لخّصلي

يتناول النص مفهوم الجريمة قانونيًا واجتماعيًا، مُبرزًا الاختلاف بينهما. قانونيًا، تُعرّف الجريمة بأنها فعل أو امتناع عن فعل يُعاقَب عليه جزائيًا، وهذا الجزاء هو المعيار القانوني المميز. تُشترط لمفهوم الجريمة القانونية: أن تكون سلوكًا إنسانيًا ماديًا من شخص مُميز مختار، وأن تُخالف قيم المجتمع أو مصالح أفراده الأساسية، وأن تكون معاقبًا عليها قانونيًا بنص قانوني، مُحافظًا بذلك على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. أما اجتماعيًا، فلا يكفي النص القانوني لتحديد الجريمة، بل ينبغي النظر إلى مدى مخالفة الفعل للمصالح الجوهرية للمجتمع واستنكار الناس له. يُناقش النص نظرية جاروفالو في "الجريمة الطبيعية" والتي تُعرّف بأنها فعل ضارّ متفق على تجريمه في جميع المجتمعات، مُقسّمًا إياها إلى جرائم طبيعية (ضد الشفقة والأمانة) ومصطنعة (ضد عواطف متغيرة). يُنتقد المفهوم الاجتماعي للجريمة لهضمه مبدأ الشرعية، وصعوبة تحديد مشاعر الاستهجان، وعدم ثباته، واستبعاده بعض الجرائم القانونية، واعتماده على معيار "الشخص المتوسط" الغامض.

لمفهوم القانونى للجريمة :
نادرا ما تقوم التشريعات الجنائية بتعريف الجريمة تاركة ذلك للفقه وقد تعددت التعريفات الفقهية للجريمة ولكن التعريف السائد هو ان الجريمة هى " كل فعل او امتناع عن فعل يقرر له المشرع جزاءاً جنائياً سواء كان هذا الجزاء عقوبة او تدبيراً احترازياً" ففكرة الجزاء الجنائى هى المعيار القانونى الذى يميز الجريمة عن غيرها من اوجه السلوك غير الاجتماعى .
وعلى ذلك فالجريمة فى التشريع الجنائى ليس لها تحديد فى ذاتها وانما بالنظر لجزاء الجنائى الذى يفرضه المشرع على مرتكبها فالنص القانونى هو المصدر لوحيد الذى يصبغ على سلوك ما وصف الجريمه وهو فى نفس الوقت المصدر الوحيد للجزاء الذى يطبق على مرتكبها وذلك تحقيقا لمبدأ شرعية لجرائم والعقوبات الذى يعد من المبادئ الدستورية فى اغلب التشريعات المعاصرة !.
مفترضات المفهوم القانونى للجريمة :
يمدنا التعريف السابق بمجموعة مفترضات تميز الجريمة عن غيرها من الافكار القانونية المشابهة .
1- الجريمة سلوك انسانى :
فالجريمة لا تقوم قانونا دون ارتكاب فعل مادى وهو ما يعبر عنه اصطلاحاً بمبدأ مادية الجريمة ويعنى هذا ان مجرد النوايا والنوازع الداخلية مهما كانت شريرة لا تكفى لقيام الجريمة قانونا فمن يرغب فى قتل عدو له لا يعد مرتكبا
جريمة قتل ولا حتى الشروع فيها طالما لم تترجم رغبته هذه الى سلوك يمكن نعته بالمادية ولعنصر السلوك فى الجريمة صورتان : صورة الفعل الايجابى وصورة الامتناع فالجريمة كما تقوم بفعل ايجابى ( كمن يطلق النار على اخر او كمن يختلس مالا مملوكا للغير) يمكن ان تحدث ايضا بفعل سلبى (الامتناع)
فيعد مرتكبا لجريمه قتل الام التى تمتنع عن ارضاع وليدها بهدف انهاء حياته وكذلك القاضى الذى يمتنع عن اصدار حكم فى الدعوى يعد مرتكبا لجريمة انكار العدالة والجريمة من ناحية ثانية سلوك انسانى فهى اذن صادرة عن انسان فلا يتصور وقوع الجريمة من الحيوان او من الشخص المعنوى فيما خلا بعض الاستثناءات ولا يكفى لقيام الجريمة قانونا وقوعها من انسان وانما بنبغى ان يكون هذا الانسان متمتعاً بالتميز والاختيار فأن تجرد الشخص من ملكه التميز والادراك لا يجددمن الوجهة القانونية المحضة مرتكبا لجريمة اى 20 لا تجوز مساءلته جنائيا وهكذا فصغير السن والمجنون تمتنع مساءلتهم الجنائية لانتفاء ملكه التميز والادراك لديهم كما ان تجرد الشخص من ارادة حرة مختاره يحول ايضا دون مساءلته جنائيا عن الجريمة التى ارتكبها كالشخص الذى يرتكب الجريمة فى حالة اكراه او ضرورة ويطلق على هذه العوارض الخمس موانع المسئولية الجنائية (صغر السن - الجنون - السكر
الاضطرارى - الاكراه - الضرورة) ففى الموانع الثلاث الاولى يتجرد الانسان من ملكه التميز والادراك وفى المانعيين الاخيرين ينعدم لديه عنصر الاختيار
الجريمة خرق او تهديد لقيم المجتمع او لمصالح افراده الاساسية :
ولعل هذه الحقيقة هى ايضا ما يميز الجريمة عن غيرها من مختلف الافعال غير المشروعة فالجريمة سلوك يصل فى الجسامة حد الاخلال بشرط جوهرى من شروط كيان المجتمع ووجوده فهى اعتداء على مصالح عليا بلغت من الاهمية حد تدخل المشرع بتجريم المساس بها وتوقيع الجزاء على المخالف وقد تعبر هذه المصالح عن قيم المجتمع نفسه وقد تمثل مصالح افراده الاساسية . فتزييف العمله الوطنيه او تزوير المحررات الرسمية سلوك استوجب التجريم لاعتدائه على مصلحه الوطن الاقتصادية او لمساسه بالثقة الواجب توافرها فى المحررات الرسمية للدولة . اما مسلك السرقة والنصب فقد استحق التجريم لاعتدائه على مصلحة فرديه وهى حق الملكية بالاضافة الى ذلك هناك افعال تمثل اعتداء على احدى قيم المجتمع وتنال فى ذات الوقت
2024/2025
من مصالح الافراد الاساسية القتل فهو اعتداء على مصلحة اجتماعية وفردية 20 في ان واحد ويترتب على ذلك ان كل ما لا ينتهك من صور السلوك احدي قيم المجتمع الاساسية او مصلحة جوهرية لاحد افراده لا ينبغى ان يعتبر جريمة فى المفهوم القانونى . 1
3- الجريمة واقعة معاقب عليها :
اذ يترتب على ارتكابها توقيع الجزاء القانونى الجنائى مما يميز الجريمة عن ما يشابهها من افعال غير مشروعه و عنصر الجزاء الذى يخضع له الجانى قد يتمثل فى العقوبة (سواء كانت بدنيه ام سالبة للحرية او مقيده لها ام مالية) وقد يأخذ الجزاء الجنائى صورة ما يسمى بالتدبير الاحترازى
وصور الجزاء الجنائى (عقوبة كانت ام تدبير احترازى) وارده فى القانون على سبيل الحصر وتوقيع الجزاء موكول الى السلطة العامة من خلال مجموعة من الاجراءات القضائية التى حددها المشرع !.
4- النص القانونى هو الوسيلة الوحيدة لانشاء الجرائم :
الجريمة سلوك معاقب عليه قانوناً بمقتضى نص قانونى فالمصدر الوحيد للجرائم والعقوبات هو القانون ويعبر عن ذلك بمبدأ شرعية الجرائم اى (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص القانون) وهكذا ينعدم دور العرف تماماً فى مجال القانون الجنائى ولاهمية المبدأ فقد ورد النص عليه ليس فقط في القوانين الجنائية لمختلف الدول بل ايضا فى صلب الدساتير والهدف من تقرير مبدأ الشرعية على هذا النحو هو مواجهة احتمال استبداد القضاة وضمان حريات
2024/2025
الافراد بحيث لا يجوز معاقُبة شخص عن جريمه لم ينص عليها القانون ولا الحكم عليه بعقوبه لم يرد النص عليها او بعقوبة تزيد فى مقدارها عما ورد
فى النص 2.
ويقرر الدستور المصرى الحالى مبدأ الشرعية حيث تنص المادة 95 من ستور سنة 2014 على انه ( لا جريمه ولا عقوبه الا بناء على نص ولا توقع عقوبة الا بحكم قضائى ولا عقاب الا على الافعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون) وفى نفس المعنى تقرر المادة الخامسة من قانون العقوبات المصرى (يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها) .
المفهوم الاجتماعى للجريمة :
نعرض التعريف القانونى للانتقاد من قبل علماء الاجتماع وقد استندوا فى ذلك الى ان التشريع الذى يعد المصدر لهذا التجريم خاصة فى الدول المتقدمة لا يعبر عن رد فعل المجتمع ازاء اضرار فعل معين على مصلحة المجتمع ، ومن الامثلة على ذلك الجرائم التهديدية (الضريبية - الجمركية) التى لا يقابلها المجتمع بالامتعاض لكونها لا تتناقض مع قيم المجتمع فالجريمة تتسم بأنها ذات خاصيه نسبية سواء من حيث الزمان او المكان فما يعد جريمة اليوم قد لا يكون جريمة بالامس او الغد وكذلك ما يعد جريمة فى مجتمع من المجتمعات قد لا يعد جريمة فى المجتمع الاخر وما ذلك الا لان المجتمع هو الذى يحدد ما هو خطأ وما هو صواب . وهذا يعنى ان نظرة المجتمعات تتغير تجاه الافعال الاجرامية بتغير الثقافات وكان نتيجة هذه التغيرات المتلاحقة ان أصبح التفاوت
2024/2025
كبير بين مفهوم الجريمة بالمعني الاجتماعى ومفهومها طبقا للمعنى القانوني.2
طبقا للمفهوم الاجتماعى لا يكفى ان ينص القانون على اعتبار فعل ما جريمه حتى يكون كذلك بل يتعين النظر الى موضوع الفعل ذاته اذا ما كان منافيا للمصالح الجوهرية للمجتمع ام لا فاذا ما اتضح ان هذا الشرط متوافر فى فعل ما فانه يصبح جريمة من الناحية الموضوعية حتى ولو تخلف شرط النص القانونى .
وحتى نعرف ما اذا كان فعلا ما مخالفا للمصالح الجوهرية ينبغى معرفة ما اذا كان يقابل بمشاعر الاستهجان ام لا من قبل عامة الناس
فالمجتمع هو الذى يحدد من بين سلوك الانسان ما ينظر اليه على انه جريمه فالجريمه تشكل موضوعاً لاستهجان المجتمع اى ان السلوك الاجرامى سلوك يستهجنه المجتمع لاعتدائه على قيمه ومصالحه التى يحرص عليها ولا شك ان القيم والمصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان ففى المجتمعات البدائية مثلا لم يكن قتل الاجنبى يعد جريمه فهو لم يكن بحدث اى رد فعل فى الجماعة التى ينتمى اليها القاتل بل كثيرا ما كان يعتبر عملا مجلباً للفخر ، بينما لو وقع القتل على احد افراد الجماعة اعتبر فى نظر الجماعة جريمة ، وفى
المجتمعات المعاصرة منها ما يعتبر الزنا جريمة ومنها ما يقف منه موقف اللامبالاة فالجريمة وفقا لهذا المفهوم هى كل فعل يخالف الشعور العام لجماعة ا.
2024/2025 وكما قيل ايضا انها (كل2•فعل20يتعارض مع الافكار والمبادئ السائدة 0ف20 2
المجتمع) 2
مفهوم الجريمة لدى جاروفالو :
حاول العلامة الايطالى جاروفالو منذ زمن البحث عن تفسير طبيعى للجريمة فأبتدع مصطلح الجريمة الطبيعية وهى تلك الجريمة التى تعارفت كافة المجتمعات المتمدينة على تجريمها وتوقيع الجزاء الجنائى على فاعلها وللجريمة على هذا النحو طابع الثبات اذ هى فعل ضار فى كافة الازمنة وفى مختلف المجتمعات ولا تحظى الجريمة بهذا الاجماع مع المجتمعات خلال نمو هذه المجتمعات وتطورها وبناء عليه فالجريمة الطبيعية لدى جاروفالو هى
جرح لعاطفتى الاستقامة والاحسان كما يشعر بها الرجل المتوسط فى كل العصور وكل البلاد فى اى زمان واى مكان!.
ولقد خرج جاروفالو من تحليله لعواطف المجتمع التى تثار خلال تصرفات انسان ما الى نوعين من الجريمة :
أ- جريمة طبيعية : متفق على تجريمها من المجتمعات فى كل زمان وكل مكان لتعارضها مع عاطفة الشفقة وعاطفة الامانة مثل الاعتداء على الاشخاص والاعتداء على الاموال .
ب- جرائم مصطنعة : وهى الجرائم (ضد العواطف غير الثابتة) اى العواطف لقابلة للتحول كالعواطف الدينية والشعور بالحياء وحب الوطن .
20242025 وقد اهتم جاروفالو بالجرائم فلايعية دون الاخرى ولكن هذه الفكرة تعتمد 2اخلى202 نوعين من العواطف الامانة والشفقة وهما ليستا متشابهتين عند المجتمعات فى كل زمان ومكان كما ان ابعاده للجرائم المصطنعة عن مجال علم الاجرام يترك افعالا تعتبر جرائم كالجرائم ضد امن الدولة والجرائم الماسة بالعقائد 2.
نقد المفهوم الاجتماعى :
الواقع ان فكرة الجريمة الطبيعية ليست مقبولة ولم تجد تأييداً لدى أغلب الفقهاء فالمفهوم الاجتماعى يشوبه العيوب الاتية :
1-يهدر هذا الاتجاة مبدأ الشرعية الجنائية وهى أحدى الضمانات الاساسية للحرية الشخصية للافراد .
2- يصعب احيانا تحديد مشاعر الاستهجان والاستحسان ازاء فعل معين على سبيل المثال يجعل القانون من تشرد الحدث فعلا ممنوعا ويتعرض ولى الامر للمسئولية اذا ترك الحدث الذى له وصاية عليه فى حالة تشرد . ومع هذا فأنه يصعب تحديد مشاعر المجتمع من الاستهجان فى هذه الحالة وخاصة اذا ما كان ولى الامر ينتمى الى طبقة الفقراء .
3- عدم اتسامه بالثبات لان المجتمع ومصالحه فى تطور وتغير مستمر كما ان المصالح الاجتماعيه تختلف باختلاف الزمان والمكان وليس ادل على ذلك من ان جريمة القتل كانت تعد فى فترة من الفترات من قبيل الافعال المشروع القيام بها وذلك مثلا فى حالات المبارزة القديمة حيث كانت تعد افعال مشروعة طالما تتم فى اطار معين ومنظم .
2024/2025
2024/2025
4- يؤدى الى استبعاد طائفة من الجرائم المنصوص عليها قانونا نظرا لانها لا تثير الاستهجان لمشاعر افراد المجتمع مثل التهرب الضريبى والجمركى .
5- لا يجوز القول بأن الجريمة الطبيعية وفقا لتحديد جاروفالو لها هى فقط محل اهتمام البحوث والعلوم الجنائية فقد تناول تلك البحوث جرائم اخرى لا تدخل فى دائرة الافعال الماسة فقط بمشاعر الشفقة والامانة .
6-يؤخد على هذه الفكرة ايضا انها تعتمد فى تحديد مضمون الجريمة على القدر الاوسط من المشاعر والذى يسود المجتمع وهذا الشعور بدوره يتحدد وفقا لمعيار الشخص المتوسط وهو معيار غامض فضفاض يختلف من مجتمع لاخر ومن فترة زمنية لاخرى .
كما انتقدت ايضا فكرة الجريمة الطبيعية لدى جاروفالو من حيث ما تتسم به من نقص وافراط :-