لخّصلي

بعض البنات تعترف أن زيارتها لوالدتها الأنانية البيئة لها من باب المجاملة المجردة فقط، بل وإنها تمر بها مرور حتى النجلى، لكونها قد تركت أبناءها بالمنزل حتى لا يسمعوا أنها إدانات والكلام البذيء الموجه إلى والدتهم دون ذنب أو
جناية . ومن تأمل هذه الأمثلة علم يقينا أن الفراق القاسي المؤلم لا يلزم أن يكون الفراق الذي لا لقاء بعده في هذه الحياة، يل ولكن الفراق الشديد المؤلم هو الذي يكون بين أجساد نعيش على الأرض، ومع ذلك لا سبيل إلى اجتماعها،

وبعضها قد يجتمع ولكن يبقى تباعد القلوب والأرواح. ومع ذلك فإنه يبقى أناس لم يختاروا أن يفارقوك طواعية، ولكن جاءهم ما دفعهم إلى ذلك رغما عنهم، فإن نبين ذلك واتضح لك جليا، فامدد جسور العذر، وقدم حسن الظن، وأمسك لسانك عن الخوض فيما لا يليق، واذرف دموع الوفاء على شخص لعله يكون قطعة منك افتقدت وصله، وها أنت تتحسس أخباره، وتطمئن عليه دون أن يعلم بك أحد، لعلمك أنه لم يختر القطيعة ولكن أ أجبر عليها. وإذا رأيت شخصا أعلن القطيعة دونما سبب، حتى
أصابك صنيعه بالعجب، وتبين لك أن ما دفعه لذلك غروره بنفسه واعتزازه بحميته وما حوته يداه من الأسباب المادية، حتى نفخ به الشيطان فقطع حبل الوصل مع أحبائه، فاناً بنفسك أن تكون مثله، والزم طول الصمت، وتجنب الكلام

الذي يزيد الشقة.

فحري به أن يصاب بصدمة تجعله يفيق، فيحتاج إلى عظيم مثلك، فإذا أردت أن تنصفه فاقبل معاذير الخلائق، فإنه تحدث منا بعض التصرفات التي لو لم يحملها الناس على التجاوز والتماس العذر، لكنا في نظرهم خاطئين، فقطعوا

وصلنا، وأعلنوا قطيعتنا.

وعلى اختلاف الدوافع والأسباب، فإنك كلما أمعنت النظر، توصلت إلى الحقيقة التي لا تقبل الجدل، وهي أننا نحتاج إلى تواصل الأرواح، أكثر من تواصل الأبدان مع

تفرق القلوب؛ لأن من عاش معك روحا ملاك عاطفة، باستشعاره لآلامك وفرحه بتحقيق آمالك، وأنت كلما تقدم

بك العمر أكثر احتجت إلى ذلك أكثر، واستشعرته يقينًا.

فإذا أردت من الناس أن يتواصلوا معك حال حاجتك

لذلك، فكن معطاء له حال توفره بين يديك، واقطع أسباب
عجائب الدنيا كثيرة لا تنقضي، وعلى الرغم مما يمر أمام عنبك من العجائب والعبر، إلا أن هناك ما يستوقفك

ويجعلك تقف متأملا طويلا.

ومما استوقفني هذه الأيام قصة عجيبة غريبة حدثت في إحدى الولايات الأمريكية، تدل على مدى التفكك والانهيار الذي يحاول الكثيرون من أبناء جلدتنا أن يستجلبوه لنا أو

ينتقلونا إليه.

فقد تم إنقاذ ثلاث فتيات من رحلة خطف دامت عشر سنوات، وقد تم احتجاز الشابات في منزل خشبي على بعد أقل من كيلو متر من المكان الذي تعيش فيه أسرة بعض المخطوفات، وبالرغم من بشاعة قضية الخطف وقسوتها، إلا أَنَّمَا أثار استغرابي حقيقةً، هو أن أسرة إحدى الناجيات من الاختطاف لم تكلّف : نفسها حتى بتبليغ الجهات المسئولة عن اختطاف ابنتهم، وبررت الأسرة موقفها ذلك؛ أنهم اعتقدوا
أن ابنتهم ربما غادرت المنزل برغبتها، حيث كانت غاضبة

آنذاك؛ لأنهم انتزعوا ابنها من حضانتها فخرجت غاضبة. عشر سنوات والفتاة مخطوفة، ولم تكلف الأسرة نفسها

عناء السؤال عنها ! إنَّ هذه الواقعة تعكس مدى التفكك الذي تعيشه المدنية الغربية التي انخدع كثير من أهل الإسلام بأضوائها الخادعة، وسرابها المزيف الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لـم

يجده شيئًا.

هذا الموقف الغريب، والذي يمثل في مجتمعنا حالة شاذة، بل وخارجة عن القيم والمبادئ التي اجتمع عليها الناس في جميع طبقاتهم وطرقهم واختلاف سلوكياتهم، هو حالة طبيعية في المجتمع الغربي؛ بل وإنَّ الشاذ عندهم ما كان بعكسها، حيث تجد أسرة تعيش مجتمعة مع بعضها، ولكن

كل واحد منهم يتصرف على حسب سلوكياته الخاصة.

هل تتصور أن تصل القسوة أن يتعامل أولئك مع أبنائهم

وكأنهم ضيوف، ويكون هذا الشعور هو ذاته الذي يعشش في

قلب الصغير، ويكبر معه كلما كبر؛ حيث ينتظر ساعة الرحيل

والمفارقة.
بعكس ما ننعم به نحن أهل الإسلام، حيث يعيش الأبناء كتف ابائهم، يكفلونهم صغارًا، ويرحمونهم كبارًا، ويعينونهم على تكاليف الحياة ما استطاعوا، ثم تكون لهم حياة مستقلة، ذلك تبقى العلائق الوثيقة والأواصر الشديدة؛ لأنهم قد جمتهم رحمة الإسلام لا النظر إلى الحيـاة مـن بـاب المادية

المجردة. ت وإذا تأملت هذه الوقائع بعين العقل والإنصاف، علمت حجم الجريمة العظيمة التي يريد أذناب الغرب أن يفعلوها الة في ديار الإسلام، ليكون الشتات ظاهرة في المجتمع المسلم، وقطع الروابط والأواصر سمة بارزة لـه، ثم يفشوا بعد ذلك الانحلال الأخلاقي، حيث لا حسيب ولا رقيب، وقد قطع سلطان الوالد على أولاده، فيكون تعاملهم مجرد لقاءات باهضة، لا تتوقع لو للحظة أنَّ ذلك الشخص يمت للآخر

فمن علم ذلك حمد الله تعالى أن اصطفاه مسلما، وجنبه سبل أولئك المنحرفين عن السبيل، وشكر نعمة الله عليه قولا وفعلا، وسأل الله بقلب صادق أن يزيده بصيرة بصيرة بضلال أولئك

الضالين، وأن يزيده بغضًا لهم ونفورًا منهم.
ومن تمام شكر الله على نعمائه أن يتبصر المرء بحيل أذناب الغرب المنهزمين شخصيا وفكريا، ويقف لهم بالمرصاد؛ بتفنيد شبههم؛ ورد ألاعيبهم؛ وكشف كذبهم المزيف على الأمة بدعوى التطور والتحرر، حتى يقودوا أهل الإسلام إلى التجرد مما نشأوا عليه من الأخلاق والمبادئ، فجهاد هؤلاء من أعظم أنواع شكر النعم، وأقل ما يقدمه المسلم لأمته العزيزة المترابطة؛ حتى لا تنسلخ مما تتمتع به من النعيم الذي اختصها الله به، فتكون تبعا لأفكار أهل الشك
والريب والانحدار.