لخّصلي

اللغة مرآة حياة الأمة وسجل حضارتها
هذه الأرض التي نعيش عليها تحمل عشرات من الأمم التي يختلف بعضها عن بعض بحسب الجنس والدم، ثم بحسب البيئة الجغرافية بكل أبعادها. وكل أمة من هذه الأمم لها لغتها التي تختلف عن اللغات الأخرى أيضاً؛ لأن اللغة إنما تعبر عن البيئة الطبيعية وما فيها شكل الأرض مستوية سهلية أو وعرة جبلية، وطبيعة التربة صحراوية جدبة أو خصبة، والنباتات وأنواعها وطعم ثمارها ومصادر المياه وطعامها والجو ومدى حرارته أو برودته، وأمطاره وهيئة تلك الأمطار وتعبر أيضاً . من زراعة أو صناعة أو تجارة، وعن عن وسائل الارتزاق المهن والحرف السائدة ووسائل الانتقال والاتصال، وأساليب المعيشة من الأطعمة وأنواعها وكيفيات طهيها، وعن الملابس وصنوفها وهيئاتها. كما تعبر عن العادات والقيم والتقاليد ومدى عراقتها عند مناسباتها ... وباختصار فإن اللغة صورة صوتية وفكرية للمجتمع؛ لأنها مأخوذة أساساً من المجتمع بكل عناصره ومكوناته السابقة - كما أحسها أفراد ذلك المجتمع وعاشوها. إن ألفاظ اللغة ماهي إلا أسماء لما في البيئة من أشياء ولما يجرى فيها من أحداث أحسها الإنسان ودخلت في مجال اهتمامه حتى احتاج للتعامل معها والتعبير عنها . فسماها متأثراً في تلك التسمية بوقع هذه الظواهر والأشياء على حسه وبالتكييف الذى كيفتها به نفسه وحسه. ومن هنا فإن اللغة تحمل في طوايا ألفاظها وعباراتها ملامح حياة الشعب الذي يتكلمها، ورائحة البيئة التي عاشت فيها، ومن هنا أيضاً كانت اللغة تراثاً قومياً لأهلها، ومخصصاً حضارياً لهم ولذلك فإن كل أمة تحس بضرورة دراسة لغتها أعمق الدراسة، وتنميتها أوسع
النماء لتحسن وتصدق في التعبير عنهم وعن قوميتهم وحضارتهم وحياتهم بكل جوانبها - أى لتكون صورة صوتية وفكرية قوية وأمينة لمجتمعهم هم وقوميتهم
هم . و مادامت اللغة تصور المجتمع بعناصره السالفة، ومادامت المجتمعات تختلف من حيث عناصر البيئة المتاحة في كل مجتمع، ومن حيث وعى أهل كل مجتمع لما يعايشون من عناصر البيئة وتقديرهم لأهميتها وأشكالها ووظائفها نفعاً أو ضرا فمن الطبيعي أن تختلف اللغات في المفردات التي تعبر عن عناصر البيئة
وتسميها، وفي أساليب التركيب والتعبير التي تتأثر بها .
ولتوضيح اختلاف اللغات في تصويرها للحياة والمجتمعات تأثراً بالبيئة، أو بتكييف أفراد المجتمع لما في البيئة، أو بالثقافة العامة لأهل هذه البيئة نضرب
الأمثلة التالية :
إن وطننا العربي مهد اللغة العربية يغلب عليه الجو الحار
ولا يؤلف فيه الجو الشديد البرودة المعتاد في أوربا مثلاً.
ولذلك لا تجد في لغتنا العربية - على سعتها - ما يزيد على
عشرة ألفاظ من تسميات الثلج في حالاته المختلفة (الثلج ما
جمد من الماء بالنهار والليل، والحمد الثلج الرطب والبرد
حب الغمام، الخشف الثلج الخشن والدفق الثلج مع الريح
يغشى الإنسان حتى يكاد يقتله الكلمات الأربع محركات)
والجليد ما يسقط على الأرض من الندى فيجمد، والصقيع:
الساقط من السماء بالليل كأنه ثلج، والضريب
الثلج والجليد والصقيع والسيع (بالفتح) ماسال على الأرض من حمد ذائب والهمام (كحسام ماذاب من البرد والثلج والهثهئة: انتخال الثلج والبرد (1) أما في بلاد الإسكيمو، حيث الثلج ملازم ويكسو كل شيء، فنجد في لغتهم - على قلة سعتها - عشرات المفردات الدالة على الثلج في كل حالاته التي يمكن تخيلها مما يقع هناك الثلج على الأرض.. في الهواء.. في حالة الجليد... وفي حالة التصلد.. الثلج تذروه الرياح، الثلج الذائب إلخ) (٢).
(٦) والعرب القدماء، كانك بالتهم صحراوية وحياتهم رعوية فكانت معظم أموالهم الإبل والغنم والبقر، وكانوا يتخذون الخيل للحروب التي كانت كثيرة النشوب بينهم، ومن هنا نجد حياة الإبل والغنم والبقر والخيل مفصلة عندهم من حيث السن واللون والضخامة والقوة أو السرعة، وكذلك الأمر في بقاع الأرض المخصبة والمجدبة - بل في حالات الجو بما لا يكاد يوجد في أية لغة أخرى لانعدام مثل هذه الظروف. فانظر كيف تتبعوا أسنان الإبل: ولد الناقة ساعة تضعه أمه سليل، ثم سقب
(بالفتح) وحوار. فإن استكمل سنة وفصل عن أمه فهو فصيل
فإذا كان في السنة الثانية فهو ابن مخاض، وفي الثالثة ابن لبون، وفي الرابعة حق (بالكسر)، وفي الخامسة جذع (بالتحريك)، وفى السادسة حين يلقى ثنيته لنی بوزن غنی) وفي السابعة رباع كسحاب)، وفى الثامنة سديس، وفي التاسعة حين قطر نابه بازل وفى العاشرة مخلف (كمزمن)، ثم مخلف عام، ثم مخلف عامين فصاعداً ... فإذا هرم وفيه بقية فهو عود (بالفتح)، فإذا ارتفع عن ذلك فهو قحر (بالفتح)، فإذا انكسرت أنيابه فهو ثلب (بالكسر)، فإذا كبر حتى لا يستطيع
أن يحبس ريقه فهو ماج (الجيم مشددة، فإذا استحكم هرمه فهو كخكح (كقنفذ) (1) ... تسع عشرة مرحلة قابلة للمزيد) . (۷) وانظر كيف تتبعوا ثمرة النخلة أول حمل النخلة الطلع، فإذا انشق الطلع فهو الضحك بالفتح فيهما، فإذا انعقد الطلع
حتى يصير بلحاً صغيراً فهو السياب (كسحاب) - الواحدة
سيابه، فإذا اشتد واخضر فهو الجدال، فإذا عظم واشتد فهو
البسر (بالضم)، فإذا احمر فهو الزهو بالفتح)، فإذا بدت فيه
نقط من الإرطاب فهو موكت بوزن مدرس)، فإذا أتاه التوكيت
من قبل أذنابه فهو مذنب، فإذا لان للإرطاب فهو تعد
(بالفتح)، فإذا بلغ الإرطاب أنصافه فهو مجزع (كمعزز)، فإذا
بلغ ثلثيه فهو حلقان (كعثمان)، فإذا جرى الإرطاب فيه فهو منسبت (کمنهزم، فإذا تناهى الإرطاب فيه فهو مغو (بالفتح) فإذا جفف فهو تمر - وقد يطلقون كلمة التمر على الجنس كله
كما نستعمل نحن كلمة البلح أحياناً للجنس كله أيضاً ).
فانظر كيف تتبعوه بالتسمية في أربع عشرة مرحلة ... وما أظن أمة تتبع لغتها الإبل أو البلح بالتسمية الدقيقة مرحلة مرحلة مع تقارب المراحل كما في اللغة العربية إلا أن تكون لها نفس ظروف الأمة العربية والبيئة العربية واللغة العربية ... وهذا بعيد
فإذا جاوزنا هذه الأمثلة إلى ماهو موجود في كل البيئات وجدنا الاختلاف في النظر إليه تبعاً لظروف كل بيئة فالروس يقسمون الأربع والعشرين ساعة في يومهم ابتداء من الشروق حتى الشروق التالي إلى صباح، ونهار، وضحى، وما بعد الظهر، ومساء، وليل (۲) ست فترات). في حين نجد في العربية أربعة وعشرين اسماً لأربع وعشرين حيناً فساعات النهار الشروق، ثم البكور، ثم الغدو، ثم الضحى، ثم الهاجرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم العصر، ثم القصر، ثم الأصيل، ثم العشى، ثم الغروب، وساعات الليل الشفق، ثم الغسق، ثم العتمة الثلاث بالتحريك، ثم السدفة (بالضم) ثم الفحمة بالفتح)، ثم الزلة، ثم الزلفة، ثم البهرة الثلاث بالضم)، ثم السحر بالتحريك، ثم الفجر، ثم الصبح
ثم الصباح. (1) وهذا على سبيل الإيجاز والتسامح وإلا فإنهم قسموا الفترة من

الفجر إلى شروق الشمس إلى عدة أوقات لكل منها اسمه (٢).

سبب ذلك كله ظروف البيئة. فالعرب كانوا يعيشون في صحراء خالية مكشوفة ليس بينهم وبين السماء حجاب طوال اليوم أو معظمه. وكانت أعمالهم غدواً إلى المراعي أول النهار ورواحاً آخره؛ فكانوا يتتبعون مرور الوقت ساعة بساعة، ويتأملون حركة الشمس بالنهار، وحركة القمر والنجوم بالليل في تأمل

مريح فسموا ساعات اليوم بهذا التقسيم الجزئي المفصل .

أما أولئك الروس فبلادهم ثلجية وبينهم وبين السماء حجاب دائم من سقوف البيوت والمتاجر والمصانع ومن السحب الدائمة فكان من الطبيعي أن يقسموا اليوم إلى فترات كبيرة تناسب أوقات نشاطهم هم - لا حركة الشمس أو النجوم 2023/2024 2023/2024 2023/202
التي لا يرونها غالباً .
يضاف إلى ذلك أن هناك ما يمكن أن يسمى القيم البيئية أو المحلية - في مقابل القيم العقلية العامة وتعد تلك القيم المحلية في جانب كبير منها من نتاج البيئة وظروفها ومن ثم تعد من خصائصها. إن ارتباط حياة العربي بالصحراء إقامة ومعيشة وتنقلاً جعلت الكرم) قيمة من أعظم قيم البيئة؛ لأنه قد يمثل إنقاذاً وحياة بالنسبة للمسافر في الصحراء عندما ينفد زاده أو ماؤه. كذلك
أصبحت الشجاعة) قيمة كبيرة؛ لأنها ضرورية لتأمين الحياة والذود عن الحرم. يتصل بذلك (الثار) للتراث، والحمية)، بل والفخر بالظلم والبغي والعدوان تأكيداً للشوكة والمنعة بما يقابل عروض القوة وضربات الردع والإجهاض في زمننا هذا. ويتضح بعض ما سبق في أبيات عمرو بن كلثوم والضمير لنساء قومه)
يقتن جيادنا ويقلن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
لشيء بعدهن ولا حمينا
إذا لم نحمهن فلا يقينا
وما منع الطغائن مثل ضرب
ترى منه السواعد كالقلينا
إذا ما الملك سام الناس خيفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لنا الدنيا وما أمسى عليها
ونبطش - حسين نبطش - قادرينا
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا (1)
إن هذا كله يوضح أن اللغة تصور حياة الأمة تصويراً كاملاً وتعبر عن حضارتها
المادية وغير المادية تعبيراً أميناً. وهذا وجه لما قاله عمر بن الخطاب وعبد الله
بن عباس - الشعر ديوان العرب أى أنه يسجل حياتهم بكل ملامحها -
كما أنه يسجل لغتهم. إن هذا يفرض علينا أن نهتم بلغتنا لتجيد تصوير حياتنا
بكل ملامحها، إن ملامح حياتنا وحضارتنا هي من شخصيتنا، وكل أمة عريقة تعتز
بحضارتها وملامح حياتها وشخصيتها. ولئن كانت اللغة نفسها من أهم ملامح
حياتنا وحضارتنا وتستحق لذلك كل الاهتمام، فإنها تستحق ذلك الاهتمام أيضاً
لوجه آخر هو أنها مرآة تينك الحياة والحضارة، وبقدر اهتمامنا بها دراسة
وتنمية والتزاماً - بقدر ما تنجح في تصويرهما وتخليدهما، وبقدر ما تتأكد
شخصية الأمة وتتميز، ويتحقق لها واحد من أهم عناصر العزة القومية .