنورة و التصدي لأي هجمات عدائية من شأنها تهدد كيان الدولة الناشئة، و كما تتطرق السرايا في بعض الأحيان بإيقاع الضرر لمن يعتدي على حدود المدينة المنورة، و كان الهدف الأسمى من أعمال السرايا هي تقوية مجتمع المدينة الداخلي ( الجبهة الداخلية) لتوفير مقومات الأمان و الحماية لأفراد مجتمع المدينة و درء مخاطر الأعداء (1) ، فأصبحت السرايا الإسلامية الحصن المنيع لمسلمي المدينة و التي تقوم بدورها الفاعل بمنع تجارة قريش من المرور بأراضي الدولة الإسلامية، و في ذلك اخطارا شديد لقبائل قريش بأن أراضي الدولة الجديدة التي أقامها الرسول لها كيانها المستقل و سلطتها القوية التي تتوجب عليهم احترامها ، و التي بمقتضاها يترتب عليهم اشعار ها بمرور تجارتهم .وكانت مجمل بعوث الرسول الكريم ﷺ وسراياه ثمانية وثلاثين،1) غزوة عبيدة بن الحارث: الى رابغ، وهناك حدثت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والمشركين "وهو أول يوم التقى فيه المسلمون والمشركون في قتال، ولكن القتال اتخذ طابع المناوشة بالسهام فقط، فكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أول العرب رمى بسهم في سبيل الله"٤ في تلك المعركة التي لم تستمر طويلا إذ قرر الفريقان الانسحاب من أرضها (3)
2) غزوة حمزة بن عبد المطلب: ساحل البحر من ناحية العيص، فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه١ وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي “أول راية عقدها رسول الله ﷺ في الإسلام لأحد من المسلمين أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله ﷺ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.3) غزوة سعد بن أبي وقاص (الخرار)
4) غزوة عبد الله بن جحش (نخلة)
وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين (1) ، و كان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، و من حلفائهم : عبدالله ابن جحش و هو أمير القوم ، و عكاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد بن خزيمة، و من بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص، و من بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، و واقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، و خالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم و من بني الحارث بن فهر : سهيل ابن بيضاء .وكان رسول الله ﷺ قد كتب له كتابا، ثم ينظر فيه فسار عبد الله، فترصد بها عير قريش، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا، فمن كان منكم يريد الشهادة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا،فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير، ويعد عمرو بن الحضرمي أول قتيل في الإسلام، وقد أنكر رسول الله ﷺ ما فعلوه لأنهم اعتدوا في شهر حرام وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، ومنع التصرف في العير والأسيرين ثم ردها لأصحابها
فكان الهدف من سرية عبد الله بن جحش هو الوصول الى نخلة واستطلاع أخبار قريش والحصول على المعلومات عنها، كما نص ذلك كتاب رسول الله، ولم يكن الهدف قتال قريش (1)، و لكن نتائج تلك السرية تمثلت في اندفاع عبدالله بن جحش الى القتال في الشهر الحرام، فلم يكن الهدف من إرسال السرية هو قتل أفراد من قريش، و كما وقع في هذه الغزوة أول قتيل من المشركين وأول غنيمة وأول أسيرين، وقد فادى الرسول ﷺ هذين الأسيرين فأسلم أحدهما وعاد الثاني أدراجه الى مكة المكرمة (2)
مقاصد السرايا وأهمية تكوينها في مجتمع دولة المدينة:
يتبين من السيرة العطرة للرسول محمد ﷺ أنه كان يتوخى من إعداد وتكوين السرايا في مجتمع دولة المدينة تحقيق أهداف كثيرة من أبرزها:
1) أسهمت السرايا بشكل كبير في كسر الحاجز النفسي لدى المسلمين ، و كما امروا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة تلك المدة و من المعلوم أن ترك الدفاع عن النفس و عدم القتال قد يورث ضعفًا في النفس أو شعورا بقلة الحيلة و الغلبة، و قد يؤدي ذلك الى شعورهم بالذل و الهوان، فجاءت توجيهات الرسول الكريم بإعداد السرايا باعتبارها وسيلة فعالة تهدف الى الصعود التدريجي بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة والصبر الى الاستنفار و النهوض ، فقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة مشردة، لها جيش ينفذ مخططات ويحافظ على الأمن ويرهب الأعداء ويحفظ الكرامة وهكذا، فكانت فعلا نقلة نفسية في منتهى الروعة.وكما دربت الصحابة على فنون القتال، ففرسان العرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، ولكن التدريب المستمر لأصحاب الرسول على فنون القتال يكسبهم خبرة فائقة على مواجهة العدو في ميادين الحرب والتغلب عليه،3) تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، بقطع طريق تجارتها إلى الشام، وأساس قوتها وازدهارها وسيادتها، وبدون التجارة لن تقوم لها قائمة، فحرمانها من نشاطها التجاري هو الموت بعينه، ولا جدال في أن النبي ﷺ لم يكن يهدف أن يهلك قريشا ويدمر حياتها، وأن يذيقها طعم الكأس التي جرعتها المسلمين في مكة.فقد زرعت التحركات العسكرية الخوف و الفزع في قلوب أفراد قريش، يدلل ذلك على قيام أعداد هائلة و كبيرة من الرجال على حراسة القوافل في ذهابها و إيابها الى الشام، حيث استطاع المسلمون أن يبقوا قريش على حذر،

المبحث الأول: الهجرة في زمن الرسول
لم تأتي هجرة الرسول ﷺ مباشرة بل هناك أسباب مهدت لعدة هجرات قام بها الرسول وصولا للهجرة العظيمة إلى يثرب، فهناك ظروف أدت إلى هجرة المسلمين ومن تبعهم من المستضعفين إلى الحبشة، لما أصابهم من ظلم وتعذيب من كفار قريش، وكذلك خروجه ﷺ إلى الطائف لدعوتهم إلى التوحيد، وعودته لمكة ومحاصرة قريش للمسلمين، وعرضه ﷺ نفسه على القبائل في مواسم الحج، وقبول وفد الأوس والخزرج للدعوة، مما ترتب على ذلك الهجرة العظيمة والخالدة في صفحات تاريخ الإسلام، لتكون بداية لعهد إسلامي جديد، وظهور تطورات ونتائج مثمرة.سنتناول هجرات الرسول ﷺ التي سبقت الهجرة العظيمة إلى يثرب والأسباب التي أدت إلى الهجرة، وكذلك النتائج التي ترتبت على تلك الهجرات.من المعلوم عند ذكر الهجرة في الإسلام يتبادر إلى ذهننا الهجرة إلى يثرب، ولكن في تاريخ الدعوة الإسلامية حدثت ثلاث هجرات قبل الهجرة الخالدة وهي: هجرتان إلى الحبشة، فهذه الهجرات مهدت للهجرة الكبيرة إلى يثرب.فهجرة المسلمين وبعض المستضعفين نتيجة للأذى الذي لحق بهم من كفار قريش، فكان على النبي حماية المسلمين من هذا البلاء، فعرض ﷺ على المسلمين الخروج إلى أرض الحبشة، حين قال:" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد،فخرج الصحابة مهاجرين إلى أرض الحبشة، وبلغ عدد المهاجرين خمسة عشر حيث أحد عشر رجلا وأربع نسوة (3)، وأول المهاجرين كان عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت الرسول ﷺ.لعلنا نلاحظ سبب اختيار موقع الحبشة للهجرة الأولى للمسلمين يكمن في الموقع الجغرافي للمنطقة وذلك لقربها من الجزيرة العربية، ومن الناحية الإدارية فملكهم اتصف بالعدل والتسامح. مما ترك بصمة عظيمة في نشر الدعوة الإسلامية، وهي انتشار خبر هجرة فريق من المسلمين بين العرب وغيرهم الذين لم يسمعوا من قبل عن هذا الدين، وكذلك إسلام شخصيات كبيرة ومهمة في مكة: عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب عم النبي، وهو الأمر الذي أدى إلى تقوية راية الدعوة الإسلامية.بعد ذلك وصل للمسلمين في الحبشة خبر مفاده أن قريش توقفت عن إيذاء الرسول ومن تبعه من المسلمين، فقرر المسلمون العودة لديارهم في مكة، ولكن عند بلوغهم إلى مكة عاد الكفار إلى الظلم والتعذيب، هنا انقسم المسلمون إلى قسمين: فمنهم من دخل مكة باستخفاء، ومنهم من عاد إلى أرض الحبشة صحبتها هجرة ثانية لأرض الحبشة بلغ عددها ثلاث وثمانون(3)، ففيه فقد الرسول الكريم زوجته خديجة وعمه أبو طالب، وأيضا تفاقم إيذاء قريش للرسول وأصحابه، حينها خرج الرسول الكريم إلى الطائف مع مولاه زيد بن حارثة حاملا لواء الدعوة الإسلامية إليهم، ونرى الموقف السلبي لأهل الطائف من دعوة الرسول لهم، فسلطوا على الرسول سفهاءهم وكلابهم وصبيانهم للاعتداء ومطاردة النبي عليه الصلاة والسلام، ومحاولة زيد بن حارثة في حماية الرسول حتى شج رأسه.ولعل الأسباب التي دفعت أهل الطائف لرفض الدعوة التي أتى بها الرسول ﷺ تكمن من الناحية الاجتماعية في علاقة القرابة والنسب بأهل مكة، ويقيم فيها أثرياؤها وبها بساتين وأراضي وعقارات، ومن الناحية الدينية كانوا وثنيين وعبدة اللات التي تعتبر أم الآلهة، وأيضا رفضهم لبعض المحرمات التي أتى بها الدين الإسلامي والتي هي بمثابة أمور مباحة لديهم مثل: الربا، لذلك رفضوا دعوة الحق التي جاء بها خير الأنام.ازداد كفار قريش تعذيبًا وظلمًا على المسلمين حتى قاموا بعمل صحيفة علقت في جوف الكعبة، وتنص على مقاطعة المسلمين اجتماعيًا، وما لقيه النبي من افتراءات والأذى.وبعد حصار طويل وشديد ضد المسلمين، حاول البعض الذين لم يعجبهم حال المسلمين في العزم على نقض الصحيفة، حتى تقدم المطعم بن عدي ليشق الصحيفة فرأى بأن الأرضة قد أكلتها إلا "باسمك اللهم".بعدها اتبع الرسول استراتيجية جديدة لنشر الدعوة الإسلامية، وهي عرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، حتى أثمرت جهوده من قبل أهل يثرب وذلك بقدوم ستة أنفار إلى مكة واستجابتهم للدعوة، وذاع خبر الدعوة الإسلامية عند رجوعهم.وما حدث بعدها قدوم هؤلاء الستة مع ستة آخرين ليسلموا ويبايعوا الرسول ﷺ على بيعة النساء، (3) لقوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا َلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".4) وذهاب مصعب بن عمير ليفقههم في أمور الدين.وفي العام التالي قدم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من أهل يثرب تحديدا من قبائل الأوس والخزرج، لمبايعة النبي على نصرة دين الحق، والدفاع عنه وسميت ببيعة العقبة الثانية.وفيها أذن الله لرسوله في القتال لقول ابن إسحاق: "وكانت بيعة الحرب، حين أذن الله لرسوله في القتال شروطا سوى شرطه عليهم في العقبة الأولى، كانت الأولى على بيعة النساء، وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله في الحرب، وبايعهم رسول الله في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه،وحال كفار قريش عندما علموا بتحالف المسلمين مع أهل يثرب ازدادوا أذًا وتعذيبا، حتى فكروا في قتل الرسول ﷺ، فأذن الرسول بالهجرة لاتباعه جماعة بعد جماعة، حتى بقي في مكة الرسول وصاحبه أبو بكر وعلي بن أبي طالب، ومن اعتقله المشركين كرهًا. وتعتبر من إحدى معجزات الرسول وأبقى علي بن أبي طالب في فراشه، وبدأت هجرتهم باتجاه المدينة هو وصاحبه بتخطيط سليم ومسبق، بدئًا من اختبائهم في غار ثور، واتخاذ عبد الله بن أريقط خبير الطرق، واستخدام أبناء صاحبه أبي بكر في نقل العلوم والأخبار والتزود بالطعام، وصولا إلى قباء، قال ابن إسحاق:" فأقام رسول الله بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس،المبحث الثاني: الآثار المترتبة على الهجرة إلى المدينة
أولًا: بناء المسجد النبوي
بدأ الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بتدعيم ركائز الدولة الإسلامية الناشئة بعد وصوله الى يثرب التي أصبحت بعد الهجرة النبوية تعرف باسم المدينة المنورة ، باعتبارها مهجر النبي محمد صلى الله عليه و سلم و مأوى المسلمين من اضطهاد و أذى مختلف قبائل مكة المكرمة ، و أساس الدولة الإسلامية التي انطلق منها الإسلام الى كافة أرجاء العالم ، حيث شيد رسول الله ﷺ مسجده الشريف في السنة الأولى من هجرته .1) و يعد المسجد النبوي من أول دعائم الدولة العربية الإسلامية ، وهو أحد المساجد المشرفة التي تشد إليها الرحال في الأرض، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس» . وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2)
ثم امر الرسول ببناء مسجده الشريف في المكان الذي بركت فيه ناقته، وقد كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين بركت به راحلته: «هذا المنزل إن شاء الله» (3) ، ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ، ليتخذ منه ارضًا لبناء المسجد النبوي ، رفض الغلامان اليتيمان أن يأخذوا قيمة الأرض، وأرادت قبيلة بني النجار أن تدفع قيمة الأرض، فأبى النبي ﷺ وابتاعه من الغلامين بعشرة دنانير، ودفع الثمن أبو بكر الصديق، و يتبين من ذلك أن الرسول ﷺ لا يريد أن يكون لأحد القبائل فضل التفرد ببناء المسجد ، و لذلك طلب من بني النجار أن يحددوا ثمن بيع الحائط لرسول الله ، و رفض عرضهم رفضًا قاطعًا في أن يعطوه الحائط بدون ثمن فابتاعه بعشرة دنانير ،وقد ساهم الرسول ﷺ في بناء المسجد النبوي بالتعاون مع أصحابه الأفاضل احتسابًا للأجر والثواب العظيم وترغيبًا لأصحابه للاستباق إلى عمل الخيرات، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة . وحرص الرسول الكريم أن يشارك جميع أصحابه في بنائه، وقد وزع الرسول أصحابه الكرام الى جماعات في العمل، لحمل الماء من الآبار القريبة ولعجن الطين وضرب اللبن.اتخذ الرسول سواري المسجد من النخيل وسقفه من الجريد، وكان ارتفاع المسجد الذي بنيت جدرانه من الطين اللبن ثلاثة أذرع، وكانت أعمدته جذوع النخيل وسقفه من السعف، حتى يتمكن الرسول الكريم وأصحابه من الوقوف على الجذع عند إلقاء الخطبة (2)، وكانت جدرانه مبنية بلبن مضروب، وكان تصميم المسجد يخلو من الزخارف والنقوش، ولم يشتمل المسجد النبوي على مئذنة ولا محراب مجوف، وقد استغرق بناء المسجد النبوي اثني عشر يوما (3).وقد استعان الرسول ﷺ في بناء المسجد النبوي بكثير من أهل الخبرة والمعرفة في صنع البناء في معظم الأقطار، فاستعان برجل من حضر موت كان يحسن عجن الطين، وبرجل من اليمامة يقال له طلق من بني حنيفة، وقال بنيت المسجد مع رسول الله فكان يقول: "قربوا اليمامى من الطين فأنه أحسنكم له مسكا واشدكم له منكبا". وتساوي بالأمتار ١٠٣٠ مترا مربعا تقريبا وظل المسجد النبوي الشريف على نفس حال البناء الذي شيده وأقامه رسول الله ﷺ في أوائل الفترات المبكرة من الهجرة النبوية الى العام السابع الهجري (1)، ومن تلك الحقبة الزمنية إلى عصرنا هذا استمرت الدول الإسلامية بمتابعة شؤون عمارته من ترميم وتشييد، وهكذا كانت المساجد في عهده ﷺ تمتاز بطابع البساطة في تصميمها، ولكنها كانت مساجد عامرة بالإيمان والتقوى،و عرف المسجد النبوي على عهد النبي الكريم باسم مسجد المدينة (2)، مما يؤكد على الغرض الأساسي من بنائه و تشييده ، و هو أن يكون مسجدًا جامعًا لشمل المسلمين في المدينة المنورة و كان بمثابة الدار للحكومة الإسلامية ، ففيه مصلى الرسول عليه الصلاة و السلام و عامة المسلمين من كافة أرجاء المدينة، وكما يتم في المسجد مناقشة أبرز القضايا التي تخص مجتمع المدينة، و فيه يتم عقد المعاهدات مع مختلف القبائل و الشرائح الاجتماعية، و كما يتم تشكيل الألوية للحرب و التشاور لمواجهة الأخطاء الخارجية و التي تؤدي بدورها الى تهديد سلامة مجتمع المدينة، و محاولة اجبار القبائل المعادية لسلطة الرسول في المدينة على الخضوع التام و الانصياع لسيادة الدولة الناشئة و حاضرتها في المدينة.لم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلاة فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي فيه العناصر القبلية المختلفة، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.كما ان الرسول الكريم اتخذ المسجد ليكون ميدانا للتدريب العسكري على القتال، وكما تم اتخاذه دار للقضاء، ولاستقبال الوفود ولمعالجة جرحى المسلمين في بقاع المسجد النبوي الشريف. تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، وقد ارتبط المسجد بفريضة الصلاة.يعتبر المسجد النبوي الشريف من المساجد المشرفة التي تشد اليها الرحال، ومن أهم ما يدلل على فضل مكانتها: الحارث حدثنا محمد بن عمر ثنا سلمة بن وردان قال سمعت أبا سعيد بن المعلى قال سمعت عليًا رضي الله عنه يقول قال رسول الله ﷺ "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام".وقال الحميدي حدثنا سفيان ثنا زياد بن سعد أخبرني سليمان بن عتيق قال سمعت ابن الزبير رضي الله عنهما يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد قال سفيان فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله ﷺ فإن فضله عليه بمائة صلاة.روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله ﷺ قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أن النبي ﷺ قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".أخرج ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ قال: "إن خير ما ركبت إليه الرواحل،وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ:"فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد" ((1)
المسجد النبوي الشريف له مكانته الكبرى و منزلته العظمى و فضله العظيم ، فقد أُنشئ و أسس على أساس التوحيد و تقوى و رضوان الله تعالى؛ حيث يحتل المسجد النبوي مكانة عظيمة في قلوب المسلمين جميعًا، حيث يجتمع فيه المصلون لأداء فرائضهم الدينية و يتقربون إلى الله تعالى بأدائها على أكمل وجه ، ويتعرفون على أحوال إخوانهم المسلمين و يتعاونون فيه على البر و التقوى ، و كما اصبح المسجد مركزًا هامًا لتعليم المسلمين و تثقيفهم، و هكذا تتنوع أدوار المسجد النبوي الشريف و تتعدد أدواره ما بين عبادة و علم و تقديم الخدمات الاجتماعية و الثقافية و العسكرية .في العام السابع الهجري رأى رسول الله ﷺ بعد عودته من غزوة خيبر ازدياد أعداد المسلمين، فأصبح المسجد النبوي لا تتسع مساحته لجميع أعداد مجتمع المسلمين في المدينة، فعزم الرسول الكريم على توسعة مساحة المسجد النبوي لتضم كافة المسلمين، وقد جعله في هذه المرة مربعا 100 ذراع في 100 ذراع، فأصبح بعد هذه الزيادة 2475 مترًا مربعًا فتكون الزيادة التي أحدثها ﷺ 1445 مترًا تقريبا. (2)
من خصائص المدن التجارة، ويعود أصل المدن أنها مركز التبادلات التجارية، والسوق هو مركز الأنشطة التجارية بمختلف أشكاله ومراحله، وعلى هيكل السوق وأنواعه. وأحد ركائز الاقتصاد، ويرجع الفضل في ظهور الأسواق في المدن الإسلامية إلى عهد رسول الله ﷺ، وكان هذا السوق بداية التطور العمراني للمدن الإسلامية، واستمر ذلك التطور في المدن الإسلامية اللاحقة.كان السوق بالمدينة المنورة في عهد النبي ﷺ عبارة عن ساحة أرض خالية، وكان يتسنى لأهل المدينة أن يغتنموا الفرصة ويقيموا الأسواق بلا أجر للأرض، ومنع ﷺ أن يبنى فيها، كان التجار يضعون مظلات مصنوعة من الحصير؛ لكي تحميهم من أشعة الشمس في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء.كان نظام السوق مشابه لسنة المسجد، أي من كان يسبق إلى مكان أو موضع يكون له حتى ينتهي من البيع، وأكد على ذلك ابن الخطاب حينما قال: "الأسواق على سنة المساجد، فمن سبق إلى مقعده فهو له حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه". ويمثلها المحتسب، والمتمثلة الآن في عمال السوق، ولكن في زمن النبي اقتصرت مهام ومسؤوليات المحتسب على الإشراف على جودة المبيعات، وكذلك التأكد من المعاملات القائمة في السوق بما يتناسب مع المبادئ والقيم الإسلامية. (1)
ثالثا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ابتدأت المؤاخاة عند قدوم الرسول ﷺ إلى المدينة، وكانت عملية المؤاخاة مستمرة ومتجددة وفق من يدخل في الإسلام ومن يصل إلى المدينة، شرعت المؤاخاة لتأليف قلوب المسلمين وإرفاق بعضهم البعض، لم تكن المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين فقط، بل كانت المؤاخاة أيضا بين المهاجرين أنفسهم، ومن الأمثلة على ذلك مؤاخاة النبي زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب وكلاهما كانا من المهاجرين.
كانت المؤاخاة قائمة على ركيزة ولم تكن عشوائية؛ حيث آخى الرسول ﷺ بين من يملك المال والقوة والقبيلة ومن لا يملكها، في دار أنس بن مالك، نصفهم من المهاجرين، والنصف الآخر من الأنصار، آخى الرسول بينهم حتى يزيد من ترابطهم ويواسي الأنصار إخوانهم المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأولادهم وعشائرهم واغتربوا عن بلادهم في سبيل نصرة الإسلام الذي هو دين الله الحق، قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِين) [الأحزاب: 6]، فرد التوارث إلى الأرحام دون عقد الأخوة.1)
ضرب الأنصار أروع الأمثال في التآخي والتكافل والإيثار، ورحبوا برسول الله والمهاجرين أفضل ترحيب، فقد ورد ذكر ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وكانت الأنصار تتسابق في مؤاخاة المهاجرين، وكانوا يتقاسمون معهم أموالهم وبيوتهم ويؤثرون على أنفسهم (2)، فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع - وكان كثير المال - فقال سعد: قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين -نصفين- ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلّت تزوجتها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك. قال: (ما سُقت فيها) قال: وزن نواة من ذهب -أو نواة من ذهب – فقال: (أولِم ولو بشاة). (4)
هذا خير دليل على تضحية الأنصار وإيثارهم وودهم تجاه المهاجرين، وقدّر المهاجرون ذلك، فلم يستغلوا ذلك ونالوا قدر حاجتهم.رابعا: الصحيفة (دستور أهل المدينة)
بعد أن قام رسول الله ﷺ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبعد أن استقر في المدينة، أراد تنظيم علاقات أهل المدينة، فكتب وثيقة سميت ب صحيفة المدينة، ولها أيضا مسمى آخر وهو دستور المدينة، وتعد هذه الوثيقة ركيزة أساسية مهمة قام بها النبي ﷺ؛ فلم يترك ﷺ مجالاً لعادات وتقاليد الجاهلية، وبذلك أيضا تجنب إثارة اليهود للفوضى.أصل هذه الصحيفة ثابت بالأحاديث الصحيحة عن الأئمة لعدة أسباب منها إثبات المحالفة بين المهاجرين والأنصار، وإثبات موادعة اليهود، وتم الحصول على الصحيفة عبر وسائل متعددة، ويدل أسلوب الصحيفة على صحتها، حيث يتكون نصها من جمل قصيرة وغير معقدة وتحتوي على كلمات وعبارات مألوفة من زمن النبي، وأسلوب الصحيفة يشبه إلى حد كبير أسلوب الكتب النبوية الأخرى، مما يمنحه مستوى آخر من التصديق، (1)
ابن اسحاق كان أول من روى نص الصحيفة كاملًا التي قام بنقلها ابن هشام، (2) وتنص هذه الصحيفة على:

1. ((هذا كتاب من محمد النبي ﷺ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحِق بهم وجاهد معهم.2) أنهم أمة واحدة من دون الناس.3) المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.4) وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.5) وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.6) وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.7) وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.8) وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.9) وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.10) وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.12) وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.13) وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا ينصر كافرًا على مؤمن.15) وأن ذمة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.16) وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسود غير مظلومين ولا متناصر عليهم.17) وأن سلم المؤمنين واحدة، إلا على سواء وعدل بينهم.18) وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعض.19) وأن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.20) وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، إلا أن يرضى ولي المقتول وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه، وأن من نصره، أو آواه، فإن مرده إلى الله وإلى محمد.24) وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.25) وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.26) وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.29) وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.30) وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.32) وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.33) وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر من دون الإثم.35) وأن بطانة يهود كأنفسهم.36) وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لا يؤثم أمر امرء بحليفه، وأن النصر للمظلوم.39) وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.40) وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.41) وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.42) وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.43) وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.44) وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.45) وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.47) وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله)).
   من خصائص هذه الصحيفة أنها تجمع بين المسلمين وتجعلهم أمة واحدة، فالإسلام يوحد ولا يفرّق، مما يتيح التكامل والوحدة بين المسلمين بجميع أشكاله، وأيضا من خصائص الصحيفة أنها ترسِّخ حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في حرية المعتقد والدين، وحرمة دماء المسلمين، وحق رعاية الجار سواء كان مسلماً أو كافراً،
   عمل الرسول ﷺ إلى تغيير اسم المدينة، ولو أبقى عليها يثرب لكان للأوس والخزرج دون غيرهما، ولو أطلق عليها دار الهجرة لكانت للمهاجرين فقط، فإن سماها الدولة المحمدية لكانت للمسلمين دون غيرهم، فسماها المدينة، وهو اسم شامل جامع لكل الناس.خامسا: محالفات الرسول مع القبائل الواقعة على الطريق بين مكة والمدينة
   بعد استكمال أسس تنظيم مجتمع المدينة ووضع أسس سياستها الداخلية تمكن النبي ﷺ من إقامة علاقات ودية، وبخاصة مع القبائل القاطنة على طريق القوافل التجارية بين مكة والمدينة،والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم، وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم. كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها، أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو مساعدة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها، ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف. (1)
   ولا شك أن عقد تلك المحالفات كانت خطوة عبقرية من جانب الرسول الكريم، إذ حققت المحالفات مع القبائل انتشار الأمان في محتمع دولة المدينة، وحمايتها من الهجمات العدائية، وكما يهدف الارتباط بالأحلاف ضرورة تنبيه الرسول وأصحابه المسلمين بالمدينة في حالة قيام قريش بشن الغزوات المفاجئة،فيعتبر تنظيم علاقات الرسول في مجتمع دولة المدينة مع القبائل الواقعة على حدود المدينة وأطرافها ركيزة مهمة في تخطيط مستقبل الدعوة الإسلامية، ومن أهم نماذج المحالفات التي حرص الرسول على تأسيسها مع مختلف القبائل:
   وقد تم عقد حلفها في الشهر السابع من الهجرة. هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله. (1)
   بعد أن استقر مقام المسلمين في المدينة المنورة، واخذوا في تدعيم ركائز الإسلام في مجتمع دولة المدينة، وأخذوا يحيون الإسلام المنزل عليهم قولا وعملا، وظهرت قوتهم في دولة للإسلام، والدعوة لدين الله تعالى. (2)
   فأخذوا بإعداد العدة للقضاء على المسلمين في المدينة المنورة والقضاء على نفوذهم تمامًا، وشعر المسلمون أن قريشًا تتعامل مع القبائل المحيطة بالمدينة، والتي تسكن على طريق مكة، للتحرك في أمان ويسر، وتنتقل بقوافلها التجارية في طمأنينة واستقرار، وفي نفس الوقت تحرم المسلمين من الخروج من المدينة، ودعوة هؤلاء الناس.و قامت قبائل قريش بدورها الى القيام بتحريض أعراب البوادي و تأليب قبائل العرب و تحفيز العنصر اليهودي لتكوين مجموعة معادية و هدامة لدولة المدينة، وبذلك تعاون الأعراب معها تصديقًا و تأييدًا للفكرة التي أشاعتها قريش ، و كما أخذت قبائل قريش بالتفاخر باستيلائهم على أموال المهاجرين و سلبها منهم من غير رادع لهم، و تعتبر جميع تلك الأساليب التي اتخذتها قريش من المؤثرات التي أثرت على نفوس العرب و دفعتهم إلى البحث عن حقوقهم المسلوبة من أيدي الطغاة و استرجاعها منهم. فرأى أن هذه الظروف و التحديات الصعبة التي مر بها المسلمون تحتاج الى تطبيق تصرف عملي ليصحح مفاهيم الناس، ويظهر القوة الإسلامية، ويبين لقريش أن حقوق المهاجرين لن تضيع، وأن قوة المدينة ثابتة بموقعها، وبرجالها المؤمنين، وبصدق ما تدعو إليه، وفوق ذلك بمعية الله لها.وقد اقتضى هذا الوضع حتمية القيام بما عرف بـ “السرايا والغزوات".السرية: هي عدد مسلح من الرجال لا يقل عن خمسة ولا يزيد عن أربعمائة، يسبقون الجيش للحصول على المعلومات والأخبار، أما الغزوة فإنها تخرج ظاهرة غالبا (1)
   يقول ابن الأثير: السرية من الجيش الطائفة يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين الأشداء وتخرج خفية وسرا، وقد اصطلح علماء السيرة على أن الجماعة التي يقودها رسول الله ﷺ تسمى "غزوة" والجماعة التي يقودها أحد الصحابة تعرف بـ “السرية". (2)
   كان على الدولة الإسلامية الناشئة أن تستكمل عناصر قوتها، فبدأ رسول الله ﷺ بإعداد السرايا لترسيخ دعائم الدولة الناشئة وتدعيم قوة نفوذها وسلطتها.في بداية تكوين السرايا، منح الرسول ﷺ أولوية بعض السرايا للمهاجرين، وتعود أسباب ذلك الى مقاومتهم الشديدة لشتى أصناف عذاب قبائل قريش بمكة وكما قاسوا آلام الهجرة وفراقهم لموطنهم، وكما استطاعوا من خلال السرايا أن يثبتوا قدرتهم العظيمة على الدفاع عن أنفسهم ودرء الأخطار التي تحيط بهم.حيث تقوم السرايا بالدوريات الاستطلاعية و ذلك للمحافظة على حدود المدينة المنورة و التصدي لأي هجمات عدائية من شأنها تهدد كيان الدولة الناشئة، و كما تتطرق السرايا في بعض الأحيان بإيقاع الضرر لمن يعتدي على حدود المدينة المنورة، و كان الهدف الأسمى من أعمال السرايا هي تقوية مجتمع المدينة الداخلي ( الجبهة الداخلية) لتوفير مقومات الأمان و الحماية لأفراد مجتمع المدينة و درء مخاطر الأعداء (1) ، فأصبحت السرايا الإسلامية الحصن المنيع لمسلمي المدينة و التي تقوم بدورها الفاعل بمنع تجارة قريش من المرور بأراضي الدولة الإسلامية، و في ذلك اخطارا شديد لقبائل قريش بأن أراضي الدولة الجديدة التي أقامها الرسول لها كيانها المستقل و سلطتها القوية التي تتوجب عليهم احترامها ، و التي بمقتضاها يترتب عليهم اشعار ها بمرور تجارتهم .وكانت مجمل بعوث الرسول الكريم ﷺ وسراياه ثمانية وثلاثين،1) غزوة عبيدة بن الحارث: الى رابغ، وهناك حدثت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والمشركين "وهو أول يوم التقى فيه المسلمون والمشركون في قتال، ولكن القتال اتخذ طابع المناوشة بالسهام فقط، فكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أول العرب رمى بسهم في سبيل الله"٤ في تلك المعركة التي لم تستمر طويلا إذ قرر الفريقان الانسحاب من أرضها (3)


2. غزوة حمزة بن عبد المطلب: ساحل البحر من ناحية العيص،اختلف أهل المغازي في أول السرايا والبعوث، فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه١ وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي “أول راية عقدها رسول الله ﷺ في الإسلام لأحد من المسلمين أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله ﷺ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.3) غزوة سعد بن أبي وقاص (الخرار)


3. غزوة عبد الله بن جحش (نخلة)
   وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين (1) ، و كان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، و من حلفائهم : عبدالله ابن جحش و هو أمير القوم ، و عكاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد بن خزيمة، حليف لهم، و من بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص، و من بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، و واقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم، و خالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم و من بني الحارث بن فهر : سهيل ابن بيضاء .وكان رسول الله ﷺ قد كتب له كتابا، ثم ينظر فيه فسار عبد الله، فترصد بها عير قريش،سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا، فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها، لم يتخلف عنه منهم أحد. فمرت عير لقريش تحمل زبيبا، وفيها عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان،فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان، والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير، والأسيرين، إلى المدينة، وقد عزلوا من غنيمتهم الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، ويعد عمرو بن الحضرمي أول قتيل في الإسلام، وقد أنكر رسول الله ﷺ ما فعلوه لأنهم اعتدوا في شهر حرام وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، ومنع التصرف في العير والأسيرين ثم ردها لأصحابها
   فكان الهدف من سرية عبد الله بن جحش هو الوصول الى نخلة واستطلاع أخبار قريش والحصول على المعلومات عنها، كما نص ذلك كتاب رسول الله، ولم يكن الهدف قتال قريش (1)، و لكن نتائج تلك السرية تمثلت في اندفاع عبدالله بن جحش الى القتال في الشهر الحرام، فلم يكن الهدف من إرسال السرية هو قتل أفراد من قريش، و إنما هدفها الأساسي هو الاستطلاع، و كما وقع في هذه الغزوة أول قتيل من المشركين وأول غنيمة وأول أسيرين، وقد فادى الرسول ﷺ هذين الأسيرين فأسلم أحدهما وعاد الثاني أدراجه الى مكة المكرمة (2)
   مقاصد السرايا وأهمية تكوينها في مجتمع دولة المدينة:
   يتبين من السيرة العطرة للرسول محمد ﷺ أنه كان يتوخى من إعداد وتكوين السرايا في مجتمع دولة المدينة تحقيق أهداف كثيرة من أبرزها:


4. أسهمت السرايا بشكل كبير في كسر الحاجز النفسي لدى المسلمين ، و كما امروا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة تلك المدة و من المعلوم أن ترك الدفاع عن النفس و عدم القتال قد يورث ضعفًا في النفس أو شعورا بقلة الحيلة و الغلبة، و قد يؤدي ذلك الى شعورهم بالذل و الهوان، فجاءت توجيهات الرسول الكريم بإعداد السرايا باعتبارها وسيلة فعالة تهدف الى الصعود التدريجي بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة والصبر الى الاستنفار و النهوض ، فقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة مشردة، لها جيش ينفذ مخططات ويحافظ على الأمن ويرهب الأعداء ويحفظ الكرامة وهكذا، فكانت فعلا نقلة نفسية في منتهى الروعة. (3)
   وكما دربت الصحابة على فنون القتال، ففرسان العرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، ولكن التدريب المستمر لأصحاب الرسول على فنون القتال يكسبهم خبرة فائقة على مواجهة العدو في ميادين الحرب والتغلب عليه، خاصة أن المسألة ليست مجرد استعراض،3) تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، بقطع طريق تجارتها إلى الشام، وأساس قوتها وازدهارها وسيادتها، وبدون التجارة لن تقوم لها قائمة، فحرمانها من نشاطها التجاري هو الموت بعينه، وهو أمر لن تحتمله قريش، ولا جدال في أن النبي ﷺ لم يكن يهدف أن يهلك قريشا ويدمر حياتها، وأن يذيقها طعم الكأس التي جرعتها المسلمين في مكة. (2)
   فقد زرعت التحركات العسكرية الخوف و الفزع في قلوب أفراد قريش، يدلل ذلك على قيام أعداد هائلة و كبيرة من الرجال على حراسة القوافل في ذهابها و إيابها الى الشام، حيث استطاع المسلمون أن يبقوا قريش على حذر، فكان من المتوقع ان يصادف حراس القوافل و قادتها المسلمين في أي لحظة مفاجئة