لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

االفصل الثاني: لماذا لم ينجز العقل العربي حداثته؟
الجابري وتكوين العقل العربي
التساؤل الجوهري المطروح هو لماذا لم يحقق العقل العربي حداثته، وبقي يعيش على هامش التاريخ، إن لم يكن قد خرج منه فعلاً. جرت محاولات كثيرة للخروج من عنق الزجاجة بدءاً من النهضة العربية.والمقارنة بين العقلين تجسدها قصة حي بن يقظان لابن طفيل و روبنسون كروزو لدانيال ديفو، حيث هناك تشابه ظاهر بينهما، واختلاف جوهري في طريقة تفكير كل منهما تجاه الإنسان والطبيعة والله التي تلخص فهمه للحياة وطريقة تعامله معها. تكوَّن في عصر التدوين، مع الانتباه إلى الفارق الزمني بين الأحداث وتاريخ تدوينها. وإذن فعصر التدوين هو الإطار المرجعي الحق للعقل العربي وليس العصر الجاهلي. دليل ذلك أن ما نعرفه عن ما قبل عصر التدوين إنما تم بناؤه في هذا العصر نفسه. كما أن ما جاء بعده لا يُفَهَم إلا بربطه به.لذلك يرى الجابري أن التاريخ الإسلامي "هو تاريخ الجزء وليس تاريخ الكل، وتاريخ الاختلاف في الرأي،" ولمعرفته يجب البحث عنه خارج كتب التاريخ التي حكمتها الآراء السياسية، إن الكلام الحاضر يحجب كلاماً آخر يمكن استنتاجه مهما كانت أساليب إقصائه. والأخطر في الموضوع هو أن الجميع يستندون إلى النص الديني في دعم مواقفهم وآرائهم التي يغلب عليها الطابع السياسي أكثر من الديني.88 ويبقى السؤال قائماً عن مدى الوثوقية بالخبر المنقول بعد حوالي قرن ونصف عن طريق المشافهة التي تعتمد صحة النسب والسند ولا تقف عند صحة الخبر. في ظل هذا الغياب للموضوعية وللصراعات السياسية التي شهدها عصر التدوين، وبناء على نقولات، الشك فيها أقرب من اليقين، تم "تثبيت العلاقة بين اللفظ والمعنى، أو الدال والمدلول" -النظام المعرفي البياني- وأكدتها بسند من نص ديني. و"لم يقتصر الأمر على تثبيت دلالة الألفاظ وإنما امتد ليشمل كل شيء: اللغة والدين والسياسة والعلاقات بين البشر، لقد وصلت إلينا حقائق مطلقة ليس علينا إلا الإيمان بها كما وصلت إلينا، الدال هنا مرتبط بمدلول ليس نحن من صنعناه، وإنما أولئك الذين دونوا التراث في عصر التدوين، وربطوه بالنص المقدس. كل شيء يجب أن يعود إلى الأصل، والأصل هنا هو نص مقدّس لا يمكن النقاش في دلالاته: "إن عملية التفكير في هذا العقل محكومة دوماً بـ (أصل)، وبعبارة أخرى إن العقل البياني فاعلية ذهنية لا تستطيع ولا تقبل ممارسة أي نشاط إِلَّا انطلاقاً من أصل معطى (= نص)، أو مستفاد من أصل معطى (ما ثبت بالإجماع أو القياس). في الحقل البياني تقوم كلها إما انطلاقاً من أصل، وفي أغلب الأحيان تجتمع هذه الثلاثة في عملية بيانية استدلالية واحدة.الأموات منذ أكثر من ألف عام ثبّوا مدلولات حياتنا المعاصرة رغم أنهم عاشوا في زمان ومكان مختلفين عما نحن فيه الآن. وهذه المشكلة الأساسية التي تعيق "أي عملية تحديث في العالم العربي" 91. لأن النظام المعرفي العربي الإسلامي يسيطر ويفرض نفسه على النظام المعرفي وقبله اللغوي."الهم الأول للنظام البياني العربي الإسلامي يتعلّق بالعلوم التي تخدم النص المقدّس." واكتفى بذلك لأن الصراعات المذهبية كانت كافية لإشغال العقل العربي بها وابتعاده عن التفكير بالعلوم الأخرى. وكان سائداً أن "تجري مصادرة أي معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء" -كما يقول نصر حامد أبو زيد. فالجهد كله منصب على النص المقدس، مما يفسر سبب "عطالة العقل العربي الإسلامي، وعجزه عن إطلاق حداثته الخاصة." وكل طرف يفسره وفق رؤيته الخاصة، ويدعي تمثيله الحقيقي والسليم والصحيح للنص القرآني، لدرجة أنه "ماثل بين النص وبين فهمه له. أي طابق بين ما فهمه واستنبطه من الأصل وبين الأصل ذاته، فأحل بذلك خطابه محل الخطاب الإلهي. وبذا صار التاريخي بديلاً عن المتعالي، وأصبحت القراءات أولى من الكتاب المقروء.وهذا يتضمن أنه "يمتلك الحقيقة المقدسة المطلقة، والآخر على ضلال." مع أن المعروف أنه لا وجود لحقيقة مطلقة. وأن تمترس كل طرف وراء حقيقة مطلقة ينكر وجود غيرها -وفق رؤية الجابري- سيؤدي حكماً إلى تحجر العقل واستقالته من مهامه، وإلى قيام حروب تقودها العصبيات تحت راية "الدفاع عن الحقيقة المتمثلة في النص-الأصل. لكنها لم تنتج إلا مزيداً من الفرقة والشقاق" والانغلاق على المعنى الخاص بكل طرف. "وذلك بسبب ارتباط الدال بالمدلول بصورة ثابتة عند كل طرف، ما يعني "جعل عملية الوحدة مستحيلة لأن كل شيء أصبح ثابتاً لا مجال لتغييره في العقول المتحزّبة لهذا الطرف أو ذاك.النظام الثاني هو العرفاني (ثنائية الظاهر/ الباطن) الذي لا يختلف كثيراً في بنيته عن سابقه (ثنائية الدال / المدلول). الفارق أن الأول ينطلق من الدال إلى مفهومه المدلول، بينما يعكس العرفاني الأمر ليصبح من المدلول إلى الدال، من الباطن إلى الظاهر: "هناك آراء جاهزة يُراد صرف معنى النص إليها وجعله ينطق بها. يبدو أن الجابري ينطلق من موقف رافض للخطاب المعارض للخطاب السني، لذلك يصف هؤلاء المعارضين بأصحاب "العقل المستقيل" الذين يذهبون باتجاه العزلة "والانزواء والهروب من العالم، والجنوح إلى تضخيم الفردية والذاتية، تضخيم العارف لأناه" 96. ينبه السيد هنا إلى أن آلية تثبيت معاني الدوال واحدة عند الجميع، فهي "لا تفسح المجال أمام الأجيال اللاحقة للتفكير في الخروج من هذه الدائرة التي رسمها السلف (الصالح). فالانغلاق على معنى واحد يساوي تماماً الوصول إلى "السياسي والاضطهاد الديني، والإرهاب العقائدي أو الفكري، كما يشهد على ذلك تاريخ الأديان والأيديولوجيات قديماً وحديثاً"97. فالنص الحقيقي هو المتعدد الذي ينتج التشابه والاختلاف، ويطرح أسئلة إجاباتها غير جاهزة، لأن المعرفة تأتي من السؤال لا من الجواب، ولدى الثقافة العربية الإسلامية أجوبة جاهزة للكبيرة والصغيرة في الحياة لا يجوز الخروج عنها. ولذلك يبقى دور العقل معطلاً لأنه يمتلك نظاماً صارماً من اليقينيات والإجابات القاطعة فلماذا يتساءل.في الثقافة العربية نقرأ داخل النص منذ القديم "ليس من أجل الحصول على المعرفة، وإنما من أجل العثور على الأجوبة التي أرسلها لنا الأقدمون.برى المؤلف أن "الأيديولوجيا التي حذّر من خطرها الجابري وقع هو فيها" ذلك أن المفكر المتزن "لا ينبغي أن ينطلق من موقف متحزَّبٍ لطرف على حساب طرف آخر، لأن الطرفين كان لهما دور أساسي في تقييد العلاقة بين الدال والمدلول، ومن ثم في التأسيس لخلاف وصراع لم يتوقفا منذ ألف وأربعمئة سنة تقريبا ولا يبدو أنه سيتتهي في وقت قريب. ويبدو أن الزمن لم يكن كفيلاً بحل هذا الخلاف، بل زاد من حدته إلى درجة تكفير كل طرف للطرف الآخر، وابتعاده عن المنهج الصحيح. الطرفان يقرآن النص نفسه، وكل طرف يستخرج منه ما يدعم موقفه ومن ثم ما يعمّق الهوة. المشكلة أن النص الأسامي غاب تحت ركام الهوامش والحواشي والشروحات والتفسيرات، فأصبحت النصوص على النص أهم من النص نفسه. كما هو الحال في ألفية ابن مالك.النظام الثالث هو البرهاني القائم على استنباط الأحكام بناء على الطريقة العلمية الصحيحة. وهو "يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر، ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى طلب اليقين. المغالطة هنا في توظيف نظام برهاني يؤمن بنزعة عقلية "للبرهنة على أمور تنتمي إلى عالم الغيب، وإذا اتهم الجابري المشارقة بأنهم أصحاب العقل المستقيل، وألحق بهم المتصوفة وابن سينا وإخوان الصفا بأنهم أفسدوا البرهانية، فإنه ينحاز إلى المغاربة ويصفهم بأنهم "وحدهم دعاة الحداثة والتجديد"104 ويدلي السيد هنا برأي يقول: "عدنا مرة أخرى، إلى موضوع ربط كل شيء بأصل، ومن ثم فإن أي نظام معرفي يُستخدّم سيقود إلى النتيجة نفسها. ولهذا فإن الأمور لا تتغيّر داخل النظم المعرفية الثلاثة بخصوص الأقطاب التي يتمحور حولها عقل الثقافة العربية الإسلامية: الله، الجميع يعمل من داخل النص نفسه، ليس من أجل طرح أسئلة جديدة للحصول على أجوبة جديدة، بل من أجل تأكيد ما هو معروف مقدّماً.وطالما أن العقل هو الأساس في النظام المعرفي البرهاني، "فلن يكون من المقبول -حسب قول الجابري نفسه- ولا حتى من الممكن أن يستند أصحابه في تأسيسه، داخل الثقافة العربية الإسلامية، إلى السلطات المرجعية التي تعتمدها هذه الثقافة: القرآن والحديث وتجربة السلف. إذا تناولنا فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ بالنموذج الغربي "الذي يجب أن تسعى الإنسانية للوصول إليه" 106، فإننا سنجد أن الديانات السماوية قد سبقته إلى هذا الاعتقاد بالقول إنها أسست نظاماً صالحاً لكل زمان ومكان. وكما ينظر إلى النموذج الغربي بأنه مثالي وعلى الجميع اتباعه، كان العصر الذهبي بالنسبة إلى الفكر الإسلامي هو عصر صدر الإسلام. وهو زمن المقدس والاكتمال (أي الزمن الأسطوري القابل للاستعادة والاسترجاع دائماً، عبر طقوس كاللباس والأعياد مثلاً)، وعلى الإنسان "التقرب من هذا النموذج الكامل وتمثله ومحاولة عيشه كما كان في زمانه،"إن الانشغال بتقليد القدماء في كل شيء يفقد الإنسان حسه التاريخي، بمعنى الفارق التاريخي
وتفكيرهم وتفكيرنا. إن الرغبة في استحضار الزمن البدئي للعقيدة يعطّل التفكير، ويُشغل عن التفكير بالحاضر والمستقبل. هل هذا هو سبب أزمة العقل العربي، المستمرين منذ عصر التدوين؟ "والثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكّلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية. فمعيار كمال الإنسان ونقائه مربوط باقترابه من الزمن المقدس. أي بالعودة إلى التاريخ فقط والاكتفاء به، مما ينسينا الحاضر والمستقبل -على عكس ما فعله الغرب. وبذلك يصبح الزمن متكرراً وثابتاً بدل أن يكون تطورياً.لا يرى المؤلف فروقاً بين الأنظمة المعرفية الثلاثة التي استخلصها الجابري، وتسهم كلها في "تجميد العقل العربي الإسلامي في لحظة تاريخية معينة" كان أصحابها أحراراً في استنباط المعاني ومنعوا لاحقيهم من فعل ذلك ثانية. "والنتيجة أن اللفظ يصبح أصلاً مضاعفاً، أصلاً للمعنى المستَنَبط منه بالتأويل، وأصلاً للمذهب الأيديولوجي الحامل لسلطة السلف." وهذا ما قصدناه بأن خطورة عصر التدوين تكمن في تثبيت العلاقة بين الدال والمدلول، ولا نستطيع فك هذه العلاقة، بسبب ارتباط كل شيء بالمقدّس، وهنا تكمن مشكلة العقل العربي المعاصر، فلا هو يريد الانفكاك عن ماضيه، ولا هو يستطيع الانفتاح على الفكر الغربي خوفاً من ضياع الهوية،ويخلص المؤلف إلى رأي في هذا المجال يقول: "لا يمكن العودة بالزمن إلى الخلف، ولهذا فإن علينا أن نعيش اللحظة الحاضرة، الأوروبي الذي قام بالقطيعة التاريخية مع ماضيه لا يتنكر لهذا الماضي، بل هو يعتز به لكنه يتعامل معه على أساس أنه ماض قام بدوره في لحظة تاريخية معينة، لكل عصر أسئلته التي يجب أن تنبثق من الواقع الحاضر، وعلينا أن نجيب عنها وفق ما يفرضه علينا هذا الواقع، وإلّا فإننا نكون نجاوب عن أسئلة طرحت في الماضي ولم تعد
وأعتقد أن العقل الأوروبي نجح في حل هذه المعادلة، لأنه طرح الأسئلة التي فرضها واقعه، واستطاع تفكيك المعوقات التي تعيق عملية الحداثة.ويستغرب المؤلف موقف الجابري الذي "يعترف بأزمة العقل العربي الناتجة عن السياق التاريخي الذي تشكل فيه"114، لكنه يصر على "الدعوة إلى التجديد من داخل التراث"، فيقع في تناقض واضح حين يقول: "اللغة،التي تتكوّن منها المرجعية التراثية التي قلنا إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي وتحديثه إلا بالتحرّر من سلطانها.ويطرح المؤلف التساؤل: هل يمكن التجديد فعلاً من داخل التراث؟112. إذا كان التراث -كما يقول الجابري- سبب أزمتنا المعاصرة، فأي تراث يريد اعتماده: الجزء لا الكل، المركز لا الهامش؟ لابد من الاعتراف بالسبب الأساسي للأزمة (الزمن المقدس وفق نص مقدس وأصل مقدس) التي وضعتنا خارج التاريخ بصورة نهائية. ويشخص مطاع الصفدي الحالة بقوله: "لقد حاربناه [المشروع الثقافي الغربي] نحن كذلك بدورنا، لكن دون أن نكسب منه ثروة ولا استعماراً معاكساً بل فزنا منه بإعادة إنتاج عزلتنا، وسميناها استقلالاً في حين كان الغرب يغربن العالم كله، يستولي علينا عبر انبهارنا بما هو فيه مختلف عناء في أشيائه وألاعيبه وتقنياته. لأن الأمر يحتاج إلى تحرر من القيود التي يُضفى عليها صبغة القداسة. والعقل الغربي لم يبدأ حداثته إلا بعد أن قام بعملية قتل رمزية للأبوة والتراث، لكن لكل زمن أسئلته ومتطلباته، ولابد من التفكير فيها وفق زمنها بعيداً عن تكبيلها بما رأه الزمن الماضي، أو متحررة من الحلول التي فرضها القدماء ولمرة واحدة، ولا يزالون أحياء معنا بواسطتها إلى اليوم."ومن ثم فإن عملية التجديد من داخل التراث التي يدعو إليها الجابري لن تؤدي إلى التغيير المطلوب للخروج من هذه الحلقة المفرغة التي دخل فيها العقل العربي منذ عصر التدوين.الرد (يجب أن تكون الردود) على الجابري:
أهمها رد جورج طرابيشي الذي أخذ على الجابري توظيفه "الإبستيمولوجيا في خدمة الأيديولوجيا. وهي أيديولوجيا متعصّبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية،"120. ولو دققنا فيما قاله طرابيشي لوجدناه يريد القول: أن تعصب الجابري لانتمائه (المغاربي، السني، فلم يتمكن من الخروج من إطاره المرجعي ليعترف بأن الحل هو بترك التاريخ للتاريخ بكل سلبياته وإيجابياته، ولنبحث الآن، عن حداثة تنهي مأساة فكرية ومجتمعية امتدت لما يزيد على ألف عام.120
وعدَّ فلسفته المسؤولة عن "قتل العقل والمنطق في الوعي العربي لقرون طويلة."121. ويصف طرابيشي هذه الحملة "بأنها ذات طبيعة هذائية"." ص.123. وتمييزه بين عقل سني وعقل شيعي، واللتين شكلتا الوعي الجمعي للأفراد.125. أزمة الخطاب العربي المعاصر
هي أزمة العقل نفسه. لكن إذا كان فيها خلل في الصناعة فإنها لن تنتج ما هي مصممة من أجله، لأن المرض فيها أصلاً. وهكذا حال العقل العربي لن ينتج معرفة جديدة طالما أنه مركب بطريقة خاطئة. الخطاب يحمل علامات العقل الذي ينتجه، ونحن نتعرف في الخطاب العربي المعاصر على "علامات اللا-عقل" كما يقول الجابري.149 وموضوعات الخطاب العربي الحديث والمعاصر بأنواعه المتعددة متشابهة "مهما اختلفت الأيديولوجيا التي يستند إليها"149. وإنما هو "بعض أصداء التطور في فكر الآخر، الفكر الأوروبي"150. والموضوعات التي طرحها خطاب عصر النهضة ما زالت مستعادة إلى اليوم، ولم يتحقق منها شيء فعلي يغير الخطاب القديم. وكأنها مسألة ثبات واستقرار لا حلول لها. والغريب أن المرجعيتين اللتين يصدر عنهما الخطاب العربي المعاصر لا تتغيران أبداً: العربية الإسلامية القديمة و الأوروبية الحديثة. "إنها ثنائية لا مفر منها"151. ومع ذلك ينحصر التفكير بأي قضية في داخل واحدة من المرجعيتين.152.الخطاب الديني ينتقد خطاب النهضة لتأثره بأفكار غربية. ويرى إلى الآن أن الماضي هو الأساس، وعلينا أن نصوغ الحاضر وفق صورة الماضي، أي أنه كفر، والكافر في النار. وهذا هو الصوت الأوسع والأعلى في الخطاب الفكري العربي المعاصر. ومذهب واحد وفرقة واحدة، والباقي في النار، فامحى التعدد من حياتنا وغاب الحوار بين الآراء المتعارضة"158.


النص الأصلي

االفصل الثاني: لماذا لم ينجز العقل العربي حداثته؟
الجابري وتكوين العقل العربي
التساؤل الجوهري المطروح هو لماذا لم يحقق العقل العربي حداثته، وبقي يعيش على هامش التاريخ، إن لم يكن قد خرج منه فعلاً. 81. جرت محاولات كثيرة للخروج من عنق الزجاجة بدءاً من النهضة العربية.
82
والمقارنة بين العقلين تجسدها قصة حي بن يقظان لابن طفيل و روبنسون كروزو لدانيال ديفو، حيث هناك تشابه ظاهر بينهما، واختلاف جوهري في طريقة تفكير كل منهما تجاه الإنسان والطبيعة والله التي تلخص فهمه للحياة وطريقة تعامله معها.
85
يلاحظ الجابري أن العقل، المنتج للمعرفة، تكوَّن في عصر التدوين، أي سنة مئة واثنتين وأربعين للهجرة، مع الانتباه إلى الفارق الزمني بين الأحداث وتاريخ تدوينها.86 [...] وإذن فعصر التدوين هو الإطار المرجعي الحق للعقل العربي وليس العصر الجاهلي. ولا العصر الإسلامي الأول ولا ما قبلها. دليل ذلك أن ما نعرفه عن ما قبل عصر التدوين إنما تم بناؤه في هذا العصر نفسه. كما أن ما جاء بعده لا يُفَهَم إلا بربطه به." 87.
لذلك يرى الجابري أن التاريخ الإسلامي "هو تاريخ الجزء وليس تاريخ الكل، وتاريخ الاختلاف في الرأي، وليس تاريخ بناء الرأي." ولمعرفته يجب البحث عنه خارج كتب التاريخ التي حكمتها الآراء السياسية، وغابت عنها الموضوعية. 88. إن الكلام الحاضر يحجب كلاماً آخر يمكن استنتاجه مهما كانت أساليب إقصائه. والأخطر في الموضوع هو أن الجميع يستندون إلى النص الديني في دعم مواقفهم وآرائهم التي يغلب عليها الطابع السياسي أكثر من الديني.88 ويبقى السؤال قائماً عن مدى الوثوقية بالخبر المنقول بعد حوالي قرن ونصف عن طريق المشافهة التي تعتمد صحة النسب والسند ولا تقف عند صحة الخبر. في ظل هذا الغياب للموضوعية وللصراعات السياسية التي شهدها عصر التدوين، وبناء على نقولات، الشك فيها أقرب من اليقين، تم "تثبيت العلاقة بين اللفظ والمعنى، أو الدال والمدلول" -النظام المعرفي البياني- وأكدتها بسند من نص ديني. و"لم يقتصر الأمر على تثبيت دلالة الألفاظ وإنما امتد ليشمل كل شيء: اللغة والدين والسياسة والعلاقات بين البشر، والأخلاق، إلخ. بمعنى آخر، لقد وصلت إلينا حقائق مطلقة ليس علينا إلا الإيمان بها كما وصلت إلينا، لأنها تحمل صفة القداسة. لا داعي لأن نُعمل عقولنا، ونجدّد فكرنا، لأن القدماء أعفونا من هذه المهمة. الدال هنا مرتبط بمدلول ليس نحن من صنعناه، وإنما أولئك الذين دونوا التراث في عصر التدوين، وربطوه بالنص المقدس. كل شيء يجب أن يعود إلى الأصل، والأصل هنا هو نص مقدّس لا يمكن النقاش في دلالاته: "إن عملية التفكير في هذا العقل محكومة دوماً بـ (أصل)، وبعبارة أخرى إن العقل البياني فاعلية ذهنية لا تستطيع ولا تقبل ممارسة أي نشاط إِلَّا انطلاقاً من أصل معطى (= نص)، أو مستفاد من أصل معطى (ما ثبت بالإجماع أو القياس)... إن المعرفة العقلية، في الحقل البياني تقوم كلها إما انطلاقاً من أصل، وإما انتهاءً
إلى أصل، وإما بتوجيه من أصل. وفي أغلب الأحيان تجتمع هذه الثلاثة في عملية بيانية استدلالية واحدة."90
الأموات منذ أكثر من ألف عام ثبّوا مدلولات حياتنا المعاصرة رغم أنهم عاشوا في زمان ومكان مختلفين عما نحن فيه الآن. وهذه المشكلة الأساسية التي تعيق "أي عملية تحديث في العالم العربي" 91. لأن النظام المعرفي العربي الإسلامي يسيطر ويفرض نفسه على النظام المعرفي وقبله اللغوي.
91
"الهم الأول للنظام البياني العربي الإسلامي يتعلّق بالعلوم التي تخدم النص المقدّس." واكتفى بذلك لأن الصراعات المذهبية كانت كافية لإشغال العقل العربي بها وابتعاده عن التفكير بالعلوم الأخرى. وكان سائداً أن "تجري مصادرة أي معرفة لا سند لها من الخطاب الديني، أو من سلطة العلماء" -كما يقول نصر حامد أبو زيد. فالجهد كله منصب على النص المقدس، مما يفسر سبب "عطالة العقل العربي الإسلامي، وعجزه عن إطلاق حداثته الخاصة." وكل طرف يفسره وفق رؤيته الخاصة، ويدعي تمثيله الحقيقي والسليم والصحيح للنص القرآني، لدرجة أنه "ماثل بين النص وبين فهمه له. أي طابق بين ما فهمه واستنبطه من الأصل وبين الأصل ذاته، فأحل بذلك خطابه محل الخطاب الإلهي. وبذا صار التاريخي بديلاً عن المتعالي، وقام الفرع مقام الأصل، وأصبحت القراءات أولى من الكتاب المقروء."92
وهذا يتضمن أنه "يمتلك الحقيقة المقدسة المطلقة، والآخر على ضلال." مع أن المعروف أنه لا وجود لحقيقة مطلقة. وأن تمترس كل طرف وراء حقيقة مطلقة ينكر وجود غيرها -وفق رؤية الجابري- سيؤدي حكماً إلى تحجر العقل واستقالته من مهامه، وإلى قيام حروب تقودها العصبيات تحت راية "الدفاع عن الحقيقة المتمثلة في النص-الأصل. المشكلة أن هذه الحروب، بما فيها حروب الردة، رفعت راية التوحيد، لكنها لم تنتج إلا مزيداً من الفرقة والشقاق" والانغلاق على المعنى الخاص بكل طرف. "وذلك بسبب ارتباط الدال بالمدلول بصورة ثابتة عند كل طرف، ما يعني "جعل عملية الوحدة مستحيلة لأن كل شيء أصبح ثابتاً لا مجال لتغييره في العقول المتحزّبة لهذا الطرف أو ذاك.
النظام الثاني هو العرفاني (ثنائية الظاهر/ الباطن) الذي لا يختلف كثيراً في بنيته عن سابقه (ثنائية الدال / المدلول). الفارق أن الأول ينطلق من الدال إلى مفهومه المدلول، بينما يعكس العرفاني الأمر ليصبح من المدلول إلى الدال، من الباطن إلى الظاهر: "هناك آراء جاهزة يُراد صرف معنى النص إليها وجعله ينطق بها."95. يبدو أن الجابري ينطلق من موقف رافض للخطاب المعارض للخطاب السني، لذلك يصف هؤلاء المعارضين بأصحاب "العقل المستقيل" الذين يذهبون باتجاه العزلة "والانزواء والهروب من العالم، والجنوح إلى تضخيم الفردية والذاتية، تضخيم العارف لأناه" 96. ينبه السيد هنا إلى أن آلية تثبيت معاني الدوال واحدة عند الجميع، فهي "لا تفسح المجال أمام الأجيال اللاحقة للتفكير في الخروج من هذه الدائرة التي رسمها السلف (الصالح)."97. فالانغلاق على معنى واحد يساوي تماماً الوصول إلى "السياسي والاضطهاد الديني، والإرهاب العقائدي أو الفكري، كما يشهد على ذلك تاريخ الأديان والأيديولوجيات قديماً وحديثاً"97. فالنص الحقيقي هو المتعدد الذي ينتج التشابه والاختلاف، ويطرح أسئلة إجاباتها غير جاهزة، لأن المعرفة تأتي من السؤال لا من الجواب، ولدى الثقافة العربية الإسلامية أجوبة جاهزة للكبيرة والصغيرة في الحياة لا يجوز الخروج عنها. ولذلك يبقى دور العقل معطلاً لأنه يمتلك نظاماً صارماً من اليقينيات والإجابات القاطعة فلماذا يتساءل.98.
في الثقافة العربية نقرأ داخل النص منذ القديم "ليس من أجل الحصول على المعرفة، وإنما من أجل العثور على الأجوبة التي أرسلها لنا الأقدمون."100.
برى المؤلف أن "الأيديولوجيا التي حذّر من خطرها الجابري وقع هو فيها" ذلك أن المفكر المتزن "لا ينبغي أن ينطلق من موقف متحزَّبٍ لطرف على حساب طرف آخر، لأن الطرفين كان لهما دور أساسي في تقييد العلاقة بين الدال والمدلول، ومن ثم في التأسيس لخلاف وصراع لم يتوقفا منذ ألف وأربعمئة سنة تقريبا ولا يبدو أنه سيتتهي في وقت قريب. ويبدو أن الزمن لم يكن كفيلاً بحل هذا الخلاف، بل زاد من حدته إلى درجة تكفير كل طرف للطرف الآخر، وابتعاده عن المنهج الصحيح. الطرفان يقرآن النص نفسه، وكل طرف يستخرج منه ما يدعم موقفه ومن ثم ما يعمّق الهوة. المشكلة أن النص الأسامي غاب تحت ركام الهوامش والحواشي والشروحات والتفسيرات، فأصبحت النصوص على النص أهم من النص نفسه."101. كما هو الحال في ألفية ابن مالك.
النظام الثالث هو البرهاني القائم على استنباط الأحكام بناء على الطريقة العلمية الصحيحة. وهو "يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها، في اكتساب معرفة
بالكون ككل وكأجزاء، لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر، ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى طلب اليقين."102. المغالطة هنا في توظيف نظام برهاني يؤمن بنزعة عقلية "للبرهنة على أمور تنتمي إلى عالم الغيب، الذي هو عالم الدين"102. وإذا اتهم الجابري المشارقة بأنهم أصحاب العقل المستقيل، وألحق بهم المتصوفة وابن سينا وإخوان الصفا بأنهم أفسدوا البرهانية، فإنه ينحاز إلى المغاربة ويصفهم بأنهم "وحدهم دعاة الحداثة والتجديد"104 ويدلي السيد هنا برأي يقول: "عدنا مرة أخرى، مع النظام البرهاني، إلى موضوع ربط كل شيء بأصل، ومن ثم فإن أي نظام معرفي يُستخدّم سيقود إلى النتيجة نفسها. ولهذا فإن الأمور لا تتغيّر داخل النظم المعرفية الثلاثة بخصوص الأقطاب التي يتمحور حولها عقل الثقافة العربية الإسلامية: الله، الإنسان، الطبيعة. الجميع يعمل من داخل النص نفسه، ليس من أجل طرح أسئلة جديدة للحصول على أجوبة جديدة، بل من أجل تأكيد ما هو معروف مقدّماً."105.
وطالما أن العقل هو الأساس في النظام المعرفي البرهاني، "فلن يكون من المقبول -حسب قول الجابري نفسه- ولا حتى من الممكن أن يستند أصحابه في تأسيسه، داخل الثقافة العربية الإسلامية، إلى السلطات المرجعية التي تعتمدها هذه الثقافة: القرآن والحديث وتجربة السلف."106.
بالمقابل، إذا تناولنا فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ بالنموذج الغربي "الذي يجب أن تسعى الإنسانية للوصول إليه" 106، فإننا سنجد أن الديانات السماوية قد سبقته إلى هذا الاعتقاد بالقول إنها أسست نظاماً صالحاً لكل زمان ومكان. وكما ينظر إلى النموذج الغربي بأنه مثالي وعلى الجميع اتباعه، كان العصر الذهبي بالنسبة إلى الفكر الإسلامي هو عصر صدر الإسلام. وهو زمن المقدس والاكتمال (أي الزمن الأسطوري القابل للاستعادة والاسترجاع دائماً، عبر طقوس كاللباس والأعياد مثلاً)، والآخر دنيوي، وعلى الإنسان "التقرب من هذا النموذج الكامل وتمثله ومحاولة عيشه كما كان في زمانه، إذ لا مجال لأي تعديل أو تجديد."107.
"إن الانشغال بتقليد القدماء في كل شيء يفقد الإنسان حسه التاريخي، بمعنى الفارق التاريخي
بين زمنهم وزمننا، وحياتهم وحياتنا، وتفكيرهم وتفكيرنا. إن الرغبة في استحضار الزمن البدئي للعقيدة يعطّل التفكير، ويُشغل عن التفكير بالحاضر والمستقبل. هل هذا هو سبب أزمة العقل العربي، ومن ثم الثقافة العربية، المستمرين منذ عصر التدوين؟ "والثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكّلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية."109. فمعيار كمال الإنسان ونقائه مربوط باقترابه من الزمن المقدس. أي بالعودة إلى التاريخ فقط والاكتفاء به، مما ينسينا الحاضر والمستقبل -على عكس ما فعله الغرب. وبذلك يصبح الزمن متكرراً وثابتاً بدل أن يكون تطورياً.110
لا يرى المؤلف فروقاً بين الأنظمة المعرفية الثلاثة التي استخلصها الجابري، وتسهم كلها في "تجميد العقل العربي الإسلامي في لحظة تاريخية معينة" كان أصحابها أحراراً في استنباط المعاني ومنعوا لاحقيهم من فعل ذلك ثانية.111. "والنتيجة أن اللفظ يصبح أصلاً مضاعفاً، أصلاً للمعنى المستَنَبط منه بالتأويل، البياني أو العرفاني، وأصلاً للمذهب الأيديولوجي الحامل لسلطة السلف." وهذا ما قصدناه بأن خطورة عصر التدوين تكمن في تثبيت العلاقة بين الدال والمدلول، ولا نستطيع فك هذه العلاقة، بسبب ارتباط كل شيء بالمقدّس، أو بالنص الأصل. وهنا تكمن مشكلة العقل العربي المعاصر، فلا هو يريد الانفكاك عن ماضيه، ولا هو يستطيع الانفتاح على الفكر الغربي خوفاً من ضياع الهوية، ولا سيما الهوية الدينية."111.
ويخلص المؤلف إلى رأي في هذا المجال يقول: "لا يمكن العودة بالزمن إلى الخلف، ولهذا فإن علينا أن نعيش اللحظة الحاضرة، ونخطط للمستقبل. الأوروبي الذي قام بالقطيعة التاريخية مع ماضيه لا يتنكر لهذا الماضي، بل هو يعتز به لكنه يتعامل معه على أساس أنه ماض قام بدوره في لحظة تاريخية معينة، وانتهى هذا الدور. لكل عصر أسئلته التي يجب أن تنبثق من الواقع الحاضر، وعلينا أن نجيب عنها وفق ما يفرضه علينا هذا الواقع، وإلّا فإننا نكون نجاوب عن أسئلة طرحت في الماضي ولم تعد
مطروحة الآن، وأعتقد أن العقل الأوروبي نجح في حل هذه المعادلة، لأنه طرح الأسئلة التي فرضها واقعه، واستطاع تفكيك المعوقات التي تعيق عملية الحداثة."113.
ويستغرب المؤلف موقف الجابري الذي "يعترف بأزمة العقل العربي الناتجة عن السياق التاريخي الذي تشكل فيه"114، لكنه يصر على "الدعوة إلى التجديد من داخل التراث"، فيقع في تناقض واضح حين يقول: "اللغة، الشريعة، العقيدة، السياسة (سياسة الماضي وسياسة الحاضر)، تلك هي العناصر الرئيسية
التي تتكوّن منها المرجعية التراثية التي قلنا إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي وتحديثه إلا بالتحرّر من سلطانها."115.
ويطرح المؤلف التساؤل: هل يمكن التجديد فعلاً من داخل التراث؟112. إذا كان التراث -كما يقول الجابري- سبب أزمتنا المعاصرة، فأي تراث يريد اعتماده: الجزء لا الكل، المركز لا الهامش؟ لابد من الاعتراف بالسبب الأساسي للأزمة (الزمن المقدس وفق نص مقدس وأصل مقدس) التي وضعتنا خارج التاريخ بصورة نهائية. ويشخص مطاع الصفدي الحالة بقوله: "لقد حاربناه [المشروع الثقافي الغربي] نحن كذلك بدورنا، لكن دون أن نكسب منه ثروة ولا استعماراً معاكساً بل فزنا منه بإعادة إنتاج عزلتنا، وسميناها استقلالاً في حين كان الغرب يغربن العالم كله، يستولي علينا عبر انبهارنا بما هو فيه مختلف عناء في أشيائه وألاعيبه وتقنياته."117.
الإجابة بالنفي، لأن الأمر يحتاج إلى تحرر من القيود التي يُضفى عليها صبغة القداسة. والعقل الغربي لم يبدأ حداثته إلا بعد أن قام بعملية قتل رمزية للأبوة والتراث، رغم النظر إليهما باعتزاز، لكن لكل زمن أسئلته ومتطلباته، ولابد من التفكير فيها وفق زمنها بعيداً عن تكبيلها بما رأه الزمن الماضي، أو متحررة من الحلول التي فرضها القدماء ولمرة واحدة، ولا يزالون أحياء معنا بواسطتها إلى اليوم.118 ويقول السيد: "
"ومن ثم فإن عملية التجديد من داخل التراث التي يدعو إليها الجابري لن تؤدي إلى التغيير المطلوب للخروج من هذه الحلقة المفرغة التي دخل فيها العقل العربي منذ عصر التدوين."119.
الرد (يجب أن تكون الردود) على الجابري:
أهمها رد جورج طرابيشي الذي أخذ على الجابري توظيفه "الإبستيمولوجيا في خدمة الأيديولوجيا. وهي أيديولوجيا متعصّبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي، في خاتمة المطاف، ضد الإسلام الروحي."120. ولو دققنا فيما قاله طرابيشي لوجدناه يريد القول: أن تعصب الجابري لانتمائه (المغاربي، السني، السياسي) أبعده عن الموضوعية في تحليله، فلم يتمكن من الخروج من إطاره المرجعي ليعترف بأن الحل هو بترك التاريخ للتاريخ بكل سلبياته وإيجابياته، ولنبحث الآن، خارج النص التاريخي المقدس، عن حداثة تنهي مأساة فكرية ومجتمعية امتدت لما يزيد على ألف عام.120
ويستغرب طرابيشي الهجوم الحاد للجابري على ابن سينا الذي عدّه "أكبر مكرِّس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام"121، وعدَّ فلسفته المسؤولة عن "قتل العقل والمنطق في الوعي العربي لقرون طويلة."121. ويصف طرابيشي هذه الحملة "بأنها ذات طبيعة هذائية". ويرصد تناقضات الجابري في أعماله التي يقدم عبرها آراء متضادة كتعليله الخضوع للسلطتين السياسية والدينية بالأثر الفارسي، وينفي في الوقت نفسه وجود أي تأثر "للثقافات والشرائع السابقة على الإسلام" على "التفكير الفقهي الإسلامي." ص.123. وتمييزه بين عقل سني وعقل شيعي، ويتحدث في الوقت نفسه عن البيئة الصحراوية للعرب وعن اللغة التي هي وعاء الفكر، واللتين شكلتا الوعي الجمعي للأفراد.125. يضاف إلى ذلك أن العقلين ينتسبان إلى منظومة اساسها الديني.
أزمة الخطاب العربي المعاصر
هي أزمة العقل نفسه. فالآلة التي تصنع تقدم نتاجاً جيداً إذا كانت سليمة وتعمل بصورة صحيحة. لكن إذا كان فيها خلل في الصناعة فإنها لن تنتج ما هي مصممة من أجله، لأن المرض فيها أصلاً. وهكذا حال العقل العربي لن ينتج معرفة جديدة طالما أنه مركب بطريقة خاطئة. الخطاب يحمل علامات العقل الذي ينتجه، ونحن نتعرف في الخطاب العربي المعاصر على "علامات اللا-عقل" كما يقول الجابري.149 وموضوعات الخطاب العربي الحديث والمعاصر بأنواعه المتعددة متشابهة "مهما اختلفت الأيديولوجيا التي يستند إليها"149. لغة الخطابات مختلفة أكيد لكنها لا تعكس "تطوراً حقيقياً في الفكر العربي والعقل المنتِج، وإنما هو "بعض أصداء التطور في فكر الآخر، الفكر الأوروبي"150. والموضوعات التي طرحها خطاب عصر النهضة ما زالت مستعادة إلى اليوم، ولم يتحقق منها شيء فعلي يغير الخطاب القديم. وكأنها مسألة ثبات واستقرار لا حلول لها. والغريب أن المرجعيتين اللتين يصدر عنهما الخطاب العربي المعاصر لا تتغيران أبداً: العربية الإسلامية القديمة و الأوروبية الحديثة. "إنها ثنائية لا مفر منها"151. وهما منفصلتان عن الواقع العربي المعاصر، ومع ذلك ينحصر التفكير بأي قضية في داخل واحدة من المرجعيتين.152.
الخطاب الديني ينتقد خطاب النهضة لتأثره بأفكار غربية. ويرى إلى الآن أن الماضي هو الأساس، وعلينا أن نصوغ الحاضر وفق صورة الماضي، وأي ابتعاد عنه هو انحراف وضلال، "ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور"156. أي أنه كفر، والكافر في النار. وهذا هو الصوت الأوسع والأعلى في الخطاب الفكري العربي المعاصر. والحل بالنسبة إليه لا يكون إلا بجعل الماضي أصلاً والحاضرِ فرعاً. وأهل الخطاب الديني يعتقدون بـ "حضارة واحدة لا تتعدد، ومذهب واحد وفرقة واحدة، والباقي في النار، فامحى التعدد من حياتنا وغاب الحوار بين الآراء المتعارضة"158. وهذه الواحدية لم تكن في يوم من الأيام موجودة في التاريخ العربي، فما بالك بالإسلامي؟


محاولة محمد علي باشا تستحق الاهتمام بوصفها حاملة لطموح بناء دولة حديثة تستطيع إثبات نفسها في مواجهة الغرب.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

‏1. Exporting: ...

‏1. Exporting: - In this initial stage, the firm starts selling its products or services in foreign ...

إن الاعتدال وال...

إن الاعتدال والوسطية في المنهج الإسلامي من المسلمات المهمة للتعايش وبناء السلام، وعلى هذا المنوال نج...

وينبغـي أن يالح...

وينبغـي أن يالحـظ أن العبـرة فـي وصـف المـادة بأنهـا سـامة أم ال، ليسـت بطبيعـة هـذه المـادة فـي ذات...

* Links surroun...

* Links surrounding window themes and frames the doors. * The connections between walls and foundat...

يشير الكتاب الى...

يشير الكتاب الى مسار المرض باعتباره محددا اساسيا في رحلة العلاج للمرضى منطلقا من تعريف أنسيلم ستراوس...

Voltage Transfo...

Voltage Transformation: It steps up the input voltage to a higher voltage required for generating th...

5G networks hav...

5G networks have been widely deployed all over the world, which involve massive multiple-in-put mult...

قانون مندل الاو...

قانون مندل الاول : عند تزاوج فردين أو اكثر فإنهما ينتجان بعد تزاوجهما جيلا يحمل الصفه السائده وتورث ...

نقلت وكالة رويت...

نقلت وكالة رويترز، عن مصادر وصفتها بالأمنية البحرية أن الحوثيين استخدموا سلاحا في البحر الأحمر مع تص...

سلط الكاتب الضو...

سلط الكاتب الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ علم الفلك، وهي مرحلة ازدهاره في العصر الذهبي للإسلام. وركز ...

من الناحية المو...

من الناحية الموضوعية، يجب أن يكون هناك نزاع محدد يمكن حله عبر التحكيم، ويجب أن تكون إرادة الأطراف ال...

"هل تريد أن تجع...

"هل تريد أن تجعل صيف أطفالك 🤵 مليئًا بالمرح والمغامرات؟ لدينا كل ما تحتاجه لجعل كل يوم على الشاطئ 🏖️...