لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (35%)

على سطح الباخرة الكبيرة التي كانت تتهيأ لمغادرة نيويورك في منتصف الليل باتجاه بيونس أيرس. فيما كانت الجوقة الموسيقية تعزف الديك شو (1) غير مبالية بأي شيء. لذت بممشى الباخرة العلوي للنجاة بنفسي من كل هذه الضوضاء. أضاف على سبيل الشرح: ميركو كزنتوفيك، عائد أساسا إلى القدرات الذهنية لهذا البطل، إذ لم تكن تنبئ على الإطلاق بأي مسيرة باهرة. لقد كان عاجزا إلى درجة جعلت أحد منافسيه المغتاظين يقول عنه بسخرية خانقة: «إن جهله عليم بكل شيء». كان ابنا لبحار يوغسلافي من حوض الدانوب، غرق بعد أن اصطدم قاربه الصغير في إحدى الليالي بسفينة محملة بالقمح. ما لم يكن يقدر على تعلمه في مدرسة القرية. ويظل يحملق فيها بنظراته الذاهلة وكأنه يحملق في الفراغ. ولم تكن لذهنه الخامل القدرة على حفظ أكثر الدروس بداهة. حتى أنه أتم الرابعة عشرة وهو ما يزال يستنجد بأصابعه كلما واجهته عملية حسابية. فهو ينفذ الأوامر بإخلاص. ولكن أكثر ما كان يزعج القس الطيب في هذا الطفل المحير هو لامبالاته التامة. ولا يندفع نحو أي عمل من تلقاء نفسه إلا إذا تلقى أمرا بذلك. دون أن يبدي أي اهتمام بكل ما يجري حوله. حين كان القس يجلس مع صديقه ضابط الشرطة إلى رقعة الشطرنج ليتباريا كعادتهما كل يوم
والضابط ينفث دخان غليونه الطويل والقبيح الشكل، كان هذا الصبي ذو الشعر الأشقر يظل جالسا بالقرب منهما دون أن ينطق بكلمة واحدة وعيناه المثقلتان بالنعاس تحدّقان في مربعات رقعة الشطرنج. أما الضابط، حسنا، رفع الصبي عينيه في خجل ثم أشار إليه موافقا وجلس مكان القس. ولم تمض أربع عشرة جولة إلا وكان الضابط مهزوما ، يا لها من معجزة، لقد نطق حمار النبي بلعام (1) صاح القس متفاجئا وشرح للضابط الذي كان أقل دراية منه بالتوراة أن معجزة كهذه قد حدثت قبل ما يزيد عن ألفي سنة في ما مضى حين نطقت فجأة إحدى الدواب كما ينطق الحكماء تماما. لكنه كان يلعب بثقة تامة. وأصبح لدى القس الذي كان يدرك أفضل من أي شخص آخر مدى غباء تلميذه، فضول كبير المعرفة إلى أي حد ستظل هذه الموهبة الفذة والمنحصرة في مجال واحد صامدة بشكل حقيقي. حيث يوجد لاعبون مهووسون بالشطرنج كانوا يتجمعون في ركن من مقهى الساحة الكبرى، بقي الصبي مزروعا في أحد الأركان، وعيناه مسترتان في الأرض إلى أن دعاه أحدهم إلى إحدى طاولات اللعب. القس. وانتهت الجولة الثانية بالتعادل في مواجهة أمهر اللاعبين ومنذ بداية الجولتين الثالثة والرابعة هزمهم جميعا واحدا تلو الآخر. وأججت بدايات هذا البطل القروي على الفور عاطفة قوية في نفوس الوجهاء المجتمعين فقرروا بالإجماع أن يستبقوا هذا الفتى المعجزة في المدينة حتى صباح الغد ليتمكنوا من جمع أعضاء النادي الآخرين وخاصة الكونت سيميكزيك العجوز المولع بالشطرنج والقابع في قصره. أما القس الذي بدأ ينظر إلى قرة عينه بكل فخر، وأعلن أنه لا يمانع بقاء ميركو وحده لينازل بقية اللاعبين. وفي تلك الليلة اكتشف حماما حقيقيا لأول مرة في حياته. في ظهيرة يوم الأحد كانت القاعة مكتظة باللاعبين. وقد ظل ميركو جالسا أمام رقعة الشطرنج بلا حراك وهزم كل منافسيه واحدا بعد آخر دون أن ينبس بكلمة واحدة أو أن يرفع عينيه. وقد تطلب الأمر وقتا طويلا حتى يدرك هذا القروي الأبله معنى ذلك. وما إن فهم ميركو أنهم يريدونه أن يلاعب وحده وفي الوقت ذاته عددا متفرّقا من اللاعبين حتى قبل على الفور وأخذ ينتقل من طاولة إلى أخرى وحذاؤه الثقيل لا ينقطع عن إحداث الصرير. آنذاك، تطوع متعهد حفلات اسمه كولر كان معروفا بوكالة المغنيات والنجمات في حانة الغرنيزون، ووافق على أن يعهد بالصبي إلى أستاذ مرموق كان يعرفه في فيينا، وهو خبير في فن الشطرنج، وبما أن الكونت سيميزيك لم يلتق طوال ستين سنة من الممارسة اليومية لفن الشطرنج بمنافس مثله، فقد تقدم ودفع المبلغ المطلوب فورا. ومنذ تلك اللحظة بدأت بالفعل المسيرة المدهشة لابن البحار في الطريق إلى قمة المجد. إلا وكان ميركو ملما بكل أسرار لعبة الشطرنج، ولو أن إتقانه لها ظل بصفة محدودة جعلت مجموعة من العارفين في هذا المجال يتخذونه موضع سخرية في مجالسهم بعد ذلك. لقد كان عاجزا
وكان يجب أن يشاهد بعينيه وبشكل دائم الرقعة الخشبية البيضاء والسوداء بمربعاتها الأربعة والستين وأحجارها الاثنين والثلاثين، ولكن هذا القصور لم يعق ميركو عن تسلق سلم الشهرة بشكل
انتزع ما يقارب عن اثنتي عشرة جائزة وعندما أدرك الثامنة عشر كان بطل النمسا. ولم يبلغ العشرين إلا وهو بطل العالم. وهكذا اقتحم المجلس المجيد لأساتذة الشطرنج، المجلس الذي يجمع كل المثقفين على اختلاف توجهاتهم من فلاسفة وعلماء رياضيات. حتى
إذ حالما ينهض من أمام رقعة الشطرنج في الجولة الثانية، لقد كان أخرق وعنيفا بكل وقاحة لا يطفح في الغالب بغير الجشع والدناءة والقبح، ومثل كل المتصلبين العنيدين لم يكن ينتابه أي إحساس إزاء سخرية الآخرين، ذلك أن شعوره بالانتصار على كل هؤلاء الخطباء والكتاب الأذكياء الباهرين ودحرهم على أرضهم، حوّل خجله الفطري إلى كبرياء فاتر لطالما كان يظهر بطريقة فظة.


النص الأصلي

على سطح الباخرة الكبيرة التي كانت تتهيأ لمغادرة نيويورك في منتصف الليل باتجاه بيونس أيرس. عمت الحركة والضجة مثلما يحدث دائما في اللحظات الأخيرة قبل السفر، وتوالت وفود الركاب وهم يصعدون على متنها محاطين بحشد من الأصدقاء كانوا يتدافعون لتوديعهم. وكان موظفو البريد الشبان يجوبون القاعات وقبعاتهم مائلة على آذانهم مطلقين العنان لأصواتهم وهم ينادون ببعض الأسماء اختلط حمالو الحقائب بحملة الزهور وشرع بعض الأطفال الفضوليين يصعدون الدرج وينزلون، فيما كانت الجوقة الموسيقية تعزف الديك شو (1) غير مبالية بأي شيء.


لذت بممشى الباخرة العلوي للنجاة بنفسي من كل هذه الضوضاء.


وبينما كنت منشغلا بالحديث مع صديق لي، برق فجأة على مقربة منا وميض مرتين أو ثلاثا : يبدو أن أحد المشاهير قد انتهى للتو من إجراء لقاء صحفي خاطف والتقاط بعض الصور. فألقى صديقي نظرة على المشهد وابتسم قائلا: سيرافقكم في هذه الرحلة كزنتوفيك إنه شخص خارق .. ولما رمقته بشيء من الذهول وأنا أسمع هذه الكلمات، أضاف على سبيل الشرح: ميركو كزنتوفيك، بطل العالم في الشطرنج. لقد جاب للتو أمريكا من شرقها إلى غربها، وانتصر في كل المباريات، وهو ذاهب الآن لإحراز انتصارات جديدة في الأرجنتين».


حينها، تذكرت هذا البطل الشاب بل وبعض تفاصيل مسيرته اللامعة. واستطاع صديقي الذي كان مولعا بقراءة الصحف أكثر مني، أن يكمل حديثه بسلسلة كاملة من النوادر حول هذا البطل. لقد ارتقى كزنتوفيك خلال سنة واحدة فقط، إلى مصاف كبار أساتذة الشطرنج المشهورين حتى اليوم، مثل أليخين، وكا بابلانكا ، وتراكوفرر ولاسكار، وبوغولجيبوف (1).


فمنذ ظهور رزورسكي الطفل المعجزة البالغ من العمر سبع سنوات، في مباراة للشطرنج في نيويورك سنة 1922، لم يحدث أي ظهور مفاجئ لأي غريب خارق ضجة كتلك التي أحدثها كزنتوفيك.


ولعل مكمن الغرابة في ذلك، عائد أساسا إلى القدرات الذهنية لهذا البطل، إذ لم تكن تنبئ على الإطلاق بأي مسيرة باهرة. ومهما ظلت المعلومة طي الكتمان فإن مصيرها أن تكشف وبالعودة إلى حياته الخاصة، كان بطل الشطرنج هذا، عاجزا عن كتابة جملة واحدة مهما كانت سهلة ومهما كانت اللغة التي يكتب بها. دون أن يرتكب أخطاء شنيعة في أبسط قواعد الإملاء. لقد كان عاجزا إلى درجة جعلت أحد منافسيه المغتاظين يقول عنه بسخرية خانقة: «إن جهله عليم بكل شيء».


كان ابنا لبحار يوغسلافي من حوض الدانوب، غرق بعد أن اصطدم قاربه الصغير في إحدى الليالي بسفينة محملة بالقمح. فاحتضن قس القرية الطفل ولم يتجاوز الثانية عشرة بعد.


بذل الراهب الطيب مجهودا كبيرا في تعليم هذا الطفل الصموت الحامل، ما لم يكن يقدر على تعلمه في مدرسة القرية. ولكن كل جهوده باءت بالفشل. كان ميركو يحني جبهته العريضة على بضعة أحرف سبق وأن شرحت له ألف مرة من قبل. ويظل يحملق فيها بنظراته الذاهلة وكأنه يحملق في الفراغ. ولم تكن لذهنه الخامل القدرة على حفظ أكثر الدروس بداهة. حتى أنه أتم الرابعة عشرة وهو ما يزال يستنجد بأصابعه كلما واجهته عملية حسابية. وكانت قراءة أي كتاب أو صحيفة تتطلب جهدا جبارا من قبل هذا الفتى المراهق. ومع ذلك لم يكن في وسع أحد أن يتهمه بالسخط أو بالتمرد. فهو ينفذ الأوامر بإخلاص. يذهب لجلب الماء. وقطع الخشب ويساعد العمال في الحقل وينظف المطبخ. وينجز كلّ ما يُطلب منه بدقة فائقة وإن كان يؤديه ببطء مزعج.


ولكن أكثر ما كان يزعج القس الطيب في هذا الطفل المحير هو لامبالاته التامة. فلم يكن يفعل شيئا إلا إذا طلب منه ذلك صراحة. لا يطرح أي سؤال البتة. ولا يلعب مع الأطفال الآخرين، ولا يندفع نحو أي عمل من تلقاء نفسه إلا إذا تلقى أمرا بذلك. وما إن كان ميركو ينتهي من الأعمال المنزلية المعتادة حتى يجلس في الصالون بلا حراك بتلك النظرة التائهة الشبيهة بنظرة الأغنام في المرعى، دون أن يبدي أي اهتمام بكل ما يجري حوله. وفي المساء، حين كان القس يجلس مع صديقه ضابط الشرطة إلى رقعة الشطرنج ليتباريا كعادتهما كل يوم


والضابط ينفث دخان غليونه الطويل والقبيح الشكل، كان هذا الصبي ذو الشعر الأشقر يظل جالسا بالقرب منهما دون أن ينطق بكلمة واحدة وعيناه المثقلتان بالنعاس تحدّقان في مربعات رقعة الشطرنج. وفي إحدى أمسيات فصل الشتاء وبينما كان الشريكان مستغرقين في لعب مباراتهما المعتادة، سمع رنين أجراس زحافة جليدية تقترب بسرعة فائقة، وما لبث أن دخل فلاح بخطى متثاقلة وقلنسوته مغطاة بالثلج، وناشد القس أن يصطحبه ليمنح مباركته الأخيرة لوالدته العجوز التي كانت تحتضر، فتبعه الرجل دون تردد، أما الضابط، ولم يكن قد انتهى من شرب كأس الجعة، فقد حشا غليونه وأشعله قبل أن يغادر، وكان يتهيأ لارتداء حذائه الثقيل عندما تفاجأ بنظرة ميركو الثاقبة وهي تحدق في رقعة الشطرنج والمباراة التي لم تكتمل بعد.


حسنا، هل تود استكمالها ؟ قال له مازحا وهو على يقين تام بأن هذا الفتى الحامل لن يتمكن من تحريك حجر واحد على رقعة الشطرنج دون أن يرتكب خطأ.


رفع الصبي عينيه في خجل ثم أشار إليه موافقا وجلس مكان القس. ولم تمض أربع عشرة جولة إلا وكان الضابط مهزوما ، بل وكان عليه بالإضافة إلى ذلك أن يتقبل الهزيمة على أنها لم تكن نتيجة طيش أو تقصير منه. وانتهى الدور الثاني بالطريقة نفسها.


يا لها من معجزة، لقد نطق حمار النبي بلعام (1) صاح القس متفاجئا وشرح للضابط الذي كان أقل دراية منه بالتوراة أن معجزة كهذه قد حدثت قبل ما يزيد عن ألفي سنة في ما مضى حين نطقت فجأة إحدى الدواب كما ينطق الحكماء تماما. ورغم تأخر الوقت لم يستطع القس أن يمنع نفسه من دعوة تلميذه الأمي تقريبا المنازلته. فهزمه هو الآخر بسهولة بالغة كانت له طريقته الشرسة والبطيئة والثابتة في اللعب، دون أن يرفع جبهته العريضة عن رقعة الشطرنج ولو للحظة واحدة. لكنه كان يلعب بثقة تامة. ولم يكن الضابط ولا


القس قادرين في الأيام التي تلت ذلك على هزيمته ولو لمرة واحدة. وأصبح لدى القس الذي كان يدرك أفضل من أي شخص آخر مدى غباء تلميذه، فضول كبير المعرفة إلى أي حد ستظل هذه الموهبة الفذة والمنحصرة في مجال واحد صامدة بشكل حقيقي.


لذلك أخذه من الغد إلى حلاق القرية، وبعد أن تركه يقص جمة ميركو الشقراء ليبدو مظهره لائقا، اصطحبه على مركبته الجليدية حتى وصلا إلى المدينة الصغيرة المجاورة، حيث يوجد لاعبون مهووسون بالشطرنج كانوا يتجمعون في ركن من مقهى الساحة الكبرى، وقد اعترف هو نفسه ببراعتهم الفائقة وتفوقهم عليه.


تفاجأ هذا الجمع من اللاعبين المثاليين عندما دخل القس مصطحبا هذا الصبي الأشقر ذا الخمسة عشر عاما بوجنتيه الحمراوين وسترته المصنوعة من جلد خروف مقلوب وحذائه الثقيل. بقي الصبي مزروعا في أحد الأركان، ذاهلا ، وعيناه مسترتان في الأرض إلى أن دعاه أحدهم إلى إحدى طاولات اللعب. هزم ميركو في الجولة الأولى إذ لم يسبق له وأن شاهد خطة دفاع صقلية (1) عند


القس. وانتهت الجولة الثانية بالتعادل في مواجهة أمهر اللاعبين ومنذ بداية الجولتين الثالثة والرابعة هزمهم جميعا واحدا تلو الآخر. وهكذا أتيح لمدينة صغيرة في ريف يوغسلافيا أن تشهد حدثا من


الأحداث المثيرة النادرة، وأججت بدايات هذا البطل القروي على الفور عاطفة قوية في نفوس الوجهاء المجتمعين فقرروا بالإجماع أن يستبقوا هذا الفتى المعجزة في المدينة حتى صباح الغد ليتمكنوا من جمع أعضاء النادي الآخرين وخاصة الكونت سيميكزيك العجوز المولع بالشطرنج والقابع في قصره. أما القس الذي بدأ ينظر إلى قرة عينه بكل فخر، فقد عزّ عليه أن يخلّ، رغم متعة هذا الاكتشاف، بواجبات كنيسته ولا سيما قداس الأحد، وأعلن أنه لا يمانع بقاء ميركو وحده لينازل بقية اللاعبين. فحجزت للفتى غرفة في الفندق على حساب النادي، وفي تلك الليلة اكتشف حماما حقيقيا لأول مرة في حياته.


في ظهيرة يوم الأحد كانت القاعة مكتظة باللاعبين. وقد ظل ميركو جالسا أمام رقعة الشطرنج بلا حراك وهزم كل منافسيه واحدا بعد آخر دون أن ينبس بكلمة واحدة أو أن يرفع عينيه. وفي النهاية اقترح أحدهم مباراة مشتركة، وقد تطلب الأمر وقتا طويلا حتى يدرك هذا القروي الأبله معنى ذلك. وما إن فهم ميركو أنهم يريدونه أن يلاعب وحده وفي الوقت ذاته عددا متفرّقا من اللاعبين حتى قبل على الفور وأخذ ينتقل من طاولة إلى أخرى وحذاؤه الثقيل لا ينقطع عن إحداث الصرير. وفي النهاية انتصر عليهم جميعا بفارق سبع جولات مقابل جولة واحدة.


آنذاك، بدأت تنعقد اجتماعات كبيرة. ومع أن البطل الجديد لم يكن حقا ابن بلدتهم فقد استيقظ في سكانها الكبرياء والتعصب لمدينتهم. فمن يدري؟ ربما حظيت هذه المدينة الصغيرة التي لم يستطع أحد تقريبا تحديد موقع لها على الخريطة، بمن يمنحها أخيرا شرف شهرة عالمية.


تطوع متعهد حفلات اسمه كولر كان معروفا بوكالة المغنيات والنجمات في حانة الغرنيزون، ووافق على أن يعهد بالصبي إلى أستاذ مرموق كان يعرفه في فيينا، وهو خبير في فن الشطرنج، على أن يتكفل واحد منهم بدفع نفقة إقامة الفتى في تلك العاصمة لمدة سنة كاملة. وبما أن الكونت سيميزيك لم يلتق طوال ستين سنة من الممارسة اليومية لفن الشطرنج بمنافس مثله، فقد تقدم ودفع المبلغ المطلوب فورا. ومنذ تلك اللحظة بدأت بالفعل المسيرة المدهشة لابن البحار في الطريق إلى قمة المجد.


ولم تمض ستة أشهر، إلا وكان ميركو ملما بكل أسرار لعبة الشطرنج، ولو أن إتقانه لها ظل بصفة محدودة جعلت مجموعة من العارفين في هذا المجال يتخذونه موضع سخرية في مجالسهم بعد ذلك. إذ لم يسبق أبدا لكزنتوفيك وأن لعب ولو مرة واحدة مباراة لا إرادية أو على نحو أعمى كما يقول لاعبو الشطرنج، لقد كان عاجزا


تماما عن تمثل رقعة الشطرنج في الفضاء اللانهائي لمخيلته. وكان يجب أن يشاهد بعينيه وبشكل دائم الرقعة الخشبية البيضاء والسوداء بمربعاتها الأربعة والستين وأحجارها الاثنين والثلاثين، وحتى عندما ذاعت شهرته في العالم بأسره، فقد ظل يحمل معه دائما رقعة شطرنج مصفرة، كي يتمكن من تمثل الأحجار والمربعات إذا كان يرغب في إعادة تشكيل مباراة محترفة أو كي يقدر على حل مشكلة طارئة. وقد كان هذا العجز التافه في حد ذاته كافيا للكشف عن قصور حاد في المخيلة، وهو ما أثار كثيرا من النقاشات الحادة في محيطه المقرب ومثل علامات تعجب كبرى لهم كما لو أنهم مجموعة من الموسيقيين يشاهدون بأعينهم عازفا ماهرا أو قائد أوركسترا عاجزا تماما عن العزف أو عن القيادة فقط لأن التوليفة الموسيقية غير مفتوحة أمامه. ولكن هذا القصور لم يعق ميركو عن تسلق سلم الشهرة بشكل


مبهر. فحين بلغ السابعة عشر من عمره، انتزع ما يقارب عن اثنتي عشرة جائزة وعندما أدرك الثامنة عشر كان بطل النمسا. ولم يبلغ العشرين إلا وهو بطل العالم. لقد كان الأبطال الأكثر جرأة، الأبطال الذين يفوقونه علما وخيالا وجسارة، يقعون ضحية منطقة العنيد والصارم تماما مثلما هزم نابوليون أمام كوتوزوف البطيء (1).


أو حنبعل أمام فابيوس ماكسيموس (2) المؤقت الذي عُرف هو أيضا بطبعه الهادئ وبغبائه الشديد في طفولته حسب ما جاء في حديث تيتوس ليفيوس عنه.


وهكذا اقتحم المجلس المجيد لأساتذة الشطرنج، المجلس الذي يجمع كل المثقفين على اختلاف توجهاتهم من فلاسفة وعلماء رياضيات. والنوابغ المعروفين بسعة الخيال والطاقة المتجددة على الإبداع.. دخيل غريب تماما عن عالم الفكر ، فتى قروي بطيء الحركة وصموت، حتى


الصحفيون الأكثر مكرا وحنكة لم يتمكنوا أبدا من الظفر بعبارة واحدة منه عبارة واحدة صالحة لمقالاتهم الصحفية. ولكن لا بأس فقد تكرم عليهم غباؤه بما يملأ صفحاتهم بمواضيع السخرية، إذ حالما ينهض من أمام رقعة الشطرنج في الجولة الثانية، الرقعة التي كان أمامها لاعبا لا أحد يضاهيه مهارة، يتحوّل كزنتوفيك على الفور إلى شخصية مثيرة للسخرية والضحك رغم وقار بدلته الرسمية السوداء وفخامة ربطة عنقه المزدانة بلؤلؤة برّاقة. ومع أن أظفاره مشذبة بعناية، فإنه ظل وفيا في حركته وسلوكه لصورة القروي الجلف الذي كنس حجرة القس مرارًا في صباه. لقد كان أخرق وعنيفا بكل وقاحة لا يطفح في الغالب بغير الجشع والدناءة والقبح، ولا يشغل باله إلا استغلال موهبته وشهرته لتحصيل أقصى ما يمكن جنيه من الأموال وهو ما كان يثير سخرية منافسيه واستياءهم. كان ينتقل من مدينة إلى أخرى، مقيما دائما في الفنادق الأكثر تواضعا ولا يتردد في اللعب داخل النوادي الأكثر بؤسا شريطة أن يحصل على كل قرش يطلبه، مثلما لم يتردد لحظة في وضع صورته على إحدى اللافتات الإشهارية لأحد أنواع الصابون غير عابئ بسخرية منافسيه، وهو يدرك أنهم يعرفون جيدا عجزه عن كتابة ثلاث جمل خالية من الأخطاء، بل إنه باع اسمه لناشر طموح ليضعه على كتاب بعنوان فلسفة لعبة الشطرنج كتبه في الحقيقة طالب من غاليسيا (1) .


ومثل كل المتصلبين العنيدين لم يكن ينتابه أي إحساس إزاء سخرية الآخرين، فمنذ ظفر ببطولة العالم وهو يعتبر نفسه أهم رجل على الأرض، ذلك أن شعوره بالانتصار على كل هؤلاء الخطباء والكتاب الأذكياء الباهرين ودحرهم على أرضهم، هذا الشعور الذي عمقه في الواقع ربحه للمال أكثر منهم، حوّل خجله الفطري إلى كبرياء فاتر لطالما كان يظهر بطريقة فظة.


ولكن كيف نريد ألا ينقلب رأسه الفارغ بانتصار سريع إلى هذا الحد؟ ذلك ما توصل إليه صديقي بعد أن عرض علي بعض الأمثلة الواضحة عن غرور كزنتوفيك السخيف. كيف لفتى قروي في الحادية والعشرين من عمره، قادم حديثا من قرية مجهولة في مدينة مجهولة ألا يدور رأسه بالغرور وهو يرى أن نقل بعض الأحجار على لوح خشبي كفيل بجعله يغنم من المال في ظرف أسبوع ما لا يحلم كل سكان قريته بجمعه خلال سنة كاملة من الشقاء في الغابات والحقول وهم يقتلون أنفسهم بقطع الأشجار والأعمال الشاقة الأخرى، وفوق ذلك، أليس من السخف أن يتصور أحدهم أنه في أعماقه رجل عظيم وهو لم يسمع قط بوجود را مبرنت وبيتهوفن ودانتي ونابليون؟.


شخص بهذا الذهن البليد لا يفكر إلا في شيء واحدا فقط: وهو أنه لم يخسر مباراة شطرنج واحدة منذ شهور. فليس من الغريب أن يمتلأ بذاته إذن، طالما أنه لا يشك لحظة في وجود قيم أخرى في العالم غير الشطرنج والمال.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

The primary goa...

The primary goal of Maxwell's law wheel experiment for measuring linear acceleration is to determine...

حني تهزمنا الذك...

حني تهزمنا الذكريات وحني تهزمنا الذكريات؛ تضيع أوراق الخياالت، تثور أيام قادمة، وتضحك أيام خارسة. ج...

Relaxation exer...

Relaxation exercises can be taught by teachers. Relaxation exercises can range from breathing exerci...

يعد مدار كوكب ب...

يعد مدار كوكب بلوتو غير منتظم وغريب نوعًا ما، ويدور الكوكب حول الشمس بطريقة تختلف عن طريقة دوران بقي...

"كان يمارس الصي...

"كان يمارس الصيد بمفرده في مركب شراعي صغير في تيار الخليج"، وقد أمضى - حتى الآن - أربعة وثمانين يومً...

وبالطبع زيادة ا...

وبالطبع زيادة الطلب على المياه بفعل نمو السكان والنشاطات الصناعية والزراعية. يجب علينا اتخاذ خطوات ج...

Mechanical engi...

Mechanical engineering is such a fascinating field! It encompasses the design, analysis, and manufac...

التدوين الوظيفي...

التدوين الوظيفي ونعني بها العملية التي همت صنفا من المجموعات التي قام بتدوينها باحثون متخصصون مغارب...

عقوبات أهل العل...

عقوبات أهل العلم والزهد اعظم المعاقبة ان يحس المعاقب بالعقوبة! وأشد من ذلك ان يقع السرور بما هو ع...

٦- الأسرة تعد و...

٦- الأسرة تعد وحدة للتفاعل الاجتماعي المتبادل بين افراد الأسرة من خلال تأديتهم للأدوار و الواجبات في...

• يوجد آلية لضم...

• يوجد آلية لضمان أن التقييمات تغطي جميع مخرجات المقررات يتم ذلك عن طريق اختيار وتصميم أسئلة الامتحا...

ولا تزال سياسة ...

ولا تزال سياسة الكنيسة ى! كانت» ولا أدل على ذلك من تلك القوائم التي تصدرها بأساء الكتب التي يمُنع ال...