لخّصلي

نشأْتُ في أسرةٍ عربيّةٍ تُقدِّرُ العِلْمَ وَالأدبَ وَالفُنون، وَقدْ ساهَمَ هَذا الواقِعُ في تَغْذيَتي منذُ نُعومةِ أَظْفاري بِثقافةٍ مُتنوِّعةٍ حَتّى صارَ لَدَيَّ ذلكَ المَخزونُ الَّذي يُعَدُّ غَنيًّا بِالنِّسبةِ إِلى سِنّي. وَقدْ شاءَ ليَ الحظُّ السَّعيدُ أنْ أَكونَ عَلى مَقْرُبَةٍ دائِمةٍ منْ جَدَّتي الجَميلةِ "جَميلَة"؛ فَأَنا الحفيدةُ الوَحيدةُ، وَالطِّفْلَةُ الَّتي اضْطَرَّتِ الْتِزاماتُ الحَياةِ أَبَوَيْها إِلى السَّفرِ بِاسْتِمْرار. وَأَنْ أكونَ جُزْءًا أَصيلًا منْ مُكوِّناتِ حياةِ الجميلةِ منذُ سنِّ الخامِسَةِ يَعْني أَنَّني قدْ حَصَلْتُ عَلى فُرَصٍ مُتعدِّدةٍ لِمُمارسةِ حَقّي في التَّأَمُّلِ وَالتَّساؤُلِ؛ وَذلكَ لأنَّها بارِعَةٌ في ذلكَ كُلِّه، بَلْ إِنّي لَأَحْسَبُها المَرْأةَ الأَكْثَرَ بَراعةً!

كانَتْ جَدَّتي موْلَعَةً بالسَّفرِ في صِباها، وَقدْ تَوَلَّدَ منْ هَذا الوَلَعِ تَعَلُّقٌ فَريدٌ بِاللُّغات، فَكانَتْ تَجِدُ رَوابِطَ عَجيبةً بَيْنَ مُفْرَداتِ لُغةِ أُمَّةٍ ما وَبينَ البيئَةِ الطَّبيعيَّةِ وَجُغْرافيَّةِ المَكانِ الَّذي يُحيطُ بِهَذِهِ الأُمَّةِ أَوْ تِلْك، وَقدْ أَمَّنَتْ لَها مِهْنَتُها، كَمُتَرْجِمَةٍ مُرافِقَةٍ لِشَخْصيَّةٍ دِبْلوماسيَّةٍ، إِمْكانيّةَ التَّنقُّلِ بينَ بُلْدانِ العالَم. كانَتْ تُحَدِّثُني مُطَوَّلًا عَنْ أَهَمّيَّةِ اكْتِسابِنا لِلُغاتٍ إِضافيَّةٍ وَلَكِنْ بعدَ التَّمَكُّنِ منْ لُغتِنا الأمِّ بِشَكلٍ تامّ. وَكَطِفْلَةٍ لا يَنْقُصُها الفُضولُ سألْتُها ذاتَ مَرَّة: "لِماذا تُعَلّينَ منْ شَأْنِ اكْتسابِ اللُّغاتِ يا جَدَّتي؟ فَلَوْ أَنَّ النّاسَ كُلَّهُمْ يُتْقِنونَ اللُّغاتِ إِلى جانبِ لُغاتِهِمِ الأُمِّ لَما حَصَلْتِ أنتِ عَلى فُرصةِ العملِ الَّتي جَعَلَتْكِ تَجوبينَ العالَمَ شَرْقًا وَغَرْبًا!".

ما يَزالُ صَدى ضِحْكَتِها إِثْرَ سؤالي حاضِرًا في ذِهْني، وَما تَزالُ كَلماتُها أَكْثَرَ ثباتًا في قَلْبي منْ غَيْرِها، لا سيَّما حينَ أَجابَتْني بِاسْتِفاضَةٍ وَفَتَحَتْ لي أَلْفَ أُفُقٍ جَديدٍ بِقَوْلِها:

"ـ يَتعلّمُ المَرْءُ لغةً ثانيةً يا "جَميلةُ" الصَّغيرَةُ منْ أَجْلِ الدِّراسَةِ أوِ العَمَلِ أوِ التِّجارَة، وَقَدْ يَحْتاجُ إِلى تَعلُّمِ لُغَةِ بِلادٍ يَزورُها كَسائِحٍ كيْ يَسْتَمْتِعَ بِتَفاصيلِها، أوْ كيْ يَقيَ نفسَهُ منَ التَّعرُّضِ لِلِاحْتيال.

ـ يَتعلّمُ المَرْءُ لغةَ الأَقْوامِ المُنْتِجَةِ عِلْميًّا وَحَضاريًّا حَتّى وَإِنْ لَمْ يُخَطِّطْ لِزيارةِ بُلْدانِها.

ـ يَتعلّمُ المَرْءُ اللُّغاتِ الأَكْثَرَ انْتِشارًا في العالَمِ ليَطَّلِعَ عَلى ما يَشْغَلُ بالَ الكَوْنِ الَّذي يَنْتَمي إِلَيْه.

ـ يَتعلّمُ المَرْءُ لغةَ بَعْضِ خُصومِهِ كَما ذُكِرَ في تاريخِنا العَرَبيِّ كَيْ يَأْمَنَ مَكْرَهُمْ، وَلُغةَ أَحِبَّتِهِ الَّذينَ يَنْطِقونَ بِلُغةٍ أُخْرى بِقَصْدِ التَّعَمُّقِ في فَهْمِ الآخَرِ حَتّى مَعَ وُجودِ لُغةٍ وَسيطَة.

ـ كَما يُمكنُ أنْ يَتعلّمَ بَعْضُ النّاسِ لُغاتٍ أُخْرى بِهَدَفِ التَّفاخُرِ لا سيَّما حينَ تَكونُ لغةً صَعْبَةً، وَفي بَعضِ الأَحْيانِ تَماشيًا معَ موضَةٍ دارِجَةٍ.

ـ هَذا وَيَتعلّمُ الإِنسانُ لُغاتٍ أُخْرى إِذا ما كانَ مُهْتَمًّا بِالعُلومِ الإِنْسانيَّةِ وَالتَّواصُلِ بِشَكْلٍ عامٍّ لأنَّ اللُّغةَ تَعْكِسُ التّاريخَ وَالثَّقافةَ وَالحَضارَةَ، كَما أنَّ الباحِثينَ المُتَخَصِّصينَ في عِلْمَيِ الآثارِ وَالِاجْتِماعِ لا يَسْتَغْنونَ عنِ التَّمْحيصِ في دَقائِقِ لُغاتِ الشُّعوبِ وَالحَضاراتِ المُسْتَهْدَفَةِ وَجُذورِها وَتَطوُّرِها في دِراساتِهِمْ".

وَأَرْدَفَتْ قائِلَةً: "وَأَمّا فيما يَتعلّقُ بِمِهْنَتي يا سَميَّتي الغاليَة، فَأَنا مُتَخَصِّصَةٌ في هَذا المَجالِ وَأَعْرِفُ عنْ دَقائقِ اللُّغاتِ الأَرْبَعةِ ـ الإِنْكليزيّةِ وَالفَرَنْسيّةِ وَالإِسْبانيَّةِ واليابانيَّةِ ـ الَّتي أُتَرْجِمُ عَنْها وَإِلَيْها، وَعَنْ شَوارِدِها وَقَواعِدِها كَما لَوْ أَنَّها لُغَتي الأُمُّ. وَهَذا مَطْلوبٌ في مِهْنَتي وَواجِبٌ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَطْلوبًا مِنَ الشَّخْصِ الَّذي يَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ الثّانيَةَ بِدافِعِ الِاطِّلاعِ وَالتَّواصُل".

وَلَمْ تَسْتَطِعْ جَدَّتي أَنْ تَمْنعَ مَلامِحَ القَلَقِ منَ الظُّهورِ عَلى وَجْهِها حينَ قالَت: "وَعَلى الرَّغْمِ مِنَ الغِنى الَّذي تُضْفيهِ اللُّغةُ الإِضافيّةُ إِلى حَياةِ الإنسان، إِلّا أَنَّني أَخافُ بَعْضَ الشَّيءِ عَلى لُغتِنا الأُمِّ مِنْ أنْ تُنْسى؛ أَخْشى عَلَيْها مِنْ أنْ يَهْجُرَها أَبْناؤُها مِنْ غيْرِ أنْ يَمْتَلِئوا بِها، فَكَثيرٌ منْ أصدقاءِ والدَيْكِ لا يَهْتمّونَ بِتعليمِ أطفالِهِمِ العَربيّةَ حَدَّ الإِتْقان، وَهُمْ يَجْهَلونَ أنَّ تَجاهُلَ لغتِهِمِ الأُمِّ وَإِهْمالَها قدْ يَتَسَبَّبانِ في حُدوثِ فَجوةٍ ثَقافيّةٍ داخلَ أَطْفالِهِمْ وَقدْ تَعْجَزُ لُغاتُ الأرضِ الأُخْرى عنْ مَلْئِها! أَظنُّ أنَّ إتقانَ اللُّغةِ الأمِّ هوَ بِمَثابةِ حَجَرِ الأساسِ لِتَعَلُّمِ أَيِّ لُغَةٍ فيما بَعْدُ مَهْما بَلَغَتْ صُعوبَتُها. عِديني أنْ تَبِرّي بِلُغَتِنا يا "جَميلة"!"







أَذكرُ أَنَّني لمْ أُعلّقْ بِالكثيرِ بَعْدَ أنْ أَوْمَأْتُ بِالرِّضا وَالإيجابِ في ذلكَ المَساءِ الَّذي شَكَّلَ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ كُبْرى بِالنِّسْبَةِ إِليّ؛ فَلَمْ أَعُدْ أَتَعاملُ وَاللُّغاتِ عَلى أَنَّها رُموزٌ وَأَصْواتٌ وَقَواعدُ مُجَرَّدَة، بَلْ صارَتْ أَشْبَهَ بِحَيَواتٍ مُتَكامِلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيّ، لا بَلْ صارَتْ دافِعي الأَوَّلَ لِأَتَخَصَّصَ في دراسةِ فِقْهِ اللُّغةِ وَعُلومِها.







وَها أَنا أَجْلِسُ فوقَ كُرْسيٍّ خَشَبيٍّ في غرفةِ الجَميلةِ "جَميلَةَ" وَأَخُطُّ سُطورًا عَنْها، وَأُصادقُ عَلى كَلامِها كُلِّهِ في ذِكْرى رَحيلِها الثّامِنَة. وَلا أَنْفَكُّ أَذكرُ في فضلِ الجَميلةِ الَّتي عاشَتْ أكثَرَ منْ سَبْعِ حَيَواتٍ منْ دونِ أنْ تَفْقِدَ الدَّهشَةَ وَتَسْتَخِفَّ بِلُغَتِها الأُمِّ.