لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (100%)

الفصل الأوّل بين البلاغة والفصاحة
البلاغه]
البلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلّغتها غيري، والمبالغة في الأمر: أن تبلغ فيه جهدك وتنتهي إلى غايته، ويقال بلغ الرجل بلاغة، إذا صار بليغا، ورجل بليغ: حسن الكلام، يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه (١)، ويقال أبلغت في الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه. وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ نوع من التوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كما تقول: فلان رجل محكم وتعني أن أفعاله محكمة. قال الله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فجعل البلاغة صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم، إلا أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة، كما أن كثرة الاستعمال أيضا جعلت تسمية كلمة مثل المزادة (٢) راوية كالحقيقة، قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ. وكان الراوية في الأصل حامل المزادة، وهو البعير وما يجري مجراه، ولهذا سمي حامل الشعر راوية. ذلك مفهوم البلاغة لغة، وقديما اختلف أهل العلم في مفهومها ووصفها بيانيا، وقد أورد ابن رشيق القيراوني في كتابه العمدة (١) طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها من وردت هذه الأقوال على ألسنتهم، ولكن ربما التمس مفهوم البلاغة المنشود من ثنايا بعض هذه الأقوال، فلنحاول. سئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال:
قليل يفهم وكثير لا يسأم. وقيل لأحدهم: ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحسن الإيجاز. وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظا، وأحسنهم بديهة. وقال الخليل بن أحمد: البلاغة كلمة تكشف عن البقية. الإيجاز من غير عجز، وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة:
إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة. وقيل البلاغة: حسن العبارة، مع صحة الدلالة. وقيل البلاغة: القوة على البيان مع حسن النظام. وقالوا: البلاغة ضد العيّ، والعيّ: العجز عن البيان. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة. وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى والقصد إلى الحجة. وتجنبن ظلمة التعقيد
ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون في الحديث، وتكون ميزانا لها، وكشف المعاني، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان في الأداء، وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار . قال: وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض، فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل الكمال، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها . قال: والبلاغة
تخير اللفظ في حسن إفهام. تلك طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها كل واحد منهم، ومنها يمكن تحديد مفهوم البلاغة بأنها: وضع الكلام في موضعه من طول وإيجاز، وتأدية المعنى أداء واضحا بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلاب، مع ملاءمة كل كلام للمقام الذي يقال فيه، كما أن مفهوم أبي الحسن الرماني للبلاغة متصل أكثر بأصلها ومباحثها. ولكن البلاغة قبل هذا وبعد هذا فن قولي يعتمد على الموهبة وصفاء الاستعداد، ولا بد لطالب البلاغة من أمرين: قراءة عميقة متصلة لروائع الأدب وحفظ ما يستجيده منه، ومران على التعبير من وقت لآخر عن بعض ما يجول في الخاطر وتحبش به النفس. ولا شك أن تضافر هذين الأمرين معا يعينان على تكوين الذوق الأدبي ونقد الأعمال الأدبية والحكم عليها. ومن السهل أيضا أن نلتمس في أقوال البلغاء السابقة عناصرالبلاغة، والمعنى، وتأليف الألفاظ على نحو يمنحها قوة وتأثيرا حسنا، وموضوعاته، وحال السامعين، ومع ذلك ينبغي أن نتذكر دائما أن البلاغة ليست في اللفظ وحده، أما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف تبعا لتفاوت مقامات الكلام، فمقام كل من التنكير، والإطلاق، والتقديم، والذكر يباين عكسه من التعريف، والقصر، والتأخير، والحذف، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، وانحطاط شأن الكلام يكون بعدم ذلك. فمقتضى الحال إذن هو الاعتبار المناسب. وطرف أسفل وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما
دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وبين هذين الطرفين مراتب كثيرة. ولعلنا ندرك من كل ما تقدم أن البلاغة مرجعها إلى أمرين: تمييز الفصيح من غيره، والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد. أما تمييز الفصيح من غيره فمنه ما يبين في علم متن اللغة، أو الصرف، وسمي الشاعر الأموي زياد بن سليمان مولى عبد القيس «زيادا الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف (١). فقد كان كسائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين والخاء، والصاد، فكان ينطق كلمات مثل «الحمار» «الهمار» و «دعوتك» «دأوتك» و «تصنع»
ومع ما في هذه الألفاظ من القبح واللكنة فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه، كقوله في رثاء المهلب بن المغيرة:
إن المروءة والسماحة ضمنا . فإذا مررت بقبره فاعقر به . كوم الهجان وكل طرف سابح (٢)
فعلى هذا- كما يقول أبو هلال العسكري- تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أن الفاصحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى. وقد استدل أبو هلال على أن الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى بالببغاء، فالببغاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا، إذ هو مقيم الحروف، وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه. ويرى أبو هلال كذلك أنه يجوز أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، جيد السبك، غير مستكره فجّ ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف. ويذهب قوم إلى أن الكلام لا يسمى فصيحا حتى يجمع مع نعوت الجودة فخامة وشدة جزالة، فإذا جمع الكلام نعوت الجودة ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغا ولم يسم فصيحا، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف. وهو مع ذلك ظاهر بيّن ينبغي أن يكون فصيحا، «والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة (١) والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم . وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، وإنما كان ظاهرا بينا لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف. فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه. وقد مثلت ذلك في المتقدم بلفظة المزنة والديمة ولفظة البعاق، وليس لقائل ههنا أن يقول: لا لفظ إلا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإني لم أفصل بينهما وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء ضمنا وتبعا». وردا على من ينكر ذلك ويزعم أن كل الألفاظ حسن وأن الواضع لم يضع إلا حسنا، يقول ابن الأثير (١) في موضع آخر من كتابه: «ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل، وهي علىذلك تجري مجرى النغمات والطعوم». وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط (٢)، وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل، بل يترك وشأنه». أما البحث في القيمة الجمالية للنص الأدبي المتكامل في أي صورة من صوره، فهذا من وظيفة النقد الأدبي. وما دمنا نحاول دراسة علم المعاني الذي هو أحد علوم البلاغة العربية، وخلاصته أن الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، فيقال: لفظة فصيحة، وكلام فصيح، فيقال: كلام بليغ، ورجل بليغ. وبين الاثنين عموم وخصوص مطلق، فالفصاحة أعم والبلاغة أخص، فكل فصيح بليغ، وليس كل بليغ فصيحا. وتتمثل فصاحة اللفظ أو المفرد في خلوه من ثلاثة أمور: تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس. فتنافر الحروف هو في مثل لفظة «مستشزرات» من قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا . تضل العقاص في مثنّى ومرسل
وبعضه مثنى، وبعضه مرسل، وموضع الشاهد على التنافر هنا هو لفظة «مستشزرات» بمعنى «مرتفعات» فهي لفظة مستكرهة لثقلها على اللسان وعسر النطق بها. فتنافر الحروف فيها أدى إلى ثقلها وصعوبة التلفظ بها، وهذا بدوره أنقص من فصاحتها وقلل من فصاحة البيت وجماله. ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة في اللفظ سوى الذوق السليم المكتسب بطول النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم. والسخط قطاع رجاء من رجا . أزمان أبدت واضحا مفلّجا
أغر براقا وطرفا أبرجا . ومقلة وحاجبا مزججا
وفاحما ومرسنا مسرّجا . وكفلا وعثا إذا ترجرجا
فالفاحم هنا الأسود، وأراد به الشاعر شعرا أسود فاحما، والمرسن الأنف الذي يشد بالرسن ثم استعير لأنف الإنسان، أما مسرجا وهي اللفظة الغريبة هنا فمختلف في تخريجها، فقيل من سرّجه تسريجا، أيحسّنه وبهّجه، شبه بها (السيوف) الأنف في الدقة والاستواء، وقيل من السراج، وهو قريب من قولهم: سرج وجهه بكسر الراء أي حسن، والمعنى أن لهذه المرأة الموصوفة ثنايا بيضاء مفلجة، وحاجبا مدققا مقوسا، وشعرا أسود فاحما، وأنفا كالسيف السريجي في دقته واستوائه، أو كالسراج في بريقه وضيائه. وشاهد الغرابة فيه هو في لفظة «مسرجا» للاختلاف في تخريجها. واختلف في تحديد المعنى المراد منها في موضعها فإنها تكتسب بذلك صفة الغرابة التي تنتقص من درجة فصاحتها. أما مخالفة القياس فمثل لفظة «الأجلل» التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة أيضا لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، أحد رجاز الإسلام والتي منها:
الحمد لله العلي الأجلل . الواهب الفضل الوهوب المجزل
فالشاهد هنا هو مخالفة القياس اللغوي في قوله «الأجلل» إذ القياس القياس «الأجل» بالادغام. أما فصاحة الكلام أو التركيب فتتمثل في خلوصه، وتنافر الألفاظ، فضعف التأليف في الكلام خروجه عن قواعد اللغة المطردة كرجوع الضمير على متأخر لفظا ورتبة في قول حسان بن ثابت:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا . من الناس أبقى مجده الدهر مطعمافالضمير في «مجده» يعود إلى «مطعما» وهو متأخر في اللفظ كما نرى في البيت، وفي الرتبة لأنه مفعول به، يعني أن يسبب اتصال بعض ألفاظ الكلام ببعض ثقلا على السمع وصعوبة في النطق بها، لأن النطق بالحروف المتقاربة في مخارجها أشبه بالمشي المقيد. ومثال ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر . وليس قرب قبر حرب قبر
ويقال إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات متواليات دون أن يتعتع (١)، أي يتلعثم. يحدثان ثقلا ظاهرا على اللسان والسمع معا، مع أن
كل لفظة أو مفردة منه لو أخذت وحدها كانت غير مستكرهة ولا ثقيلة. ومن تنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب أيضا قول أبي تمام، من قصيدة له يمدح بها أبا الغيث موسى بن إبراهيم ويعتذر إليه:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى . معي، وإذا ما لمته لمته وحدي
فالتنافر هنا قد ولّده ما في قوله «أمدحه» من الثقل لقرب مخرج الحاء، من مخرج الهاء، وإذا بعدت كانت بعكس الأول. ولهذا لم يوجد في كلام العرب اجتماع العين مع الغين ولا مع الحاء ولا مع الخاء، ولا اجتماع الطاء مع التاء حذرا من عسر النطق. وفي البيت أيضا ثقل آخر من جهة التكرار في «أمدحه» و «لمته». ومن قبيح التنافر الناشئ عن التكرار قول الشاعر:للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
المكتبة الشاملة
كتاب علم المعاني
عبد العزيز عتيق]
الرئيسيةأقسام الكتب البلاغة
فصول الكتاب
ص:
21

وازورّ من كان له زائرا . وعاف عافي العرف عرفانه (١)
كذلك يشترط في فصاحة الكلام أو التركيب أن يسلم من التعقيد اللفظي الذي يترتب عليه خفاء الدلالة على المعنى المراد في الكلام بسبب تأخير الكلمات أو تقديمها عن مواطنها الأصلية، ما مثله في الناس إلا مملكا .


النص الأصلي

الفصل الأوّل بين البلاغة والفصاحة


[البلاغه]


البلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلّغتها غيري، والمبالغة في الأمر: أن تبلغ فيه جهدك وتنتهي إلى غايته، وقد سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب سامعه فيفهمه. ويقال بلغ الرجل بلاغة، إذا صار بليغا، ورجل بليغ: حسن الكلام، يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه (١)، ويقال أبلغت في الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه.


والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم، وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ نوع من التوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كما تقول: فلان رجل محكم وتعني أن أفعاله محكمة. قال الله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فجعل البلاغة صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم، إلا أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة، كما أن كثرة الاستعمال أيضا جعلت تسمية كلمة مثل المزادة (٢) راوية كالحقيقة،


(١) قد يعبر عن العقل بالقلب. قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ.
(٢) المزادة: القربة التي يحمل فيها الماء.وكان الراوية في الأصل حامل المزادة، وهو البعير وما يجري مجراه، ولهذا سمي حامل الشعر راوية.


ذلك مفهوم البلاغة لغة، وقديما اختلف أهل العلم في مفهومها ووصفها بيانيا، وقد أورد ابن رشيق القيراوني في كتابه العمدة (١) طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها من وردت هذه الأقوال على ألسنتهم، بيد أن النظر في كل قول من هذه الأقوال لا يعطينا مفهوما جامعا مانعا للبلاغة، ولكن ربما التمس مفهوم البلاغة المنشود من ثنايا بعض هذه الأقوال، فلنحاول. سئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال:


قليل يفهم وكثير لا يسأم. وسئل آخر فقال: معان كثيرة في ألفاظ قليلة.


وقيل لأحدهم: ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحسن الإيجاز. وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظا، وأحسنهم بديهة.


وقال خلف الأحمر: البلاغة لمحة دالة.


وقال الخليل بن أحمد: البلاغة كلمة تكشف عن البقية.


وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال:


الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.


وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة:


إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا.


وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة.


وقثال آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل.


وقيل البلاغة: حسن العبارة، مع صحة الدلالة.وقيل البلاغة: القوة على البيان مع حسن النظام.


وقالوا: البلاغة ضد العيّ، والعيّ: العجز عن البيان.


وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة.


وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى والقصد إلى الحجة.


وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ قال: الجزالة والإطالة.


وقال البحتري يمدح محمد بن عبد الملك بن الزيات حين استوزر ويصف بلاغته:


ومعان لو فصّلتها القوافي ... هجّنت شعر جزول (١) ولبيد


حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد


وركبن اللفظ القريب فأدركن ... به غاية المراد البعيد


وقال العتابي: قيّم الكلام العقل، وزينته الصواب، وحليته الإعراب، ورائضه اللسان، وجسمه القريحة، وروحه المعاني. وسئل ابن المقفع: ما البلاغة؟ فقال: اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون خطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.


وقال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: أصل البلاغة الطبع، ولها مع ذلك آلات تعين عليها وتوصل للقوة فيها، وتكون ميزانا لها، وفاصلة بينها وبين غيرها وهي ثمانية أضرب: الإيجاز، والاستعارة، والتشبيه، والبيان، والنظم، والتصرف، والمشاكلة، والمثل.وقال عبد الله بن محمد بن جميل المعروف بالباحث: البلاغة الفهم والإفهام، وكشف المعاني، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان في الأداء، وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار ... قال: وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض، كحاجة بعض أعضاء البدن إلى بعض: لا غنى لفضيلة أحدها عن الآخر، فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل الكمال، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها ... قال: والبلاغة


تخير اللفظ في حسن إفهام.


تلك طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها كل واحد منهم، ومنها يمكن تحديد مفهوم البلاغة بأنها: وضع الكلام في موضعه من طول وإيجاز، وتأدية المعنى أداء واضحا بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلاب، مع ملاءمة كل كلام للمقام الذي يقال فيه، وللمخاطبين به.


ولعل تعريف عبد الله بن محمد بن جميل للبلاغة هو الأقرب إلى هذا التعريف، كما أن مفهوم أبي الحسن الرماني للبلاغة متصل أكثر بأصلها ومباحثها.


ولكن البلاغة قبل هذا وبعد هذا فن قولي يعتمد على الموهبة وصفاء الاستعداد، ودقة إدراك الجمال، وتبين الفروق الخفية بين شتى الأساليب. ولا بد لطالب البلاغة من أمرين: قراءة عميقة متصلة لروائع الأدب وحفظ ما يستجيده منه، ومران على التعبير من وقت لآخر عن بعض ما يجول في الخاطر وتحبش به النفس. ولا شك أن تضافر هذين الأمرين معا يعينان على تكوين الذوق الأدبي ونقد الأعمال الأدبية والحكم عليها.


ومن السهل أيضا أن نلتمس في أقوال البلغاء السابقة عناصرالبلاغة، وهذه العناصر هي: اللفظ، والمعنى، وتأليف الألفاظ على نحو يمنحها قوة وتأثيرا حسنا، ثم الدقة في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام، وموضوعاته، وحال السامعين، والنزعة النفسية التي تسيطر عليهم.


وعلى هذا فلا بد للبليغ من التفكير في المعاني التي تموج في نفسه على أن تكون صادقة قوية يتجلى فيها أثر الابتكار وسلامة الذوق في تنسيقها وحسن ترتيبها، فإذا تحقق له ذلك اختار لها من الألفاظ الواضحة المؤثرة ما يتلاءم وطبيعتها ويعبر عنها أجمل تعبير. ومع ذلك ينبغي أن نتذكر دائما أن البلاغة ليست في اللفظ وحده، وليست في المعنى وحده، وإنما هي في الارتباط العضوي بينهما، وأثر لازم لسلامتهما وانسجامهما.


هذا عن البلاغة، أما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف تبعا لتفاوت مقامات الكلام، فمقام كل من التنكير، والإطلاق، والتقديم، والذكر يباين عكسه من التعريف، والقصر، والتأخير، والحذف، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب ومقام المساواة.


وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول يكون بمطابقته للاعتبار المناسب، وانحطاط شأن الكلام يكون بعدم ذلك. فمقتضى الحال إذن هو الاعتبار المناسب.


وللبلاغة طرفان: طرف أعلى وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، وطرف أسفل وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما


دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وبين هذين الطرفين مراتب كثيرة.


ولعلنا ندرك من كل ما تقدم أن البلاغة مرجعها إلى أمرين: تمييز الفصيح من غيره، والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.


أما تمييز الفصيح من غيره فمنه ما يبين في علم متن اللغة، أو الصرف، أو يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وسمي الشاعر الأموي زياد بن سليمان مولى عبد القيس «زيادا الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف (١).


فقد كان كسائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين والخاء، والصاد، فكان ينطق كلمات مثل «الحمار» «الهمار» و «دعوتك» «دأوتك» و «تصنع»


«تسنأ». ومع ما في هذه الألفاظ من القبح واللكنة فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه، كقوله في رثاء المهلب بن المغيرة:


قل للقوافل والقريّ إذا قروا ... والباكرين وللمجدّ الرائح (١)


إن المروءة والسماحة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح


فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح (٢)


فعلى هذا- كما يقول أبو هلال العسكري- تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أن الفاصحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى.


وقد استدل أبو هلال على أن الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى بالببغاء، فالببغاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا، إذ هو مقيم الحروف، وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه.


ويرى أبو هلال كذلك أنه يجوز أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فجّ ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.


ويذهب قوم إلى أن الكلام لا يسمى فصيحا حتى يجمع مع نعوت الجودة فخامة وشدة جزالة، فإذا جمع الكلام نعوت الجودة ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغا ولم يسم فصيحا، ويضربون لذلك مثلا قول إبراهيم بن العباس الصولي: وعرف ما هي، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.


الوجه الأخير أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بيّن ينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟».


«والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة (١) والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع،


وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم ...


وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، وإنما كان ظاهرا بينا لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف.


فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه.


وقد مثلت ذلك في المتقدم بلفظة المزنة والديمة ولفظة البعاق، ولو كانت الفصاحة أمرا يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء، ليس منها حسن وليس منها قبيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أن «الفصاحة» تخص اللفظ دون المعنى.


وليس لقائل ههنا أن يقول: لا لفظ إلا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإني لم أفصل بينهما وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء ضمنا وتبعا».


وتدعيما لرأيه السابق في قضية الحسن والقبح في اللفظ، وردا على من ينكر ذلك ويزعم أن كل الألفاظ حسن وأن الواضع لم يضع إلا حسنا، يقول ابن الأثير (١) في موضع آخر من كتابه: «ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار وصوتا منكرا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل، وهي علىذلك تجري مجرى النغمات والطعوم».


«ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج (١)، وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط (٢)، وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل، وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس (٣)، فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه».


...


ولعل من المفيد أن نفرق منذ البدء بين البلاغة العربية والنقد الأدبي حيث لكل منهما ميدانه الخاص وفلكه الذي يدور فيه. فالبلاغة العربية تقف عند حدود البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل، أما البحث في القيمة الجمالية للنص الأدبي المتكامل في أي صورة من صوره، فهذا من وظيفة النقد الأدبي.


وعلى هذا المفهوم فإن البلاغة العربية تقدم بنظرياتها للناقد أهم الأدوات التي تعينه على تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها.


وما دام ميدان البلاغة العربية قاصرا على البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل، وما دمنا نحاول دراسة علم المعاني الذي هو أحد علوم البلاغة العربية، فإن الأمر يستأدينا قبل الانتقال إلى مباحث هذا العلم تفصيلا أن نستكمل الكلام عن الفصاحة والبلاغة.


...


لقد عرفنا مما سبق حد كل من الفصاحة والبلاغة، وخلاصته أن الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، فيقال: لفظة فصيحة، وكلام فصيح، ورجل فصيح. أما البلاغة فيوصف بها الكلام والمتكلم فقط، فيقال: كلام بليغ، ورجل بليغ. وبين الاثنين عموم وخصوص مطلق،فالفصاحة أعم والبلاغة أخص، فكل فصيح بليغ، وليس كل بليغ فصيحا.


وتتمثل فصاحة اللفظ أو المفرد في خلوه من ثلاثة أمور: تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس.


فتنافر الحروف هو في مثل لفظة «مستشزرات» من قول امرئ القيس:


غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنّى ومرسل


فالشاعر هنا يصف غزارة شعر حبيبته، فيقول: إن حبيبته لكثرة شعرها بعضه مرفوع، وبعضه مثنى، وبعضه مرسل، وبعضه معقوص ملوى بين المثنى والمرسل.


وموضع الشاهد على التنافر هنا هو لفظة «مستشزرات» بمعنى «مرتفعات» فهي لفظة مستكرهة لثقلها على اللسان وعسر النطق بها. فتنافر الحروف فيها أدى إلى ثقلها وصعوبة التلفظ بها، وهذا بدوره أنقص من فصاحتها وقلل من فصاحة البيت وجماله. ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة في اللفظ سوى الذوق السليم المكتسب بطول النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم.


وغرابة اللفظ أو المفرد مثل لفظة «مسرجا» بتشديد الراء التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج يقول فيها:


والسخط قطاع رجاء من رجا ... أزمان أبدت واضحا مفلّجا


أغر براقا وطرفا أبرجا ... ومقلة وحاجبا مزججا


وفاحما ومرسنا مسرّجا ... وكفلا وعثا إذا ترجرجا


فالفاحم هنا الأسود، وأراد به الشاعر شعرا أسود فاحما، والمرسن الأنف الذي يشد بالرسن ثم استعير لأنف الإنسان، أما مسرجا وهي اللفظة الغريبة هنا فمختلف في تخريجها، فقيل من سرّجه تسريجا، أيحسّنه وبهّجه، وقيل من قولهم: سيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له سريج، شبه بها (السيوف) الأنف في الدقة والاستواء، وقيل من السراج، وهو قريب من قولهم: سرج وجهه بكسر الراء أي حسن، والزجج دقة الحاجبين.


والمعنى أن لهذه المرأة الموصوفة ثنايا بيضاء مفلجة، ومقلة واسعة حسنة سوداء، وحاجبا مدققا مقوسا،


وشعرا أسود فاحما، وأنفا كالسيف السريجي في دقته واستوائه، أو كالسراج في بريقه وضيائه. وشاهد الغرابة فيه هو في لفظة «مسرجا» للاختلاف في تخريجها. فاللفظة إذا دلت على أكثر من معنى، واختلف في تحديد المعنى المراد منها في موضعها فإنها تكتسب بذلك صفة الغرابة التي تنتقص من درجة فصاحتها.


أما مخالفة القياس فمثل لفظة «الأجلل» التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة أيضا لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، أحد رجاز الإسلام والتي منها:


الحمد لله العلي الأجلل ... الواهب الفضل الوهوب المجزل


أعطى فلم يبخل ولما يبخل


فالشاهد هنا هو مخالفة القياس اللغوي في قوله «الأجلل» إذ القياس القياس «الأجل» بالادغام. هذا كله بالنسبة إلى فصاحة المفرد.


أما فصاحة الكلام أو التركيب فتتمثل في خلوصه، وسلامته من ثلاثة أمور أيضا هي: ضعف التأليف، وتنافر الألفاظ، والتعقيد لفظيا ومعنويا مع فصاحة المفردات التي يتألف منها.


فضعف التأليف في الكلام خروجه عن قواعد اللغة المطردة كرجوع الضمير على متأخر لفظا ورتبة في قول حسان بن ثابت:


ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعمافالضمير في «مجده» يعود إلى «مطعما» وهو متأخر في اللفظ كما نرى في البيت، وفي الرتبة لأنه مفعول به، ورتبة المفعول متأخرة على رتبة الفاعل.


فالبيت لهذا غير فصيح.


وتنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب، يعني أن يسبب اتصال بعض ألفاظ الكلام ببعض ثقلا على السمع وصعوبة في النطق بها، لأن النطق بالحروف المتقاربة في مخارجها أشبه بالمشي المقيد. ومثال ذلك قول الشاعر:


وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر


ويقال إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات متواليات دون أن يتعتع (١)، أي يتلعثم. والسبب بطبيعة الحال واضح، لأن اجتماع كلمات البيت وقرب مخارج حروفها، يحدثان ثقلا ظاهرا على اللسان والسمع معا، مع أن


كل لفظة أو مفردة منه لو أخذت وحدها كانت غير مستكرهة ولا ثقيلة.


ومن تنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب أيضا قول أبي تمام، حبيب ابن أوس الطائي، من قصيدة له يمدح بها أبا الغيث موسى بن إبراهيم ويعتذر إليه:


كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي، وإذا ما لمته لمته وحدي


فالتنافر هنا قد ولّده ما في قوله «أمدحه» من الثقل لقرب مخرج الحاء، من مخرج الهاء، لأن مخارج الحروف كلما قربت كانت الألفاظ مكدودة قلقة غير مستقرة في أماكنها، وإذا بعدت كانت بعكس الأول. ولهذا لم يوجد في كلام العرب اجتماع العين مع الغين ولا مع الحاء ولا مع الخاء، ولا اجتماع الطاء مع التاء حذرا من عسر النطق. وفي البيت أيضا ثقل آخر من جهة التكرار في «أمدحه» و «لمته».


ومن قبيح التنافر الناشئ عن التكرار قول الشاعر:للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
المكتبة الشاملة
كتاب علم المعاني
[عبد العزيز عتيق]
الرئيسيةأقسام الكتب البلاغة


فصول الكتاب
ص:
21


مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب الفصل الأول بين البلاغة والفصاحة الفصاحة


وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه (١)


كذلك يشترط في فصاحة الكلام أو التركيب أن يسلم من التعقيد اللفظي الذي يترتب عليه خفاء الدلالة على المعنى المراد في الكلام بسبب تأخير الكلمات أو تقديمها عن مواطنها الأصلية، أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاوز ويتصل بعضها ببعض، وذلك كقول الفرزدق من قصيدة يمدح بها إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان:


ما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حيّ أبوه يقاربه


فالبيت كما ترى غير فصيح لضعف تأليفه الناشئ عن تعقيد ألفاظه وصعوبة استخلاص معناه. فالمعنى الذي حاول الفرزدق أن يعبر عنه في هذا البيت هو: وما مثله- يعني الممدوح- في الناس حي يقاربه- أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا- يعني هشام بن عبد الملك بن أخت الممدوح- أبو أمه- أي أبو أم هشام- أبوه- أي أبو الممدوح. فالضمير في «أمه» للمملّك، وفي «أبوه» للمدوح.


فالشاعر في البيت قد فصل بين «أبو أمه» وهو مبتدأ، و «أبوه» وهو خبر المبتدأ بأجنبي وهو «حي». وكذلك فصل بين النعت والمنعوت «حي يقاربه» بأجنبي وهو «أبوه»، ثم قدم المستثنى وهو «مملكا» على المستثنى منه، وهو «حي يقاربه».


فنظم البيت كما نرى في غاية التعقيد اللفظي، وكان من حق الناظم أن يقول: وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه. فالخلل في نظم كلمات البيت بالتقديم والتأخير، وبالفصل بين الكلمات التي يجب تجاورها واتصال بعضها ببعض قد جعل الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد.


وكما يشترط في فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد اللفظي فإنه يشترط فيه كذلك أن يسلم من التعقيد المعنوي، وهو استعمال الكلمات عند إرادة التعبير عن معنى خاص في غير معانيها الحقيقية، وبذلك يضطرب التعبير، ويصعب الوصول إلى المعنى المراد. مثال ذلك قول العباس ابن الأحنف:


سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا


فالمعنى الذي قصد الشاعر التعبير عنه في هذا البيت هو: أطلب وأريد البعد عنكم أيها الأحبة لتقربوا، إذ من عادة الزمان الإتيان بضد المراد، فإذا أريد البعد يأتي الزمان بالقرب، وكذلك أطلب الحزن الذي هو لازم البكاء ليحصل السرور بما هو من عادة الزمان.


فالشاعر أراد هنا أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود هو خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر. وقد أخطأ الشاعر في مراده إذ جمود العين هو خلوها من الدمع أو بخلها بالدمع الذي هو لازم البكاء عند إرادة البكاء منها، كقول أبي عطاء يرثى ابن هبيرة:


ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود


إذن فالجمود لا يكون كناية عن السرور بل عن البخل، وبهذا يكون الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع، لا إلى ما قصده الشاعر من السرور.


فالشاعر، كما نرى، استعمل الكلمات في غير معانيها الحقيقية، أو بعبارة أخرى لم يكن موفقا في اختيار الكلمات المعبرة عن معناه تعبيرا جليا واضحا، ومن ثم عقد المعنى أو وقع في التعقيد المعنوي الذي أخلّ بفصاحة البيت.


ولعلنا أدركنا على ضوء هذا الشرح كيف أن فصاحة الكلام لا تتأتىإلا إذا سلم من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد اللفظي والمعنوي. أما الفصاحة في المتكلم فملكة يقتدر


بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

لقد أولى النبي ...

لقد أولى النبي النساء جانبا عظيما من اهتمامه، وتوجيهه فكان يأمر بالقيام بحقهن، ويحذر من التقصير في ش...

وكانت أمريكا تخ...

وكانت أمريكا تخشى أن يؤدي الصراع بين إيران وإنجلترا على النفط إلى انقطاع تدفق النفط أو عدم استقرار س...

مرحبًا بكم في ن...

مرحبًا بكم في ندوة "أهم البرامج التدريبية وأهم أقسام القطاع المصرفي ودور كل إدارة داخل البنك" التي س...

12‏/05‏/2021 — ...

12‏/05‏/2021 — تلخيص الفصل الخامس عشر جبل : يبتعد سريع عن صديقته الوحيدة ويسير على طول شاطئ البحيرة ...

لقد أدت موجات ا...

لقد أدت موجات الهجرة خلال السنوات الثلاث الماضية (2020-2022)، إلى خسارة لبنان ما يقارب 10 المائة (ما...

اختيار نوع الات...

اختيار نوع الاتفاقية على أخصائي العقود بمجرد استلامه طلب طرح عطاء مراجعة نطاق الأعمال أو الخدمات وبم...

رجل يحلم بإنجاب...

رجل يحلم بإنجاب ولد يحمل اسمه واسم عائلته. بعد سبع سنوات من الزواج بدون أطفال، يتزوج للمرة الثانية و...

ناموا وعند الفج...

ناموا وعند الفجر اســـــتيقظ ( بوبوط ) مذعوراً وذهب وهو يعرج للبحيرة ، فرآه ( هدارة ) فراح يراقبه وه...

كان أحمد شوقي م...

كان أحمد شوقي مثقفاً ثقافة متنوعة الأركان، فقد انكب على قراءة كتب الأدب العربي وداوم على مطالعتها، ل...

يعتبر استحقاق ع...

يعتبر استحقاق عمرة رمضان للأجر العظيم يتمتع بعدة أسباب. أولاً، رمضان هو شهر الصيام والعبادة في الإسل...

تطوير العملية ا...

تطوير العملية التعليمية من طريق ما يقدمه التقويم من معلومات عن الأوضاع التعليمية السائد في المجتمع ،...

The study of hi...

The study of history provides many benefits. T First, we learn from the past. We may repeat mistakes...