لخّصلي

لقد استقطبت اللغةُ اهتمام المفكرين منذ أمدٍ بعيد؛ وبها قِوام فَهْم كُتبهم المقدَّسة، وكان من جملة الآراء التي أوْردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم: (بوجود علاقة ضرورية بين اللفظ والمعنى، فقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود؛ كما كان لليونان أثرهم البيِّن في بلورة مفاهيمَ لها صلة وثيقة بعلم الدلالة، فلقد حاور أفلاطون أستاذه سقراط حول موضوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، وكان أفلاطون يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدالِّ ومدلوله، فكان يقول باصطلاحية العلاقة، وذهَب إلى تقسيم الكلام إلى كلام خارجي وكلام داخلي في النفس، فقد خصصوا للبحوث اللغوية حيزًا واسعًا في إنتاجهم الموسوعي الذي يضمُّ إلى جانب النظرية - كالمنطق والفلسفة - علومًا لغوية قد مسَّت كلَّ جوانب الفكر عندهم، سواء تعلَّق الأمر بالعلوم الشرعية؛ وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس، تمامًا كما فعَل الفقهاء في معالَجة أمور علوم الدين[2]، فالأبحاث الدلالية في الفكر العربي التراثي لا يمكن حصرُها في حقل معين من الإنتاج الفكري، وكان البحثُ في دلالات كلمات اللغة العربية مما تنبَّه إليه اللغويون القدماء، يهدي إلى ذلك الأعمالُ العِلمية المبكِّرة عندهم، ولقي الدرسُ الدلالي اهتمامًا بالغًا منذ بداية البحث اللغوي عند العرب؛ وبدأت حركة كبرى لجَمْع اللغة من البوادي، وعادُوا بما اجتمع لديهم من كلام العرب، وقد كفل الله له الحفظ ما دام يحفظ دِينه، ولسَادَتِ اللهجاتُ العربية المختلفة، حينما دخل عليه أبو الأسود الدؤلي[9] فوجد في يده رقعة، فقال أمير المؤمنين: إني تأملتُ كلام العرب فوجدتُه قد فسد بمخالطة هذه الأعاجم، وجاء فيها: الكلام كله: اسم وفعل وحرف؛ والحرف: ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل، وقد قام أبو الأسود بنَقْطِ كلمات المصحف الشريف عندما فسَدت السَّليقة العربية، فوضَع شيئًا يقيس عليه العربُ كلامهم، وقد كان ذا اطلاعٍ واسع بعلم العربية، وطُرق تأدية المعاني مِن غير لَبْس، فيُستَدَل على أنه لم يُرِدْ بما حرَّم ما أحل، ونجد مثل هذه العناية كذلك من الكلاميين والفلاسفة؛ فقد اعتنى الفارابي[14] بالألفاظ، الذَّي عده مِن فروع علومِ اللسانِ التي قسمها إلى سبعة أقسام، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركَّب، فلا وجودَ لألفاظٍ فارغةِ الدلالة في عِلمَيِ المنطق والفلسفة، إنما الألفاظُ ودلالاتها وجهانِ لعملة واحدة، وقد قسم الفارابي الألفاظَ الدالة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والأداة - أي: الحرف - وإذا كانت دلالةُ الاسم والفعل واضحة، فإن دلالةَ الأداة قد يكتنفها غموض، إنما قيمتها الدلالية فيما تُشِير إليه، واللفظ لا يدلُّ على ذاته، وفي ذات الإطار يشرح الفارابي استعمالات لفظ (موجود) فيقول: (الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولات، على أنه ليست له دلالة على ذاته)[16]. كما يحدد ابن سينا[17] ماهية اللفظ المفرد بالنظر إلى دلالته، فما كانت دلالته واحدةً لا تتجزأ فهو اللفظ المفرد، ويشرح ابن سينا هذا بقوله: (اللفظ الدال المفرد هو اللفظُ الذي لا يريد الدالُّ به على معناه أن يدلَّ بجزء منه ألبتةَ على شيء)[18]. وتناول ابن سينا تعيينَ العلاقة بين اللفظ والمعنى من جوانب ثلاثة:
فكلما تحقق مسموع اسم ارتسم في الخيال مدلوله؛ تمنع من وقوع الالتباس بين الدلالات الثلاث؛ لأنه قد يطلق اللفظ ولا يعني به مدلوله المطابق له، كما إذا أطلقنا لفظ: (الشمس) وعَنَيْنا به (الجِرم) كانت الدلالة بينهما مطابقة، وإذا عنينا به (الضوء) كانت العلاقة بينهما تضمُّنًا)، ويورِد ابن سينا أمثلة يوضح فيها أقسام الدلالة الثلاثة؛ فهي تحتاج إلى أمر خارجي لعقدِ الصلة بين الدال ولازمه، وهي دلالاتٌ تجمع الأنساق كلَّها. فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى، وعلاقة الالتزام أو الاستتباع[22]، ومن قبل الغزالي وبعده نَلمِس اهتمام الأصوليين عامة بهذا الفن، يُعبِّر عنه بقوله: (واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيانٌ عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكونَ واضح الدلالة)[26]؛