لخّصلي

عوامل نشأة المقامة يمكن حصر عوامل نشأة فن المقامة في عاملين كبيرين، هما عامل العصر وملابساته الحضارية وعامل الأجناس الأدبية المؤثرة في تكوين نص المقامة. -1 أوضاع القرن الرابع الهجري إذا سلمنا أن البنية الأدبية تتولد عن بنية اجتماعية ومناخ ثقافي عام وسياق حضاري مؤثر وفاعل في شخصية الأديب الفنية ومزاجه الأدبي وتكوينه الفكري، فإن نشأة المقامة - بهذا الاعتبار - لا تنفصل عن سياقها الحضاري العام وظرفيتها التاريخية. فقد ظهرت المقامات في عصر له ملابساته الخاصة؛ حتى أحجم أهل الصناعات والزراعة عن الإنتاج، ترجمها ظهور حركات شعبية وتنظيمات هامشية ذات طابع احتجاجي؛ فقد حدثت تحولات جذرية في المجتمع وفي العقلية العربية فبعد أن كان شرف النسب أعلى شرف صار المال في المرتبة الأولى وصار الشرف في حد السيف. ولما عجز بيت المال عن دفع أعطيات فؤاد الجند مكنهم الأمراء البويهيون من قطائع شاسعة يديرونها ويتسلمون خراجها مباشرة عوضا عن رواتبهم. وقد أخرقت أحياء المدينة مرات عديدة، فالصراع المذهبي كان في نفس الوقت صراعا اجتماعيا، وانتشار أدب الكدية في ذلك العصر ليس غريبا عن هذا الجو، فهو مساهمة بطريقته الخاصة في الصراع بين المحظوظين والمحرومين. فليس له سلاح الفؤاد ولا رأس مال التجار ولا أراضي المزارعين، والمكدي ينهب بوسائله الخاصة هؤلاء وأولائك. وتولدت المقامة عن رؤيتهم للعالم، ما يتعلق بالشكل: يبدو تأثير أحاديث ابن دريد بارزا، ويمكن من جهة أخرى اعتبار الفصل الذي أدرجه ابن قتيبة في عيون الأخبار" بعنوان: مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك أصلا للجانب الوعظي (الزائف) في شخصية أبي الفتح الإسكندري. كما يمكن أن نضيف كل الشعراء الهامشيين الذين قالوا قصائد تمجد الكدية وتدم الدهر وأهله مثل أبي ذلف الخزرجي في قصيدته الساسانية وابن سكرة الهاشمي وابن حجاج وابن لنكك وسائر الشعراء الصعاليك الذين كانوا فقراء وعاشوا على هامش المجتمع لكنهم عملوا على توزيع عادل للثروة".

عوامل نشأة المقامة

يمكن حصر عوامل نشأة فن المقامة في عاملين كبيرين، هما عامل العصر وملابساته الحضارية وعامل الأجناس الأدبية المؤثرة في تكوين نص المقامة.

-1 أوضاع القرن الرابع الهجري

إذا سلمنا أن البنية الأدبية تتولد عن بنية اجتماعية ومناخ ثقافي عام وسياق حضاري مؤثر وفاعل في شخصية الأديب الفنية ومزاجه الأدبي وتكوينه الفكري، فإن نشأة المقامة - بهذا الاعتبار - لا تنفصل عن سياقها الحضاري العام وظرفيتها التاريخية. فقد ظهرت المقامات في عصر له ملابساته الخاصة؛ أبرز ما يميزه هو تراجع النفوذ العباسي وانحداره نحو الأقول والانطفاء بعد أن تجزات الخلافة إلى إمارات إقليمية عديدة، نتجت عنها اضطرابات اقتصادية وأزمات اجتماعية زعزعت كيان الأمة الإسلامية.

وقد بلغت الخلافة العباسية ببغداد منتهى انحلالها؛ إذ بدأ سقوطها مبكرا جدا منذ القرن الثالث وسارعت في حدث السقوط ما انتشر من ثورات وقلاقل عصفت بكيان الخلافة وخاصة ثورات الزنج والقرامطة المتتالية والتناحر الداخلي في صلب الجيش المتكون أساسا من مرتزقة أتراك وفرس.

وفي بغداد تقلص نفوذ الخليفة تقلصا لا مزيد عنه حتى غدت سلطته سلطة صورية فقد كان النفوذ الحقيقي بأيدي فؤاد أتراك يتلقبون بلقب "أمير الأمراء". ثم قضى البويهيون منذ منتصف القرن الرابع على كل نفوذ للخليفة ولم يحافظوا على مؤسسة الخلافة إلا ليستمنوا منها شرعيتهم".

وأزهق كاهل الرعية بما سلط عليها من ضرائب مشطة في مختلف قطاعات الإنتاج، حتى أحجم أهل الصناعات والزراعة عن الإنتاج، وتسبب ذلك في غضب الكثير وخاصة في صفوف الجيش.

وخلق النظام البويهي تفاوتا اجتماعيا صارحًا تسبب في العديد من التوترات الاجتماعية، ترجمها ظهور حركات شعبية وتنظيمات هامشية ذات طابع احتجاجي؛ فقد حدثت تحولات جذرية في المجتمع وفي العقلية العربية فبعد أن كان شرف النسب أعلى شرف صار المال في المرتبة الأولى وصار الشرف في حد السيف. ولما عجز بيت المال عن دفع أعطيات فؤاد الجند مكنهم الأمراء البويهيون من قطائع شاسعة يديرونها ويتسلمون خراجها مباشرة عوضا عن رواتبهم. لكنهم تعسفوا في جمع الجباية ودفعوا الناس إلى إهمال مزارعهم دفعا مما خلق مجموعات من الغاضبين العاملين من أجل عدالة اجتماعية. وقد تبلور الصراع بين أصحاب الثروات والمعدمين في الخصومات المذهبية بين الشيعة والحنابلة في باب الطاق ببغداد حيث يسكن أثرياء الشيعة، وباب البصرة حيث يقيم الفقراء الحنابلة. وقد أخرقت أحياء المدينة مرات عديدة، وبذلك اتضح أن العامل الديني كان يخفي صراعا طبقيًا بين الأثرياء والفقراء (...) فالصراع المذهبي كان في نفس الوقت صراعا اجتماعيا، وانتشار أدب الكدية في ذلك العصر ليس غريبا عن هذا الجو، فهو مساهمة بطريقته الخاصة في الصراع بين المحظوظين والمحرومين. وأجمع مؤرخو الاقتصاد في العهد البويهي على أن أثرياء التجار كانوا من بين كبار الملاك العقارتين وقواد الجيش وكبار موظفي الدولة وحتى من بين الوزراء والمكذي لا ينتمي إلى أي منهم، ولكنه نتيجة لهذا الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي، فليس له سلاح الفؤاد ولا رأس مال التجار ولا أراضي المزارعين، لكنه متيقن أنه يفوقهم جميعا بثقافته ومواهبه الأدبية (...) وبما أن الوسائل تعوزه فإنه يُضطر إلى التأقلم مع المجتمع والمشاركة في اللعبة. ولما كان متيقنا أن الجميع يسرقون بطريقة أو بأخرى، فليس هناك - في نظره - أي مبرر لبقائه على الهامش. فبدأ بمخادعة الأغنياء حتى يُقاسمهم بهذه الطريقة ما سرقوه فقواد الجيش ينهبون المزارعين، والتجار يحتكرون وينهبون الأمة، والمكدي ينهب بوسائله الخاصة هؤلاء وأولائك. وفي النهاية لا أحد ينتصر في هذه المعركة. فقد تدهور الاقتصاد في عهد البويهيين بسبب سوء تصرف الفؤاد، وأصبح فوضويا وتضخميا بسبب كثرة المكوس والمصادرات وقلة الأمن وهذر أموال بيت المسلمين. وفر الفلاحون من الضرائب المشطة ومن تعسف القواد في جمعها فنزحوا إلى المدن. وفي هذا الإطار ظهر أهل الكدية بنو ساسان، وتولدت المقامة عن رؤيتهم للعالم، رؤية ساخرة ومتشائمة، ووجدت كاتبا فذا عبر عنها في درجة عالية من التماسك دون إهمال جمالية الفن ..

2 أجناس أدبية مهدت لنشأة المقامة

تولدت المقامة أيضا عن أشكال أدبية سابقة أو معاصرة لها. فقد مهدت لظهورها نصوص قصصية عديدة تنتمي بالخصوص إلى جنس الخبر والنادرة والحديث. وقد كانت كتب الأدب في القرنين الثالث والرابع تعج بالأخبار والنوادر. وتضافر صنفان من النصوص مهدا لظهور المقامة صنف يتعلق بشكلها، وصنف يتعلق بمضمونها. والمقامة تتجاوز الصنفين معا.
ما يتعلق بالشكل: يبدو تأثير أحاديث ابن دريد بارزا، وهي أحاديث بلغت 40 حديثا وقد ذكرها إبراهيم الحصري ونشر القالي العديد منها في كتابه "الأمالي".

ما يتعلق بالمضمون اهتمت كتب سابقة للهمذاني بموضوع المكدين والشطار مثل بخلاء" الجاحظ وبالخصوص في حديث خالد بن يزيد والجاحظ رسائل أخرى لم تصلنا غير عناوينها مثل رسالة أخلاق الشطار" ورسالة "جيل المكدين" وكتاب أصناف حيل لصوص النهار وشراق الليل" و"رسالة الطفيليين فضلا عن كتابه المنشور عن أصحاب العاهات من البرصان والعرجان والعميان وغيرهم.

ويمكن من جهة أخرى اعتبار الفصل الذي أدرجه ابن قتيبة في عيون الأخبار" بعنوان: مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك أصلا للجانب الوعظي (الزائف) في شخصية أبي الفتح الإسكندري.

كما يمكن أن نضيف كل الشعراء الهامشيين الذين قالوا قصائد تمجد الكدية وتدم الدهر وأهله مثل أبي ذلف الخزرجي في قصيدته الساسانية وابن سكرة الهاشمي وابن حجاج وابن لنكك وسائر الشعراء الصعاليك الذين كانوا فقراء وعاشوا على هامش المجتمع لكنهم عملوا على توزيع عادل للثروة".

ويذكر شوقي ضيف ظهور جماعة من الشعراء الرحالة المتسولين المعروفين باسم شعراء الكدية أو التسول الأدبي، ويعرفون أيضا باسم الساسانيين نسبة إلى أمير فارسي يسمى ساسان حرمه أبوه من الملك، فهام على وجهه محترفا للكدية. وقد ذكر الجاحظ هذه الجماعة الساسانية في كتاب (البخلاء) وعرض فنونا من حيلها وخدعها، وصور البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ ألوانا من هذه الخدع والحيل. وأهم شعرائها أبو دلف الخزرجي الذي اشتهرت له القصيدة الساسانية ومنها قوله التالي:

أخذنا جزية الخلق....من الصين إلى مصر