لخّصلي

الحركيات المستحدثة

الشاذلية : من الاختيار إلى الترسيم ينظر حل المؤرخين إلى القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي باعتباره نقطة الأوج بالنسبة للتصوف المغربي، بمعنى أنه بلغ خلاله أقصى تطوره وانتهى إلى خاتمة أحقابه. ويتفق هذا النظر مع عنوان هذا الفصل اتفاقا تاما، ويؤكد أن هذا القرن يعتبر بحق منعطفا حاسما في تاريخ التصوف المغربي، وبعد معلما فاصلا بين ما كان عليه التصوف بالمغرب في القرون السابقة وبين ما سيصير عليه في القرون اللاحقة وخلاصة هذه الصيرورة إقرار وترسيم مرجعية موحدة في التصوف، ويتعلق الأمر بالطريقة الشاذلية" على غرار المذهب المالكي في الفقه والعقيدة الأشعرية في التوحيد.

وتعتبر مؤلفات الشيخ محمد بن عباد الرندي (ت 1390/792) معلما لبداية هذه الصيرورة. أما معلم بلوغها الغاية فيتمثل في النجاح الذي لقيته لدى العامة أرجوزة المرشد المعين على الضروري من علوم الدين التي نظمها الشيخ عبد الواحد بن عاشر الأنصاري (ت 1630/1040). وعلى الرغم من فيوض حذور وامتدادات هذه الصيرورة عن القرن الذي يهمنا إلا أنه يظل توانها الصلبة بما عرفه من وقائع وأحداث حاسمة. ويمكن تنظيم مسلسل هذه الوقائع والأحداث في ثلاث حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض، وهي بالترتيب حلقة الشاذلية العبادية وحلقة الشاذلية الجزولية وحلقة الشاذلية الزروقية.

الشاذلية العبادية : الاختيار الحاسم

نشأت الحركة العبادية في إطار انقسام الحركة الصوفية خلال النصف الثاني من القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي إلى تيارين : تيار الشمال الذي كان منطلقا لها، وهو تيار تمركز في الحواضر المرينية الكبرى كفاس ومكناس وسلا. ومن بين أبرز خصائصه الابتعاد عن التكتل وتشكيل الطوائف وإقامة الزوايا واتخاذ الشعارات والاجتماع في أوقات مخصوصة والظهور بالتوكل والتسبب والدعوة إلى الاعتصام بحبل الجماعة والترغيب في طاعة أولي الأمر. وقد تبلور هذا التيار في تغر سلا على عهد السلطان أبي عنان (749-1348760-1358) وتزعمه الشيخ أحمد بن عاشر الأندلسي (ت 1362/764). وبعد الشيخ ابن عباد من كبار تلامذته، وقد لازمه وأخذ عنه عدة سنين قبل أن يستقل عنه ويؤسس لنفسه طريقة خاصة. وأما التيار الثاني فهو تيار الجنوب المنتشر في البوادي، وقوامه الطوائف الست المشهورة بالزوايا الساحلية الكبرى في أزمور وتبط وأسفي المتنافسة في تكثير الجموع، وتزامن ازدهار هذه الحركة

17 نسبة إلى الإمام الشاذلي، وهو أبو الحسن علي عبد الجبار الإدريسي الحسني ولد يغمارة عام 1197/599 وتتلمذ للشيخ عبد السلام بن مشيش في حدود عام 1225/622. تقوم طريقته في التصوف على العمل بالكتاب والسنة والجمع بين الشريعة والحقيقة، وتوفي بصعيد مصر عام 1259/656

340

تاريخ المغرب : تحيين وتركيب

من لم يعول الشيخ ابن عباد في الاختيار الشاذلي على أحد من مشايخ الطرق وأرباب الطوائف بلاد المغرب والمشرق من أهل عصره، بل عمد إلى كتب التصوف المتوفرة في خزائن الحاضرة المرينية وصرف السنوات ذوات العدد من عمره في مطالعتها. واستغرق في عكوفه وصمته وعزلته، واستبحر في استقرائه وتدقيقه وتحقيقه والنتيجة أن اختار الطريقة الشاذلية لنفسه ولغيره نحلة ونسبة وبرنامجا إصلاحيا يجدد الطريقة وبعضد الدولة وينفع الرعية. وهكذا أنفق نصف عمره من أجل بلورة هذا الاختيار، وجاد بالنصف الثاني في سبيل تقريبه إلى الناس ودعوتهم إليه. ووصف تلميذه القاضي محمد بن السكاك (ت 1415/818) المنهج القويم الذي اتبعه في دعوته هاته، وقاس فضله على الشاذلية بالمغرب على فضل الشيخ أبي الوليد ابن رشد الجد (ت 1126/520) على المذهب المالكي بالغرب الإسلامي كله (انظر الملحقين II و III). ومما ساعد على انتشار الحركة العبادية أن حرصت الدولة على رعايتها كما أفادت من القرار بالعاصمة ومن تولي صاحبها خطة الخطابة بجامع القرويين لمدة خمس عشرة سنة.

بتياريها مع بداية سريان الوهن في أوصال الدولة المرينية وحدوث الصدع في الجبهة الداخلية فازدادت الحاجة إلى لم شمل الأمة والاستعانة بالتصوف في تأطير التوجه الديني الذي ترسمه

الدولة وتشجع عليه.

ومما ينبغي التشديد عليه أن هذه الحركة قد اختصت ببلورة صورة خاصة تميزت بها الطريقة الشاذلية. ذلك أن الشيخ ابن عباد لم يقدمها كاختيار مبني على الاستحسان ولا كأفضل الطرق وأحسنها، بل إنه اعتبرها خلاصة الطرق وخاتمتها، وصرح بأن قراءة كتب الشيخ ابن عطاء الله (ت (1309/709) تغني عن قراءة كتب التصوف جميعها. وهكذا سينتقل وصف الطريقة الشاذلية بكونها الناسخة والخاتمة لسائر الطرق إلى الطريقة العبادية نفسها. وقد قيلت في حق الشيخ ابن عباد أقوال وأوصاف تجعل منه المعلم الفاصل بين