كَانَ فِي سَالِفِ الزَّمَان ، عَظِيمٌ مِنَ الْعُظَمَاءِ يَعِيشُ فِي قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ شَاطِى الْبَحْر ، وَيَمْتَلِكُ فِيهَا الْمَزَارِعَ الْوَاسِعَةَ
الْجَمِيلَة.
وَكَانَ لِهذَا الْعَظِيم ابْن بَهِىُّ الطَّلْعَة ، ذَهَيُّ الشَّعْر ، مَمْشُوقُ الْقَامَة ، مَفْتُولُ السَّاعِدَيْنِ اسْمُهُ ( أَنْوَر » ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ أَضَافُوا إِلَى اسْمِهِ لَقَبَ « شُجَاع » ، فَقَدْ رَأَوْهُ يَوْمًا وَهُوَ بَعْدُ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ ، يَهْجُمُ عَلَى ذِئْبٍ ضَغْم ، وَيَكِيلُ لَهُ الَّضَرَبَات بِفَأْسٍ كَانَتْ فِي يَدِه، حَتَّى سَقَطَ الذِّئْبُ قَتِيلًا .
لَبِ أَنْوَرُ ذَاتَ صَبَاحِ مَلَابِسَ السَّفَر ، وَدَخَلَ عَلَى وَالِدِه، وَرَكَعَ أَمَامَهُ وَقَال :
- « يَا سَيِّدِي وَأَبِى ! لَقَدْ بَلَغْتُ الْيَوْمَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِي ، وَأَوَدُّ لَوْ أُجَرِّبُ حَظِّى فِي الْحَيَاة ، فَأَذَنْ لِي فِي.
الرَّحِيلِ مُزَوَّدًا بِبَرَكَتِك ».
فَأَثَّرَ هَذَا الْكَلَاَمُ فِي تَفْسِ أَبِيه ، وَلَكِنَّهُ كَتَمَ شُعُورَهُ
وَقَال :
- « إِنَّكَ لَعَلَى حَقّ يَا وَلَدِي ، فَمَا كُنْتُ لِأَحُولَ دُونَ رَغْبَتِكَ وَطُمُوحِك ، فَسِرْ تُرَافِقْكَ بَرَكَتِي وَدَعَوَالِي » .
تَهَلَّلَ وَجْهُ أَنْوَر سُرُورًا، وَوَدَّعَ الْأَهْلَ وَالْأَتْبَاعِ ، ثُمَّ غَادَرَ الْقَصْرِ ، وَانْطَلَقَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ مُنْتَهِجَ الْفُوَاد .
وَاسْتَمَرَّ يَسِيرُ فِي رِحْلتِهِ مُتَنَقِّلًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مُدَّةَ ثَلاثِ سَنَوات . وَلَمْ تَغْلُ رِحْلَتُهُ هَذِهِ مِنْ أَشْرَارٍ تَعَرَّضُوا لَه ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي صرَاعِ خَرَجَ مِنْهُ تَارَةً غَالِبًا وَطَوْرًا مَغْلُوبًا .
وَاتَّفَّقَ لَهُ أَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَا الإِشْتِرَاكُ فِي حَمْلَةٍ بَعْرِيَّة ، هَدَفُهَا تَأْدِيبُ جَمَاعَةٍ مِنْ لُصُوصِ الْبِحَار ، فَقَبِلَ رَاضِيًّا ، وَاتَّخَذَ مَكَانَهُ مِنَ السَّفِينَة، فَسَارَتْ لَيْلًا تَمَخُرُ عُبَابَ الْمَاء ، فِي رِيحِ هَادِئَة، وَمَوْجٍ سَاكِن، وَسَمَاءٍ مُرَصَّعَةٍ بِالنُّجُومِ ، وَلَكِنْ أَظْلَمَ الْجَوُّ فَجِأَة ، وَعَصَفَتِ الرِّياحِ ، وَثَارَتِ الزَّوَابِع ، فَارْتَطَمَتِ السَّفِينَةُ بِصَغْرَةٍ كِبِيرَةٍ كَسَرَتْ أَلْوَاحَهَا، وَحَطََّمَتْ هَيْكَلَّها ، فَابْتَلَعَهَا الْبَحْرُ بِمَنْ عَلَيْهَا .
أَمَّا صَاحِبُنَا أَنْوَر ) فَقَدْ قَذَفَتْ بِهِ الأَمْوَاجُ إِلَى سَطْحِ الْبَحْر،
فَسَبَحَ وَسَبَحَ عَلَى غَيْرٍ هُدى، وَلَاحَتْ لَهُ بُقْعَةٌ سَوْدَاءٍ غَيْرُ
بَعِيدَةٍ مِنْه ، وَكَانَتْ إحْدَى الْجُزُر ، فَاسْتَجْمَعَ قُوَاهُ وَنَزَلَ
بِالْجَزِيرَة، وَهُوَ يَجُرُّ قَدَمَيْهِ جَرًّا مِنْ شِدَّةِ الإرْهَاقِ وَالإِعْيَاء،
وَارْتَمَى عَلَى رَمْلِهَا النَّاعِم ، وَنَامَ نَوْمًا عَمِيقًا.
صَحَا أَنْوَر فِى الصَّبَاحِ ، وَأَخَذَ يُجِيلُ بَصَرَهُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِى
رَمَاءُ الْقَدَرُ إِلَيْهَا ، فَرَأَى عَلَى مَرْمَى الْبَصر ، بَيْتًا كَبِيرًا تَبْدُو
عَشَرَ مِثْرًا، فَمَشَى إِلَيْهِ وَقَرَعَ الْبَابِ ، فَسَمِعَ صَوْتًا مِثْلَ خُوَارٍ
الثَّوْرِ يَقُول :
- «أُدْخُلْ»
وَعَلَى الأَثَرِ فُتِحَ الْبَابِ، وَدَخَلَ مِنْهُ أَنْوَرِ ، وَوَجَدَ تَفْسَهُ إِذَاءَ عِمْلَاقٍ ' يَبْلُغُ طُولُهُ عَشْرَةَ أَمْتَارٍ ، وَسَمِعَهُ يَقُولُ لَه:
- «مَا اسْمُك ؟ وَمَاذًا جِئْتَ تَفْعَلُ هُنَا ؟»
فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَنْوَر نَظْرَةَ الْمُتَحَدِّى وَقَال :
- « اِسْعِى أَنْوَر الشُّجَاع ، وَقَدْ جِئْتُ أَبْحَثُ عَنِ القَّرْوَة » .
فَقَالَ لَهُ الْعِمْلَاقُ هَازِئًا سَاخِرًا :
- " إِنَّ ثَرْوَتَكَ مَضْمُونَةٌ عِنْدِي يَا أَنْوَرُ الشُّجَاع ، فَأَنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى خَادِمٍ ، فَتَسَلَّمْ عَمَلَكَ فِي الْحَال ... إِنَّها السَّاعَةُ الَّتِي أَقُودُ فِيهَا قَطِيعِى إِلَى الْمَرْعَى، فَعَلَيْكَ فِي أَثْنَاء غِيابِي أَنْ تُنَظِلّفَ الإسْطَبل ، وَحَاذِرْ أَنْ تَدْخُلَ غُرَفَ الْمَنْزِلِ فَفِي ذَلِكَ هَلا كُك ! »
فَكَّرَ أنْوَرُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعِمْلَاقِ وَقَالَ لِنَفْسِه : مَاذَا لَوْ زُرْتُ غُرَفَ الْبَيْتِ أَوَّلا ؟ لَا بُدّ أَنَّ فِيهَا أَشْياء مُمْتِعَةً يُرِيدُ أَنْ
يُخْنِيَهَا عَنِّي :
فَدَخَلَ الْغُرْفَةَ الْأُولَى ، فَوَجَدَ فِيهَا مَوْقِدًا كَبِيرًا فَوْقَهُ قِدْرٌ تَغْلِى وَلَا نَارَ فِى الْمَوْقِدِ فَقَال: مَا هَذَا ؟ إِنَّ فِى الْأَمْرِ لَسِرًّا !
فَجَزَّ خُصْلَةً مِنْ شَعْرِهِ وَغَمَسَهَا فِي السَّائِلِ الَّذِي فِي الْقِدْرِ وَأَخْرَجَهَا ، فَإِذَا هِيَ قَدِ اسْتَحَالَتْ إِلَى لَوْنِ النُّحَاسِ . ثُمَّ دَخَلَ الْغُرْفَةَ الثَّانِيَةَ ، فَرَأَى فِيهَا مَا رَآءُ فِي الْأُولَى مِنْ مَوْقِدٍ كَبِير » وَقِدْرٍ فَوْقَهُ يَغْلِى السَّائِلُ فِيهَا غَلَيَانًا ، وَلَا نَارَ تَحْتَهَا، فَغَمَنَ خُصْلَةَ الشَّعْرِ فِي ذلِكَ التَائِلِ وَأَخْرَجَهَا ، فَإِذَا هِيَ بِلَوْنِ الْفِضَّة ، وَهَكَذَا فَعَلَ فِي الْغُرْفَةِ الثَّالِثَةِ . وَكَانَتْ تَخْتَوِى عَلَى تَحْتَوِيهِ الْغُرْفَتَانِ الْأولَيَان ، وَلَكِنَّ خُصْلَةَ الشَّعْرِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَى لَوْنِ الذَّهَب ، فَضَحِكَ وَقَالَ : مَنْ يَدْرِى لَعَلَّ السَّائِلَ فِي قِدْرِ الْغُرْفَةِ الرَّابِعَة ، يَكُونُ مِنْ عَصِيرٍ الأَلْمَاس ، فَدَخَلَهَا وَوَقَفَ عِنْدَ عَتَبَةِ الْبَابِ مَبْهُوتًا ، فَقَدْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ فِيهَا عَلَى فَتَاةٍ رَائِعَةِ الْجَمَالِ ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ فِي شَفَقَةٍ وَأَسَفٍ وَقَالَتْ لَه :
- مَاذًا جِئْتَ تَعْمَلُ هُنَا يَا مِسْكِين ؟ » فَقَال :
- أَلْحَقّي فِي هَذَا الصَّبَاحِ. رَبُّ هْذَا الْبَيْتِ بِخِدّمَتِه ، وَحَصَرَ عَمَلِى فِي تَنْظِيفِ الإسْطَبْل ، وَمَا هُوَ بِالأَمْرِ الْعَسير»
فَقَالَت :
- « كَانَتِ السَّمَاءُ فِي عَوْنِكَ فَمَا إِلَى تَنْظِيفِهِ مِنْ سَبِيل ، فَكُلُ مِقْدَارٍ مِنَ الزِّبْلِ تُغْرِجُهُ مِنَ الْبَابِ يَرْجِعُ عَشْرَةُ أَضْعَافِهِ مِنَ الثُّبَّاك . وَلَكِنْ سَأَهْدِيكَ إِلَى طَرِيقَةٍ تَنْتِصِرُ عَلَى السِّخْرِ الْمَعْتُودِ فِي هَذَا الإسْطَبْلِ : أُكُنْ أَرْضَهُ يِمقْبَضِ الْمِكْنَسَةِ . يَنْدَفِعِ الزِّبْلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْخَارِجِ ».
فَشَكَرَهَا أَنْوَر عَلَى نَصِيحَتِهَا، وَجَلَسَ إِلَيْهَا يُبَادِلُهَا الْحَدِيث .
وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَتَاةُ ابْنَةَ جِنِّيَّةٍ اسْتَطَاعَ الْعِمْلَاقُ الشِّرِّيرُ أَنْ تَأُسِرَهَا ، فَلَمْ يَمْضٍ عَلَى أَنْوَر وَكَرِيمَة ( وَهْذَا اسْمُ الْفَتَّاة)
غَيْرُ دَقَائِقَ قِلِيلَة ، حَتَّى أَصْبَحَا صَدِيقَيْنِ حَمِيمَيْن : فَالْمَوَدَّةُ سَرِيعَةُ الاتّصَالِ بَيْنَ قُلُوبٍ رُفَقَاءِ الشَّقَاء ، وَوَعَدَ كُلٌ مِنْهُمَا الْآخَرَ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهِ إِذَا تَمَكّنَا مِنَ الْغِرَار .
وَكَادَ النَّهَارُ يَنْقَضِى وَهُمَا فِي أَحَادِيثَ حُلْوَةٍ شَائِقَة ، فَبَّهَتْ كَرِيمَةُ صَدِيتَهَا إِلَى أَنْ يَقُومَ بِعَمَلِهِ قَبَلَ عَوْدَةِ الْمِمْلَاقِ، فَنَهَضَ مُتَّرَاخِيًا كَاأنَّهُ اسْتَيْقَظَ مِنْ حُلْمٍ جَمِيل ، وَسَارَ إِلَى الإسْطَبْل ، وَاتَّبَعَ فِي كَنْسِهِ الطرِيقَةَ الَّتِي ذَكَرَتْهَا لَهُ صَدِيَقَتُهُ ، فَانْقَلَبَ الإسْطَبْلُ فِي طَرْفَةٍ عَيْن ، نَظِيفًا لَامِعًا كأَنْ لَمْ تَتَجَمَّعْ فِيهِ قَطُّ قُطْعَانُ الْغَنَم .
وَانْتَهَى أَنْوَر مِنْ عَمَلِهِ ، وَجَلَسَ عِنْدَ بَابِ الدَّارِ يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ سَيِّدِه .
وَعَادَ هَذَا بَعْدَ قَلِيل ، وَذَهَبَ تَوَّا إِلَى الْإِسْطَبْلِ ، وَرَجَعَ مِنْهُ وَشَرَرُ الْغَضَبِ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ وَقَالَ يُخَاطِبُ أَنور :
- " إِنَّكَ وَلَا شَكَّ قَدْ رَأَيْتَ كَرِيمَة ...)"فَتَصَنَّعَ أَنْوَرُ الْبَلَاهَةَ وَقَال :
- مَنْ كَرِيمَةُ هَذِهِ ؟ أَهِيَ وَخْشٌ مِنْ وُحُوشِ هذَا
الْبَلَد ؟.
فَسَكَتَ الْعِمْلَاقُ وَلَمْ يُجِب ، وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي جَمَعَ أَغْنَامَهِ، وَقَبْلَ أَنْ يْمِضِىَ بِهَا إلَى الْمَرْعَى صَاحَ بِأَنْوَر وَقَالَ لَه:
- « عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَنِي الْيَوْمَ بِحِصَانِي الَّذِي تَرَكُتُهُ يَرْعَى فَوْقَ الْجَبَلِ، وَلَكَ أَنْ تَسْتَرِيحَ
بعْدَ ذلِكَ طُولَ النَّهَار ، وَلَكِنْ إيَّكَ وَدُخُولَ غُرَفِ الْمَنْزِل .
وَإِلَّا ضرَبْتُ عُنُقَك ! »
وَلَمْ يَكَدِ الْعِمْلَاقُ يَغِيبُ عَنِ النَظِّر ، حَتَّى سَارَعَ أَنْوَرُ إِلَى كَرِيمَة ، وَأَخْبَرَهَا عَنْ شُغْلِهِ .فِى ذَلِكَ النَّهَارِ . فَتَبَسَمَتْ وَقَالَت :
- " مَا هُوَ بِشُغْلٍ سَهل، فَالْحِصَانُ عَنِيفٌ حَرُون، وَلَكِنَّنِيِ سَأْرْشِدُكَ إِلَى وَسِيلَةِ تُمَكِّنُكَ مِنْه ، فَأَصْعٍ إِلَىَ : سَوْفَ تَرَى مِنْعَرَيْهِ يَقَذِفَانِ النَّارَ وَاللَّهَب ، فَخُذْ مَعَكَ اللِّجَامَ الْمُعَلَّقَ وَرَاءَ بَابِ الإسْطَبْلِ ، وارْم بِهِ بَيْنَ فَكَّيْهِ عِنْدَمَا يَفْتَحُ فَمَهُ يُعتْبِحْ أَطْوَعَ مِنْ حَمَلٍ وَدِيع .
فَطَارَ أَنْوَرُ إِلَى الْجَبَلِ وَفِي يَدِهِ الشَّكِيمَة ، وَرَأَى هُنَاكَ حِصَانًا ضَخْمَا كَالْفِيل ، يَجْرِى إِلَيْهِ وَمِنْغَرَاهُ يَقْذِفَانِ النَّارَ وَاللَّهَب . فَانْتَظَرَهُ أَنْوَرُ بِقَدَم ثَابِتَة ، حَتَّى إِذَا اقْتَرَبَ مِنْهُ وَفَتَحَ فَمَه ، رَمَى بِاللِّجَام بَيْنَ فَكَّيْه ، فَهَدَاَ وَسَكَن ، فَقَفَزَ إِلَى ظَهْرِهِ وَعَادَ بِهِ إِلَى الْمَنْزِل ، فَأَدْخَلَهُ الْإِسْطَبْلَ وَسَارَعَ إِلَى كَرِيمَةَ يَقْضِى مَعَهَا بِقِيَّةَ النَّهَارِ فِي شَهِيِّ الْأَحَادِيث .
وُعَادَ الْعِمْلَاق ، فَلَقِي عِنْدَ الْبَابِ أَنْوَر يَسْتَقْبِلُهُ قَائِلًا : إِنَّ الْحِصَانَ فِى الإسْطَبْلِ يَا سَيِّدِي» .
فَتَوَجَّةَ الْعِمْلَاقُ إِلَى الْإِسْطَبْلِ ، وَرَجَعَ مِنْهُ وَهُوَ يُزَمْجِرُ وَيَغُورُ خُوَارَ الثِّيرَانِ وَ يَقُول :
- " إِنَّكَ وَلَا شَكََّ قَدْ رَأَيْتَ كَرِيمَة ...! .
فَتَصَنَّعَ أَنْوَرُ الْبَلَاقَةَ وَقَال :
- «مَنْ كَرِيمَةُ هَذِهِ؟ بِحَقّ السَّمَاءِ إَلَا أَرَيْتَنِي هَذَا الْوَحْشَ الَّذِي تَتَحَدَّثُ عَنْه ! ». فَقَال الْعِمْلَاق :
- « سَوْفَ تَرَاهُ غَدًا» .
•
وَذَهَبَ الْعِمْلَاَقُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِلَى الْمَرْعَى ، وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَنْوَرَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَال ، وَعَادَ عِنْدَ الظُّهْرِ يَشْكُو مِنَ الحَرِّ وَالتَّعَبِ وَقَال لِكَريمَة :
- « إِنَّ عَلَى الْبَابِ فَتَّى هُوَ خَادِمِى فَاذْبَحِيهِ وَضَعِيهِ فِي
الْقِدْرِ الْوَاسِعَةِ وَاطْبُغِيهِ ،
وَاسْتَدْعِينِي عِنْدَمَا يَنْضَجِ * . ثُمَّ
اسْتَلَقَى إِلَى سَرِيرِهِ رَاغِبًا فِي
قِطٍ مِنَ الرَّاحَة، فَدَبَّ النُّعَاسُ
حَادَّةِ، وَجَاءَت بأَنْوَر وَجَرَحَتْهُ جُرْحًا صَغِيرًا فِى إِحْدَى أَصَابِعِهِ، إِلَى جَفْنَيْهِ ، فَنَامَ وَغَطَّ غَطِيطًا كانَهُ الرَّعْدُ يُزَلْزِلُ الْجِبَال .
وَعَمَدَتْ كَرِيمَةُ إِلَى سِبِكِّينٍ
وَأَسْقَطَتْ فِي الْقِدْرِ ثَلَاث نُقَطٍ مِنْ دَمِهِ وَقَالَتْ لَه :
فَأَلْقَيَا فِيهَا كُلَّ مَا كَانَ فِي مُتَنَاوَلِهِمَا، مِنْ ثِيَابٍ بَالِيَة. - " وَالْآنَ سَاعِدْنِي عَلَى مَلْءِ الْقِدْرِ » .
وَأَحْذِيةٍ قَدِيمَةٍ وَمَا إِلَى ذَلِك . ثُمَّ قَادَتْهُ إِلَى الْغُرَفِ الثَّلَاث ، وَتَنَاوَلَتْ مِنَ الْأُولَى كُرَةً صَغِيرَةً مِنْ نُعَاس ، وَالْتَقَطَتْ
مِنَ الثَّانِيَةِ كُرَةً مِنْ فِضَّة ، وَاسْتَوْلَت مِنَ الثالِثَةِ عَلَى ثَلَاثِ كُرَاتٍ مِنْ ذَهَب ، وَفَرَّتْ هِىَ وَأَنْوَر مُتَّجِهَيْنِ إِلَى شَاطِيِ الْبَحْرِ وَقَالَتْ لَه :
- « عَلَيْنَا أَنْ نُغَادِرَ هَذِهِ الْجَزِيرَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِلَا هَلَكْنَا » .
وَبَعْدَ أَنْ نَامَ الْعِمْلَاقُ نَحْوَ سَاعَةٍ ، فَتَحَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ
وَصَاح :
- « هَلْ نَضِجَ الطَّعَامِ ؟ )
فَرَدَّتْ عَلَيْهِ نُقْطَةُ الدَّمِ الْأُولَى وَقَالَت :
- « بَدَأَ يَنْضَجِ ... )»
فَاسْتَغْرَقَ فِى النَّوْمِ سَاعَةً أُخْرَى أَوْ سَاعَتَيْنِ صَعَا بَعْدَهُمَا
وَصَاح :
- « أَتَسْمَعِينَى يَا كَرِيمَة ؟ هَلْ نَضْيِجَ الطَّعَام ؟ "فَأَجَابَتْهُ نُقْطَةُ الدَّمِ الثَّانِيَةُ وَقَالَّت:
- " يَكَادُ يَنْضَج ...))
فَاسْتَسْلَمَ إِلَى النَّوْمِ. ثَانِيَةٌ ، وَاسْتَيْقَظَ بَعْدَ نَحْوٍ سَاعَةٍ وَصَاحَ وَقَدْ نَفِدَ صَبْرُه :
- " وَيْعَكِ يَا كَرِيمَة هَلْ نَضِحَ الطَّعَام ؟» فَقَالَتْ لَهُ نُقْطَةُ الدَّمِ الثَّالِثَة :
- « نَضِجَ تَمَامَ النُّضْجِ ... ))
فَبَحَثَ الْعِمْلَاقُ عَنْ كَرِيمَةَ فَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهَا ، وَمَضْى إِلَى لْقِدْرِ وَأَلْقَى عَلَيْهَا نَظْرَةً فَاحِصَة ، فَهَالَهُ أَنْ يَوَى فِيهَا عَدَدًا مِنَ الْأَحْذِيَةِ وَالْمَلَابِس ، فَتَمَلَّكَهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ وَصَاحَ
مُتَوَعِّدًا :
- «وَيْلٌ لِلثَّقِيَيْنِ ! لَقَدْ سَغِيرًا مِنِّي وَلَكِنْ سَتُكَلِّفُهُمَا هذِهِ السُّعْرِيَةُ غَالِيًا » . وَخَرَجَ يَجْرِى وَرَاءَ الْهَارِبَيْنِ وَهُوَ يَقْفِزُ قَفَزَاتٍ مُخِيفَةٌ ، فَلَمَحَهُمَا بَعْدَ قلِيل ، وَكَانَا لَا يَزَالَانِ بَعِيدَيْنِ مِنَ الثَّاطِيِّ ، فَصَرَخَ صَرْخَةَ فَرَحِ اهْتَزَّتْ لِصَدَاهَا الْجِبَالُ وَالْغَابات .
وَتَوَقَّفَتْ كَرِيمَةُ وَهِي تَرْتَجِفُ مِنَ الْخَوْفِ ، فَضَمَّهَا أَنْوَر إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ يُشَجِّعُهَا :
- « لاَ تَجْزَعِى يَا حَبِيبَتِي ، فَالْبَحْرُ غَيْرُ بَعِيد ، وَسَوْفَ نَبْلُغُهُ قَبْلَ عَدُوِّنَا ».
فَقَالَتْ لَهُ مُشِيرَةً إِلَى الْعِمْلَاقِ الَّذِي كَانَ عَلَى بُعْدِ
خُطُوَاتٍ مِنْهُمَا :
- « أُنْظُرْ . . . هَا هُوَذَا ... إِنَّنَا هَالِكَانِ إِذَا لَمْ يُنْقِذْنَا هذَا السِّحْر !»
وَتَنَاوَلَتْ كُرَةَ النُّحَاسِ وَرَمَتْ نِهَا إلَى الْأَرْضِ وَهِيَّ
تَقُول :
يَاكُرَةَ النُّحَاسِ
غُورِى بِشَرِّ النَّاسِ
فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ عَلَى الْفَوْر ، وَأَحْدَثَتْ فَجْوَةً عَمِيقَةً بَعْدَ
أَنْ كَانَ الْعِمَلَاقَ قَدْ مَدَّ ذِرَاعَهُ وَكَادَ يَقْبِضُ عَلَى الْفَرِيسَة.
وَتَابَعَ الْهَارِبانِ رَكْضَهُمَا إِلَى الْبَحْر ، فِي حِينَ كَانَ
الْعِمْلَاقُ ، وَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْهِبَاجُ أَشَدَّهُ، يَرُوحُ وَيَغْدُو كَدُب
مَحْبُوسٍ فِي قَفَص
وَطَالَتْ بِهِ تِلْكَ الْحَال ، حَتَّى اسْتَرْعَتِ انتْبَاهَهُ شَجَرَةٌ طَوِيلَةٌ ضَخِّمَة ، فَاقْتَلَعَهَا مِنْ جُذُورِهَا ، وَرَمَاهَا فَوْقَ الْفَجْوَةِ وَإِتَّخَذَهَا جِسْرًا طَبِيعِيًّا مَشَى. فَوْقَهُ عَلَى مَهَلٍ ، وَاجْتَازَ الْهُوَّةَ إِلَى الْجَانِبِ الْآَخَر .
وَكَانَ أَنْوَر وَكَرِيمَة قَدْ وَصَلَا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ إِلَى الثَّاطِئ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَيَالَلأَسَف، زَوْرَقٌ وَلَا فَخَابَ رَجَاؤُهُمَا ، وَتَوَقَّعَا الْمَوْتَ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْوَحْشِ الْمُفْتَرِس . وَلَمْ تَفْقِد كَرِيمَة وَعْيَهَا ، فَتَنَاوَلَتْ كُرَةَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَتْهَا فِي الْبَحْرِ وَهِي تَقُول :
يَا كُرَتِى الْغِضِيَّةَ
عَوْنَكِ فِي الْبَلِيَّه
فَمَا كَادَتْ تَنْطِقُ بِهذِهِ الْجُمْلَةِ السِّحْرِيَّة، حَتَّىَّ انْبَثَقَ مِنَ الأَمْواجِ ، مَرْكَبٌ جَمِيلٌ سَبَعا إِلَيْهِ ، وَحِينَمَا بَلَغَ الْعِمْلَاقُ الثَّاطِئَ ، كَانَتْ هذِهِ السَّفينَةُ تَسِيرُ قُدُمًا. فِي عُرْضِ الْبَحْرِ مَنْشُورَةَ الشّرَاع .
وَقَصَدَ الْعِمْلَاقُ مَنْزِلَهُ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ وَالْغَيْظُ يُقَطِّعُ قَلْبَه ، وَمَا إِن أَقْلَعَتِ السَّغِينَةُ بِالُهَارِبَيْنِ ، حَتَّى الْتَفَتَ أَنْوَر إِلَى كرِيمَة وَقَال لَهَا فَرِحًا مَسْرُورًا :
- « لَقَدْ نَجَوْنَا . لَقَدْ نَجَوْنَا »فَقَالَتْ لَهُ كَرِيمَة مُرْتَعِدَة مُضطرِّبَة .
- . لَا يَزَالُ الْخَطَرُ يُحَلِقُ فَوْقَ رَأْسَيْنَا . فَلِلْعِمْلَاقِ شَفِيعَةٌ مِنَ السَّاحِرَات ، وَإِنّى لَأَخْشَى أَنْ تَتْأَرَ لَهُ مِنَّا ... وَفَنِّى يَقُولُ لِى إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَنِي لَحْظَةً وَاحِدَة ، عَرَضْتَنِي لِلخَطَر ، وَلَنْ يَزُولَ عَنِّي حَتّى أُزَفَ إِلَيْك » . فَقَالَ لَهَا أَنْوَر مُبْتَسِمًا :
- « لاَ تَخَافِي يَا عَزِيزَتِي ، فَإِنَّ حُبَّنَّا أَقْوَى مِنْ كُلِّ خَطَر».
•
كَانَتِ السَّفِينَةُ تَشُقُّ طَرِيقَهَا عَبْرَ الْأَمْوَاجِ ، وَكَأَنَّ يَدًا خَنِيَةٌ تَدْفَعُهَا إِلَى بَلَدِ أَنْوَرِ ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ رَسَتْ فِي الْمِينَاءِ الَّذِي لَا يَبْعُدُ كَثِيرًا مِنَ الْقَصْرِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ أَنْوَرِ، فَلَمْ تَكَدْ قَدَمُهُ تَطَأُ أَرْضَ الشَّاطِى ، حَتَّى التَفَتَ إِلَى السَّفِينَةِ يُرِيدُ أُنْ يَشْكُرَ الْمَلَّاحِينَ عَلَى جَهْدِهِمْ وَحُسْنِ رِعَايَنْهِم. وَلَكِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ قَدْ تَوَارَت بِمَلاَحِيهَا كَأَنَّمَا غَاصَتْ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْر .
وَلَا تَسَلُ عَنْ فَرْحَةٍ أَنْوَر حِينَمَا عَرَفَ مَزَارِعَ أَبِيهِ وَالْقَصرَ الْقَائِمَ فِي وَسَطِهَا ، ومَالَ عَلَى كَرِيمَة يُرِيدُ أَنْ يُعَبِّرَ لَهَا عَنْ سُرُورِهِ بِعَوْدَتِهِ إِلَى قَرْيَتِهِ ، فَتَنَبَّهَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ إِلَى مَلَابِسِهَا الزَّرِيَّةِ فَقَالَ لَهَا :
-« إِنَّ أُسْرَتِي تُعْنَى كَثِيرًا بِالْمَظَاهِرِ ، فَلَسَوْفَ تَشْتَاءُ إِذَا رَأَتْكِ عَلَى مِثْلِ هذَا الزِّيِّ الْحَقِير ، وَلَسَوْفَ تَزْدَادُ اسْتِيَاءَ إِذا ذَهَبَّنَا إِلَى الْقَصْرِ مَشْيًا عَلَى الْأَقْدَام ، فَانْتُظِرِيني قَلِيلاً أَعُدْ إِلَيْكِ بِشِيَابٍ جَمِيلَةِ ، وَبِفِرَسٍ تَرْكَبِيِنَهَا إِلَى الْقَصْرِ».
فَقَالَتْ لَهُ كَرِيمَة قَلِقَةً مُضطَّرِبَة
- « لَا تَتْرُكْنِي يَا أَنْوَر ، فَإِنَّكَ سَوْفَ تَنْسَابِي إِذَا لَقِيتَ أَهْلَكَ وَأَصْدِقَاءَك ...)».
فَقَاطَعَهَا أَنْور وَبَدَّدَ مَخَاوِفَهَا ، فَمَا وَسِعَهَا إِلَّا أَنْ تَرْضَى مِنَ الْجِيَادِ ، ويَخْرُجَ بِهِ وَبالْفَرَسِ عَائِدًا إِلَى كَرِيمَة .
غَادَرَ الْقَصْرَ وَهَمَ أَن يُطْلِقَ لِجَوَادِهِ الْعِنَان ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ سَيِدَةُ شَقْرَاءٍ لَا يَعْرِفُهَا ، وَاقْتَرَبَتْ مِنْهُ وَفِي يَدِهَا تُفَّاحَة ، وَقَالَتْ لَهُ وَهِىَ تَبْتَسِمُ ابتِسَامَةً غَرِيبَة :
- « أَيُّهَا الفَارِسُ الْجَمِيل ! لَقَدْ عُدْتَ مِنْ سَفَرٍ طَوِيل ، وَلَا أَظُنُّكَ إِلَّا جَوْعَانَ عَطْقَان، فَاقْبَلْ مِنِّى هذِهِ التُفَّاحَة ، وَكُلْهَا هَنِيئًا ، وَلَسْتُ أَعْتَقِد ، وَأَنْتَ الْفًى الْمُوَدَّبُ الْمُهَذَّب ، أَنَّكَ نَسِيتَ آدَابَ الْكِيَاسَةِ وَالْمُجَامَلَة، وَأَنَّكَ تَرْفُضُ رَجَاءَ سَيِّدَةٍ تُضْمِرُ لَكَ الْخَيْر».
فَقَبِلَ أَنْوَرُ الرَّجَاء، وَمَا كَادَ يَعَضُّ عَلَى التُّفَّاحَة، حَتَّى تَوَلاَهُ ذُهُولٌ شَدِيد، فَتَرَجَّلَ وَقَدَّمَ ذِرَاعَهُ للسَّيِدَة ، فَتَأَبَطَتْهَا وَرَجَعَا مَعًا إِلَى الْقَصْرِ يُشَارِ كَانِ فِي مَبَاهِجِ الْحَفْل . وَ بَقِيَتْ تَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ حَتَّى وَعَدَهَا بِالزَّوَاجِ ، وَنَسِيَ كَرِيمَةَ كُلَّ النِّسْيَان طَالَ الْوَقْتُ عَلَى كَرِيمَة وَلَمْ يَرْجِعِ الْحَبِيبُ الْمُنْتُظَر ، فَقَامَتْ والشَّمْسُ تَكَادُ تَغِيبُ وَرَاء الأُفُق، وَسَارَتْ فِي اِتِجَاهِ الْقَصْرِ بَاركِيَةً حَزِينَة، وَمَرَّت فِي طَرِيقِهَا بكُوخِ مُتَهَدِمٍ وَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَهُمُّ بِحَلْبٍ بَقَرَتِهَا ، فَعَيَّتْهَا كَرِيمَة فِي وَدَاعَة وَأَدَب ، وَطَلَبَتْ مِنْهَا أَنْ تَسْمَعَ لَهَا بِقَضَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْإِسْطَبْلِ ، فَحَدَّقَتْ إِلَيْهَا الْعَجُوزُ طَوِيلًا وَلَمْ تُعْجِبْهَا ثِيَابُهَا الْغَرِيبَة ، فَقَالَتْ لَهَا تُعَجِّزُهَا مُتَهَكّمَة :
- « سَأَسْمَحُ لَكِ بالْمَبِيتِ فِي الإسْطَبْلِ أَيَّتُهَا اللَّعِينَة ، إِذَا مَلأْتِ لِى هذَا الإِنَاءَ ذَهَبَّا» .
فَأَخْرَجَتْ كَرِيمَة مِنْ جَيْبِهَا كُرَةً مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْقَتْهَا فِي الإنَاءِ وَهِيَ تَقُول :
يَاكُرَةً مِنَ الذّهَب
مَا خَابَ عِندَكِ الطَّلَبْ وَعَلَى الْفَوْرِ امْتَلَأَّ الإنَاءُ بِقِطَعِ الذَّهَب ، فَاسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى الْعَجُوز ، وَقَفَزَّتْ إِلَى الإِنَاءِ فَحَمَلَتْهُ وَخَرَجَتْ مِنَ الْكُوخِ وَهِىَ تَصِيحُ فِي كَرِيمَة :
- « الْكُوخُ وَالْبَقَرَةُ وَالإسْطَبْلُ كُلُّ هَذَا لَكِ أَيَّتُهَا السَّيِدَةُ الْعَظِيمَة ... إِنِّى ذَاهِبَةٌ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعِيشُ فِيهَا عَيْشَ الْأَمِيرَات. آمِ لَوْ لَمْ أَكُنْ تَجَاوَزْتُ السِّتِّينَ مِنْ عُمْرِي ! » .
وَمَضَتْ تُوسِعُ الْخُطَا إِلَى نَاحِيَةِ الْقَصْرِ. وَعَزَّ عَلَى كَرِيمَة أَنْ تَسْكُنَ هذَا الْكُوخَ الْحَقِيرَ بَعْدَ قَلْعَةِ الْعِمْلَاق .
فَأَخْرَجَتْ مِنْ جَيْبِهَا كُرَةً أُخْرَى مِنَ الذَّهَب ، وَرَمَتْهَا فِي الْمَوْقِدِ الَّذِي كَانَتْ تَشْتَعِلُ فِيهِ بَعْضُ أعْوَادٍ مِنَ الْقَصَب ،.
وَقَالَتْ تُخَاطِبُ كُرَتَها :
يَا كُرَةً مِنَ الذَّهَبْ
مَا خَابَ عِنْدَكِ الطَّلَبْ فَقَمَرَ الَكُوخَ فِي الحَالِ سَيْلٌ مِنَ الذَّهَبِ غَطَّى جُدْرَان الْكُوخِ وَالسَّقْفَ وَالْكَرَاسِيَّ وَالسَّرِير، وَكُلَّ شَيْء فِي الْكُوخِ حَتَّى قَرْنَى الْبَقَرَة . وَكَانَ التَّعَبُ قَدْ بَلَغَ مِنْ كَرِيمَة مَبْلَغَهُ ، فازْتَمَتْ إِلَى السَّرِيرِ وَغَلبَهَا النُّعَاسُ فَنَامَت .
وَحَكتِ الْعَجُوزُ حِكَايَتَهَا لِلنَّاسِ وَالْحِجَارَة ، فلَمْ يَبْقَ أحَدٌ فِي قَرْيَةٍ أَنْوَر إِلا عَلِمَ بِهَا .
وَعِنْدَ الْفَجْرِ نَهَضَ نَاظِرُ الزِّرَاعَة ، وَتَوَجَّةَ إِلَى كُوخِ الْعَجُوزِ مُسْتَطْلِعًا، فَدَهِشَ لَمَّا رَأَى بَدَلَ الَكُوحِ يَثّا مِن الذَّهَب ، وَزَاغَ بَصَرُهُ عِنْدَمَا دَخَلَ الْبَيْتَ وَرَأَى فَتَاةً عَلَى جَائِبٍ عَظِيمِ مِنَ الْجَمَال ، جَالِسَةً قُرْبَ النَّافِذَة ، وَبِيَدِهَا مِغْزَل تَغْزِلُ بِهِ الصُّوف .
وَكَانَ هَذَا النَّاظِرُ شَابًّا مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ، فَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَرْضَى بِهِ زَوْجًا، فَضَحِكَتْ مِنْهُ وَاسْتَهْزَأَت ، فَهَدَّدَهَا بِالسِّجْنِ بِتُهْمَةِ. السحْرِ وَالشَّعْوَذَة ، فَلَمْ تَكْتَرِثْ لَه ، وَكَانَتْ بَعْضُ جَمَرَاتٍ الْمَوْقِدِ قَدْ تَدَحْرَجَتْ إِلَى أَرْضِ الْغُرْفَة ، فَأَمْسَكَ بِالْمِلْقَطِ وَأَسْرَعَ يُعِيِدُهَا إِلَى مَوْضِعِهَا فَقَالَتْ لَهُ كَرِيمَة :
- « أَمْسِك جَيِّدًا بِالْمِلْقَط ؛ وَالْتَقِطُ بِهِ الْجَمْر ، وَأَعِدْهُ إلَى الْمَوْقِدِ » .
ثُمَّ لَفَظَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ السِّحْرِيَّة :
- « أَبْرَا كَادَبْرَا » . وَأَضَافَتْ تَقُول :
- • اِبْقَ أَيُّهَا الشِرِيرُ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مُمْيِكًا بِالْمِلْقَط تَلْتَقِطُ بِهِ الْجَمْرَ وَتُرْجِعُهُ إلَى مَكَانِهِ ..
فَقَضى الرَّجُلُ طُولَ نَهَارِهِ يَقُومُ بِهَذَا الْعَمَل ، وَقِطَعُ الْجَمْرِ تَشِبُ فِي وَجْهِهِ ، وَالرَّمَادُ السَّاخِنُ يَطِيرُ حَوْلَ عَيْنَيْهِ وَيَكْوِيهِمَا بِحَرَارَتِه .
وَحَالَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ سَقَطَ الْمِلْقَطُ مِنْ يَدَىٰ نَاظِرِ الزِّرَاعَةِ قَقَرَ هَارِبًا كَأَنَّ الثَّيْمَانَ أَوِ الْمَدَالَةَ تَجِدُ فِي أَثَره .
. وَفِى الْمَسَاءِ زَارَ كَرِيمَةَ زَاثِرٌ آخَرُ هُوَ رَئِيس حَرَسِ القَصْر، وَكَانَ قَدْ سَمَعَ بِقِصَّةِ الذَّهَب ، فَجَاءَ يُجَرِبُ هُوَ أَيْضًا حَظَّهُ فِي الزَّوَاجِ مِنْ هذِهِ الْفَتَاةِ الْغَرِيبَة .
سَخِرَتْ مِنْهُ كَرِيمَة ، وَوَصَفَتْهُ بِقِلَّةِ الذَّوْقِ إذْتَرَكَ بَابَ الْغُرْفَةِ مَفْتُوحًا ، وَلَمْ يُفَسِكّزْ فِي أَنْ يَحْمِىَ الْفَتَاةَ الَّتِي أَقْبَلَ يَغْطُبُهَا وَفِي أنْ يُجَنِّبَهَا الْهَوَاءِ الْبَارِةَ الَّذِي يَنْعَلَا الْغُرْفَة .
وَمَا إِنْ سَمِعَ مِتَابَهَا حَتَّى مَشَى إلَى الْبَاب ، وَأَمْسَكَ بِالْمِقْبَضِ يُرِيدُ إغْلَاقَه ، فَقَالَتْ كَرِيمَة كَلِمَتَهَا السِّحْرِيَّة :
- : أَبْرَا كَادَبِرًا . ، وَأَضَافَتْ تَقُول :
- : اِبْقَ أَيُّهَا الشِّرِيرُ حَتَّى الصَّبَاحِ مُمْسِكًا . بِالْبَاب ، تُغْلِقُهُ وَتَفْتَحُهُ عَلَى مَرِّ الدَّقَائق ، .
. قَقَضِى الرَّجُل طُولَ الدَّيْلِ فِي حَرَكَةٍ دَائِمَةٍ حَتَّى انخلعت
عِظَامُه . وَعِنْدَ الصَّبَاحِ فُكَّتْ كَفُهُ مِنْ مِقْبُضِ الْبَاب فَفَرَّ يُسَابِقُ الرِّيح .
وَلْمَّا اسْتَقَظَت كَرِيمَة ، فَتَحَتْ عَيْنَيْهَا عَلَى رَجُلٍ جَالِي إِلى جِوَارٍ سَرِيرِهَا ، قَاسى الْمَظْهَر، عَبُوسِ الْوَجْه ، وَكَانَ عُمْدَةَ الْقَرْيَة ، سَمِعَ هُوَ كَذلِكَ بِأَخْبَارِ الذَّهَب ، فَجَاءَ يَطْلُبُ يَدَ رَبَّةِ الذَّهَب ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ كَرِيمَة إِلَى الإِسْطَبْل، فَلَحِقَ بِهَا إِلَيْه ، وَاعْتَرَضَتِ الْبَقَرَةُ طَرِيقَه ، فَجَرَّهَا مِنْ ذَيْلِهَا إلَى خَارِجِ الْإِسْطَبْل ، وَاغْتَنَمَتْ كَرِيمَة هَذِهِ الْفُرْصَةَ وَقَالَتْ
كَلِمَتَهَا السِّحْرِيَّة :
- . أَبْرَا كَادَبْرَا ، وَأَضَافَتْ تَقُول :
- " لِيُمْسِكَ بِكَ ذَيْلُ الْبَقَرَةِ حَتَّى تَدُورًا مَعَا حَوْلَ الْعَالَم » .
فَانْطَلَقَتِ الْبَقَرَةُ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ تَجُرُّ مَعَهَا الْعُمْدَة مُصَعِّدَةً فِى الْجِبَال ، هَابِطَةً إلَى الْأَوْدِيَة ، مُجْتَازَةً الأَنْمَار ، مُرَفْرِفَةَ فَوْقَ الْبِحَار ، وَبَعْدَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَاعَةً مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْعَجِيبَة ، تَوَقَّفَتِ الْبَقَرَةُ بِمَنْ تَجُرُّ مَعَهَا فِي سَاحَةٍ الْقَرْيَة ، وَهَرْوَلَ الْعُمْدَةُ إلَى يَتِهِ مُتَصَبِّبَ الْعَرَق ، مُحَطَ الأَضْلاَع .
.. .
يَيْنَمَا كَانَ هوُلَاءِ الْعِرْسَانُ الثَلَاثَةُ يَتَحَمَّلُونَ مِثْلَ ذلِكَ الْعَذَابِ ، كَانَ أَهْلُ أَنْوَر بَلِ الْقَرْيَةُ كُلُّهَا تُوَاصِلُ اسْتِعْدَادَهَا مُنْذُ يَوْمَيْنِ لِلاحْتِفَالِ بِزِفَافِ السَّيِّدَةِ الشَّقْرَاءِ إلَى أَنْوَر .
وَيَوْمَ اكْتَمَلَ عِقْدُ الْمَدْعُوِين، رَكِبَ الْعَرُوسَانِ مَرْكَبَةً فَاخِرَةً مُزَيَّةً بِالْوَرْد وَالرَّيْحَان، وَقَدْ حَفََّ بِهَا عَدَدٌ مِنَ الْفُرْسَانِ يَمْتَطُونَ الْخُيُولَ الأَصِيلَة ، وَيَخْتَالُونَ بِمَلابِسِهِمُ الْمُزَرْ كَشَةِ وَسِلَاحِهِمُ الْبَرَّاق .. وَسَارَ الْمَوْكِبُ فِي طَرِيقِهِ إلَى مَكْتَبٍ مُوَثِقِ الْعُقُود ، وَزَادَ الَّائِقُ مِنْ سُرْعَةِ الْمَرْكَبَةِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ حُفْرَةَ اعْتَرَضَتْهُ، فَتَحَطَّمَتِ السَّارِيَةُ الْمَرْبُوطَةُ إِلَيْهَا الْجِيَاد ، وَانْقَسَمَتِ الْمَرْكَبَةُ شَطَرَيْن ، وَلَكِنَّ السَّمَاءَ لَطَفَتْ بِالْعَرُوسَيْنِ فَلَمْ يُصَابَا بِأَذى .
وَجِءَ بِالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ لِإصْلَاحِ الْمَرْ كَبَة، وَتَنَافَسَ الرِّجَالُ الْأَشِدَّاء يُعَاوِلُونَ رَفْعَ الْمَرْكَبَةِ مِنَ الْحُفْرَة ، فَذَهَبَ جَهْدُ هَوُلَاءِ وَأُولئِكَ ضَيَاعًا . فَاقْتَرَبَ عِنْدَئِذٍ نَاظِرُ الْزِّرْاعَةِ وَرَثِيسُ الْحَرَسِ وَالْعُمْدَةُ مِنْ وَالدِ أَنْوَر ، وَقَالَ الْأَوَّل :
- • إِنَّ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَرَاهُ يَلْمَعُ وَيَسْطَعُ عَنْ بُعْد ، فَتَاةً غَرِيبَةً عَنِ الدِّيَار ، تَنْفَرِدُ بِأَعْمَالٍ يَعْجِزُ عَنْهَا سِوَاهَا ، فَرَأْبِي أَنْ تَسْتَعِيرَ مِنْهَا مِلْقطَهَا ، وَنَضَعَهُ فِي مَكَانِ السَّارِيَة ... »، وَقالَ الثَّانِي :
- وَرَأْلِي أَنْ نَسْتَعِيرَ مِنْهَا بَابَ غُرْفَتِهَا ، وَنَجْمَعَ بِهِ شَطَرَى الْمَرْكَبَة ...، وَقال الثَّالِث :
- « وَرَأْيِى أَنْ نَسْتَعِيرَ مِنْهَا بَقَرَتَهَا الْقَوِيَّة وَتَرْفَعَ بِهَا الْمَرَكَبَة» .
- فَوَافَقَ وَالِدُ أَنْوَر عَلَى هَذِهِ الآرَاءِ الثَّلَاثَة ، وَجَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ إِلَى مَنْزِلِ كَرِيمَة، فَأَعَارَتْهُمْ مَا طَلَبُوا وَعَادُوا بِالْمِلْقَطِ فَحَلَّ مَعَلَ السَّارِيَة، وبِبَابِ الغُرْفَةِ فَوَصَلَ بَيْنَ شَطْرَى الْمَرْكَبَة . وَرَبَطَ السَّائِقُ الْبَقَرَةَ إِلَى الْمَرْكَبَةِ فَاتْتَشَلَتْهَا مِنَ الحُفْرَةِ وَطَارَتْ بِهَا فِي سُرْعَةٍ جُنُونِيَةٍ لَا إِلَى مَكْتَبٍ مُوَثِّقِ العُقُود. بَلْ رَجَعَتْ بِهَا إِلَى الْقَصْر .
- وَكَانَتِ الْمَوَائِدُ قَدْ أُعِدَّتْ . وَالطَّبَّاخُونَ قَدْ أَتَمُّوا صُنْعَ شَهِيِّ الطَّعَام ، فَقَالَ وَالِدُ أَنْوَرِ :
- " غَدًا تَذْهَبُ إِلَى تَوْثِيقِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، أَمَّا اليُوْم فَلْنَحْتَفِلْ بِزَوَاجِ أَنْوَرِ وَعَرُوسِه » .
- ثُمَّ دَعَا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْجُلُوس ، وَجَلَسَ هُوَ فِي صَدْرٍ الْمَائِدَةِ الرَّئِيسَة ، وَأَجْلَسَ عَنْ يَمِينِهِ السَّيِّدَةَ الشَّقْرَاءَ فَأَنْوَر وَتَرَكَ الْمَقْعَدَ الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ خَالِيًا .
- وَكَانَتْ الْمَعُونَةُ الَّي بَذَلَتْهَا لَهُمُ الْفَتَاةُ الْغَرِيبَةُ قَدْ أَثَّرَتْ فِي نَفْسِهِ ، فَأَوْفَدَ إلَيْهَا جَمَاعَةً مِنَ الفُرْسَانِ يَدْعُونَها بِاسْمِهِ إِلَى شُهُودِ الْمِهْرَجَانِ الَّذِي يُقَامُ احْتِفَاءُ بِزَوَاجِ ابْنِهِ ، فَلَبَّتْ كَرِيمَة الدَّعْوَة ، وَنَفْسُهَا حَزِينَةٌ حَتَّى الْمَوْت .
- وَصَلتْ كرِيمَةٍ إِلَى الْقَصْر . فَخَفَّ وَالِدُ أَنْوَر يُرَحِبُ بِها أَجْمَلَ تَرْحِيب ، وَأَجْلَسَهَا عَنْ يَسَارِهِ فِي الْمَقْعَدِ الْخَالِي، فِي حِينَ نَظَرَ أَنْوَر إِلَيْهَا نَظْرَةً عَابِرَةً وَلَمْ يَعْرِفْها ، فَحَزَّ الأَلَمُ فِي صَدْرِهَا وَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا : وَدَاعًا أَيَّتُها الأَحْلَامُ الْجَمِيلَةِ !
- وَدَوَّى صَوْتُ وَالِدِ أَنْوَر يَقُول :
- « لِنَشْرَبْ جَمِيعًا فِي صِحَّةِ ضَيْفَتِنَا النَّبِيلَة ! » وَشَاءت كَرِيمَة أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى أَمَلِهَا الأَخِير ، فَأَخْرَجَتْ كُرَةَ الذَّهَبِ مِنْ جَيْبِهَا ، وَهَمَسَتْ بِهَا قَائِلَةٌ وَهِيَ تَقْرُكُها :
- يَا كُرَةً مِنَ الذَّهَبْ
- مَا خَابَ عِنْدَكِ الطَّلَبُ
- فَاسْتَطَالَتِ الْكُرَةُ فِي يَدِهَا ، وَأَصْبَحَتْ كَأْسًا كَبِيرَةً مِنَ البِلَّوْرِ ، فَمَلَأَتْها بِالشَّرَابِ ، وَرَجَتْ مِنْ أَحَدِ الْخَدَمِ أَنْ يُقَدّمَها إِلَى أَنْوَر ، فَتَنَاوَلَها وَرَفَعَها إِلَى عَيْنَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعِيَّةِ، فَاضْطَرَبَ اضطِرَابًا شَدِيدًا وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى الْكَأْسِ ، مَأُخُوذًا بِرُؤْيَا لاحَتْ لَهُ فِيها، وَأَرَتْهُ مَرَاحِلَ حَيَاتِهِ الْمَاضِيَةِ.
- مِنْ يَوْمَ لَقِىَ كَرِيمَة فِي بَيْتِ الْعِمْلَاقِ ، إِلَى اللَّحْظَةِ الَّتي تَرَكَهَا فِيهَا عِنْدَ الشَّاطِىِ ، عَلَى أَمَلِ الْعَوْدَةِ إلَيْها بِشِيَابٍ جَمِيلَةٍ وَفَرَسٍ تَرْكَتَهَا إلَى الْقَصْر . وَكأَنَّمَا صَعَا مِنْ كَابُوسِ تَقِيل ، فَصَاحَ صَيْحَةً أَدْهَشَتِ الحَاضِرِينَ وَهُوَ يَقُول :
- « كَرِيمَة ! أَيْنَ أَنْتِ ؟ هَل تَصْفَحِينَ عَنّي ؟"
ثُمَّ ارْتَمَى عِنْدَ قَدَمَيْها بَاركيًا مُنْتَحِبًا ...
أَمَا السَّيِّدَةُ الشَّقُرَاء ، فَقَدْ تَوَارَتْ عَنِ الأَنظَار عِنْدَ صَيْحَةٍ ٤٦
أَنْوَر ، وَلَمْ تَكُنْ إِلَّ السَّاحِرَةَ شَفِيعَةَ العِمْلَاق .
وَأَكْمَلَ الْقَوْمُ مِهْرَجَانَهُمْ فِي غِبْطَةٍ وَفَرَحِ ، وَزُفَّتْ كَرِيمَة
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِى إِلَى أَنْوَر ، وَاسْتَمَرَّتْ الْمَادِبُ يَوْمَيْنِ
وَعَاشَ الْعَرُوسَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً هَانِئَة ، وَسَجَّلَ التَّارِيخُ لِكَرِيمَة، كَثِيرًا مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِ الْقَرْيَة، مُتَوَاصِلَيْن .
حَتَّى خَلَدَ ذِكْرُهَا بَيْنَهُمْ مُنْتَقِلًا مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيل ، وَمِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصر .
وَعَلَى سَبِلِ الاغْتِرَافِ بِجَمِيلِهَا، أُقِيمَ لَها تِمثَالٌ لَا يَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُرْ تَفِعًا فَوْقَ بَقَايَا ذَلِكَ القَصْرِ الْقَدِيم ، وَهُوَ يُمثِّلُ سَيِّدَةً حَسْنَاءَ تَحْمِلُ فِي كَفِّها خَمْسَ كُرَاتٍ صَغِيرَة ...