لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (77%)

انتبهت إلى أن أهلي يسمون المكان الذي نسكنه بالخان . من يأتي عندنا يصفنا بساكني الخان . وهو لا ريب قد كان خانا في يوم مضى :
في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام ، وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع ، وليس للغرفة نافذة ليس لها إلا باب حديد كبير ، أكاد أعجز عن زحزحته لثقله ، وقرب الباب مرحاض صغير ، أضيف حتماً بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من أيام العهد العثماني الطويل . وبين بابنا الكبير والشارع بوابة خشبية أصغر منه ، وهي أيضاً إضافة لاحقة ، لعزل المبنى قليلاً عن الشارع ، فحالما نتخطى عتبتها
يواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات أو سبع . درج حجري مكشوف يصعد إلى الطابق الأعلى الذي كانت فيه غرفة
طلي بابها بالأخضر ، كلما صعدت إلى فوق ، حيث يقيم رجل ذو لحية قصيرة
ولا أراه إلا وهو جالس إلى طاولته ، يفكك ويركب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون إنه الراهب يوسف . ومن جانب غرفته يصعد الدرج المكشوف إلى طابق ثالث كانت
كانت «العلية غرفة مستطيلة كبيرة ، يؤمها صباح الأحد الكثير من الرجال
وبعض الصبية الذين يرتدون قمصاناً بيضاء طويلة ، في جلباب أزرق مزركش ، نشازاً بين حين وآخر بالترتيل ، أفهمني أبي أن تلك الغرفة هي كنيسة ، الذي يجب أن نقبل يده كلما التقيناه . وكانت رائحة البخور تعبق في
هذا الطابق الأعلى طوال أيام الأسبوع ، وتتكرّم كلما هبت ريح ملائمة ، إلا إذا اقتحمه شعاع من الشمس في
الذي كان يطلق صوتاً يتفاوت حدة بتفاوت حجم لهيبه ، كانت تغني معه أحياناً بارعة في معالجته بإبرة خاصة ، أبدى تمنعاً في الاشتعال كما هي تريد . يخرج أبي إلى الشغل وأنا نائم . وعندما نستيقظ أنا وأخي يوسف ، مع شيء من الخبز والزيتون ، نخرج إلى الشارع ، وأرضها مبلطة بالحجارة التي يلسع بردها أقدامنا الحافية . ثم يتوافد صبية مثلنا ، فتنحدر معاً من وراء الجامع باتجاه ساحة باب الدير ، حيث عربات الخيول ، أو يجلسون في المطاعم والمقاهي المحيطة بالساحة ، ما يماثله - وغمرت كذلك حبلات
والجبال البعيدة التي تشرف عليها الساحة ، الذي كان أول ما ما نحس به عند الخروج . بعد أن ذهب أخي الى المدرسة ، وجدتي أرقب طبخة وعدتني أمي بها : «هيطلية» - أرز بالحليب . فاشترت أمي منها بالكيلة عدة أوقيات صبتها البائعة في
لأن أمي تقول أن لا قدرة لها على شراء الحليب
وبين صعودي إلى الطابق العلوي لأقول
للراهب يوسف «صباح الخير ، ثم إلى طابق الكنيسة الأعلى لأنظر من السطح
المكشوف الذي أمامها إلى الصبية الذي هم في الأسفل يلعبون في الحارة ، وبين نزولي لأرى كيف يجري طبخ الهيطلية ، وضعته على الأرض في الركن ، وقالت : «لنتركه ساعتين ليبرد . عندما يعود أبوك من الشغل ، فهو مثلك يحب الهيطلية . أوصتني أمي بألا أكثر من الخروج والدخول ، وبأن أكون «عاقلاً» ، مع جدتي إلى السوق لشراء الخضرة . وقالت : إذا خرجت ، ولا تسمح لأحد بالدخول »
ما كدت أبقى وحدي ، حتى تطلعت إلى الأكلة البيضاء الشهية بحرقة ، فلأخرج الى الحارة. وأخذت لطعة أخرى قبل الخروج . عند باب الدكان المقابل ، لقيت أحد أصدقائي ، وعندما تمشينا وراء الجامع ، التقانا صبيان آخران ، وقال لهما صديقي : «أمه
كان المزيد من أطفال الحي قد تجمعوا عند
فقلت لهم : أمي طبخت هيطلية!»
قال أحدهم : «كذاب!»
قلت : «أنت كذاب . ثم التفت إلى الآخرين ، وقلت : «يلا تعالوا إلى بيتنا في الخــان . قالوا : ولكن نخاف من أمك» . قلت : «أمي ذهبت مع جدتي إلى السوق» ، جعلنا نتقافز ونتراكض باتجاه الخان . ودفعنا معاً الباب الحديدي الكبير لمسكننا . كانت قصعة الأرز بالحليب المستقرة على الأرض تتوهج
سحبتها إلى بقعة قرب الباب ، وفي
وصحت بهم :
وكان قرب «البابور»
وراحوا هم يأكلون . تلك اللحظات الرائعة ، ووراءها جدتي ، ملاعقهم ، وأنقذوا بسرعة العفاريت من الباب المفتوح ، وقبل أن تطبق يدا أمي علي ، أصدقائي في كل اتجاه . النفس ، وحيداً لا رفيق لي . وأنا السبب . وخفت أن أرجع إلى البيت . من الساحة ، ويصبه
في جرن حجري مستطيل قربها ، وثلاثة جمال قد أحنت رؤوسها فيه حتى
كادت مشافرها الضخمة تصيب قعره ، وقفت أتفرج عليها ، وضخامة أبدانها ، وأخشى الدنو منها كثيراً . متلكثاً في السير ، إلى الطريق المجاور ، أتفرج على . واجهاتها من مسابح وصور وصلبان من الصدف ، وجمال صغيرة من خشب الزيتون ، أو نسيته ، عند الباب ، إطلالة ، وكان قد عاد من المدرسة ، وهو يضحك ويقول : «تعـال ، ادخل! تطعم غيرك بالملعقة ، لأقابل أمي ، وعيناها تقدحان بالغضب . وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك ، حين قالت : «يا
ثم التفتت إلي أخي ، القرشين ، وأركض الى بيت بائعة الحليب . وعد على عجل ، تنازلت أمي عن تهديدها ، وقالت في نفرة مفتعلة : «يلا ، اقعد مع أبيك وأخيك . أم أن الملعقة تكفيك؟»
وأوقفني في
أحد صفي الصبية المرتلين ، فقد جعلت أتمتع بما أسمع ، كلما رفعوا أصواتهم . فيأخذ أبونا بملعقة
المبخرة ، ويرسم عليها إشارة الصليب . والمصلين ، ويهزّ المبخرة عليهم بإيقاع منتظم ، وكل ما في الحارة من بشر ومساكن . الملائكة ، وكم تمنيت
لو رأيت أولئك الملائكة . جعلتني أتوهم أحياناً أنني أراها
وأدعوها
ترى الملائكة ، ولعلها لن تراني أنا أيضاً وأنا بصحبتها . وتنفث من أفواهها النيران، ولا التراتيل الجميلة . بالحليب، الحديدي في وجهه . وليدق عليه بذيله إلى أن يشبع!
كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المديسة . معك ، غير أن مدير المدرسة ، عندما أخذني أخي إليها معه ، وهز رأسه ، كم عمره؟ . » أجاب : خمس سنوات» . وليأتِ إلينا بعد سنة» . غضبت أمي عندما أعادني أخي الى البيت ، وفي الحال أسرعت بي إلى
صباحاً ، قبل الساعة الثامنة» . نصعد إليه بدرج كثير . وانتبهت إلى أن بيتنا الجديد هذا نسميه بكلمة جديدة
علي : «الخشاشي» في المدرسة رأيتهم يكتبون . ويفتح الدفتر ، كانوا يرفعون رؤوسهم وينظرون
مربع ، وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، ولكنها الآن
بعضها عن بعض . ومن عادة كل منهم أن يمد لسانه ، ويكتب . فيبريه بالبراية . ويغمس الأسود المبري بلعاب لسانه . كان ذلك أول يوم لي ، هل أكتب أنا أيضاً؟»
قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك؟» قلت : «لا» . قال : «كيف تكتب إذن؟»
حتى المعلم ضحك ، واكتب . بعد قليل دق المعلم جرساً . كبيرة منحنية ، المنحني ، ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . وما
وعدنا إلى «الصف» . كنا على الأقل خمسين ولداً ، من أعمار شتى . أحذية ضخمة ، خلفها الجيش العثماني لآبائهم . في ساعة الغداء . رحت ركضاً إلى بيتنا ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . لا يا حبيبي . ناتئ في الجدار. وقال ارجعوا في الساعة الواحدة . ابنك جاء!»
فهي تعلم أن أمي
فكانت جدتي تتستر علي . تلمسته ، فقالت :
«ها؟ عندك شيء تقوله؟ فعلت شيئاً غير لائق؟»
فقلت وأنا أنظر في عينيها العسليتين : ستي ، «لكي أكتب» . «قل ذلك لأمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في
كانت أمي تتأمل في الطنجرة» ، وقالت : «أهلاً بابن المدارس»
قلت : يمه ، المعلم يقول أن علي أن أخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة» . - صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟»
- «الدفتر والقلم بنصف قرش . هكذا يقول الأولاد . قرش ، قال وقبل أن تأكل ، أخرجت شيئاً من الحشيش الذي كنا نجمعه في كيس كبير في طلعاتنا الى
الأبيضين ، وأقبلا عليه بنهم ، وأنا
وقالت أمي :
إذ راحت قباب الأديرة المنبثة في البلدة تقرع أجراسها
وأصوات الأجراس تتمازج عبر الفضاء ، بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، ودخلنا
الصف . كتب المعلم حروفاً على اللوح ، «ألف باء!»
«ألف باء!»
جعلنا أنا واثنان من رفاقي نردد ونرنم : «ألف با بوباية ، وواجهته مليئة بالدفاتر
والأقلام والمحايات . - «لا»
وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر
ففهمتني في الحال . ودون أن تقول كلمة واحدة ، وضعت يدها في عبها ، وحلّت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع
نقدية ، يلا من قدامي ، عنفص!»
وناولت صاحبه قطعة النقد العزيزة ، فطلبت إليه أن يبري لي القلم ، لديك براية ، مش ضروري . وجدتي كالعادة
تمددت فوقها
على بطني ، وفتحت الدفتر عند أول صفحة . بللت طرفه الحاد على رأس لساني . كما يقول المعلم ، معقوفة من الطرفين ، غيّرت
فتوقفت . ذلك المساء ، أبي قال «عفارم!» يوسف قال :
ودر
ولا تضيّع القلم : أتسمع؟» وجدتي غمزتني جانبياً ، في صباح اليوم التالي أخذت «عدتي معي إلى المدرسة ، واستعرت ممحاة ، وأرجلهم
وذاك يركل
قدمي ، قلت : «نعم . وجعلني أكتب»
قالت : «الحمد لله»
لم نكتب شيئاً . قعد إلى المنضدة ، أو يضحك ، كتب القراءة ، بس بلا حس؟ وأنتم الجالسين في الخلف ، هكذا ، وأنزلوا رؤوسكم وأسندوها عليها ، وناموا . دفنا وجوهنا بين سواعدنا ، يستطيع النوم؟ قضينا ساعة ورؤوسنا على البنك ، وجعل
إزاء أحدها . وانطلقت فجأة شخرة عاتية من المعلم ، أدار رأسه
نحو اللوح ، فرأى الأسماء ، حکیت . «افتح يدك ، وفتح الولد يده ، وضربه المعلم بالمسطرة على كف يده ضربة واحدة . فأذاقه ضربتين اثنتين ، كان اسم رفيقي على البنك «عبده»
وقد لازمني في العودة ، وهو يقول : أتعرف كيف تصنع «طقاعة؟ دفترك هذا فيه
كانت أمه منشغلة عنا بالخياطة عندما جلسنا في ركن من غرفة بيتهم ، وبس! قال . وناولته الدفتر . اللتين في الوسط ، وطواهما بشكل خاص ، وأنا أراقبه ، فضغط عليها بذراعه ، أعاد الطي ، العملية ، و «طقع» مرة أخرى . شيء رائع!
وعملت طقاعة ، وطرقعت! ثم عملنا طقاعة
فأخرى - إلى أن أتينا على الدفتر . بين حين وآخر : «بلا دوشة يا جماعة!»
إلى أن غابت
الشمس ، قلت : «أخذه المعلم»
وقالت أمي : «أين الدفتر؟»
- «لماذا؟ ليتفرج عليه؟»
لكي لا يضيع»
وعندما عاد أبي من العمل ، سألني : «أين الدفتر؟»
وأجبته بالجواب نفسه . ونمت تلك الليلة وأنا أفكر في الطقاعات ، واحدة منها أطرقع بها في المدرسة . ولكنني شعرت أيضاً بشيء من الخوف ، من
ولم يكن لدي إلا القلم ، وكلما انقرم بريتـه بمساعدة أحد الأولاد ، وفي البيت أمطرتُ من جديد بالسؤال إياه : «أين الدفـتـر؟» وأجبت : «عند
المعلم»
فقلت :
دائماً جرس؟»
في اتجاه ساحة المهد . كبار السن ، وباب
كنيسة المهد خلفنا ، ويصوروننا . واكسرها ، ورشها
والعدس يشهي للمزيد من البصل ، وأكلت
حتى اتخمت ، واستلقيت على ظهري فنفرت بي أمي : «قم! قم إلى مدرستك!
وقالت جدتي : «مهلك على الصبي . خليه يستريح قليلاً»
فقالت أمي : «والله أفسدته!»
وبقينا أنا وعبده لعدة أيام ننزل إلى الوادي ، وفي
لكي نوهم أهلنا أننا ما زلنا نواظب
على الدوام في المدرسة . حتى جوبهت في الظهيرة بأمي ، وما كدت أدفع البوابة ، حتى أمسكت أذني
عند المعلم!» لايمه ، يا كذاب؟»
ولطمتني على خدي : التقيت بأم عبده هذا الصباح ، ولطمتني على خدي الآخر . يا كذاب ، ورغم حماية جدتي ، بندورة ، وخرجت ، وأكلت غدائي البائس وأثر الملح في عيني يؤذيني ، وقرص أمي ما زال
يخز في خدي وفخذي . وأتعلم الألف
كالأوادم . وتينة كبيرة ، وعلى مقربة منها
وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، خرزة البئر ، ويتصل بحاكورة أخرى محاطة بأشجار الرمان . التي هي مأوى الخراف والدجاج ، ممشى يفصل أيضاً بين الحاكورتين ، ويمتد من
بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وجذوع الأشجار
ظاهرة التفاصيل في السقف المنخفض ، وهي تتداخل
إذ تمتد من حائط إلى حائط ، من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، دك السطح بالدرداس . ولكنه يقلله ويحصره على الأغلب في الزوايا . على أرض الغرفة الترابي ، وأرقب مصارعة
الجرذان المعشعشة بين أحطاب السقف . وأكثر من مرة ، فالتقطته قطتنا «فلة» ببراعة ، كانت «فلة» على رقتها الظاهرة ، ثم تقضي عليها . جرذ كبير بحجمها تقريباً ، كادت تنهزم في المعركة ، إذ راح يرفع قدمه الأمامية
كالمخلب ليطعن بوزها ، غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء
أعلى الجبل الذي بنيت البلدة على سفحه منذ القدم . أما من ناحية بوابة
المدخل ، الطريق العام المعروف برأس أفطيس ، الشارع كنا نصعد الدرجات الحجرية اللامنتظمة، التي صقلتها الأقدام مع مرور
الزمن ، لكي نبلغ زقاق دارنا . بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، صبغت ذات يوم غابر بطلاء أبيض . وعلى اليسار جدار عال ، يربط عنده حمار أبيض ، لا أظن أن أحداً كان يدعوه
باسمه ، أو حتى يعرف اسمه . إنه أشهر طبيب في البلدة . والكل يطلقون عليه التسمية الوحيدة التي يحترمونها : «الحكيم الرومي»
فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميّز طبقياً عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه
الأرستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين
في لونها - وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، كان «الحكيم» رجلاً قصيراً ، ولا يبتسم
لأحد ، لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . هذا الحي ، تجربة سجلها لي حماره المحترم وأنا في الخامسة من عمري . صعود الدرج إلى البيت ، والحمار واقف على قوائمه يكاد يسـد عـرض المعـبـر
وقد فرغ من علفه فيما يبدو ، وروثه وتبنه يملآن الدرجتين أو الثلاث التي
تجنبت الروث ما استطعت ، ولا أظنني ، عبرت ، تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، وضربني
«زوجاً»
وكان ذلك درساً أليماً ، ومبكراً في حياتي ، أو
أن أعمل الحذر الشديد إذا اضطررت إلى الاقتراب منها ومن أضرابها . الحركة ، ولم أفهم بالضبط ما الذي جرى لها عندما وجدتها لا تغادر فرشتها
وهي تتلوى وتئن ، وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار
وأطلب إليه
الحضور إلى دارنا لمعالجة أمي . بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، تشجعت ، وقبل أن أقول له - كما علمتني جدتي – «صباح الخير ، - «ومن هي أمك؟»
- أمي؟ أمي ، أ ، - أتريدني أن أزورها؟ أين تسكنون؟»
لا أذكر كلماته بالضبط ، الرومية ، ولكن لا بد أنني أفهمته ما أريده ، لكي يجلس عليها . بشكل ما ، ثم كتب «الروشتة» وأعطاها جدتي ، ونهض ، وطلب
خمسة قروش أجراً لعيادته . وهي في ألمها مندهشة : «خمسة
حتى غروب الشمس مقابل خمسة قروش . أو ثلاثة» . وهي
لا ، شكراً»
ثم أطبق غطاءها
والتقط حقيبته ، قالت أمي : «إلى مدرستك ، يلا يا حبيبي ، عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، ودفتر
«خط»
حيث كانت
ملأى بالمقاعد الطويلة . دخلت المدرسة ، فأوقفني المعلم صموئيل ، قلت : «بطنها توجعها ، كلما تكلم المعلم صموئيل ، ندهش للكلمات الغريبة التي
ولو أننا قد نحزر معناها – أحياناً . باعتبارها مما لا يستحق التريث عنده طويلاً . نقرأها ، ونكتبها بنسخها عن الكتاب. ويأخذ دفاترنا ويصححها بحبر أحمر
ويعيدها إلينا ، وهو يقول : «خرابيش الدجاج - هذا خطكم!»
فقص علينا كيف جبل الله طيناً وخلق منه بشراً سماه آدم . وفيما كان آدم نائماً
تحت شجرة من أشجار الجنة ، أخذ الله ضلعاً من صدره وخلق منه امرأة سماها
ولما كنت أتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء الذين أراهم في


النص الأصلي

انتبهت إلى أن أهلي يسمون المكان الذي نسكنه بالخان . ثم انتبهت إلى أن
من يأتي عندنا يصفنا بساكني الخان . وهو لا ريب قد كان خانا في يوم مضى :
غرفة فسيحة ، عميقة ، في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام ،
خلف الجامع . وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع ، من البقال إلى صانع
الأحزمة وبرادع الحمير, وليس للغرفة نافذة ليس لها إلا باب حديد كبير ،
كأبواب المخازن ، أكاد أعجز عن زحزحته لثقله ، وقرب الباب مرحاض صغير ،
أضيف حتماً بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من أيام العهد العثماني الطويل .
وبين بابنا الكبير والشارع بوابة خشبية أصغر منه ، جعلت مدخلاً للبناية ،
وهي أيضاً إضافة لاحقة ، لعزل المبنى قليلاً عن الشارع ، فحالما نتخطى عتبتها
العالية ، يواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات أو سبع . وإلى اليسار ، في
، .
الفضاء ، درج حجري مكشوف يصعد إلى الطابق الأعلى الذي كانت فيه غرفة
طلي بابها بالأخضر ، كلما صعدت إلى فوق ، حيث يقيم رجل ذو لحية قصيرة
يلبس السواد دائماً ، ولا أراه إلا وهو جالس إلى طاولته ، يفكك ويركب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون إنه الراهب يوسف . وهو خبير في تصليح الساعات
والأجهزة الآلية . ومن جانب غرفته يصعد الدرج المكشوف إلى طابق ثالث كانت
فيه «العلية» .
كانت «العلية غرفة مستطيلة كبيرة ، يؤمها صباح الأحد الكثير من الرجال
والنساء ، وبعض الصبية الذين يرتدون قمصاناً بيضاء طويلة ، ويرتلون ، وفي
وسطهم شيخ أبيض اللحية ، طويلها ، في جلباب أزرق مزركش ، يرتفع صوته
نشازاً بين حين وآخر بالترتيل ، والشموع تشتعل في كل مكان .
أفهمني أبي أن تلك الغرفة هي كنيسة ، وأنها بيت الله ، وأن الشيخ هو القس
أبونا حنا ، الذي يجب أن نقبل يده كلما التقيناه . وكانت رائحة البخور تعبق في
هذا الطابق الأعلى طوال أيام الأسبوع ، وتتكرّم كلما هبت ريح ملائمة ، فتنزل
إلينا ، نحن ساكني الخان ، بشذاها الطيب ، فتعطر الجو .
كان الخان عميقاً ، رطباً ، مظلماً ، إلا إذا اقتحمه شعاع من الشمس في
الصباح ، والباب مفتوح . وفي ركن منه ، كانت أمي تطبخ على «البابور»
البريموس ، الذي كان يطلق صوتاً يتفاوت حدة بتفاوت حجم لهيبه ، فأشعر أنه
كانت تغني معه أحياناً بارعة في معالجته بإبرة خاصة ، كلما
يغني وأمي التي كانت تغنّي .
.
أبدى تمنعاً في الاشتعال كما هي تريد .
يخرج أبي إلى الشغل وأنا نائم . وعندما نستيقظ أنا وأخي يوسف ، ثم نشرب
الشاي الذي تهيؤه عادةً . جدتي ، مع شيء من الخبز والزيتون ، نخرج إلى الشارع ،
وأرضها مبلطة بالحجارة التي يلسع بردها أقدامنا الحافية . ثم يتوافد صبية مثلنا ،
فتنحدر معاً من وراء الجامع باتجاه ساحة باب الدير ، حيث عربات الخيول ، وقد
تكون هناك سيارتان أو ثلاث . ويتقاطر الناس على مهل ، فيركبون العربات
والسيارات ، أو يجلسون في المطاعم والمقاهي المحيطة بالساحة ، وقد غمرت
الشمس المكان بضياء ليس في الخان»
ما يماثله - وغمرت كذلك حبلات
الوادي ، والجبال البعيدة التي تشرف عليها الساحة ، فأخذت تتألق ، ويزول البرد
الذي كان أول ما ما نحس به عند الخروج . وفي صباح أحد الأيام ، بعد أن ذهب أخي الى المدرسة ، بقيت مع أمي
وجدتي أرقب طبخة وعدتني أمي بها : «هيطلية» - أرز بالحليب . كانت بائعة
الحليب قد طرقت بابنا ، فاشترت أمي منها بالكيلة عدة أوقيات صبتها البائعة في
الطنجرة . وكان هذا حدثاً مهماً ، لأن أمي تقول أن لا قدرة لها على شراء الحليب
إلا في المناسبات وعند الضرورات . وبين صعودي إلى الطابق العلوي لأقول
للراهب يوسف «صباح الخير ، ثم إلى طابق الكنيسة الأعلى لأنظر من السطح
المكشوف الذي أمامها إلى الصبية الذي هم في الأسفل يلعبون في الحارة ،
وأناديهم وينادونني ، وبين نزولي لأرى كيف يجري طبخ الهيطلية ، كانت الأكلة
اللذيذة ، الموعودة ، قد حضرت .
صبتها أمي في وعاء معدني مسطح، وضعته على الأرض في الركن ،
وقالت : «لنتركه ساعتين ليبرد . سأعطيك منه قليلاً ، عند الظهر ، ولكننا
سنحتفظ به للعشاء، عندما يعود أبوك من الشغل ، فهو مثلك يحب الهيطلية ..
أوصتني أمي بألا أكثر من الخروج والدخول ، وبأن أكون «عاقلاً» ، ريثما تذهب
مع جدتي إلى السوق لشراء الخضرة . وقالت : إذا خرجت ، أغلق الباب وراءك
جيداً . ولا تسمح لأحد بالدخول »
ما كدت أبقى وحدي ، حتى تطلعت إلى الأكلة البيضاء الشهية بحرقة ،
ومددت اصبعي إليها ، وذقتها . ما الذها ! ولكنها ما زالت حارّة ، وأمي تريدها
باردة . طيب . فلأخرج الى الحارة. وأخذت لطعة أخرى قبل الخروج .
في الشارع ، عند باب الدكان المقابل ، لقيت أحد أصدقائي ، فـق
، فقلت له :
أتعرف؟ أمي طبخت لنا اليوم هيطلية .
وعندما تمشينا وراء الجامع ، التقانا صبيان آخران ، وقال لهما صديقي : «أمه
طبخت اليوم هيطلية .. وبعد قليل ، كان المزيد من أطفال الحي قد تجمعوا عند
المنعطف ، يلعبون . فقلت لهم : أمي طبخت هيطلية!»
قال أحدهم : «كذاب!»
قلت : «أنت كذاب . تعال وشوف . ثم التفت إلى الآخرين ، وقلت : «يلا تعالوا إلى بيتنا في الخــان . عنـدنا
هيطلية»
.
قالوا : ولكن نخاف من أمك» .
قلت : «أمي ذهبت مع جدتي إلى السوق» ،
جعلنا نتقافز ونتراكض باتجاه الخان . كان الباب الخارجي ، كالعادة مفتوحاً .
أدخلت أصدقائي ، ودفعنا معاً الباب الحديدي الكبير لمسكننا . ودخلنا جميعاً -
وكنا سبعة أو ثمانية .
رغماً عن العتمة ، كانت قصعة الأرز بالحليب المستقرة على الأرض تتوهج
كالشمس . سحبتها إلى بقعة قرب الباب ، للمزيد من الضوء ، وقلت للأولاد :
«اقعدوا!»
.
وفي
وقعدوا على الأرض جميعاً في حلقة حول الطبق الأبيض . وصحت بهم :
«انتظروا! لا تأكلوا بأيديكم عندنا ملاعق .
وكان قرب «البابور»
صحن فيه مجموعة من الملاعق الخشب والألومنيوم من
أحجام مختلفة ، وزّعتها عليهم ، واحداً واحداً . ووجدت أنه لم تبق لي أنا
ملعقة ، وراحوا هم يأكلون . فتناولت المغرفة بسرعة ، وشققت لي مكاناً بينهم ،
وغرفت بها ، وأكلت مع الأكلين .
تلك اللحظات الرائعة ، وقد كدنا نأتي على ما في القصعة ، دخلت أمي
ووراءها جدتي ، وصاحت بنا صيحة اهتز لها الخان . ورمى |
الصبية
ملاعقهم ، وأنقذوا بسرعة العفاريت من الباب المفتوح ، وأطلقوا سيقانهم للريح .
وقبل أن تطبق يدا أمي علي ، وجدتني أنا أيضاً أسابق الريح ، وقد تشتت
أصدقائي في كل اتجاه . وبقيت أركض حتى وصلت باب كنيسة المهـد مـبـهـور
النفس ، وحيداً لا رفيق لي .
وأدركت حينئذ أن أبي لم يبق له شيء يأكله في المساء عند عودته متعباً من
العمل ، وأنا السبب . وخفت أن أرجع إلى البيت .
لم أجد أحداً من رفقتي ألعب معه : على بعد قليل في باب المهد ، على طرف
عنهم وهي
من الساحة ، كان رجل يسحب الماء من دلو جلدي من بئر كبيرة الفم ، ويصبه
في جرن حجري مستطيل قربها ، وثلاثة جمال قد أحنت رؤوسها فيه حتى
كادت مشافرها الضخمة تصيب قعره ، وقد تكشفت عن أسنان صفراء رهيبة ،
تشفط الماء بشراهة . وقفت أتفرج عليها ، على استدارة أعناقها الطويلة ،
وضخامة أبدانها ، وارتفاع سيقانها الهائل ، وأخفافها المفلطحة ، التف حولها
وأخشى الدنو منها كثيراً . وما يكاد صاحبها يفرغ ماء الدلو في الجرن ، حتى تأتي
عليه الجمال في الحال .
تركتها ، متلكثاً في السير ، إلى الطريق المجاور ، وتوقفت عند بوابات مخازن
«السوفنير»
أتفرج على . واجهاتها من مسابح وصور وصلبان من الصدف ،
وجمال صغيرة من خشب الزيتون ، وقد صفّت في قوافل ، مقطور بعضها ببعض .
بعد مدة زايلني الخوف ، أو نسيته ، وجعلت أشعر بجوع شديد . فسرت باتجاه
الدار ، ولكن ، عند الباب ، عاودني الخوف مما ستفعله بي أمي ، فأطللت نصف
إطلالة ، وصحت : «يمة استي!»
.
فخرج إلي أخي ، وكان قد عاد من المدرسة ، وهو يضحك ويقول : «تعـال ،
ادخل! تطعم غيرك بالملعقة ، وأنت تأكل بالمغرفة عال والله ! كيفنا! يلا ، تعال ..
وجرني إلى الداخل ، لأقابل أمي ، وعيناها تقدحان بالغضب .
وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك ، حين قالت : «يا
شيطان! أتوزع أكلنا على الناس؟ أتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع أولاً ،
وبعدين أطعم الناس ...»
ثم التفتت إلي أخي ، وقالت : «خذ الطنجرة يا يوسف ، وخذ هذين
القرشين ، وأركض الى بيت بائعة الحليب . وإذا وجدت أنه بقي عندها شيء من
الحليب ، اشتر ست أواق ، وعد على عجل ، لأطبخ وجبة أخرى من الهيطلية
لأبيك ... أما أخوك هذا ، فلن يذوقها ، والله وخذه معك . لا أريد أن أرى
وجهه!»
المساء ، تنازلت أمي عن تهديدها ، وقالت في نفرة مفتعلة : «يلا ، اقعد مع أبيك وأخيك . أتريد المغرفة لتأكل بها ،أم أن الملعقة تكفيك؟»
صبيحة اليوم التالي أصعدني أبي مع أخي إلى الكنيسة مبكراً ، وأوقفني في
أحد صفي الصبية المرتلين ، ومع أنني لم أكن أعرف ما الذي يرتلون بالسريانية ،
فقد جعلت أتمتع بما أسمع ، وأحاول أن أرفع صوتي معهم ،
أرفع صوتي معهم ، كلما رفعوا أصواتهم .
كنت أرقب الولد حامل المبخرة وهو يدنو بها من أبونا حنّا ، فيأخذ أبونا بملعقة
صغيرة قليلاً من البخور من طاسة نحاسية في يد الولد ، ويلقـمـهـا جـمـرات
المبخرة ، ويرسم عليها إشارة الصليب . ثم يدور الولد بين أرجاء الهيكل ،
والمصلين ، ويهزّ المبخرة عليهم بإيقاع منتظم ، وهي تطلق سحب العطر .
وتمنيت لو أنني أحمل أنا أيضاً مبخرة مثله ، لأبخر الناس ، والدار ، والدرج ،
وكل ما في الحارة من بشر ومساكن . فقد قال أبي إن مع سحب البخور تنطلق
الملائكة ، وتستمطر بركات الله على كل من يتلقى الرائحة الزكية ... وكم تمنيت
لو رأيت أولئك الملائكة .
وبقيت رؤية الملائكة حسرة في نفسي ، جعلتني أتوهم أحياناً أنني أراها
كالأشباح - مخلوقات وسطاً بين الطيور والنساء - وأنني ألعب معها ، وأدعوها
إلى قصعة من الأرز بالحليب . ولسوف نستطيع أن نأكل على هوانا ، لأن أمي لن
ترى الملائكة ، ولعلها لن تراني أنا أيضاً وأنا بصحبتها .
وكنت أسمع أحاديث عن الشياطين أيضاً : وهي سوداء ، لها قرون حادة ،
وتنفث من أفواهها النيران، وتطرقع بأذيالها الطويلة ، غير أنها لا تحب رائحة
البخور ، ولا التراتيل الجميلة . ولا أظن أنها تحب مصادقة الأطفال ، أو أكل الأرز
بالحليب، والحمد لله لن أريد رؤيتها وإذا ظهر لي واحد منها ، أغلقت بابنا
الحديدي في وجهه . وليدق عليه بذيله إلى أن يشبع!
كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المديسة . فقالت له أمي : «خذ أخاك
معك ، حتى أعرف كيف أنصرف إلى شغلي .»
غير أن مدير المدرسة ، عندما أخذني أخي إليها معه ، نظر إلي نظرة سريعة ،
وهز رأسه ، وسأل يوسف : «أخوك هذا ، كم عمره؟ .» أجاب : خمس سنوات» .
قال المدير : أرجعه إلى البيت . وليأتِ إلينا بعد سنة» .
غضبت أمي عندما أعادني أخي الى البيت ، وفي الحال أسرعت بي إلى
مدرسة الروم الأورثوذكس وهي أقرب مسافة من مدرسة الألمان ، وقابلت المعلم .
فقال لها : أهلاً وسهلاً . خليه عندنا و
ا وروحي مع السلامة . أو أحضريه غداً
صباحاً ، قبل الساعة الثامنة» .
ولكننا في اليوم التالى انشغلنا جميعاً بالانتقال إلى بيت آخر ، في مكان
نصعد إليه بدرج كثير . وانتبهت إلى أن بيتنا الجديد هذا نسميه بكلمة جديدة
علي : «الخشاشي» في المدرسة رأيتهم يكتبون . يمسك الواحد منهم باللابصة» (قلم الرصاص) ،
ويفتح الدفتر ، ويكتب على الورق الأبيض المسطّر . كانوا يرفعون رؤوسهم وينظرون
عبر رأس المعلم إلى اللوح) - وهو مجموعة من أخشاب شدت معاً على شكل
مربع ، وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، وصبغت يوماً بالأسود ، ولكنها الآن
تكاد تكون بيضاء من تراكم أثر الطباشير ، رغم مسحها ، وتفارقت الأخشاب
بعضها عن بعض . وقد خط المعلم على هذا اللوح بضعة حروف . والصبية
يكتبون . ومن عادة كل منهم أن يمد لسانه ، ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ،
ويكتب . ويمحو بممحاة صغيرة عليها صورة فيل. وينقرم القلم . فيبريه بالبراية .
ويغمس الأسود المبري بلعاب لسانه . وينظر إلى اللوح ويكتب .
كان ذلك أول يوم لي ، أو أحد أيامي الأولى في مدرسة الروم» الواقعة خلف
كنيسة المهد . قلت للمعلم ، وأنا على «بنك»
طويل بين أربعة أو خمسة أطفال
مثلي : «معلمي ، هل أكتب أنا أيضاً؟»
قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك؟» قلت : «لا» .
قال : «كيف تكتب إذن؟»
قلت : «في دفتر أحد الأولاد الذين عندهم دفاتر» .
فضحك الصبية . حتى المعلم ضحك ، وقال : «لا يا ولد . غداً أحضر دفترك
وقلمك ، واكتب .
بعد قليل دق المعلم جرساً . وخرجنا إلى الملعب . كانت هناك شجرة صنوبر
كبيرة منحنية ، تكاد تقسم الساحة الصغيرة إلى قسمين . قفزت على الجذع
المنحني ، ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . ولحق بي جماعة من الصبية . وما
كدنا نلعب قليلاً حتى رأينا المعلم يدق جرسه مرة أخرى . وعدنا إلى «الصف» .
كنا على الأقل خمسين ولداً ، من أعمار شتى . كنت أرى معظمهم كبيراً بالنسبة
إلي : في العاشرة ، والثانية عشرة ، وربما كان بعضهم في الرابعة عشرة . وأنا في
الخامسة ، حافي القدمين. وأكثرنا حفاة ، غير أن بعض الأولاد الكبار يلبسون
أحذية ضخمة ، خلفها الجيش العثماني لآبائهم .
قبل الظهر خرجنا إلى البيت»
، في ساعة الغداء . رحت ركضاً إلى بيتنا ،
ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت .
فقالت : «لماذا جئت قبل الوقت؟»
.
ولكنها ساعة الظهر»
.
لا يا حبيبي . لم يصل الظل إلى هذا الحجر بعد . »
وأشارت إلى حجر
ناتئ في الجدار. أتعتقد أنني لا أعرف متى تكون ساعة الظهر؟»
.



  • لا أدري . أخرجنا المعلم ، وقال ارجعوا في الساعة الواحدة .»
    فصاحت جدتي : «مريم! حضري الغداء . ابنك جاء!»
    كانت لي علاقة خاصة بجدتي ، من وراء ظهر»
    أمي . فهي تعلم أن أمي
    «عصبية»
    ، وإذا فعلت أنا شيئاً لا ترضى عنه أمي وعرفت به ، «أطعمتني قتلة»
    .
    فكانت جدتي تتستر علي .
    ، .
    اقتربت منها - وكان فستانها طويلاً يكاد يبلغ الأرض . تلمسته ، فقالت :
    «ها؟ عندك شيء تقوله؟ فعلت شيئاً غير لائق؟»
    فقلت وأنا أنظر في عينيها العسليتين : ستي ، أريد أن أشتري دفتراً وقلماً» .

  • «دفتراً وقلماً! ليش؟»
    . «لكي أكتب» .



«قل ذلك لأمك . أطلب ما تريد من أمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في
المساء»
.
عندما دخلت البيت ، كانت أمي تتأمل في الطنجرة» ، وتخلط ما فيها .
وقالت : «أهلاً بابن المدارس»
قلت : يمه ، المعلم يقول أن علي أن أخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة» .



  • صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟»


  • «الدفتر والقلم بنصف قرش . هكذا يقول الأولاد .

  • وأنا من أين لي نصف قرش؟ يلا أقعد وكل ، وبلا دفتر وبلا قلم . نصف
    قرش ، قال وقبل أن تأكل ، خذ شوية حشيش للخروفين»
    .
    أخرجت شيئاً من الحشيش الذي كنا نجمعه في كيس كبير في طلعاتنا الى
    الحقول ، لكي لا نضطر إلى أخذ الخروفين للرعي كل يوم . وأخذته للخروفين
    الأبيضين ، المربوطين في «الخشية»
    ، كانا كلاهما متمرغين في تراب الأرضية
    يجتران . وحالما رأياني ، نهضا ، ووضعت لهما الحشيش ، وأقبلا عليه بنهم ، وأنا
    أربت على ظهر هذا وظهر ذاك .
    صبت أمي الطعام في قصعة كبيرة على الأرض وجلسنا حولها . وقالت أمي :
    «هه ! الآن دق الظهر!»
    إذ راحت قباب الأديرة المنبثة في البلدة تقرع أجراسها
    لتعلن انتصاف النهار ، وأصوات الأجراس تتمازج عبر الفضاء ، وهاجة فرحة .
    بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، ولعبنا ، إلى أن دق المعلم جرسه . ودخلنا
    الصف . ولم يكتب أحد شيئاً هذه المرة . كتب المعلم حروفاً على اللوح ، وطلب
    من جماعة منا أن نكررها وراءه :
    «ألف!»
    فنصيح:
    «ألف!» - «باء!»

  • «باء!»

  • «تاء!»
    «تاء!»
    «ألف باء!»
    «ألف باء!»
    عندما خرجنا عصراً . جعلنا أنا واثنان من رفاقي نردد ونرنم : «ألف با بوباية ،
    نص رغيف وكوساية .... ومررنا بدكان حنا الطبش ، وواجهته مليئة بالدفاتر
    والأقلام والمحايات . دخلت وسألت البائع : «عمي ، بدي قلم ودفتر» .

  • معك تعريفة؟»

  • «لا»
    .
    روح وأحضر نصف قرش . وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر
    وعدت إلى البيت ، ووجدت جدتي في الحاكورة تلم الغسيل . ونظرت إليها
    راجياً ، ففهمتني في الحال . ودون أن تقول كلمة واحدة ، وضعت يدها في عبها ،
    ووأخرجت منديلاً معقوداً . وحلّت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع
    نقدية ، التقطت منها نصف قرش مدوّراً مثقوباً ، وقالت : «خذ . ولا تخبر أمك .
    يلا من قدامي ، عنفص!»
    وركضت معنفصاً إلى دكان الطبش ، وناولت صاحبه قطعة النقد العزيزة ،
    وناولني دفتراً وقلماً . فطلبت إليه أن يبري لي القلم ، ففعل . وقال : «إذا لم تكن
    لديك براية ، مش ضروري . إبر القلم بالشفرة .
    وطرت بما اشتريت عودة إلى البيت . لم تكن أمي في البيت ، وجدتي كالعادة
    مشغولة بشؤون العائلة . كان قرب باب بيتنا مصطبة حجرية طويلة ، تمددت فوقها
    على بطني ، وفتحت الدفتر عند أول صفحة . وأمسكت بالقلم المبري لأكتب .
    بللت طرفه الحاد على رأس لساني . ولكن ماذا أكتب؟ جعلت أستذكر الحروف
    التي كتبها المعلم على اللوح في الصباح ، وبعد الظهر . كانت الألف سهلة . وضع
    شكلها ، كما يقول المعلم ، كالعصا ، والباء؟ عصا نائمة ، معقوفة من الطرفين ،
    وكتبت اااا ، ثم ب ب ب ، وامتلأ السطر . وبدأت سطراً آخر . وآخــر .
    ولكنني وجدت أن أسطري ، غصباً عني ، تميل انحداراً ، مهما حاولت . غيّرت
    الدفتر أمامي ، وكتبت - والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار ...
    وامتلأت الصفحة أسطراً مائلة ، ثم ملأت صفحة أخرى ، فأخرى ، وفجأة «القرم»
    القلم . فتوقفت .
    ذلك المساء ، كان دفتري «فرجة» العائلة . أبي قال «عفارم!» يوسف قال :
    «أسطرك نازلة من الجبل ، لتشرب الماء ؟ أمي قالت : أكتب كتابة مضبوطة ، ودر
    بالك على الدفتر . ولا تضيّع القلم : أتسمع؟» وجدتي غمزتني جانبياً ،
    معي .
    في صباح اليوم التالي أخذت «عدتي معي إلى المدرسة ، وقلت للمعلم :
    جلبت معي الدفتر والقلم فقال : : طيب ، اقعد مكانك واكتب .
    برى المعلم لي القلم ، واستعرت ممحاة ، وكتبت ، ولكن الأولاد الذين بقربي
    كانوا لا يكتبون ، لأن ليست معهم دفاتر ، ويضحكون ، ويتململون ، وأرجلهم
    الحافية في عبث متواصل ، هذا يدفع ذاك بقدمه تحت «البنك»
    ، وذاك يركل
    قدمي ، ويروح قلمي شاحطاً على الصفحة المفتوحة بين يدي .
    عند الغداء سألتني أمي : هل رأى المعلم دفترك؟»
    قلت : «نعم . وجعلني أكتب»
    .
    .
    قالت : «الحمد لله»
    .
    ولما حاولت أن أريها ما الذي كتبت ، قال : هل أعرف أنا القراءة حتى أقرأ
    دفترك؟»
    بعد الظهر ، لم نكتب شيئاً . كان المعلم نعساناً . قعد إلى المنضدة ، وأقام ولداً
    كبيراً وقال له : «إلياس ، أنت العريف اليوم . كل من يتكلم ، أو يضحك ، أو
    يتنفس ، اكتب لي اسمه على اللوح ... أنتم أولاد الصف الأول والثاني ، افتحوا
    كتب القراءة ، الصفحة خمسة ، واقرأوا . بس بلا حس؟ وأنتم الجالسين في الخلف ، اجعلوا سواعدكم على البنك ، هكذا ، وأنزلوا رؤوسكم وأسندوها عليها ،
    وناموا . وبلاش حركة! فاهمين!»
    وفي الحال أغمض عينيه ، وسقط رأسه على صدره ، وراح في نومة هنيئة .
    دفنا وجوهنا بين سواعدنا ، كما أوصانا المعلم ، ولكن من منا نحن العفاريت
    يستطيع النوم؟ قضينا ساعة ورؤوسنا على البنك ، في الثرثرة والضحك . عندما
    رفعنا رؤوسنا كان الياس قد كتب ثلاثة أو أربعة أسماء على اللوح . وجعل
    «علامة ضرب»
    إزاء أحدها . وانطلقت فجأة شخرة عاتية من المعلم ، رفع رأسه
    على أثرها مباشرة ، وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . وببطء ، أدار رأسه
    نحو اللوح ، فرأى الأسماء ، فنادى أولها : «جريس ! شرف!»
    وخرج جريس من بين رفاقه ، وسار خائفاً نحو المعلم : «والله يا معلمي ما
    حکیت . ولا ضحكت .
    قال المعلم ، وقد تناول مسطرته الطويلة : «افتح يدك!»

  • «والله معلمي ....»
    «افتح يدك ، بلا حكي!»



وفتح الولد يده ، وضربه المعلم بالمسطرة على كف يده ضربة واحدة .
وهكذا فعل بصاحب الاسم الثاني . أما صاحب الاسم المؤشر بعلامة ضرب ،
فأذاقه ضربتين اثنتين ، ثم دق الجرس ، وأخرجنا .
كان اسم رفيقي على البنك «عبده»
. وقد لازمني في العودة ، وأقنعني
بالذهاب الى دارهم ، وهو يقول : أتعرف كيف تصنع «طقاعة؟ دفترك هذا فيه
١٦ ورقة . كل ورقتين تجعل منهما طقاعة» .
كانت أمه منشغلة عنا بالخياطة عندما جلسنا في ركن من غرفة بيتهم ، على
الأرض . أخذ عبده الدفتر من يدي ، ولكنني استرجعته ، رافضاً أول الأمر .
طقاعة واحدة ، وبس! قال . فرضيت . وناولته الدفتر . فتحه واقتلع الورقتين
اللتين في الوسط ، وطواهما بشكل خاص ، وأنا أراقبه ، ثم طوى زاوية من الطوية ،
وأدخلها بين طرفيها ، وبعد ذلك جعلها تحت إبطه ، فضغط عليها بذراعه ، ثم سحبها بسرعة ، ونفضها بقوة ، فأطلقت صوتاً انفجارياً بديعاً . أعاد الطي ، وأعاد
العملية ، و «طقع» مرة أخرى . شيء رائع!
قال : «أأعمل لك واحدة؟»
قلت : «أنا أعملها» .
واقتلعت ورقتين من وسط الدفتر ، وعملت طقاعة ، وطرقعت! ثم عملنا طقاعة
أخرى ، فأخرى - إلى أن أتينا على الدفتر . وأم عبده ترقبنا بنصف عين ، وتقول
بين حين وآخر : «بلا دوشة يا جماعة!»
وخرجنا إلى الشارع ، ونحن نطرقع ، وجيوبنا ملأى بعتاد من الطقاعات .
ووجدنا أصدقاء ، وزعناها عليهم . ورحنا جميعاً نطرقع ... إلى أن غابت
الشمس ، وتمزقت الطقاعات كلها .
وأسرعت إلى البيت . وقالت جدتي : «أين الدفتر؟»
قلت : «أخذه المعلم»
.
وقالت أمي : «أين الدفتر؟»
قلت : «أخذه المعلم»
.



  • «لماذا؟ ليتفرج عليه؟»

  • ليحفظه في الجرار عنده . لكي لا يضيع»
    .
    وعندما عاد أبي من العمل ، سألني : «أين الدفتر؟»
    قلت : «عند المعلم»
    وسألني أخي يوسف على العشاء السؤال نفسه ، وأجبته بالجواب نفسه .
    ونمت تلك الليلة وأنا أفكر في الطقاعات ، وأسف أنني لم أترك على الأقل
    واحدة منها أطرقع بها في المدرسة . ولكنني شعرت أيضاً بشيء من الخوف ، من
    أين لي أن أشتري دفتراً آخر؟ .
    في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة ، ولم يكن لدي إلا القلم ، وجعلت أنقش
    به على البنك . وكلما انقرم بريتـه بمساعدة أحد الأولاد ، حتى كاد نصفه
    يتلاشى . وفي البيت أمطرتُ من جديد بالسؤال إياه : «أين الدفـتـر؟» وأجبت : «عند
    المعلم»
    .
    في صباح اليوم الثالث ، عندما دق الجرس ، جرّني عبده من ذراعي . فقلت :
    «شو هالمدرسة؟ جرس ، دائماً جرس؟»
    قال : «بلا مدرسة يا شيخ! أتجيء معي؟»
    قلت : «يلا!»
    وخرجنا من باب الملعب راكضين، في اتجاه ساحة المهد . كانت السيارات
    تقف فيها ، وينطلق منها رجال ونساء طوال ، شقر ، كبار السن ، يحملون آلات
    التصوير ، ويكلموننا بلغة لا نفهمها ، فيومئون إلينا لكي نقف أمامهم ، وباب
    كنيسة المهد خلفنا ، ويصوروننا .
    «دق الظهر فجأة فرحت راكضاً إلى البيت . ورحبت جدتي بابن المدارس
    وقالت : «طبخت لك اليوم أحسن عدس . أحضر بصلة ، واكسرها ، ورشها
    بالملح .
    والبصل يشهي لشوربة العدس ، والعدس يشهي للمزيد من البصل ، وأكلت
    حتى اتخمت ، واستلقيت على ظهري فنفرت بي أمي : «قم! قم إلى مدرستك!
    أم أنك نسيت ؟ وقل للمعلم أن يعيد إليك دفترك!
    وقالت جدتي : «مهلك على الصبي . خليه يستريح قليلاً»
    فقالت أمي : «والله أفسدته!»
    وخرجت – إلى بيت عبده .
    وبقينا أنا وعبده لعدة أيام ننزل إلى الوادي ، أو نتسكع في ساحة المهد ، وفي
    أوقات انصراف أولاد المدارس نعود إلى البيت ، لكي نوهم أهلنا أننا ما زلنا نواظب
    على الدوام في المدرسة .
    ولكن ما كادت تمر أربعة أيام أو خمسة ، حتى جوبهت في الظهيرة بأمي ،
    واقفة ببوابة الحاكورة ، وهي تنتظرني . وما كدت أدفع البوابة ، حتى أمسكت أذني
    وجرتها بقوة عاتية ، وصاحت : «أين الدفتر؟» ، ، قلت لك ، عند المعلم!» لايمه ،
    «عند المعلم ، يا كذاب؟»
    ولطمتني على خدي : التقيت بأم عبده هذا الصباح ، وحكت لي كل شيء»
    ولطمتني على خدي الآخر . ملات شارع راس افطيس بالطقاعات ، يا كذاب ،
    يا حرامي وتضحك علينا أيضاً! والله لن ترى المدرسة بعينك مرة أخرى!»
    ورغم حماية جدتي ، «أكلت» قتلة من النوع الفاخر ، وكل الذي استطاعت
    جدتي أن تفعله هو أن تدس في يدي ، وأنا أبكي في الحاكورة ، قطعة خبز وزرّ
    بندورة ، ودفعتني إلى الهرب . وخرجت ، وجلست على الدرج النازل إلى
    الطريق ، وأكلت غدائي البائس وأثر الملح في عيني يؤذيني ، وقرص أمي ما زال
    يخز في خدي وفخذي .
    وقرر أبي ذلك المساء أن يرسلني إلى مدرسة السريان الكاثوليك التي يعرف
    معلمها - فهو جارنا . وسيعلم منه إن كنت أداوم على الحضور ، وأتعلم الألف
    باء ، كالأوادم . . كانت دارنا تتألف من غرفة صغيرة مبنية من الحجر الخشن ، تتصل بها
    حاكورة فيها شجرتا رمان وشجرة لوز أو شجرتان ، وتينة كبيرة ، وعلى مقربة منها
    «الخشية»
    المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، تتوسطه
    خرزة البئر ، ويتصل بحاكورة أخرى محاطة بأشجار الرمان . وبين مأوانا والخشية ،
    التي هي مأوى الخراف والدجاج ، ممشى يفصل أيضاً بين الحاكورتين ، ويمتد من
    بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وتمتد فوق جزء من
    الممشى فروع دالية عتيقة .
    وكانت غرفتنا وخشيتنا كلتاهما مسقوفتين بالأحطاب ، وجذوع الأشجار
    وأغصانها ، من الداخل ، ظاهرة التفاصيل في السقف المنخفض ، وهي تتداخل
    تداخلاً كثيفاً ، إذ تمتد من حائط إلى حائط ، وقد لُبّدت بالطين والتراب . وكان
    من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، ولا سيما قبل مقدم الشتاء ،
    دك السطح بالدرداس .. ولم يكن هذا بالطبع ليمنع الدلف أو الخرير عندما تسقط
    الأمطار ، ولكنه يقلله ويحصره على الأغلب في الزوايا . وكثيراً ما كنت أستلقي
    على ظهري ، على أرض الغرفة الترابي ، أو على الحصيرة ، وأرقب مصارعة
    الجرذان المعشعشة بين أحطاب السقف . وأكثر من مرة ، صرع جرذ جرداً آخر
    وأوقعه إلى الأرض ، فالتقطته قطتنا «فلة» ببراعة ، وحملته بين شدقيها إلى
    الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . كانت «فلة» على رقتها الظاهرة ، ورقة
    اسمها ، تتكشف عن شراسة النمرة حين تجابه بالفريسة . وكثيراً ما رأيتها تجابه
    الفئران ، وتجمدها رعباً ، ثم تقضي عليها . ولكنها ذات يوم ، حين أقعت بوجه
    جرذ كبير بحجمها تقريباً ، كادت تنهزم في المعركة ، إذ راح يرفع قدمه الأمامية
    كالمخلب ليطعن بوزها ، غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء
    عن العين - عن عينها على الأقل .
    كانت دارنا هذه تعلوها من الخلف جدران ودور أخرى تتصاعد طبقات إلى
    أعلى الجبل الذي بنيت البلدة على سفحه منذ القدم . أما من ناحية بوابة
    المدخل ، فكان هناك الزقاق الذي يتفرّع عن مدرّج شديد الانحدار ينزل إلى
    الطريق العام المعروف برأس أفطيس ، أو شارع النجمة كما سمي فيما بعد . من
    الشارع كنا نصعد الدرجات الحجرية اللامنتظمة، التي صقلتها الأقدام مع مرور
    الزمن ، لكي نبلغ زقاق دارنا . ولكن المدرّج - ولم يكن عريضاً جداً - كان يبدأ
    بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد
    صبغت ذات يوم غابر بطلاء أبيض . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف
    يربط عنده حمار أبيض ، كلما وقف عبر المدرج ورأسه في المعلف ومؤخرته متجهة
    نحو الدار الضخمة ، احتل أكثر من نصف المعبر . كان هذا حمار الحكيم
    الرومي»
    ، المقيم في تلك الدار . والحكيم الرومي هذا ، لا أظن أن أحداً كان يدعوه
    باسمه ، أو حتى يعرف اسمه . إنه أشهر طبيب في البلدة .
    والكل يطلقون عليه التسمية الوحيدة التي يحترمونها : «الحكيم الرومي»
    .
    فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميّز طبقياً عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه
    الأرستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين
    في لونها - وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، وهو ينهره بشموخ وأنفه بخيزرانة قصيرة ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك . كان «الحكيم» رجلاً قصيراً ،
    بديناً ، حليق الشارب ، خالط الشيب سواد فوديه ، ويلبس «البرنيطة» ، ولا يبتسم
    لأحد ، أو لشيء .
    لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . فمن أوائل تجاربي في
    هذا الحي ، تجربة سجلها لي حماره المحترم وأنا في الخامسة من عمري . أردت
    صعود الدرج إلى البيت ، والحمار واقف على قوائمه يكاد يسـد عـرض المعـبـر
    بجثته ، وقد فرغ من علفه فيما يبدو ، وروثه وتبنه يملآن الدرجتين أو الثلاث التي
    في المستهل . تجنبت الروث ما استطعت ، وقصدت الفسحة الضيقة التي تركتها
    عـجـيـزته للعابرين ، وهو يكش بذيله عنها الذباب والقراد . ولا أظنني ، حين
    عبرت ، تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، ولكنني ربما مددت يدي الى
    الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . غير أنه بادرني بقائمتيه الخلفيتين ، وضربني
    «زوجاً»
    بتسديد هائل ، أصابني في كتفي وصدري إصابة جعلتني أصرخ عالياً ،
    ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي .
    وكان ذلك درساً أليماً ، ومبكراً في حياتي ، علمني ألا أقترب من الحمير ، أو
    أن أعمل الحذر الشديد إذا اضطررت إلى الاقتراب منها ومن أضرابها .
    وذات مرة أصيبت أمي بوعكة شديدة دامت يومين أو ثلاثة أقعدتها عن
    الحركة ، ولم أفهم بالضبط ما الذي جرى لها عندما وجدتها لا تغادر فرشتها
    الملقاة على الأرض ، وهي تتلوى وتئن ، وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار
    الحكيم الرومي قبل أن يخرج في دورته التطبيبية في طرقات البلدة ، وأطلب إليه
    الحضور إلى دارنا لمعالجة أمي . ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، لما جازفت
    بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، وحماره مربوط بالمعلف على بعد خطوة أو
    خطوتين من الباب . تشجعت ، واقتحمت طريقي إلى الداخل . وإذا هو في الرواق
    يتهيأ للخروج . وقبل أن أقول له - كما علمتني جدتي – «صباح الخير ،»
    سألني
    عابساً : «وين ، وين ، يا ولد؟»
    قلت متلعثماً : «أمي مريضة يا حكيم»

  • «ومن هي أمك؟»

  • أمي؟ أمي ، أ ، أ ، أم يوسف ، أمرأة الحاج إبراهيم» .

  • أتريدني أن أزورها؟ أين تسكنون؟»
    لا أذكر كلماته بالضبط ، التي لم أفهم منها الكثير أصلاً ، بسبب لهجته
    الرومية ، ولكن لا بد أنني أفهمته ما أريده ، لأنه رافقني إلى أعلى المدرج ، ثم إلى
    الدار . ودخل دارنا حيث استقبلته جدتي ، بأن أنزلت مخدة من المعزل ،
    ووضعتها على الحصيرة ، لكي يجلس عليها . ولم تطل الزيارة . فقد فحص أمي
    بشكل ما ، وطمأنها ، ثم كتب «الروشتة» وأعطاها جدتي ، ونهض ، وطلب
    خمسة قروش أجراً لعيادته . فقالت أمي ، وهي في ألمها مندهشة : «خمسة
    قروش! وماذا فعلت يا حكيم لتطلب خمسة قروش؟ زوجي يعمل من شق الفجر
    حتى غروب الشمس مقابل خمسة قروش .
    وأحسست أنا أنه يطالبنا بالمستحيل .
    تأفف الطبيب ، ثم قال : طيب هاتي قرشين ، أو ثلاثة» .
    غير أن أمي دست يدها تحت وسادته ، وأخرجت «شلنا»
    ناولته إياه ، وهي
    تقول بكبرياء : «لا ، لا ، تفضل . شكراً»
    أخذ الحكيم الشلن وألقمه الجيب الصغير في الصدرية التي يرتديها تحت
    سترته ، ولحظت السلسلة الدقيقة التي تمتد من أحد الأزرار إلى الجيب المقابل :
    سحبها بعناية ، وأخرج ساعة صفراء فتحها ليعرف الوقت ، ثم أطبق غطاءها
    البراق بنقرة حلوة ، وأعادها إلى جيبه . والتقط حقيبته ، وخرج .
    قالت أمي : «إلى مدرستك ، يلا يا حبيبي ، ورح ركضاً!»
    كنت قد التحقت بمدرستي الجديدة ، وقد خاطت لي أمي كيساً أحمله حول
    عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، وأضفت إلى دفتري الجديد كتاب قراءة ، ودفتر
    «خط»
    . أخذت الكيس ، وانطلقت نزلاً في اتجاه الطريق الجديدة»
    ، حيث كانت
    المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ،
    ملأى بالمقاعد الطويلة . دخلت المدرسة ، فأوقفني المعلم صموئيل ، وقال بالفصحى : «لماذا تأخرت يا
    فتی؟» .
    قلت : أخذت الحكيم الرومي لأمي .
    فقال : «ولماذا؟ أهي عليلة؟»
    قلت : «بطنها توجعها ، معلمي» .
    ضحك الأولاد ، كأنني رويت لهم نكتة ، وقال المعلم ، متمتعاً بألفاظه : «قل
    إنها مريضة . حسناً ، شفاها الله . اجلس مكانك» .
    كنا أنا ورفقتي ، كلما تكلم المعلم صموئيل ، ندهش للكلمات الغريبة التي
    تتساقط من شفتيه ، ولا نفهم الكثير منها ، ولو أننا قد نحزر معناها – أحياناً .
    علمنا الألف باء في أسبوع أو اثنين ، ثم أعطانا كتاباً للقراءة ، وجعل يسرع بنا عبر
    صفحاته ، باعتبارها مما لا يستحق التريث عنده طويلاً . راس روس ، دار دور ،
    نقرأها ، ونكتبها بنسخها عن الكتاب. ويأخذ دفاترنا ويصححها بحبر أحمر
    جميل ، ويعيدها إلينا ، وهو يقول : «خرابيش الدجاج - هذا خطكم!»
    وبين دروس القراءة والخط كان يروي لنا قصصاً من قبيل التربية الدينية .
    فقص علينا كيف جبل الله طيناً وخلق منه بشراً سماه آدم . وفيما كان آدم نائماً
    تحت شجرة من أشجار الجنة ، أخذ الله ضلعاً من صدره وخلق منه امرأة سماها
    حواء . وقص علينا قصة محزنة : كيف أن قايين المجرم قتل أخاه الطيب هابيل .
    ولما كنت أتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء الذين أراهم في
    أماكن كثيرة من بيت لحم ، تصورت وجه قايين الرهيب ، وعلى جبينه وصمة
    اللعنة التي وصمه الله بها ، وقد هام على وجهه في البراري والمدن ، فأنظر في
    .


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

أن تكون ناجحًا ...

أن تكون ناجحًا وتحقق أحلامك، يعني أن تستخدم إمكاناتك ومهاراتك ونقاط قوتك بالإضافة إلى طموحك وقدرتك ع...

جغرافيتها تطورت...

جغرافيتها تطورت الحضارة العربية الإسلامية خلال العصور التي درج المؤرخين الأوروبيين على تسميتها بالعص...

في تشرين الثاني...

في تشرين الثاني / نوفمبر 1968 بعث القنصل العام الأمريكي في الظهران بالمملكة العربية السعودية لي دينز...

المصادر البشرية...

المصادر البشرية تُعدّ أكبر مساهمة في تلوث الهواء في وقتنا الحاضر هي التي تأتي عن طريق تأثير الإنسان،...

يضم الكتاب السا...

يضم الكتاب السادس (4) في سلسة الشهادات التاريخية عينة جديدة من المناضلين والثوار أكثر عناصرها من رجا...

It means the di...

It means the distribution of the population in a specific geographical area, according to the differ...

وبعد ثماني سنوا...

وبعد ثماني سنوات عينه يوزف الثاني مؤلفاً موسيقياً للبلاط، وفي 1788 رئيساً لفرقة المنشدين. في هذه الو...

ذات فائدة كبيرة...

ذات فائدة كبيرة في تنظيم حركات الصم وضعاف السمع، وفي تحقيق المزيد من السيطرة على أعضاء جسمهم والتحكم...

وبالرغم من غيوم...

وبالرغم من غيوم السماء كان منظرا جميلا من اسراب البط البري الذي يحلق على صفحة السماء وتقلبات الطقس م...

*طرق الحد من تل...

*طرق الحد من تلوث المحيطات بالبلاستيك:* ١- نقلل من استخدام البلاستيك الذي يستخدم مرة واحدة. ٢- نعيد ...

خصائص مرض التوح...

خصائص مرض التوحد لذلك فإن الخصائص الأكثر شيوعا والتي ترتبط في الأفراد ذوي إطرابات طيف التوحد يمكن إد...

Context and cul...

Context and culture For its users, instances of language are never abstracted, they always happen i...