لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

قلنا إن كتاب دلائل الإعجاز كان الكتاب الأخير وذكرنا أن عبد القاهر اللفظ شغل في دلائل الإعجاز بالرد على القائلين بأن بلاغة الكلام ترجع إلى لفظه. وأقول إن هذه القضية أعنى بيان فساد القول بأن اللفظ هو مرجع البلاغة في كانت حاضرة عند الشيخ وهو يكتب أسرار البلاغة حضوراً لا يقل عن أسرار حضورها في كتاب دلائل الإعجاز ، وإنما الذي يختلف هو أنها في الأسرار البلاغة سيقت لتحرير القول في معرفة تفاضل الأقوال . وكيف يكون هذا التفاضل : قائما على التحري والعدل في قسمة حظوظها من الاستحسان ، وإنما المسألة عنده معرفة طبقات الشعر والبيان ، أعنى نقد أدبى خالص ، فلما انتقل إلى کتاب الدلائل ، وطبقاته من الجهة التي تناولها في الكتاب وهى التشبيه والتمثيل والمجاز
قال الشيخ في الصفحة الثانية من فاتحة الكتاب « ومن البين الجلى أن التباين في هذه الفضيلة والتباعد عما ينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ ، هذا واضح في أن الشيخ جعل إخراج اللفظ من قضية التباين في البيان رأس كلامه ، وأتبع ذلك بمثاله الذي كرره في الدلائل ، وهو أنك لو عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر وفككت روابط كلماته ، لصار هذا الشعر أو النثر قدرا مهلا من الكلمات لا دلالة له ، ولذهب كونه شعرا ، وذكية لأنها تعنى نقض البناء اللغوى المدروس ، ويرجع إلى حالته قبل أن تدخله صنعة الأديب ، أو الشاعر ، ثم يعاد البناء كلمة كلمة لنتعرف على صنعة صاحب البيان خطوة خطوة ، وربما كمن فيه الشعر ، لأنه هو الشجي وهما الخلى وإنما يبكى الشجي الخلى إذا كان نوحه ، نوحا ينفذ إلى كل قلب فينوح معه ، والصاحبان لم يبكيا ليعيناه على البكاء لأنه يكون بكاء تمثيل فارغ ، والحقيقة أن الشاعر إذا وقف واستوقف وبكي واستبكى إنما يكون الأمر أجل وأعم ، وكل حب ، وكل شمل ، كل ذلك ينتهى إلى أن يكون ذكرى ، ولا يملك الإنسان في مواجهة هذه الحقيقة الغالبة : إلا الحنين وإلا أن يقف يبكى من ذكرى حبيب ومنزل »
وهى يقظة الذهن ، وقدح العقل ، والتغلغل ، والنفوذ إلى المكمن ، وربما كانت الصور الحية البهجة والمفعمة بالحب والصبوة والفتوة التي تعطيها لك هذه القصيدة هي شيء مما آل إلى ذكرى وظلل
لم يأخذ حقه من النظر والمراجعة ، ولست أعرف في دراسة العلم سبيلا يفضى إلى شرفه ونوره وجلاله ، وإعطائها حقها من النظر ، والتفكير والمراجعة ، اللغة وهذا معناه أن اللغة ليست وسيلة التعبير عن المعاني والخواطر فحسب ، وهي التي تُشعل شرارتها ، وعزلت عنها تيار الحركة ، وهو أن يصير الإنسان الحي الحساس الشاعر المبدع والكاتب الذى يفرى بخواطره وقلمه عن وجوه الحقائق فريا ، فاللغة هنا روحه ، يعنى انتزاع الروح والحس والحركة والإبداع
وهواجس النفس ومنابع القلب ، راجع إلى مجرد اللفظ ، وقاده الحديث إلى السجع ، ثم التطبيق ، نقض والاستعارة ، وكان هذا هو خط سير الكتاب ، لأن الاستعارة فتحت الباب للتشبيه والتمثيل والفرق بينهما إلى أخره ، والذي أريده هنا أن كل ذلك لتحقيق حقيقة واحدة ، وهو القول بأن فضيلة الكلام راجعة إلى مجرد اللفظ وإن كان هنا لم يغمس قلمه في محاورة المعتزلة، ولما استحكم هذا عنده وانتقل إلى الإعجاز حاور شيوخ المعتزلة ثم إن الشيخ لما ذكر الجناس اجتهد في أن يستخرج له سريرة معنوية يرجع إليها حسنه ، ولم أعرف أحدا قبل اللفظ عبد القاهر حاول أن يجد تفسيرا معنويا لهذا الفن الذي هو صوت وجرس ولكن عبد القاهر بتغلغله وإيغاله حاول أن يلتقط أطياف معاني هذا الرنين ، ما قبل وموضوع الجناس هذا محتاج إلى وقفة لأن البلاغيين لما حددوه بالاتفاق في أنواع الحروف ، واعدادها ، وهيأتها ، وكأن هذا الحد الذي وصفوه هو حد الرشد الذي يكون به التشابه جناسا ، وما قبله من صور تراها في الكلام كأنها طفولة تجانس ، تُلْغَى ولا تُعد مع أن منه ما هو أمتع من الجناس الاصطلاحي ولم يذكر ذلك أحد بعده إلا من شاموا كلامه ، وراموا رومه
مع أنها ليست جناسا لأنها لم تبلغ حد
تأمل قول أبي حيان يذكر خلفاء بني العباس « كان المنصور أنقذهم
والمأمون أمجدهم والمعتصم . أنجدهم والمعتضد أقصدهم » الجناس الاصطلاحي
الفواصل الأربع في الوزن وتكرار حرف الدال مع تكرر الضمير . الوحوش حشرت » . ( العشار عطلت قدر النغم . فيما قبل فهدى . أخرج المرعى » . ثم تأمل قوله تعالى في سورة هود عليه السلام بعد ما كان من هود في الجناس
أُمَمٌ سَنَمَتِعَهُم ثم يمسهم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (1) تأمل الآية الأخيرة أهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أهم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . *
وتأمل الميمات سلام منا أمم ممن معك منا عذاب أليم ، ومع هذه الميمات المدغمات ، غزارة النغم في شعر أبي تمام كشفتُ قناع الشعر عَنْ حُرِّ وَ وَجْهِهِ وَطَيِّرْتُهُ عَنْ وَكْرِهِ وَهُوَ وَاقِعُ بُغرِّ يَرَاهَا مَنْ بَرَاهَا بِسَمْعِـــــــه ويدنو إِلَيْهَا ذُو الحِجَى وَهُوَ شَاسِعُ يود ودادًا لو أن أعضاء جسمه إذا أُنْشِدَتْ شَوْقًا لَهُنَّ مسامع ولا شك ان وحدات النغم التي تتوافر في الكلام فيما قبل الجناس الاصطلاحى ذات أثر كبير في هذا الذي قصد اليه أبو تمام وتأمل من شعره هذه
وكان أبو تمام شديد الحفاوة بما تسمعه الأذن ، ويذكر أن
وأن الأذن تصير عينا ، وبدلا من أن تسمع نغما ترى في هذا النغم مشاهد وصورا ، إلى شعره تأخذه أخذة النغم ، وأريحييته ، سأجهَد حَتَّى يَبْلُغَ الشَّعرُ شَاوَهُ وَإِنْ كَانَ لِي طَوْعًا ولست بِجَاهِدِ
راجع الشين في الشعر وشأوه ، والعين والهمز وهما اختان والجيم مع
الشين أعنى إما أن ترى حروفا متكررة ، أو حروفا متقاربة ، تأمل الحاء والهمزة وتكرار العين والنون وقوله فإن أنا :
بسياحة تنساق مِنْ غَيْرِ سائق وتنقاد في الآفَاقِ مِنْ غَيْرِ قائد
تأمل السين والقاف وكيف كانت الحروف تتنادى فجاءت كلمة ننساق لما
ذكرت سياحة واشتق منها السائق وتتابعت القاف فتداعت تنقاد بعد تنساق واشتق منها قائد على حذو الأولى ثم جاءت الآفاق لمكان هذه القافات ، وراجع علو النغم في هذا البيت وصلته بمعناه وأنه شعر مسموع ، وأن رنينه
سياح ، ينساق من غير سائق، جَلامِدُ تَخْطُوهَا اللَّيَالِي وَإِنْ بَدَات لَهَا مُوضِحَاتٌ فِي رُؤوسِ الْجَلَامِدِ وليس لهذا البيت رنين كالبيت الأول وكأن رنينه حبس في صم الصلاد الجلامد ، ثم كيف دعت الشين في شردت كلمة شانيء ولم تأت حاقد ثم ترى قافا واحدة في هذا البيت تدعو في البيت الذي يليه جملة هذه القافات : أفادت صديقا من عَدُوٌّ وغادرت أقارب دُنْيا مِن رجال أبا عد قال صديقا لما قال أقادت ولم تصلح مكانها صاحبا وقال في غيرها :
أتاني مع الركبان ظَنَّ طَنَتُه لَفَفْتُ لَهُ رَأي حَيَاء مِن الْمَجْدِ راجع تكرار النونات في الشطر الأول ويدور حول الظن وكيف ساعدت هذه النونات على تأكيد الظن ، ثم غابت النونات فى الشطر الثاني لأن الظن غاب فيه ، ونذالة وخساسة » انظر إلى قوله الجيد :
وكان الشكر للكرماء خصلاً وَمَيْدَانًا كَمَيْدَانِ الجِهَادِ
عليه عُقْدَتْ عُوذِى وَلَاحَتْ مَوَاسِمُه على شيمى وعادى
تأمل الكاف في البيت الأول وكيف ارتفع بها رنين كلمة الشكر والكرماء
ثم تأمل العين في البيت الثانى عليه . عقدت . عادى ، وهذا الضرب فى شعر البحترى أغزر وأعرب تأمل قوله في قومه طي : منْزِلُ قارعُوا عَلَيْهِ العماليق وعادًا فِي عِزّها وثــــــــودا
راجع العين وكيف دعتها العماليق وعاد فقال قارعوا العماليق ولم يقل حاربوا ، ثم قال عزها ولم يقل مجدها عبادة
وليس قبل عاد إلا
نغم ما قبل الجناس في شعر العرب
أصل الناس عبد شمس شمْسُ العَرِيبِ أَبُونَا مَلك الناس واصطفاهم عبيدا والعريب هم العرب ، نوح عليه السلام بدليل قول هود صلوات الله وسلامه عليه لقومه عاد واذكروا
إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » . وقد ذكر البحتري جدين من آبائه عبد شمس ويعرب ووصف عبد بأنه
تأمل يعرب أعرب وقال بعده : سائل الدَّهْرِ مَنْ عَرَفْنَاهُ هَل تعرف منا إلا الفعال الحميدا قد لعَمْرِي سُدْناه كَهْلاً وشيخا وَشَبِيبًا ناشتا ووليدا وَطَوِينَا أَيَّامَهُ وَلَيَالِه عَلَى الْمكرمات بيضا وسودا لم نزل قط من ترعرع نكسوه ندى لينا وبَأْسًا شَدِيدا
راجع العين في الأول عرفناه يعرف . وقد حكموا يوما كل الناس وقد كنت أقرأ على الطلاب شواهد اسم الإشارة
وسألت عن الكلمة الأم في هذا البيت فأجابني طالب ذكي وقال هي كلمة فجئنى لأنها هي التحدى الذي قصد إليه الفرزدق فقلت له ألا ترى شيئًا في البيت يتصل بهذه الكلمة ؟ فقال لقد تكرر حرفها الأول الذي هو الجيم في قوله إذا جمعتنا يا جرير المجامع ، وهذا يعنى حرص الشاعر على إشاعة رنين
هذه الكلمة الأم واتصاله بآخر البيت ، والذي ذكره عبد القاهر في وجه حسن الجناس وإن كان منصبا على المستوفى منه والناقص ويجرى على بقية الجناس على وجه من المقاربة لا يشمل هذا الصنف الذي ذكرته وهو التجانس الذى قبل ذلك مما تراه مشاركة في حرف القيمة أو مقارية في مخرج ، وهذا الذي ذكرته هو من الجناس الاصطلاحي بمثابة البلاغية العلقة أو المضغة المخلقة ، أو غير المخلقة أو قل هو الجناس قبل أن يشعر من للجناس و قولهم ثغر الطفل إذا نبتت أسنانه وبابه كتب وفتح ، فجناسنا هذا لم يثغر بعد
وله لا شك حظ من الطفولة والحسن 7 يفيد والجناس المستوفى في مثل ( ناظراه فيما جنى ناظراه » إنما استحسن لأن الكلمة الثانية لما كانت في صورة الكلمة الأولى توهم المخاطب أن القائل لم يزده بها فائدة ، فإذا ما راجع وأدرك معناها المغاير ، كان يكون قد حصل على الفائدة من غير أن يتوقعها ، وكانت كالنعمة المفاجئة ، وكان المتكلم الذي يُظن أنه لا قد صار يعطى ويوفى ويزيد ، وهذه الحالة النفسية التي يُحدثها الجناس عند من يخاطبه هي فائدته وهي وجه حسنه ، لما كشفت له عن وجهها فجأته ، وأدهشته، وأثارت نشوته وطربه، وسروره، هكذا يقول الشيخ وكأن العقل يفرح بالفكرة الجديدة التي تحملها إليه كلمة جديدة وأن الكلمات تعلم هذا من شأن العقل فتعابثه وتخاتله وتتنكر له ويلبس بعضهن ثياب بعض، فإذا حَسَر لثامها ورأى منها حسنها ودَلَّها ، رأى حورية جديدة تعابث وتخاتل ، هذا هو ما فعلته كلمة ناظراه الثانية التي حسبها قارئها وسامعها هي ناظراه الأولى ، وكأنه تحقيق إلى نظر فى الناظرين الذين أحدثا بدلهما وحسنهما وسحرهما هذه الجناية ، وهذا نوع من الجريمة حلو لطيف . حتى تصل إلى نهاية الكلمة ، وعند هذه النهاية يكشف الغطاء ، وتفاجأ بالجديد بعد اليأس منه ، فإذا كان الجناس مما وقع الاختلاف في أوله ، وَهَلَّ وحَلَّ وسمع وجمع ونهر وبهر وعبث وكتب وقعد ورعد فإن الجرس الإيهام فيه والمخاتلة ، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مبدلا من بعض حروفها غيره ، وإن كان لم يرجع اليها بعد ذلك ، وفي كتابات عبد القاهر إشارات إلى موضوعات كثيرة نبه إليها ولم يمهله الأجل لإتمامها ، وقد عاد الشيخ. رحمه الله إلى مسألة اختلاف درجات المشابهة في الجناس فقال ( اعلم أن التوهم على ضربين ، ضرب يستحكم حتى يكون اعتقادا . وضرب يجرى في الخاطر » وأحسب أنه يدخل في الثاني الذي يجري في - و الخاظر هذا التجانس الذى لم يثْغُر بعد كما في قوله تعالى ﴿ - إِذَا الوحوش حشرت ) وسبح اسم ربك إلى آخر ما قدمناه ، إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشبه التام والشيئين يشبه أحدهما الآخر على ضرب من المقاربة فاعرفه » الشبه التام مثل سميته يحيى ليحيا ، وإذا كنت تتردد في ذلك فراجع أصول هذه الكلمات وهى على وعقد وعاذ ، وعذوبته ورنينه ونغمته ؟ وقد قلت إنه إذا لم يكن جناسا قد بلغ رشده فلنعتبره جناسا لَمْ يَثْغَر بعد أو تعتبره مضغة مُخَلَّقة أو غير مخلقة وان لم يمكن فلنعتبره علقة وهكذا ولنا فيما قبل الميلاد فسحة ، المهم الاتهدر هذا الحفيف اللغوى لأن له حظا مما قاله الشيخ ، وأنه لا محالة مما يقع من المرء في فؤاده، ثم إن تفسير رنين الجناس بالذي قاله الشيخ هو مع جودته وإصابته تفسير
لأن المخادعة التي هي محور هذا التفسير إنما هي بيان الزاوية واحدة من صور الجناس ، وينفث في عقدها ما ينفث من حيث هو جرس وإذا كنا نتكلم عن غموض مسائل البلاغة في التأليف والنظم ، وما
لهى أشد غموضا ، لأنها ليست من العناصر ذات الدلالات في العقلية ، مثل رجل وفرس ، وإنما هي أصوات منتزعة من الكلمات ، وصارت الجناس شيء جرسا فحسب ، يعنى هى لحن وتطريب لا يخضع للدلالة العقلية ، وقديما حكى أبو إسحاق الموصلي : قال لي المعتصم أخبرني عن معرفة النغم ، وبينه لى ، ولا تؤديها الصفة » بعد تفسير الشيخ
مما بَلْتَبس به من العناصر الدالة ، فعولن مفاعيلن ، وكل هذه أصوات لا غير ، ولم
السجع جرس صرف وقد رأيت عبد القاهر في باب السجع لا يذكر شيئا كالذي ذكره في الجناس، وليس لعبك باللغة ، ونغم بحت ، وموسيقى خالصة ، حتى خدعت وختلت بحت
يحاول أحد أن يفسر تنوع البحور ، كالقول بأن بحر الطويل أقرب إلى المديح ، وأن الكامل أقرب إلى النسيب إلى آخره . ففتحت للشيخ باب الاجتهاد . قلت الذي في السجع حفيف اللغة لا غير ، تأمل قول كاتب يذكر الرجل الأديب الأريب
ولا يرسله في غير فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه حقه ، وأن ينطق بعلم ، ولا يعجل في الجواب ، ولا يهجم على الخطاب » . والمنار أو قول الجاحظ يذكر السلف الطيبين والجلة من التابعين الذين كانوا مصابيح الظلام ، وقادة هذا الأنام ، الذي يرجع إليه الباغي ، والحزب الذي كثر الله به القليل ، وأعزبه الذليل ، وزاد الكثير في عدده ، وهم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة ، وشحذُوا بمنطقهم الأذهان الكليلة » واقرأ كلام عبد القاهر ، وهو يعالج هذه القضية وقد فتحها بقوله : ( وههنا أقسام قد يتوهم يتوهم في بدء الفكرة ، أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس ، ومنصرف إلى هنا لك » . إلى آخر ما لا يُحصر وهو من طبع اللسان وطبع الناس وجزء من ماهية البيان ، ولا تستطيع أن تحدد له معنى إلا على حد ما قال أبو إسحاق للمعتصم . والذي قاله فيه الشيخ عبد القاهر هو ضرورة أن يكون المعنى هو الذي
طلبه ، ولا تجد عنه حولا ) وهذا الكلام ليس بيانا لمزية السجع وليس فيه أي إشارة إلى مناجاة العقل النفس ، وأنا حريص على هذه الجملة المعطوفة لأن الفرق كبير بين اللعبين لعب اللغة بالعقل لعب مشروع ، رفيع ، ورائع ، أما لعب العقل باللغة فربما كان فيه عبث ، ولا تحسبن أن كل لعب عبث لأن هناك من يلعب بالنار وهناك من يلعب بمصاير الشعوب ، والحياة الدنيا لعب ولهو يعنى هى مسرح لهذا والمهم أن كلام الشيخ هنا كلام آخر وقصاراه أنه يدلك على الطريق الذي يكون فيه السجع حسنا مقبولا ، وإنها لتثقل القيمة و تفسد ، وكل فنون البلاغة حُسنُها مشروط بأن تكون البلاغية معنى المطابقة التي هي أصل العلم ، وجذره ، هذا واعلم أن السجع لم يكثر في كلام المحدثين فحسب ، وإنما كثر في كلام القدماء، بل إن عبد القاهر ذكر أنه لم يكثر فى كلام أحدكما كثر في كلام القدماء قال : ولست تجد هذا الضرب يكثر في شيء ويستمر كثرته واستمراره في كلام القدماء وهذا غير الشائع فى كثير من الكتب ، وأنا أريد أن أتأمل قوله « لا تبغى به بدلا ولا تجد عنه حولا » لأنه قاطع في أن توافق الأصوات في الفقر ، هذا التوقيع الصوتي البحت ، جزء جوهري في الدلالة ، وأنك لو حاولت أن « تملص » منه - من باب طرب، وهي عربية فصيحة - لأدخلت على كلامك من الثقل والتكدير والتنغيص مثل ما تدخله عليه لو تكلفته ، وأقحمته على معناك ، وهذا معناه أن هناك معانى لا يُعبّر عنها إلا بهذه المقطوعات اللغوية المنغومة وليس باللغة
اللفظ الحفيف جزء لا محيد لك عنه ولا يجوز أن تبغى به بدلا . وحين تراجع شأنك وأنت تكتب بعناية وتركيز تجد المعاني تنبعث في نفسك ولها في بعض أحوالها رنين ، وكما توجد الألفاظ مرتبة في اللفظ على وفق معانيها في النفس ، الدال
وحدها عارية صرفا من هذا النغم ، المقام يفرض عليك لغة ذات حفيف ، وقد حرر عبد القاهر مسألة طلب المعنى للسجع واستدعائه إياه بتحليل كلمة للجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان . أو كان يمكن الاستغناء عن حرف الجر فتنصب الكلمة فتتوافق مع القرينة السابقة ، وهكذا يذكر تحويرات خفيفة في النظم فيتولد منها السجع ، وليس تشاكل الألفاظ ، وإنما يكون ذلك حين تدخلها في باب التحليل ، يعنى تفككه أولا ثم تبنيه على وجه آخر ، وهذا هو الفهم الصحيح للبلاغة ، ولا يجوز للدارس الجاد أن يستروح إلى الأمثلة المصنوعة ، ونسد بهذه البدائل حاجة الدرس البلاغي ، ولكن يجب تجاورها بسرعة ، وفي كلام رسوله علم عن الصور والشواهد والبدائل أيضا وقد ساق الشيخ سياقه إلى ذكر المقدمات الطللية ، وقال في ذلك كلمة الله شريفة قال رحمه الله :
والخطب - أراد مقدمات الكتب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان مقدمات والأسجاع ، فإنها تُروى ، وتتناقل تناقل الأشعار ، والإخبار عن فضل القوة ، وقد وضع الأستاذ محمود محمد شاكر خطوطا تحت هذا النص وليس من عادته ذلك في الكتاب إلا حين يريد أن يدل على معنى جيد يجب على القارئ أن يراجعه وأن يحرص عليه، وهذا النص واضح الدلالة على أن المقدمات الطللية وهى فواتح القصائد يروم منها، واللغة، وتتألق وتأخذ حظها من التجلى والتألق ، وعن التثقيف ، والصقل وغير ذلك مما هو
وهذا أصح تفسير لهذه المقدمات التي كثر الكلام فيها ، واستوقف ، ومنزل ، من جهاته الأربع ، لأن هذا ليس إلا بناء شعر لا غير ، ووقائع ، وأحداث عشق ، كما أنها ليست تجريبا لغويا ، وعن صفو هذه الشاعرية ، ونوعها ، وحسبها أنها جعلت من خرائب الديار فنا زاخرا بالشعر ومفعما بالحياة والحنين وكان الرواة يعرفون ذلك ، ومعه علقمة الفحل ، وكانا في خيمة امرئ القيس وأم جندب جُنْدَب في خدرها من وراء الشاعرين ، وكانا قد تذاكر الشعر ، فقال امرؤ القيس قل وأقول ، خفيف العجزة ، سريع إلا راقة بطيء الإفاقة ، قال الراوى فعرف من نفسه صدق كلامها ، وجلس في خيمته فجاءه علقمة ، المكتب ، ولم تكن أم جندب من أزواج امرئ القيس اللائي تزوجهن ، فتزوج هذه العقيلة ، وذكرت ذلك لأنها معلومات ضرورية تقف خلف ما
أريد، وهو أن امرأ القيس ذكر أطلال أم جندب ، ليقضى لبانات الفؤاد المعذب ، وتشوق ، « ألا ليت شعرى كيف حادث وصلها وذكر دَلَّها عليه ، سوالك نَقْبًا بَيْنَ حَرْمَى شَعَبعَب » والحزم ما غلظ من الأرض والنقب الطريق بين جبلين، أحداث وشعبعب اسم ماء ، كل هذا وأم جندب من ورائه ، وحكايات
فعَيْناكَ غَرْبَا جَدُولٍ فِي مُفَاضَةٍ
الأرض الواسعة ، والجدول النهر الصغير ، ولا أعرف أنه وصف غزارة دمعه كما وصفه في هذا البيت ، ثم
ختم الحديث عن أم جندب بكلمة ذات إيحاء غريب هي قوله : وإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرِ ضَعِيف ولم يَغْلِبُكَ مثل مُغلب
وأن أم جندب ستحكم حكما باطلا ، ولما حكمت المرأة لعلقمة أدرك شيخ شعراء هذا اللسان أبو القروح أن هذه الحكومة ليست من الشعر في شيء ، والبيت الذي غلبت عليه علقمة به من أنفس شعر أمرئ القيس ، والإيحاءات ، قصائده من حكايات وأحاديث ليست هذه الحكايات والأحاديث إلا حكايات
والاقتدار على التفنن في الصنعة » كما قال الشيخ الإمام رحمه الله ، وهذا هو تفسيره للمقدمات الطللية وهو كما أرى أعدل ما قيل في هذا . ومقدمة دلائل الإعجاز مقطوعة من النثر البليغ ، وأنه حين يقول لك ارجع إلى نفسك ، وحين يحدثك عن ترتيب الألفاظ في النطق على وفق ترتيب المعاني في النفس ، ومن عيوبنا أننا نغمض العين عن هذا الجانب في دراستنا ، وجرب نَفْسَكَ ، وَرُضُها على التعبير عن العلم، لأن القدرة على العبارة عن العلم هي
وتدقيقه ، وأحسن أولا وآخرا ، وتدعها تطلب لأنفسها ، الألفاظ ، لم تكتس إلا ما يليق بها ، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها
وأرسلها حنت ومالت بأعناقها وبغمت فتوافي عليها ما هو أشبه بها من الألفاظ ارسالا ، وبقوله ، الذي استخرجها ، وجزءا من جوهرها ، ويرعاها حق رعايتها سواء كان الذي يصدر عنه أدبا ، وتراه بغضارة الفطرة ، كما تراه في كتابة الكاتب الذى له طبع وسجيه ، حتى الاكتشافات العلمية المتقدمة يمكنك أن تقول إنها في حقيقتها كشف عن فطرة الأشياء ، موفور الحقوق ، ولا مغبون ،


النص الأصلي

قلنا إن كتاب دلائل الإعجاز كان الكتاب الأخير وذكرنا أن عبد القاهر اللفظ شغل في دلائل الإعجاز بالرد على القائلين بأن بلاغة الكلام ترجع إلى لفظه.
وأقول إن هذه القضية أعنى بيان فساد القول بأن اللفظ هو مرجع البلاغة في كانت حاضرة عند الشيخ وهو يكتب أسرار البلاغة حضوراً لا يقل عن أسرار حضورها في كتاب دلائل الإعجاز ، وإنما الذي يختلف هو أنها في الأسرار البلاغة سيقت لتحرير القول في معرفة تفاضل الأقوال .، وكيف يكون هذا التفاضل : قائما على التحري والعدل في قسمة حظوظها من الاستحسان ، ثم إنه هنا لم يذكر الإعجاز ، وإنما المسألة عنده معرفة طبقات الشعر والبيان ، والأدب ، أعنى نقد أدبى خالص ، ليس الحديث الإعجاز منه نصيب ، فلما انتقل إلى کتاب الدلائل ، استصحب معه هذه القضية التي فرغ منها في الأسرار ، وهي قضية وضع الأسس والأصول لنقد الأدب وتمييز صنوفه ، وطبقاته من الجهة التي تناولها في الكتاب وهى التشبيه والتمثيل والمجاز


قال الشيخ في الصفحة الثانية من فاتحة الكتاب « ومن البين الجلى أن التباين في هذه الفضيلة والتباعد عما ينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ ،كيف والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف »


هذا واضح في أن الشيخ جعل إخراج اللفظ من قضية التباين في البيان رأس كلامه ، وأتبع ذلك بمثاله الذي كرره في الدلائل ، وهو أنك لو عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر وفككت روابط كلماته ، وقطعت علاقاته العقلية والإسنادية ، لصار هذا الشعر أو النثر قدرا مهلا من الكلمات لا دلالة له ، ولا معنى ، ولذهب كونه شعرا ، أو نثرا ، وفكرة التفكيك هذه فكرة غريبة
وذكية لأنها تعنى نقض البناء اللغوى المدروس ، حتى يعود ركاما ، ويرجع إلى حالته قبل أن تدخله صنعة الأديب ، أو الشاعر ، ثم يعاد البناء كلمة كلمة لنتعرف على صنعة صاحب البيان خطوة خطوة ، فنقول إن امرأ القيس بدأ بقوله « قفا » فبادر الصاحبين بهذا الأمر المباغت ، ثم جعل البكاء جواب الأمر فك الكلام ترکیبه فخلق بهذا الجواب المختصر في كلمة « نبك » موقفا جديدا مشحونا بالشجن والحسرة والألم واللوعة ويلاحظ أن البكاء بكاؤه لأنه صاحب الصاحبة التي تركيبه هي صاحبة الطلل ، وإنما استبكاهما ببكائه ، وهذا أغوض ، وربما كمن فيه الشعر ، لأنه هو الشجي وهما الخلى وإنما يبكى الشجي الخلى إذا كان نوحه ، نوحا ينفذ إلى كل قلب فينوح معه ، والصاحبان لم يبكيا ليعيناه على البكاء لأنه يكون بكاء تمثيل فارغ ، والحقيقة أن الشاعر إذا وقف واستوقف وبكي واستبكى إنما يكون الأمر أجل وأعم ، لأن الذكرى والطلل ينفذان بيقظة النفس والحس إلى الحقيقة الخافية الغائبة ، وهى أن كل شيء يؤول إلى أن يصير ذكرى وطلل ، فكل أمل ، وكل مسرة ، وكل غبطة ، وكل حب ، وكل شمل ، كل ذلك ينتهى إلى أن يكون ذكرى ، ولا يملك الإنسان في مواجهة هذه الحقيقة الغالبة : إلا الحنين وإلا أن يقف يبكى من ذكرى حبيب ومنزل »


عبد القاهر يقول هل كان هذا شعرا إلا لأنه بدأ بقوله قفا » وجعل نبك جوابا له ، وسكت الشيخ بعدما فتح لك الباب لتنفذ أنت إلى الشعر الذي وراء هاتين الكلمتين وتذكر وصاته الملازمة له ، وهى يقظة الذهن ، وقدح العقل ، والتغلغل ، والنفوذ إلى المكمن ، وأظن أن الفهم السطحي لكلمتي قفا نبك لا يحتاج إلى شيء من ذلك وإنما تكد وتكدح وتقدح في الأماد الفسيحة الطافية بالشجو وراء هاتين الكلمتين ، وربما كانت الصور الحية البهجة والمفعمة بالحب والصبوة والفتوة التي تعطيها لك هذه القصيدة هي شيء مما آل إلى ذكرى وظلل


وأنه إنما وقف واستوقف وبكى واستبكى هذا الذي ذكر طرفا منه جعل الشيخ الإمام تفكيك الروابط اللغوية وإعادة تركيبها سبيلا إلى كشف المخبات البيانية والشعرية التي كمنت وراء حجب هذا التركيب وهذا البناء، ثم إن الشيخ ذكر قبل هذا بسطور كلمة أشار فيها إلى معنى شريف ، لم يأخذ حقه من النظر والمراجعة ، ولست أعرف في دراسة العلم سبيلا يفضى إلى شرفه ونوره وجلاله ، من الوقوف عند كلمات العلماء ، وإعطائها حقها من النظر ، والتفكير والمراجعة ، وهذا نص سبق أن ذكرته يقول الشيخ وهو يذكر البيان وأنه لولاه لتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها ، واستوت القضية في موجودها وفانيها ، نعم ولوقع الحى الحساس في مرتبة الجماد ،ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد »


اللغة وهذا معناه أن اللغة ليست وسيلة التعبير عن المعاني والخواطر فحسب ، وإنما هي أداة خلق ، ووسيلة ، إبداع هذه المعانى ، والخواطر ، وأن التحقيق


أنه ليس عندنا خواطر نصطنع اللغة في الإبانة عنها ، وإنما قادتنا اللغة نفسها والوعى )) إلى خلق هذه الخواطر ، والصور ، والأفكار ، وأنشأتها في نفوسنا إنشاء ؛ اللغة ليست وعاء للفكرة ، وإنما هي لحمها ، ودمها، تأمل قوله « لتعطلت قوى الخواطر » ومعناه أن اللغة هى الحركة الفعّالة داخل قوى الخواطر ، وهي المثير، وهي المهماز ، وهي الموقظ ، وهي التي تُشعل شرارتها ، ولو انتزعت اللغة تكون قد انتزعت الحياة والحيوية من قوى الخواطر هذه ، وعزلت عنها تيار الحركة ، واليقظة ، والتغلل ، واقتناص الشوارد ، وأي معنى لقول الشيخ نعم ولوقع الحى الحساس في مرتبة الجماد ؟ » . ولماذا قال نعم ، وكأنه يشعر أنك ستخالف أو تفاجأ بهذا المعنى ) الغريب ، وهو أن يصير الإنسان الحي الحساس الشاعر المبدع والكاتب الذى يفرى بخواطره وقلمه عن وجوه الحقائق فريا ، يصير هذا في مرتبة الجماد ، فاللغة هنا روحه ، وحركته ، وابداعه ،وانتزاعها منه ، يعنى انتزاع الروح والحس والحركة والإبداع


ليست اللغة إذن في اللسان لأننا نرى السنة خرسا ووراءها عقول تفكر لأن اللغة هناك ملتبسة بخواطر الفكر ، وهواجس النفس ومنابع القلب ، والأبكم من بني الناس لم يفقد اللغة ، وإنما فقد النطق بها ، ولهذا نرى منهم الذكي النشط الحى الحساس ، ومن يعبر عن مقاصده بوسائل وإشارات صيرها لغة بديلة ، للصوت الذي عجز اللسان عنه


قلت إن عبد القاهر بنى كتابه أسرار البلاغة على بيان فساد القول بأن التباين في الفضيلة والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة ، راجع إلى مجرد اللفظ ، وقد ذكر بعد شرح هذه المسألة ضروبا من الكلام يتوهم في بدء الفكرة البلاغة أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس إلى ما يناجي فيه العقل قام على النفس، ثم ذكر الجناس ، والحشو ، وقاده الحديث إلى السجع ، ثم التطبيق ، نقض والاستعارة ، وكان هذا هو خط سير الكتاب ، لأن الاستعارة فتحت الباب للتشبيه والتمثيل والفرق بينهما إلى أخره ، والذي أريده هنا أن كل ذلك لتحقيق حقيقة واحدة ، هي أن مجرد اللفظ ليس له دخل في التباين في الفضيلة ، وهذا ظاهر جدا ، وقاطع أيضا في أن كتاب أسرار البلاغة إنما كتب لتصحيح الخطأ الدائر زمن الشيخ في الحياة الفكرية ، وهو القول بأن فضيلة الكلام راجعة إلى مجرد اللفظ وإن كان هنا لم يغمس قلمه في محاورة المعتزلة، لأن ذلك كان وهو يتكلم في الإعجاز ، ولما استحكم هذا عنده وانتقل إلى الإعجاز حاور شيوخ المعتزلة ثم إن الشيخ لما ذكر الجناس اجتهد في أن يستخرج له سريرة معنوية يرجع إليها حسنه ، ولم أعرف أحدا قبل اللفظ عبد القاهر حاول أن يجد تفسيرا معنويا لهذا الفن الذي هو صوت وجرس ولكن عبد القاهر بتغلغله وإيغاله حاول أن يلتقط أطياف معاني هذا الرنين ،


ما قبل وموضوع الجناس هذا محتاج إلى وقفة لأن البلاغيين لما حددوه بالاتفاق في أنواع الحروف ، واعدادها ، وهيأتها ، وترتيبها ، أو الاختلاف في واحدة فقط . أخرجوا كثيرا من الصور التي لا ريب في تجانسها ، وكأن هذا الحد الذي وصفوه هو حد الرشد الذي يكون به التشابه جناسا ، وما قبله من صور تراها في الكلام كأنها طفولة تجانس ، تُلْغَى ولا تُعد مع أن منه ما هو أمتع من الجناس الاصطلاحي ولم يذكر ذلك أحد بعده إلا من شاموا كلامه ، وراموا رومه


الجناس الذي قصدوا إلى درسه ، خذ مثلا بيت الشاهد : إذا الخيل جابَتْ قَسْطَل الحرب صدعوا صُدُورَ العَوَالي في صُدُورِ الكتائب


ترى الجناس بين كلمني صدور العوالي وصدور الكتائب ، وهو في ميزان التذوق ليس أبرع من صدعوا صدور ، مع أنها ليست جناسا لأنها لم تبلغ حد
الرشد ، تأمل قول أبي حيان يذكر خلفاء بني العباس « كان المنصور أنقذهم


والمأمون أمجدهم والمعتصم . أنجدهم والمعتضد أقصدهم » الجناس الاصطلاحي


بين أمجدهم وأنجدهم وهو جناس جيد وواقع ، ولكنا لا نغفل المجانسة بين


الفواصل الأربع في الوزن وتكرار حرف الدال مع تكرر الضمير . لا شك أن هناك مجانسة في مثل قوله تعالى ( سبح اسم ربك » وفي جذور قوله سبحانه في هذه الكلمات . الوحوش حشرت » . ( العشار عطلت قدر النغم . فيما قبل فهدى .. أخرج المرعى » . « سنقرئك فلا تنسى » . « نيسرك لليسرى » فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر » . ثم تأمل قوله تعالى في سورة هود عليه السلام بعد ما كان من هود في الجناس


و شأن ولده وبعد ما خلع قلبه عليه ثم خلعه من قلبه لما سمع قول الحق «فلا تَسْتَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا مَا لَيْسَ لي به به علم ، وإلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخاسرين قيل يانوح اهبط بسلام منا مِنَّا وَبَرَكَاتِ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ ممَنَ مَعَكَ ، أُمَمٌ سَنَمَتِعَهُم ثم يمسهم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (1) تأمل الآية الأخيرة أهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أهم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . *


أمم سنمتعهم ثم يمسهم .. .. وتأمل الميمات سلام منا أمم ممن معك منا عذاب أليم ، ومع هذه الميمات المدغمات ، والنونات والتنوين وكل هذه الغنات كأنها تهدئ روع نوح عليه السلام وهو يهبط « بسلام منا وبركات » أصوات كلها شجن وتطريب يفرغ زلزال الخوف الذى أصاب هذا الشيخ الكريم صلوت الله وسلامه عليه في هذا الابتلاء الصعب الذى أصابه لما رأى الموج يبتلع فلذة كبده وهو في شيخوخته ووهنه يصرخ ويقول يا بني اركب معنا ولا تكن مع القوم الكافرين رحم الله أبانا نوحا فقد جل مصابه وعظم ابتلاؤه .


ثم تأمل هذه الأبيات قال أبو تمام يصف قصيدته : تَرُوحُ وتَعْدُو بَلْ يُراحَ ويغتدى بِهَا وَهُيَ خَيْرَى لَا تَرُوحُ وَلَا تَعْدُو تأمل تكرار حرف الحاء وكيف أشاع نغمة في البيت متميزة وأضفى على


غزارة النغم في شعر أبي تمام كشفتُ قناع الشعر عَنْ حُرِّ وَ وَجْهِهِ وَطَيِّرْتُهُ عَنْ وَكْرِهِ وَهُوَ وَاقِعُ بُغرِّ يَرَاهَا مَنْ بَرَاهَا بِسَمْعِـــــــه ويدنو إِلَيْهَا ذُو الحِجَى وَهُوَ شَاسِعُ يود ودادًا لو أن أعضاء جسمه إذا أُنْشِدَتْ شَوْقًا لَهُنَّ مسامع ولا شك ان وحدات النغم التي تتوافر في الكلام فيما قبل الجناس الاصطلاحى ذات أثر كبير في هذا الذي قصد اليه أبو تمام وتأمل من شعره هذه


الكلام غنائية خاصة ، وكان أبو تمام شديد الحفاوة بما تسمعه الأذن ، ويذكر أن


المقطوعات النغمية تتحول في شعره إلى صور بصرية ، وأن الأذن تصير عينا ،


وبدلا من أن تسمع نغما ترى في هذا النغم مشاهد وصورا ، وأن من يستمع


إلى شعره تأخذه أخذة النغم ، وأريحييته ، فيود ودادا لو صار كل عضو فيه


أذنا ، قال في أبيات جياد :


الأبيات :


سأجهَد حَتَّى يَبْلُغَ الشَّعرُ شَاوَهُ وَإِنْ كَانَ لِي طَوْعًا ولست بِجَاهِدِ


راجع الشين في الشعر وشأوه ، والعين والهمز وهما اختان والجيم مع


الشين أعنى إما أن ترى حروفا متكررة ، أو حروفا متقاربة ، أو هما معا ،


فإن أنا لم يَحْمَدُك عنى صاغراً عَدُوكَ فاعلم أنني غير حامد


تأمل الحاء والهمزة وتكرار العين والنون وقوله فإن أنا :


بسياحة تنساق مِنْ غَيْرِ سائق وتنقاد في الآفَاقِ مِنْ غَيْرِ قائد


تأمل السين والقاف وكيف كانت الحروف تتنادى فجاءت كلمة ننساق لما


ذكرت سياحة واشتق منها السائق وتتابعت القاف فتداعت تنقاد بعد تنساق واشتق منها قائد على حذو الأولى ثم جاءت الآفاق لمكان هذه القافات ،


وراجع علو النغم في هذا البيت وصلته بمعناه وأنه شعر مسموع ، وأن رنينه


سياح ، ينساق من غير سائق، وبعد هذا البيت قال :


جَلامِدُ تَخْطُوهَا اللَّيَالِي وَإِنْ بَدَات لَهَا مُوضِحَاتٌ فِي رُؤوسِ الْجَلَامِدِ وليس لهذا البيت رنين كالبيت الأول وكأن رنينه حبس في صم الصلاد الجلامد ، ثم قال :
إذا شَرَدَتْ سَلَّتْ سخيمة شاني وَرَدَّتْ عُذُوبا مِنْ قُلُوبِ شَوَارِدِ تأمل سلت سخيمة وكيف جاءت كلمة سخيمة بعد سلت ولم تأت ضغينة مثلا ، ثم كيف دعت الشين في شردت كلمة شانيء ولم تأت حاقد ثم ترى قافا واحدة في هذا البيت تدعو في البيت الذي يليه جملة هذه القافات : أفادت صديقا من عَدُوٌّ وغادرت أقارب دُنْيا مِن رجال أبا عد قال صديقا لما قال أقادت ولم تصلح مكانها صاحبا وقال في غيرها :


أتاني مع الركبان ظَنَّ طَنَتُه لَفَفْتُ لَهُ رَأي حَيَاء مِن الْمَجْدِ راجع تكرار النونات في الشطر الأول ويدور حول الظن وكيف ساعدت هذه النونات على تأكيد الظن ، ثم غابت النونات فى الشطر الثاني لأن الظن غاب فيه ، وإنما ترى كلمة لففت له رأى وفيها تتكرر الفاء المؤكدة لمعنى أنه يدخل من وراء ستر بعده ستر الحيائه مما قذف به ، وكان أبو تمام من أشد الناس


احتقارا لمن يكافيء الحسن بالقبيح ، ويرى ذلك لؤما ، ونذالة وخساسة » انظر إلى قوله الجيد :


وكان الشكر للكرماء خصلاً وَمَيْدَانًا كَمَيْدَانِ الجِهَادِ


عليه عُقْدَتْ عُوذِى وَلَاحَتْ مَوَاسِمُه على شيمى وعادى


وغيرى يأكل المعروف سُحْنا وَتَشَحَبُ عنده بيض الأيادي


تأمل الكاف في البيت الأول وكيف ارتفع بها رنين كلمة الشكر والكرماء


وهما معقد المعنى ، ثم تأمل العين في البيت الثانى عليه .. عقدت .. عوذی على .. عادى ، ثم مشاركة الحاء لها وهي أختها .


وهذا الضرب فى شعر البحترى أغزر وأعرب تأمل قوله في قومه طي : منْزِلُ قارعُوا عَلَيْهِ العماليق وعادًا فِي عِزّها وثــــــــودا


راجع العين وكيف دعتها العماليق وعاد فقال قارعوا العماليق ولم يقل حاربوا ، ثم قال عزها ولم يقل مجدها عبادة


ومعنى هذا أن طيئًا ليسوا من عاد وإنما قارعوا عادا ، وليس قبل عاد إلا


نغم ما قبل الجناس في شعر العرب


أصل الناس عبد شمس شمْسُ العَرِيبِ أَبُونَا مَلك الناس واصطفاهم عبيدا والعريب هم العرب ، وذكر يعربا وأنه كان أعرب الناس نَحْنُ أَبْناءُ يَعْرُبُ أعْربُ النَّاسِ لِسَانًا وَأَنضَرُ النَّاسِ عودا


نوح عليه السلام بدليل قول هود صلوات الله وسلامه عليه لقومه عاد واذكروا


إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » .


وقد ذكر البحتري جدين من آبائه عبد شمس ويعرب ووصف عبد بأنه


شمس العريب


تأمل يعرب أعرب وقال بعده : سائل الدَّهْرِ مَنْ عَرَفْنَاهُ هَل تعرف منا إلا الفعال الحميدا قد لعَمْرِي سُدْناه كَهْلاً وشيخا وَشَبِيبًا ناشتا ووليدا وَطَوِينَا أَيَّامَهُ وَلَيَالِه عَلَى الْمكرمات بيضا وسودا لم نزل قط من ترعرع نكسوه ندى لينا وبَأْسًا شَدِيدا


راجع العين في الأول عرفناه يعرف . الفعال وأختها الحاء ثم راجع الشين في الثاني شيخا وشبيبا وناشئا . والياء في الثالث والنون في الرابع ، ثم راجع هذا لأنه يعيد فهمنا للتاريخ ويشير إلى أن العرب أصل الناس ، وقد حكموا يوما كل الناس وقد كنت أقرأ على الطلاب شواهد اسم الإشارة


فقرأت لهم قول الفرزدق المشهور :


أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع


وسألت عن الكلمة الأم في هذا البيت فأجابني طالب ذكي وقال هي كلمة فجئنى لأنها هي التحدى الذي قصد إليه الفرزدق فقلت له ألا ترى شيئًا في البيت يتصل بهذه الكلمة ؟ فقال لقد تكرر حرفها الأول الذي هو الجيم في قوله إذا جمعتنا يا جرير المجامع ، وهذا يعنى حرص الشاعر على إشاعة رنين


هذه الكلمة الأم واتصاله بآخر البيت ، فاستحسنت منه ذلك .
والذي ذكره عبد القاهر في وجه حسن الجناس وإن كان منصبا على المستوفى منه والناقص ويجرى على بقية الجناس على وجه من المقاربة لا يشمل هذا الصنف الذي ذكرته وهو التجانس الذى قبل ذلك مما تراه مشاركة في حرف القيمة أو مقارية في مخرج ، وهذا الذي ذكرته هو من الجناس الاصطلاحي بمثابة البلاغية العلقة أو المضغة المخلقة ، أو غير المخلقة أو قل هو الجناس قبل أن يشعر من للجناس و قولهم ثغر الطفل إذا نبتت أسنانه وبابه كتب وفتح ، فجناسنا هذا لم يثغر بعد


وله لا شك حظ من الطفولة والحسن 7 يفيد والجناس المستوفى في مثل ( ناظراه فيما جنى ناظراه » إنما استحسن لأن الكلمة الثانية لما كانت في صورة الكلمة الأولى توهم المخاطب أن القائل لم يزده بها فائدة ، فإذا ما راجع وأدرك معناها المغاير ، كان يكون قد حصل على الفائدة من غير أن يتوقعها ، ووجدها حيث لا يرجو وجودها ، وكانت كالنعمة المفاجئة ، وكان المتكلم الذي يُظن أنه لا قد صار يعطى ويوفى ويزيد ، وهذه الحالة النفسية التي يُحدثها الجناس عند من يخاطبه هي فائدته وهي وجه حسنه ، لأن هذه الكلمة الجديدة والمتنكرة فى زى الكلمة القديمة ، لما كشفت له عن وجهها فجأته ، وأدهشته، وأثارت نشوته وطربه، وسروره، هكذا يقول الشيخ وكأن العقل يفرح بالفكرة الجديدة التي تحملها إليه كلمة جديدة وأن الكلمات تعلم هذا من شأن العقل فتعابثه وتخاتله وتتنكر له ويلبس بعضهن ثياب بعض، حتى يتوهم أن التي تتهادى بين يديه هي التي مرت آنفا ، فإذا حَسَر لثامها ورأى منها حسنها ودَلَّها ، رأى حورية جديدة تعابث وتخاتل ، هذا هو ما فعلته كلمة ناظراه الثانية التي حسبها قارئها وسامعها هي ناظراه الأولى ، أعنى ، فعل أمر من ناظر ، فإذا بها ناظراه يعني عيناه فلم تعد هناك مناظرة وإنما هنا نظر في « ناظراه » انتقل الكلام من المناظرة، حول الجناية ، وكأنه تحقيق إلى نظر فى الناظرين الذين أحدثا بدلهما وحسنهما وسحرهما هذه الجناية ، وهذا نوع من الجريمة حلو لطيف .


فإذا كان الجناس من النوع الناقص مثل عواص عواصم وقواض قواضب فإنك سوف تظل تحت تأثير حالة المخادعة من الألفاظ ذوات اللعب والدل ،
حتى تصل إلى نهاية الكلمة ، وعند هذه النهاية يكشف الغطاء ، وتعرف الحقيقة ، وتفاجأ بالجديد بعد اليأس منه ، فإذا كان الجناس مما وقع الاختلاف في أوله ، مثل وارف وعوارف وسبأ ونبأ وهمزه ولمزه ، وأمجد وأنجد ورق ودق ، وَهَلَّ وحَلَّ وسمع وجمع ونهر وبهر وعبث وكتب وقعد ورعد فإن الجرس الإيهام فيه والمخاتلة ، وإن لم تتمكن تمكن ما قبله فإنه لا يخلو منها ، قال الشيخ « فإنه لا يبعد كل البعد من اعتراض طرف من هذا التخيل فيه ، وإن كان لا يقوى تلك القوة ، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مبدلا من بعض حروفها غيره ، أو محذوفا منها » ثم قال ويبقى في تتبع هذا الموضع كلام حقه يجوز غير هذا الفصل ، وذلك حيث يوضع ، وهذه إشارة إلى ووجود صور أخرى إهداره وأفكار أخرى كانت حاضرة عند الشيخ لم يشأ أن يستوفيها هنا ، وإن كان لم يرجع اليها بعد ذلك ، لأن العلماء ينتقلون وفى صدورهم من العلم الشيء الكثير لم يكتبوه ، ولم يُمهلوا ؛ وربما حدثوا به ، وفي كتابات عبد القاهر إشارات إلى موضوعات كثيرة نبه إليها ولم يمهله الأجل لإتمامها ، وكأنما كان يذكرها ليجعلها من ودائع العلماء وأماناتهم التي يضعونها على كواهل من يسيرون على مدب أقدامهم، فيتمون من عمل سلفهم ما أعْجَلَهم أمر الله عن لا تمامه .


وقد عاد الشيخ. رحمه الله إلى مسألة اختلاف درجات المشابهة في الجناس فقال ( اعلم أن التوهم على ضربين ، ضرب يستحكم حتى يكون اعتقادا .. وضرب يجرى في الخاطر » وأحسب أنه يدخل في الثاني الذي يجري في - و الخاظر هذا التجانس الذى لم يثْغُر بعد كما في قوله تعالى ﴿ - إِذَا الوحوش حشرت ) وسبح اسم ربك إلى آخر ما قدمناه ، ثم قال « وأنت تعرف ذلك وتتصور وزنه ، إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشبه التام والشيئين يشبه أحدهما الآخر على ضرب من المقاربة فاعرفه » الشبه التام مثل سميته يحيى ليحيا ، والذى على ضرب من المقاربة مثل لاحت ملامحه " وعليه عُقدت عُوذِى » « وكان الشكر للكرماء خصلاً ، وإذا كنت تتردد في ذلك فراجع أصول هذه الكلمات وهى على وعقد وعاذ ، وكان وشكر وكرم وهي
ثلاثية واتفقت في حرف ولو أنها اتفقت في حرفين وقلنا على وعلم وعلق وكتم وكتع لكانت من الجناس الاصطلاحي بمعنى أن الاشتراك في الثلثين جناس اصطلاحى فهل تهدر الاشتراك فى ثلث أصوات الكلمة وتجعل وكان الشكر للكرماء مثل وصار الشكر للأجواد وتجعل وعليه عقدت عوذى مثل وربطت عليه شيمي؟ أم أننا لو فعلنا ذلك كان إهدارا لشيء من حلاوة الكلام ، وعذوبته ورنينه ونغمته ؟ وقد قلت إنه إذا لم يكن جناسا قد بلغ رشده فلنعتبره جناسا لَمْ يَثْغَر بعد أو تعتبره مضغة مُخَلَّقة أو غير مخلقة وان لم يمكن فلنعتبره علقة وهكذا ولنا فيما قبل الميلاد فسحة ، المهم الاتهدر هذا الحفيف اللغوى لأن له حظا مما قاله الشيخ ، وأنه لا محالة مما يقع من المرء في فؤاده، وأنا واثق أن هذا الذي قدمته له مكان تحت مظلة عبد القاهر لأن الذي بين قولنا لاحت لى حيله أو شكر وكرم هو اشتباه على ضرب من المقاربة وهو أيضا من الضرب الذي يجرى في الخاطر . ثم إن تفسير رنين الجناس بالذي قاله الشيخ هو مع جودته وإصابته تفسير


على وجه المقاربة ، لأن المخادعة التي هي محور هذا التفسير إنما هي بيان الزاوية واحدة من صور الجناس ، وحالة واحدة من بين جملة أحواله ، اعنى حالة المشابهة بين اللفظين وما يتبع ذلك مما ذكره الشيخ ويبقى الرنين نفسه ، ، يداخل النفس ويخامرها ، وينفث في عقدها ما ينفث من حيث هو جرس وإذا كنا نتكلم عن غموض مسائل البلاغة في التأليف والنظم ، وما


يدور حول هذا في بناء لغة البيان ، فإن الجرس والرنين وهما جزء من مكونات ويبقى هذا البناء البياني ، لهى أشد غموضا ، لأنها ليست من العناصر ذات الدلالات في العقلية ، مثل رجل وفرس ، وإنما هي أصوات منتزعة من الكلمات ، وصارت الجناس شيء جرسا فحسب ، يعنى هى لحن وتطريب لا يخضع للدلالة العقلية ، وهو مع ذلك مؤثر غاية التأثير ، نافذ في النفس ابلغ النفاذ ، وقديما حكى أبو إسحاق الموصلي : قال لي المعتصم أخبرني عن معرفة النغم ، وبينه لى ، فقلت له إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ، ولا تؤديها الصفة » بعد تفسير الشيخ


وهذا الرنين هو جوهر الشعر ومعدنه ، وقد حاول الخليل أن يخلصه ويجرده ، مما بَلْتَبس به من العناصر الدالة ، فاستخلصه في الحركات والسكنات التي أومأ إليها بالتفاعيل ، فعولن مفاعيلن ، وكل هذه أصوات لا غير ، ولم
السجع جرس صرف وقد رأيت عبد القاهر في باب السجع لا يذكر شيئا كالذي ذكره في الجناس، فإذا كانت سريرة الجناس أنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها ، يعني ونغم لعب اللغة بك ، وليس لعبك باللغة ، فإن الذي قاله في السجع ليس من هذا، لأن السجع إيقاع صرف ، ونغم بحت ، وموسيقى خالصة ، وليس فيه كلمة تسربلت بثوب هفهاف كانت قد تسربلت به أخرى ، حتى خدعت وختلت بحت


يحاول أحد أن يفسر تنوع البحور ، أو تنوع النغم في البحر الواحد تفسيرا معنويا، إلا أن يكون كلاما عاما ، يجرى على وجوه الاحتمالات ، كالقول بأن بحر الطويل أقرب إلى المديح ، وأن الكامل أقرب إلى النسيب إلى آخره .


ففتحت للشيخ باب الاجتهاد .


قلت الذي في السجع حفيف اللغة لا غير ، تأمل قول كاتب يذكر الرجل الأديب الأريب


، ولا يرسله في غير فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه حقه ، وأن ينطق بعلم ، ويُنصت بحلم ، ولا يعجل في الجواب ، ولا يهجم على الخطاب » .


والمنار أو قول الجاحظ يذكر السلف الطيبين والجلة من التابعين الذين كانوا مصابيح الظلام ، وقادة هذا الأنام ، والنجوم لا يَضَلُّ معه الساري ، الذي يرجع إليه الباغي ، والحزب الذي كثر الله به القليل ، وأعزبه الذليل ، وزاد الكثير في عدده ، والعزيز في ارتفاع قدره ، وهم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة ، وشحذُوا بمنطقهم الأذهان الكليلة » واقرأ كلام عبد القاهر ، وهو يعالج هذه القضية وقد فتحها بقوله : ( وههنا أقسام قد يتوهم يتوهم في بدء الفكرة ، وقبل إتمام العبرة ، أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس ، إلى ما يناجى فيه العقل النفس ، ولها إذا حقق النظر مرجع إلى ذلك


ومنصرف إلى هنا لك » . إلى آخر ما لا يُحصر وهو من طبع اللسان وطبع الناس وجزء من ماهية البيان ، ولا تستطيع أن تحدد له معنى إلا على حد ما قال أبو إسحاق للمعتصم . والذي قاله فيه الشيخ عبد القاهر هو ضرورة أن يكون المعنى هو الذي
طلبه ، واستدعاه وساق نحوه ، وحتى تجده لا تبغى به بدلا ، ولا تجد عنه حولا ) وهذا الكلام ليس بيانا لمزية السجع وليس فيه أي إشارة إلى مناجاة العقل النفس ، الذي فسره بلعب اللغة بالعقل وليس لعب العقل باللغة ، وأنا حريص على هذه الجملة المعطوفة لأن الفرق كبير بين اللعبين لعب اللغة بالعقل لعب مشروع ، رفيع ، ورائع ، وليست المعرفة إلا هذا الضرب النبيل من اللعب ، أما لعب العقل باللغة فربما كان فيه عبث ، ولا تحسبن أن كل لعب عبث لأن هناك من يلعب بالنار وهناك من يلعب بمصاير الشعوب ، والحياة الدنيا لعب ولهو يعنى هى مسرح لهذا والمهم أن كلام الشيخ هنا كلام آخر وقصاراه أنه يدلك على الطريق الذي يكون فيه السجع حسنا مقبولا ، ولاحظ أن هذا أصل في كل فنون البلاغة مثل التشبيه والمجاز والتقديم وفروق الخبر ، كلها يشترط في قبولها أن يكون المعنى هو الذي طلبها واستدعاها ، وإنها لتثقل القيمة و تفسد ، لو فرضت على المعانى . وكل فنون البلاغة حُسنُها مشروط بأن تكون البلاغية معنى المطابقة التي هي أصل العلم ، وجذره ، وجذمه ، ولكن الشيخ ذكره + وه في السجع لأنه أكثر فنون الكلام استعمالا ولأن - وهذا أهم - توقيعاته النغمية حلوه وعذبة وتميل النفس وهو أخو الشعر وهذا قد يغرى بتكلفه وطلبه ، هذا واعلم أن السجع لم يكثر في كلام المحدثين فحسب ، وإنما كثر في كلام القدماء، بل إن عبد القاهر ذكر أنه لم يكثر فى كلام أحدكما كثر في كلام القدماء قال : ولست تجد هذا الضرب يكثر في شيء ويستمر كثرته واستمراره في كلام القدماء وهذا غير الشائع فى كثير من الكتب ، وأنا أريد أن أتأمل قوله « لا تبغى به بدلا ولا تجد عنه حولا » لأنه قاطع في أن توافق الأصوات في الفقر ، وانتهاء المعانى عندها حتى كأنها قرار النغم ، هذا التوقيع الصوتي البحت ، جزء جوهري في الدلالة ، وأنك لو حاولت أن « تملص » منه - من باب طرب، وهي عربية فصيحة - لأدخلت على كلامك من الثقل والتكدير والتنغيص مثل ما تدخله عليه لو تكلفته ، وأقحمته على معناك ، وهذا معناه أن هناك معانى لا يُعبّر عنها إلا بهذه المقطوعات اللغوية المنغومة وليس باللغة
اللفظ الحفيف جزء لا محيد لك عنه ولا يجوز أن تبغى به بدلا . وحين تراجع شأنك وأنت تكتب بعناية وتركيز تجد المعاني تنبعث في نفسك ولها في بعض أحوالها رنين ، فإذا كانت الكلمات تدل على مرادك لله الرنين بمعانيها العقلية ، فإنه يبقى في النفس فضل لا يعبر عنه إلا برنين اللغة ، فإذا جزء من أرسلت المعاني على سجيتها رامت هذه اللغة ذات الإيقاع ، وكما توجد الألفاظ مرتبة في اللفظ على وفق معانيها في النفس ، فإنه توجد أيضا مع هذه الألفاظ هذه الأحوال الصوتية لتواكب بهذا الرنين الحال الذى وجدت المعنى قائما عليه في نفسك ومصاحبا له ، وكأنه لحن يحيط به ويحفه . الدال


وحدها عارية صرفا من هذا النغم ، المقام يفرض عليك لغة ذات حفيف ، هذا


وقد حرر عبد القاهر مسألة طلب المعنى للسجع واستدعائه إياه بتحليل كلمة للجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان . وبين فيها أن الجاحظ ترك السجع مع اقتداره عليه وشهرته به مجاراة للمعنى ، وكان يمكنه أن يقول كذا بدل كذا ، فتتوافق القرائن ، أو كان يمكن أن يضيف إلى هذه القرينة التي تذكر الحق قرينة أخرى تذكر الصدق ، أو كان يمكن الاستغناء عن حرف الجر فتنصب الكلمة فتتوافق مع القرينة السابقة ، وهكذا يذكر تحويرات خفيفة في النظم فيتولد منها السجع ، ولكن الجاحظ لم يفعل وترك المعانى تحتضن ألفاظها وقرائنها وتتخير نغمها ، لأن تشاكل المعانى هو أصل بناء البيان ، وليس تشاكل الألفاظ ، وهذا نقض الذي فعله عبد القاهر جيد ، لأن معرفة الفكرة البلاغية وحدها لا تُربى ذوقا البناء بلاغيا ، وإنما يكون ذلك حين تدخلها في باب التحليل ، وتعيد بها ولها بناء وإعادته الكلام ، يعنى تفككه أولا ثم تبنيه على وجه آخر ، وتقارن بين ما جاء عليه ، وما كان يمكن أن يجىء عليه ، وهذا طريق شائع جدا في كل دراسات عبد القاهر ، وهذا هو الفهم الصحيح للبلاغة ، وفهم المسألة وحدها فهما نظريا علم ناقص ، والدرس البلاغي الصحيح والصعب في محاولة بناء النص على وجه آخر ، ولا ينهض بهذا إلا دارس له القدرة على بناء البيان إذا لم تكن كقدرة صاحب النص المدروس فهي قريبة ؛ وقلت له قدرة على بناء البيان لأنه لا مفر له من أن يبنى بدائل لغوية حتى تقوم المقارنة ، وتستخرج القيمة
البلاغية للبناء المدروس ، ولا يجوز للدارس الجاد أن يستروح إلى الأمثلة المصنوعة ، ليقيم منها البدائل اللغوية ، فيظل يمضع في زيد منطلق ، وزيد أسد ، ويدور بهما على الصور المختلفة ، مثل المنطلق زيد وزيد ينطلق ، وما زيد الا منطلق وزيد كالأسد وزيد أسد في الشجاعة ، ونسد بهذه البدائل حاجة الدرس البلاغي ، نعم إن استعمال هذه الأمثلة ضرورة للشرح ، ولكن يجب تجاورها بسرعة ، والتفتيش في كتب الشعر والأدب وفي كلام الله ، وفي كلام رسوله علم عن الصور والشواهد والبدائل أيضا وقد ساق الشيخ سياقه إلى ذكر المقدمات الطللية ، وقرن بها مقدمات العلماء لكتبهم ، وقال في ذلك كلمة الله شريفة قال رحمه الله :


والخطب - أراد مقدمات الكتب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان مقدمات والأسجاع ، فإنها تُروى ، وتتناقل تناقل الأشعار ، ومحلها محل النسيب الكتب والتشبيب فى الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه إلا الاحتفال في الصنعة ، و مقدمات والدلالة على مقدار شوط القريحة ، والإخبار عن فضل القوة ، والاقتدار القصائد


على التفنن في الصنعة » .


وقد وضع الأستاذ محمود محمد شاكر خطوطا تحت هذا النص وليس من عادته ذلك في الكتاب إلا حين يريد أن يدل على معنى جيد يجب على القارئ أن يراجعه وأن يحرص عليه، وهذا النص واضح الدلالة على أن المقدمات الطللية وهى فواتح القصائد يروم منها، وفيها أن يجهد في أن يبلغ أقصى ما عنده من قدرات على استخراج المعاني والصور ، والصيغ، واللغة، والنغم ، وكل ما يداخل الشعر من مكونات يكون بها شعرا عاليا ، وكأن المقدمات هي المعارض ، والمعاني التي تتجلى فيها قدرات الشعراء ، وتتألق وتأخذ حظها من التجلى والتألق ، وكأن الشاعر يحرص بها على أن يلبس زى الشعراء ، وأن يضع على رأسه شارة الشعر ، أو تاج مملكته ، قبل أن يدخل في أغراضه ، فربما شغل بمديحه أو هجائه أو غير ذلك من المقاصد عن الاحتفال بالصنعة ، وعن التثقيف ، والتحكيك ، والصقل وغير ذلك مما هو


جوهر الشعر .
وهذا أصح تفسير لهذه المقدمات التي كثر الكلام فيها ، وعبد القاهر يقول ليس للمعانى المذكورة فيها أى حقيقة إلا الحقيقة الشعرية ، ولا أي قصد


إلا القصد الشعرى .


وه . فامرؤ القيس لا يريد أن يخبر عن حقيقة خارجية عن الشعر حين وقف ، واستوقف ، وبكى واستبكى ، وليس من المطلوب مني أن أفهم أنه كان له حبيب ، ومنزل ، بسقط اللوى بين الدخول فحومل ، ولو حدد المكان ، من جهاته الأربع ، لأن هذا ليس إلا بناء شعر لا غير ، ولا تظنن أني بهذا أفرغ الشعر من مضامينه ، وإنما أقول في المقدمات ، وأنها ليست حكايات تاريخية ، ووقائع ، وأحداث عشق ، ولهو ، وصبوة ، كما أنها ليست تجريبا لغويا ، وإنما هي إعلان الشاعر عن شاعريته ، وعن صفو هذه الشاعرية ، ومعدن هذه الشاعرية ، ونوعها ، وجنسها ، وماهيتها ، وحسبها أنها جعلت من خرائب الديار فنا زاخرا بالشعر ومفعما بالحياة والحنين وكان الرواة يعرفون ذلك ، ويدلون عليه بإشارات بعيدة ، حكى الأصمعي أن أمرأ القيس أنشد بائيته خليلي مرا بي على أم جندب ، ومعه علقمة الفحل ، وكانا في خيمة امرئ القيس وأم جندب جُنْدَب في خدرها من وراء الشاعرين ، وكانا قد تذاكر الشعر ، فقال امرؤ القيس لعلقمة أنا أشعر منك ، فقال له علقمة أنا أشعر منك ، فقال امرؤ القيس قل وأقول ، والمرأة من ورائنا تحكم بيننا ، وأراد أم جندب ، وكانت قد أغضبته في تلك الليلة وأيقظته قبل صدوع الفجر ، وقالت له « قم يا خير الفتيان فقد أصبحت » وكررت ذلك فلما استيقظ ورأى أن الفجر لم يطلع سألها ما حملها على ما صنعت ؟ فسكتت فكرر السؤال فقالت له : إنك لثقيل الصدرة ، خفيف العجزة ، سريع إلا راقة بطيء الإفاقة ، قال الراوى فعرف من نفسه صدق كلامها ، وجلس في خيمته فجاءه علقمة ، ونابذه الشعر في هذا اليوم ، المكتب ، ولم تكن أم جندب من أزواج امرئ القيس اللائي تزوجهن ، وهو في دياره ، وأمنه ، وسلطانه ، وإنما لما هَرَبَ من المنذر بن ماء السماء ، وصار إلى جبلى طيء ، أجا وسلمى فأجاروه، فتزوج هذه العقيلة ، وهو في هذا الجوار ، وذكرت ذلك لأنها معلومات ضرورية تقف خلف ما
أريد، وهو أن امرأ القيس ذكر أطلال أم جندب ، وذكر أنه في رحلة ، وأنه دعا صاحبيه أو خليليه ليمراً به على أم جندب ، ليقضى لبانات الفؤاد المعذب ، وما دام حديث أم جندب قصص شعرى مختلق فلابد أن يكون ذكر الصاحبين وخطابهما قصصا شعريا مختلقا وأن حذو الكلام حذو واحد ، ثم ذكر أم جندب وذكر طيبها ، وتحبب اليها ، وتشوق ، وذكر أنها عقيلة أتراب ، وأنها غابت عنه ، وأنه ولوع بمعرفة أخبارها ، « ألا ليت شعرى كيف حادث وصلها وذكر دَلَّها عليه ، ودعا خليله ليتبصر ظعائنها ، سوالك نَقْبًا بَيْنَ حَرْمَى شَعَبعَب » والحزم ما غلظ من الأرض والنقب الطريق بين جبلين، أحداث وشعبعب اسم ماء ، كل هذا وأم جندب من ورائه ، ثم تم كلامه ببكائه على فراق أم جندب ، وقال : و


وحكايات


فعَيْناكَ غَرْبَا جَدُولٍ فِي مُفَاضَةٍ


كَمر الخليج في صفيح مُصَوَّب


أراد يسيل الدمع منهما كما يسيل غربا جدول ، والغرب الدلو والمفاضة


الأرض الواسعة ، والجدول النهر الصغير ، والخليج الذي يتفرع من النهر الصغير ، ولا أعرف أنه وصف غزارة دمعه كما وصفه في هذا البيت ، ثم


ختم الحديث عن أم جندب بكلمة ذات إيحاء غريب هي قوله : وإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرِ ضَعِيف ولم يَغْلِبُكَ مثل مُغلب


وكأنه أحس بالمستور الخافي ، وأن أم جندب ستحكم حكما باطلا ، وأن هذا المغلب الذي هو علقمة سيغلب هذا الفحل ، ولما حكمت المرأة لعلقمة أدرك شيخ شعراء هذا اللسان أبو القروح أن هذه الحكومة ليست من الشعر في شيء ، وهو أعلم بشعره وبشعر علقمة ، والبيت الذي غلبت عليه علقمة به من أنفس شعر أمرئ القيس ، والقصيدة مفعمة بالإشارات والرموز (۱)


والإيحاءات ، وهى فى حاجة إلى دراسة دقيقة ، وموازنة ، بقصيدة علقمة ، ذَهَبْت من الهِجْرَانَ فِي كُلِّ مذهب » والمهم أن ما يثبته الشاعر في مقدمات


المقدمات


أقاويل


شعرية لا


غير
قصائده من حكايات وأحاديث ليست هذه الحكايات والأحاديث إلا حكايات


شعرية داخلة فى تكوين بناء شعرى لا يراد منه إلا الدلالة على مقدار شوط


القريحة ، والإخبار عن فضل القوة ، والاقتدار على التفنن في الصنعة » كما قال الشيخ الإمام رحمه الله ، وهذا هو تفسيره للمقدمات الطللية وهو كما أرى أعدل ما قيل في هذا .


وقد ربط عبد القاهر مقدمات الكتب بهذا فجعلها هي الأخرى معرضا يعرض فيه الكاتب قدراته النثرية ، لأن النثر أخو الشعر وإن كان لا يجرى معه، وإنما لكل منهما ميدانه


ومقدمة دلائل الإعجاز مقطوعة من النثر البليغ ، الذي يدلك على أن كاتب الكتاب ممن يعرفون أسرار الكلام ، يعرف صوغه ، وسبكه ، وتدبيجه ، ونحته ، وأنك لا تأخذ علم هذا العلم عن رجل أخذ كل بضاعته من كلام الناس ، وإنما أفاد من تجربته البيانية ، وأنه حين يقول لك ارجع إلى نفسك ، يقولها بعد ما رجع هو إلى نفسه ، مرة ومرة ، وحين يحدثك عن ترتيب الألفاظ في النطق على وفق ترتيب المعاني في النفس ، يحدثك عن شيء وجده وحين يقول إن من شأن المتكلم البصير أن يودع المعنى في نفس السامع على شكل كذا ، أو في حالة كذا ، إنما يستنبط من تجربته ، ويهتدى بنجمه ، ويستخرج من نبعه ، ويغرس لسانه في قلبه ، وعقله ، وهذا في باب العلم لا


يتجاهل قدره ولا تغمض عنه عين طالبه .


وهذا من أهم الأسباب التي جعلت حديث عبد القاهر في البلاغة يختلف عن كثير من رجالها ، وأحيلك إلى هذه الجملة ، التي وصف فيها المقدمات وأنها للدلالة على مقدار شوط القريحة ، والإخبار عن فضل القوة والاقتدار على التفنن في الصنعة ، ومن عيوبنا أننا نغمض العين عن هذا الجانب في دراستنا ، فتضيع منا معرفة قدره ، وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا التعبير فحاول أن تعبر عن معناه وأن تستخرج من لفظك ما يدل على هذا المعنى مع أن الشيخ وضعه بين يديك بعد أن اقتدحه بعقله، حتى استنبطه، وجرب نَفْسَكَ ، وَرُضُها على التعبير عن العلم، لأن القدرة على العبارة عن العلم هي
عدل تحصيله ، وتدقيقه ، بل واستنباطه ، والذي يُحصل العلم وليست لديه العبارة الصيغ اللغوية التي يعبر بها عنه نقصه نقص يُزرى ، وأعتقد أن الكدح في عن العلم


ترويض اللسان على أن ينال خافيات المعرفة في العلوم أشق وأصعب من تحصيل العلوم، وهذا عند من يروم أن يصوغ العلم الشريف باللفظ الشريف جوهر العلم


ثم إن أفضل ما قاله عبد القاهر في الجناس والسجع والفنون البلاغية كلها هو « لزوم سجية الطبع ( وأقول هي كلمة نفيسة ، وقاعدة رفيعة ليس في الشعر والبيان فحسب وإنما في كل ما يصدر عن الإنسان ، وليس أقبح من التكلف فى أى شيء ، وقد فسر الشيخ لزوم سجية الطبع بقوله « ولن تجد أيمن طائرا ، وأحسن أولا وآخرا ، وأهدى إلى الإحسان وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعانى على سجيتها ، وتدعها تطلب لأنفسها ، الألفاظ ، فإنها إذا تركت وما تريد ، لم تكتس إلا ما يليق بها ، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها
إن ملاك أمر البيان وطائره الميمون هو أن ترسل المعاني على سجية سجيتها، وكأن الشيخ لما ذكر الطائر ، وأتبعه بالإرسال ، أوماً إلى أن المعاني لما الطبع استخرجها الأديب الأريب من وكناتها ، وأرسلها حنت ومالت بأعناقها وبغمت فتوافي عليها ما هو أشبه بها من الألفاظ ارسالا ، وانثال عليها انثيالا .


وقد أشار الشيخ بقوله اكتست ما يليق بها إلى الاستعمال الحقيقي ، وبقوله ، ولم تلبس من المعارض إلا ما يُزينها إلى الاستعمال المجازي وقد فسر المعرض والحلى والزينة وَمَا جَرى مجراها بدلالة المعاني على المعاني كما في التمثيل والاستعارة والكناية


وفي طي هذا الكلام معنى جليل ، وأعنى بالكلام السابق فحواه ، وهو إرسال المعاني حرَّةً طليقة تختار هى ولا يختار لها قائلها وإن كانت من بناته وهو
الذي استخرجها ، ولكنها لما صارت كوائن مستقلة صار الاختيار حقا لها، وجزءا من جوهرها ، وصارت الحرية جزءا من ماهيتها ، أقول في طي هذا وهو أن الحرية جزء من فطرة الأشياء ، وأن من يتعامل مع فطرة الأشياء لا مفر له من أن يحفظ فطرتها هذه ، ويرعاها حق رعايتها سواء كان الذي يصدر عنه أدبا ، أو علما ، أو فكرا ، أو ما شئت من كل ما يمارسه الإنسان ، وبهذه الرعاية الكريمة يتألق كُل شيء بين يديه ، وتراه بغضارة الفطرة ، ونضارتها ، ترى هذا في علم العالم الذى له طبع وسجية ، كما تراه في كتابة الكاتب الذى له طبع وسجيه ، وفي شعر الشاعر الذي له طبع وسجيه، وكذلك في الصناعات ، حتى الاكتشافات العلمية المتقدمة يمكنك أن تقول إنها في حقيقتها كشف عن فطرة الأشياء ، وتوظيف لما في هذه الفطرة .


ويمكنك أن تقول أيضا وهكذا الإنسان إذا عاش حرا ، كريما ، موفور الحقوق ، غير مقهور ، ولا مغبون ، تألقت فطرته فيه، وتألق فكره ، وأنعكس ذلك على كل ما يصدر عنه ، فأحسن في عمارته ، ومتقلبه ، ومسعاه، وتقدم واكتسب في كل يوم ألقًا جديدا ، وخطوة جديدة ، وهكذا الشعوب ، وإذا قهر وظلم وأهدرت حقوقه، وعاش عبدا لعصابات «الأغاوات » وأولاد الأغاوات وخدم الأغاوات ، ضاع منه كل معنى شريف ، وتكدر ، حرية وكما الإنسان وتنغص ، وانعكس كدره ، وقهره ، وغبنه ، على كل ما يصدر عنه ، تنعكس أنك لا ترى الأدب الميمون الطائر ، إلا حيث ترى سجية الطبع ، كذلك لا على ترى حضارة ، ولا ازدهارا ، ولا تقدما ، إلا حيث ترى الإنسان الذي يتمتع أدبه بسجيّة الفطرة وترى حقوقه معصوبة برأسه ، وكأنها التاج فوق مفرقه .


ولا تظنن أن إرسال المعانى على سجيتها معناه أن قائلها لا يكدح ولا يقدح في طلبها واستخراجها ، وذلك لأن عبد القاهر لا يهتم بشيء ما لم يكن فيه مجهود ، بل وسكب من روح قائله ، ويقطع بأنك لا ترى المزية إلا حيث يكون الاحتشاد، والاحتفال، والتعمل ، والصنعة ، وإنه ليترك الفكرة أحيانا ، ويقف ليبعث اليقظة ، والجد، والصبر ، وترك الهوينا ، فيما يمارسه الإنسان من عمل ، سواء كان بحثا في تذوق الكلام ، أو كان انشاء له ، ويرى أنه من
الذي يزرى أن تتهاون فى أى عمل ، أو تتهاون بأى عمل بذل فيه صاحبه مجهودا وأفرغ فيه ذوبًا من نفسه ، وأسكنه حشاشة من قلبه ، ويقول إنك لو عثرت على نفيس من غير مجهود فلا يُغرينك ذلك بالتهاون به ، واذكر أنك إذا لم تكن قد أفرغت فيه كدك ، وكدحك ، فإن الذي أنشأه، قد أفرغ فيه كده ، وكدحه ، هذا مذهب الشيخ ويقول للدارس يجب أن يكون مجهودك في دراسة البيان مساوياً لمجهود من استخرجه ، ونسجه ، وبناه ، وكما استخرج كل نسج فيه من لحمه ودمه كذلك يجب أن تضع كل كلمة منه في لحمك و دمك ، حتى تروزها ، وتذوقها ، وتخبرها ، وتعرف مقدارها ، وأشياء كثيرة في هذا الباب تحتاج إلى درس من أهل الصبر والانقطاع يستخرجها ، لأنه جزء الكدح من منهج أهل العلم الذين أسسوا العلوم وأقاموا الحضارات ، ومثله مما يجب وبذل أن يظل تحت أعين الأجيال حتى لا تضل الطريق ومما ذكره في هذا أن من أهل المجهود کلفه العلم والأدب من تساعده قدراته ومواهبه على إخفاء هذا المجهود بإدخاله في باطن عمله وغرسه فيما وراء ظاهره وحتى يبدو هذا الظاهر لا جهد فيه ، ولا ، وإنما تخال فيه غضارة الميلاد، ونضارة الطبع حتى كأنه جاء سهلا رهو، وهذه مهارة عالية القدر ، أن تكدح ، وتكابد ، وتثابر ، ثم تجعل الشيء الذي كان فيه الكدح والمكابدة والمثابرة كأنه جاءك عفوا ، فتحببه عفويته هذه إلى النفوس فتميل نحوه وتصغو إليه .


ومن الناس من ترى رشح جبينه ينضح على ما يكتب ، وهؤلاء هم اللاحقون وهكذا ، قلت لا تظن أن إرسال المعانى على سجيتها يعنى الخلو من المجهود والبعد عن الاحتفال ، والاحتشاد ، والمكابدة ، لأن إرسالها إنما يكون بعد المعاناة في الكشف عن مخباتها ، واستخراجها من مضابئها ، وجمع أوابدها ، واقتناص شواردها ، فإذا ما توافت وصدع فجرها وتألق ألقها ورأيتها تهادت ، وحامت كالطيور البيض ، فأرسلها على سجيتها ، واتركها تناغى من الألفاظ ما هو أشبه بها


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

حيث هدف البحث إ...

حيث هدف البحث إلى تحليل تطورات سعر الصرف في جمهورية مصر العربية في الفتره (۲۰۱۵): (۲۰۱۹) ، أثر تقلبا...

مرحلة نظرية الو...

مرحلة نظرية الوزير: بمقتضى نص صادر 1790 منع القضاء من الفصل في المنازعات الإدراة فإن أخطأت الادارة ك...

عند تقريب مغناط...

عند تقريب مغناطيس او ابعاده من ملف او عندما يقطع سلك مجال مغناطيسي يتولد قوة دافعة كهربائية مستحثة ت...

- Microfluidic ...

- Microfluidic systems within collagen matrices replicate in vivo-like for disease modeling. - Exam...

عزيزي/تي قتيبه،...

عزيزي/تي قتيبه، تم حجز موعد في عيادة العلاج الطبيعي ب 01/01/2024 10:00AM الرجاء الحضور قبل الموعد بـ...

اهم ثلاث نقاط ل...

اهم ثلاث نقاط لتكون شابا ناجحا : 1. تحمل المسؤولية الكاملة عن حياتك كن مسؤولًا عن مكان وجودك في ...

جغرافيتها تطورت...

جغرافيتها تطورت الحضارة العربية الإسلامية خلال العصور التي درج المؤرخين الأوروبيين على تسميتها بالعص...

في تشرين الثاني...

في تشرين الثاني / نوفمبر 1968 بعث القنصل العام الأمريكي في الظهران بالمملكة العربية السعودية لي دينز...

المصادر البشرية...

المصادر البشرية تُعدّ أكبر مساهمة في تلوث الهواء في وقتنا الحاضر هي التي تأتي عن طريق تأثير الإنسان،...

يضم الكتاب السا...

يضم الكتاب السادس (4) في سلسة الشهادات التاريخية عينة جديدة من المناضلين والثوار أكثر عناصرها من رجا...

It means the di...

It means the distribution of the population in a specific geographical area, according to the differ...

وبعد ثماني سنوا...

وبعد ثماني سنوات عينه يوزف الثاني مؤلفاً موسيقياً للبلاط، وفي 1788 رئيساً لفرقة المنشدين. في هذه الو...