لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

لم تكنْ أولَ مرةٍ بالنسبةِ لي، قلتُ لنفسي بتحدٍّ: لقد فعلتُها من قبلُ حينَ هرَبت أنا وهانيا مِن المدرسةِ الشهرَ الماضي، فلقد تَسلَّلنا أنا وهانيا بعدَ أن نزلتُ مِن سيارةِ أمي صباحًا عندَ ناصيةِ الشارعِ المؤدي إلى المدرسةِ. ولذلك فمنذُ بدايةِ هذا العامِ الدراسيِّ اتفقتُ مع ماما أنَّني سأنزلُ عندَ ناصيةِ الشارعِ، وأسيرُ «على الرصيفِ» حتى بابِ المدرسةِ التي تبعُد بِنايتَين. فمازال لديها توصيلُ التوأَمَين إلى مدرستِهِما قبلَ ذَهابها إلى العملِ. وتأخذني بعدَ المدرسة كلَّ يوم، كنتُ أعودُ سيرًا إلى بيتِ جَدتي القابعِ في آخرِ شارعِ المدرسةِ. ولذلكَ فيومُ الثلاثاءِ هو اليومُ المثاليُّ للقيامِ بمغامرةٍ!
لأضعَ لَمَساتي الأخيرةَ؛ أريدُ أن أبدوَ متألقةً اليومَ! قلتُ في سرِّي وأنا ذاهبةٌ للبابِ: آه. تدفعُني إلى الجنونِ، نظرتْ إليَّ باستغرابٍ وقالتْ: ما هذا الذي تلبسينَه، أهكَذا تذهبينَ إلى المدرسة؟! وماذا حدثَ لشعرِكِ؟! أنتِ مازلتِ طفلةً!لِمَ تتصرفينَ وكأنَّكِ. فقلتُ مقاطعةً: أتصرَّفُ كيفَ؟ لا أفهم!
ثم نظرتُ إليها وأنا أخرجُ من البابِ دونَ أن أقولَ شيئًا، فلا داعيَ مِن الكلام مع شخصٍ يُقرر ألا يفهمَكَ!
أطبقَتْ ماما فمَها في غضبٍ ثم قالتْ للتوأمَين: هيا لا وقتَ لدينا لهذا في الصباحِ
كانَ هذا هو روتينَ الصباحِ بالنسبة لنا، هي دائمًا مشغولةٌ وعصبيةٌ لا تهتمُّ سوى بالتوأمَين اللذَين يملآنِ تفكيرَها. ولذلكَ أبعدتُها عن حياتي لا تعرفُ عني الآنَ سوى أقلِّ القليلِ، أعرفُ أنه اسمٌ غريبٌ، فقد كان أبي شاعرًا وكاتبًا، ومنه أحببتُ القراءةَ والكتابةَ؛ لا أدري ما الذي أتى بهذه الذكرياتِ الساذَجةِ على رأسي؟! فقد تركتُ ذلك كلَّه منذُ زمنٍ، لم أعُدْ أكتبُ ولا أشتركُ في أيِّ نشاطٍ مدرسيٍّ بالرغمِ من إلحاحِ أستاذ محمد معلمِ اللغةِ العربيةِ، لا أحدَ يفهمُني، لا أريد أن يُشفِق أحدٌ عليَّ أو يتعاملَ معي كطفلةٍ صغيرةٍ. لكني مازلتُ أقرأُ سرًّا قصصًا من مكتبةِ أبي؛ انتبهتُ لصوتِ رسالةٍ على هاتفي، إنها هانيا تؤكِّد أنَّ والدَيها نزلا مِن البيتِ، «أراكِ بعدَ نصفِ ساعةٍ »
ولكني لم أهتمَّ، وقفتُ بكلِّ ثقةٍ، وتمسكتُ بعمودٍ مَعدِني؛ كي لا أسقطَ، أخذتُ أتفحَّصُ وجوهَ الركابِ، هناكَ سيدةٌ غليظةُ الملامحِ تحمِلُ على رأسِها شنطةً كبيرةً لابدَّ أنَّها أُمنا الغولة وتحمِلُ على رأسِها أحدَ الأطفالِ الصغارِ، ضحكتُ في سري على هذه القصصِ التي ينسِجها عقلي! لم يكنْ كلُّ مَن في الحافلةِ غريبِي الأطوارِ طبعًا؛ أفقْتُ من أفكاري مع توقُّف الحافلةِ، حيث نزَل بعضُ الناسِ وصعِد آخرون، هل لأني أفتقدُ أبي بشدةٍ؟ أم لأني برغمِ ما أحاولُ إظهارَه من شجاعةٍ خائفةٌ؟ بدونِ ترددٍ قامَ الرجل من مقعدِه وقال لي وهو يضحَك: اجلسِي بسرعةٍ قبل أن يهجُم الشعبُ على الكرسيِّ الشاغرِ. جلستُ في المقعدِ، كي لا يسمعَه باقي الركابِ. لا أدري حقيقةَ شعوري بهذا الكلامِ، لم يقُلْ لي أحدٌ كلامًا رقيقًا منذُ مدةٍ بعيدةٍ، ففتحتُ حقيبتي بسرعةٍ أخرجتُ كتابي ودَسَسْتُ نفسِي داخلَهُ، وهو ما أفعلُه حينَ تأخذني دوامةُ المشاعرِ أهرُبُ منها في كتابي. لكنَّ الرجلَ المبتسمَ أَخْرَجني من دنيايَ: ما شاءَ اللهُ، هذا شيءٌ مُبهر. كم عمرُكِ؟
نظرَ إليَّ وابتسمَ ابتسامةً لم أفهَمْها وقال: بالعكسِ أنتِ تَبدينَ كآنسةٍ جميلةٍ. وابتسمتُ ثم قلتُ محاولةً إخفاءَ خجلي: أشكرُكَ على هذا الإطراءِ!
فجأةً توقفتِ الحافلةُ ثانيةً أفاقُ الرجلُ الكبيرُ الجالسُ بجانبي قربَ الشباكِ، بَقِي يتحدَّث معي ويحكي لي، يتكلَّم بلطفٍ وكأنه يعرفني، وجدتُ نفسي أحكي له عني. سألني بسلاسةٍ: لم تسللتِ من المدرسة؟! تفاجأتُ جدًّا من سؤالِه وهمَمْت أدرأُ عن نفسي التهمةَ، لكنه عاجلني: لا تخافي؛ فقدْ كنتُ محترفَ تزويغٍ في أيامي ووَكَزَني في كَتِفي وهو يضحكُ. ضحكتُ وبدأتُ أحكي له بزهوٍ عن مغامراتي، وحَكَيتُ له كيف أني ذاهبةٌ لألتقِيَ بها وأين سأقابلُها. كنتُ مرتاحةً وسعيدةً وأنا أحكي له؛ بدأتُ أشعرُ بغرابةٍ وتوترٍ معَ تسارعِ أنفاسِه تلفَحُ وَجهي، تتسرَّبُ من فَمِه رائحةُ سجائرَ كريهةٌ أصابتني بغثيانٍ شديدٍ. ثم مدَّ ذِرَاعَهُ وأسندَه فوقَ مقعدي، فأصبحتُ بمعزلٍ عن عيونِ الناسِ داخلَ قفصٍ من جسدِه، بعدَها خذَتْ يَدُه الأخرى تزحَف من حجرِه إلى حجرِي حتـى استقــرَّت علـــى فَخِـــذي (تتحـركُ حركاتٍ غير واعيـة)، تجمدْتُ في مكـانـي وانقـلبــتْ كـلُّ مشاعرِ الراحةِ إلى فزعٍ وتوقَّفَ الكلامُ في حَلْقِي، كيفَ أُفْلِتُ منه. نظرتُ إليه فوجدتُ على وجهِه نفسَ الابتسامةِ التي جَذَبَتْني وطمأنَتْنِي، قمتُ وأنا أقولُ بصوتٍ عالٍ: لابدَّ أن أنزلَ الآنَ. دفعتُ جِسْمِي الصغيرَ من بينِه وهربتُ منه وَسْطَ الجموعِ، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ. لا أدرِي كيفَ نزلتُ مِنَ الحافلةِ أو كيفَ وصلتُ إلي بيتِ جَدَّتِي، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ. فتحَتْ جَدَّتي وبدا عليها الانزعاجُ الشديدُ عندَ رؤيتِي فقالتْ في لهفةٍ: حياة. ماذا بكِ يا ابنتِي ولماذا تَبْدِين منهكةً هكذا؟
فقط ارتميتُ في أحضانِها وبكيتُ، ولأولِ مرةٍ منذُ فترةٍ طويلةٍ أُطلِق شلالَ الدموعِ ينهمِرُ. بَقِيتُ في حضنِها أبكي حتى رحتُ في النومِ. في الحلمِ عدتُ إلى الحافلةِ ومررتُ بكلِّ مشاعرِ الفزعِ مِنْ جديدٍ، ذراعُه يمتدُّ حولي ورائحةُ السجائرِ تنطلِقُ مِن أنفاسِه بدأَ يقتربُ أكثرَ. فجذبَتْنِي إليها في حضنٍ عميقٍ فانهرتُ في البكاءِ وأخذتُ أقصُّ عليها ما حَدَث. لم أفكِّرْ وقتَها فيما سيكونُ ردُّ فعلِه ا، لم أصدِّقْ أذنيَّ، ماذا قالتْ؟! إنها آسفةٌ، لم أتوقَّعْ أبدًا هذا الردَّ، وأنا أيضًا أحتاجُ إليكِ. نسيتُ أنكِ صديقتي وأولُ فرحتِي. فجأةً ذابَ جبلُ الغضبِ بداخلي ووجدتُني أقولُ لها: أنا أيضًا أحتاجُ إليكِ يا أمي. ولكنِّي أحتاجُكِ أن تَرَيْني كما أنا، كما فعلتِ اليومَ، بلا أحكامٍ بلا حواجزَ. ثم قلتُ لها كلَّ المشاعرِ التي كنتُ أكتُمها بداخلي. لكنَّ المرارةَ كانت تملؤُني، أريدُ أن أثأرَ لنفسِي،


النص الأصلي

خرجتُ مسرعةً.. قلبي يدقُّ بشدةٍ من شدةِ القلقِ، لكنِّي الآن أشعرُ بحريةٍ مع مُداعبة هواءِ الصباحِ لوَجْهي. لم تكنْ أولَ مرةٍ بالنسبةِ لي، ولكنِّي أشعرُ بنَشوة المنتصرِ! نعمْ لقدِ انتصرتُ عليها اليومَ! وخيرُ دليلٍ أني أمشي الآنَ في الشارعِ متجهةً إلى محطةِ الحافلاتِ. نعمْ سأركبُ الحافلةَ، قلتُ لنفسي بتحدٍّ: لقد فعلتُها من قبلُ حينَ هرَبت أنا وهانيا مِن المدرسةِ الشهرَ الماضي، لم تلحَظْ ماما شيئًا؛ فلقد تَسلَّلنا أنا وهانيا بعدَ أن نزلتُ مِن سيارةِ أمي صباحًا عندَ ناصيةِ الشارعِ المؤدي إلى المدرسةِ..!


شارعُ المدرسةِ شديدُ الازدحامِ، ولذلك فمنذُ بدايةِ هذا العامِ الدراسيِّ اتفقتُ مع ماما أنَّني سأنزلُ عندَ ناصيةِ الشارعِ، وأسيرُ «على الرصيفِ» حتى بابِ المدرسةِ التي تبعُد بِنايتَين. في البدايةِ كانتْ أمي تنتظرُ حتى تتأكَّدَ من دخولي المدرسةَ، لكِنْ مع مرورِ الوقتِ توقَّفتْ؛ فهي دائمًا في عجلةٍ في الصباحِ، فمازال لديها توصيلُ التوأَمَين إلى مدرستِهِما قبلَ ذَهابها إلى العملِ.


أمي تُوصِّلني صباحًا، وتأخذني بعدَ المدرسة كلَّ يوم، ماعدا يومَ الثلاثاءِ؛ حيث كانتْ تصحَبُ التوأمَين إلى تدريبِ الجمبازِ، كنتُ أعودُ سيرًا إلى بيتِ جَدتي القابعِ في آخرِ شارعِ المدرسةِ. ولذلكَ فيومُ الثلاثاءِ هو اليومُ المثاليُّ للقيامِ بمغامرةٍ!


بدأَ اليومُ كسائرِ الأيامِ؛ ماما تصرُخ مِن غرفتِها: حياة.. ساعِدِي ياسمين ويوسف في وضعِ الأكلِ في الحقيبةِ، هيا بسرعةٍ سوفَ نتأخَّر! ساعدتُهم وأنا متأفِّفةٌ، ثم جرَيتُ إلى غرفتِي؛ لأضعَ لَمَساتي الأخيرةَ؛ أريدُ أن أبدوَ متألقةً اليومَ! قلتُ في سرِّي وأنا ذاهبةٌ للبابِ: آه... تدفعُني إلى الجنونِ، نظرتْ إليَّ باستغرابٍ وقالتْ: ما هذا الذي تلبسينَه، أهكَذا تذهبينَ إلى المدرسة؟! وماذا حدثَ لشعرِكِ؟! أنتِ مازلتِ طفلةً!لِمَ تتصرفينَ وكأنَّكِ......


فقلتُ مقاطعةً: أتصرَّفُ كيفَ؟ لا أفهم!


ثم نظرتُ إليها وأنا أخرجُ من البابِ دونَ أن أقولَ شيئًا، فلا داعيَ مِن الكلام مع شخصٍ يُقرر ألا يفهمَكَ!


أطبقَتْ ماما فمَها في غضبٍ ثم قالتْ للتوأمَين: هيا لا وقتَ لدينا لهذا في الصباحِ


كانَ هذا هو روتينَ الصباحِ بالنسبة لنا، في الحقيقةِ أصبحَ الخِناقُ هو لغةَ الحوارِ بيننا، فمنذُ وفاةِ بابا من عامَين ونحن هكذا، هي دائمًا مشغولةٌ وعصبيةٌ لا تهتمُّ سوى بالتوأمَين اللذَين يملآنِ تفكيرَها. أما أنا فأصبحَتْ لا تحدِّثُني إلا لتعلِّقَ على شيءٍ من تصرُّفاتي، لبسي، أصدقائي، ولذلكَ أبعدتُها عن حياتي لا تعرفُ عني الآنَ سوى أقلِّ القليلِ، حتى أصدقائي لم تَعُد تعرفُهم! نعمْ اسمِي «حياة»، أعرفُ أنه اسمٌ غريبٌ، سمَّاني أبي بهذا الاسم؛ فقد كان أبي شاعرًا وكاتبًا، ومنه أحببتُ القراءةَ والكتابةَ؛ فقد كنتُ أكتبُ في مجلةِ المدرسةِ، وحصَلتُ على جائزةِ أفضلِ قصةٍ قصيرةٍ وعمري لا يتعدَّى إحدى عشرةَ سنةً، كانَ ذلكَ قبل وفاةِ أبي بشهرَين.


لا أدري ما الذي أتى بهذه الذكرياتِ الساذَجةِ على رأسي؟! فقد تركتُ ذلك كلَّه منذُ زمنٍ، لم أعُدْ أكتبُ ولا أشتركُ في أيِّ نشاطٍ مدرسيٍّ بالرغمِ من إلحاحِ أستاذ محمد معلمِ اللغةِ العربيةِ، لا أحدَ يفهمُني، لا أريد أن يُشفِق أحدٌ عليَّ أو يتعاملَ معي كطفلةٍ صغيرةٍ. لكني مازلتُ أقرأُ سرًّا قصصًا من مكتبةِ أبي؛ فهذا هو الشيءُ الوحيدُ الذي يُشعِرُني أنني أتواصلُ معهُ.


انتبهتُ لصوتِ رسالةٍ على هاتفي، إنها هانيا تؤكِّد أنَّ والدَيها نزلا مِن البيتِ، فقدِ ادَّعتْ أنها مريضةٌ ولن تذهبَ اليومَ إلى المدرسةِ. «أراكِ بعدَ نصفِ ساعةٍ »


فبعثتُ لها صورتي وأنا واقفةٌ في انتظارِ الحافلةِ. لقدِ اتفقنا أن نذهبَ معًا إلى مكانٍ جديدٍ قريبٍ من بيتِها سنقابلُ بعضَ أصدقاء تعرَّفنا عليهم مِن الفيس بوك..


وصلتِ الحافلةُ وتدافعَ الناسُ إلى الداخلِ دسستُ نفسِي وَسْطَ شلالٍ منهمرٍ مِنَ البشرِ، وصعِدتُ معهم إلى الحافلةِ، بالطبعِ لم يكنْ هناك كرسيٌّ شاغرٌ، ولكني لم أهتمَّ، وقفتُ بكلِّ ثقةٍ، وتمسكتُ بعمودٍ مَعدِني؛ كي لا أسقطَ، أخذتُ أتفحَّصُ وجوهَ الركابِ، أهوَى أن أسرحَ وأنسِجَ في خيالي قصةً لكلِّ واحدٍ منهم. هناكَ سيدةٌ غليظةُ الملامحِ تحمِلُ على رأسِها شنطةً كبيرةً لابدَّ أنَّها أُمنا الغولة وتحمِلُ على رأسِها أحدَ الأطفالِ الصغارِ، وراءَها يقفُ شابٌّ معجَبٌ بنفسِهِ يبدو أنه ذاهبٌ لموعدٍ غراميٍّ مع فتاةٍ تسللتْ مثلي مِن المدرسةِ. ضحكتُ في سري على هذه القصصِ التي ينسِجها عقلي! لم يكنْ كلُّ مَن في الحافلةِ غريبِي الأطوارِ طبعًا؛ فهنالكَ سيدةٌ كبيرةٌ حَيَّتني بابتسامةٍ حنونةٍ مِن فمٍ فَقَد معظمَ أسنانِهِ بفعلِ الزمنِ! تعجبتُ من قدرتِها على الابتسامِ بالرغمِ مِنَ الزحامِ وما بدا عليها من وهَنٍ!


أفقْتُ من أفكاري مع توقُّف الحافلةِ، حيث نزَل بعضُ الناسِ وصعِد آخرون، فتدافعتُ معَ البشرِ الملتحِمِ داخلَ الحافلةِ حتى وجدتُ نفسي بجانبِ رجلٍ أربعينيّ ِ شكلُهُ مهندَم وظريفٌ نظر إليَّ في وُدٍّ وابتسمَ، لا أدري لماذا هزَّت بسمتُه قلبي، هل لأني أفتقدُ أبي بشدةٍ؟ أم لأني برغمِ ما أحاولُ إظهارَه من شجاعةٍ خائفةٌ؟ بدونِ ترددٍ قامَ الرجل من مقعدِه وقال لي وهو يضحَك: اجلسِي بسرعةٍ قبل أن يهجُم الشعبُ على الكرسيِّ الشاغرِ. جلستُ في المقعدِ، وقلت له: شكرًا لكن هذا مكانُك فقال بلهجةٍ أَبويةٍ: لا يا حبيبتي لا تقلقي؛ فأنتِ صغيرةٌ ورقيقةٌ لا يصِحُّ أن أتركَكِ وَسْطَ هذه الوحوشِ المتدافعةِ.


اقتربَ مني وقالها همسًا؛ كي لا يسمعَه باقي الركابِ. لا أدري حقيقةَ شعوري بهذا الكلامِ، لم يقُلْ لي أحدٌ كلامًا رقيقًا منذُ مدةٍ بعيدةٍ، منذُ رحل والدِي، وجدتُ قلبي يتسارعُ وتموجُ المشاعرُ بداخلي، ففتحتُ حقيبتي بسرعةٍ أخرجتُ كتابي ودَسَسْتُ نفسِي داخلَهُ، وهو ما أفعلُه حينَ تأخذني دوامةُ المشاعرِ أهرُبُ منها في كتابي..!


لكنَّ الرجلَ المبتسمَ أَخْرَجني من دنيايَ: ما شاءَ اللهُ، فتاةٌ في سنِّكِ تقرأُ ليوسف السباعي. هذا شيءٌ مُبهر. كم عمرُكِ؟


قلتُ: عمري ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، ثم ابتسمتُ وقلتُ: أعلمُ أنكَ ستقولُ: إنني أبدو أصغرَ؛ فالجميع يقول لي: إنني أبدو كطفلةٍ عندها عشرُ سنواتٍ.


نظرَ إليَّ وابتسمَ ابتسامةً لم أفهَمْها وقال: بالعكسِ أنتِ تَبدينَ كآنسةٍ جميلةٍ. حمرَّ وجهي خجلًا، وابتسمتُ ثم قلتُ محاولةً إخفاءَ خجلي: أشكرُكَ على هذا الإطراءِ!


لكنه مالَ عليَّ، ثم نظرَ في عيني وعلى وجهِه نفسُ الابتسامةِ وقال: هذه الحقيقةُ.


اجتاحتني مشاعرُ مختلطةٌ، أشعرُ لأولِ مرةٍ بأنوثتي، وهذا الشعورُ يُخيفني ويُسعدني في نفسِ الوقتِ.


فجأةً توقفتِ الحافلةُ ثانيةً أفاقُ الرجلُ الكبيرُ الجالسُ بجانبي قربَ الشباكِ، وقامَ ليستعدَّ للنزولِ، وبنفسِ السرعةِ أومأَ الرجلُ المبتسمُ إليَّ لأجلسَ بالداخلِ وجلسَ بجانبي في المقعدِ الذي كنتُ أشغلُهُ منذُ قليلٍ. بَقِي يتحدَّث معي ويحكي لي، يتكلَّم بلطفٍ وكأنه يعرفني، وجدتُ نفسي أحكي له عني.


سألني بسلاسةٍ: لم تسللتِ من المدرسة؟! تفاجأتُ جدًّا من سؤالِه وهمَمْت أدرأُ عن نفسي التهمةَ، لكنه عاجلني: لا تخافي؛ فقدْ كنتُ محترفَ تزويغٍ في أيامي ووَكَزَني في كَتِفي وهو يضحكُ.


ضحكتُ وبدأتُ أحكي له بزهوٍ عن مغامراتي، وكيفَ أتسللُ من المدرسةِ مع صديقتِي هانيا، وحَكَيتُ له كيف أني ذاهبةٌ لألتقِيَ بها وأين سأقابلُها.


كنتُ مرتاحةً وسعيدةً وأنا أحكي له؛ فهو أولُ شخصٍ بالغٍ أكونُ معه على طبيعتِي وأشعرُ أنه يفهمُني منذ فترةٍ طويلةٍ.


وبينما أنا منهمكةٌ في الحديثِ شعَرتُ بجسدِه معَ اهتزازِ الحافلةِ وازدحامِ الناسِ، يقتربُ مني قليلًا قليلًا... حتى التصقَ بي ثم بدأَ يُقرِّب وجهَه من وجهي (يقترب) وهو يُحدِّثني.


بدأتُ أشعرُ بغرابةٍ وتوترٍ معَ تسارعِ أنفاسِه تلفَحُ وَجهي، تتسرَّبُ من فَمِه رائحةُ سجائرَ كريهةٌ أصابتني بغثيانٍ شديدٍ.


ثم مدَّ ذِرَاعَهُ وأسندَه فوقَ مقعدي، فأصبحتُ بمعزلٍ عن عيونِ الناسِ داخلَ قفصٍ من جسدِه، بعدَها خذَتْ يَدُه الأخرى تزحَف من حجرِه إلى حجرِي حتـى استقــرَّت علـــى فَخِـــذي (تتحـركُ حركاتٍ غير واعيـة)، تجمدْتُ في مكـانـي وانقـلبــتْ كـلُّ مشاعرِ الراحةِ إلى فزعٍ وتوقَّفَ الكلامُ في حَلْقِي، ماذا أفعلُ الآنَ، كيفَ أُفْلِتُ منه.


نظرتُ إليه فوجدتُ على وجهِه نفسَ الابتسامةِ التي جَذَبَتْني وطمأنَتْنِي، وفي لحظةٍ تدافعتْ وجوهُ ماما وإخوتي وجَدَّتِي إلى ذِهني، فوجدتُني استجمعُ قُوايَ، قمتُ وأنا أقولُ بصوتٍ عالٍ: لابدَّ أن أنزلَ الآنَ.


دفعتُ جِسْمِي الصغيرَ من بينِه وهربتُ منه وَسْطَ الجموعِ، لا أدرِي كيفَ نزلتُ مِنَ الحافلةِ أو كيفَ وصلتُ إلي بيتِ جَدَّتِي، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ.


دفعتُ جِسْمِي الصغيرَ من بينِه وهربتُ منه وَسْطَ الجموعِ، لا أدرِي كيفَ نزلتُ مِنَ الحافلةِ أو كيفَ وصلتُ إلي بيتِ جَدَّتِي، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ.


فتحَتْ جَدَّتي وبدا عليها الانزعاجُ الشديدُ عندَ رؤيتِي فقالتْ في لهفةٍ: حياة.. ماذا بكِ يا ابنتِي ولماذا تَبْدِين منهكةً هكذا؟


لم أقُلْ شيئًا، فقط ارتميتُ في أحضانِها وبكيتُ، ولأولِ مرةٍ منذُ فترةٍ طويلةٍ أُطلِق شلالَ الدموعِ ينهمِرُ. بَقِيتُ في حضنِها أبكي حتى رحتُ في النومِ.


ينهمِرُ. بَقِيتُ في حضنِها أبكي حتى رحتُ في النومِ. في الحلمِ عدتُ إلى الحافلةِ ومررتُ بكلِّ مشاعرِ الفزعِ مِنْ جديدٍ، ذراعُه يمتدُّ حولي ورائحةُ السجائرِ تنطلِقُ مِن أنفاسِه بدأَ يقتربُ أكثرَ. ثمَّ صحوتُ على صوتِ أمي تهزُّنِي قليلًا وقد ملأَ وجهَها القلقُ: حياة ماذا حدثَ لماذا عدتِ مبكرًا مِنَ المدرسةِ ولماذا أنتِ متعبةٌ هكذا؟


نظرتُ إليها والدموعُ تملأُ عينيَّ، فجذبَتْنِي إليها في حضنٍ عميقٍ فانهرتُ في البكاءِ وأخذتُ أقصُّ عليها ما حَدَث.


لم أفكِّرْ وقتَها فيما سيكونُ ردُّ فعلِه ا، كنتُ فقطْ أريدُ أن أُسْقِطَ هذا الحجَرَ القابعَ فوقَ صدري..


سمعتْني أمي وهي ذاهلةٌ لا تنطِقُ بكلمةٍ ولما انتهيتُ قالت والدموعُ تنهمِرُ من عينَيها: أنا آسفةٌ!


لم أصدِّقْ أذنيَّ، ماذا قالتْ؟! إنها آسفةٌ، لم أتوقَّعْ أبدًا هذا الردَّ، فقلتُ لها في حَيرةٍ: ماذا؟!


قالتْ: نعمْ كما سمعتِ أنا آسفةٌ، منذُ رحيلِ والدِك وأنا لا أرى سوى هُمومي وهمومِ الصغارِ نَسِيتُ أنكِ تحتاجينَ إليَّ. وأنا أيضًا أحتاجُ إليكِ. نسيتُ أنكِ صديقتي وأولُ فرحتِي. فجأةً ذابَ جبلُ الغضبِ بداخلي ووجدتُني أقولُ لها: أنا أيضًا أحتاجُ إليكِ يا أمي.. ولكنِّي أحتاجُكِ أن تَرَيْني كما أنا، أحتاجُكِ أن تسمعينِي، كما فعلتِ اليومَ، بلا أحكامٍ بلا حواجزَ. ثم قلتُ لها كلَّ المشاعرِ التي كنتُ أكتُمها بداخلي.


وبعدَها تعاهَدْنا أن نعودَ صديقتَيْن كما كنا في عهدِنا السابقِ قبلَ رحيلِ بابا، لكنَّ المرارةَ كانت تملؤُني، بداخلي ألمٌ وغضبٌ لِمَا حدَث لي أريدُ أن أتخلَّص من هذهِ المشاعرِ.. أريدُ أن أثأرَ لنفسِي، ولكنْ كيفَ لي هذا ولن أرى هذا الرجلَ ثانيةً؟!


أريدُ أن أطردَهُ خارجَ أحلامِي وعقلي ولكن كيفَ؟


مدتْ أمي يدَيْهَا إليَّ بنوتةٍ وقلمٍ وقالتْ: هيا انتصرِي عليه وأَخْرجيه من عقلِكِ.


أمسكتُ بالقلمِ في ترددٍ هل تعودُ إليَّ الكلماتِ بعدَ هجري لها. لكنَّ الكلماتِ أخذتْ تنسابُ على الصفحةِ معَ انسيابِ الدموعِ على وَجنتي، أخذتُ أكتبُ وأبكي حتى انتهيتُ.


نعَمْ عرفتُ الآنَ كيفَ أنتصرُ عَليه، عرفتُ كيفَ أُعيدُ بعضَ حَقِّي المنتهَك. سوفَ أنشرُ هذهِ القصةَ كي أُحذِّرَ البناتِ من مثلِ هؤلاءِ الوحوشِ المتخفِّين خلفَ أقنعةٍ مِنَ الطيبةِ والأبوةِ.


وقتَها شعَرْت بقوةٍ تنمو بداخلِي، لن أبقَى متألمةً وخائفةً لن أسمحَ له أن يُفسِدَ عليَّ حَيَاتي.


بعثتُ بقصتي إلى إحدى المجلاتِ المنتشرةِ على الإنترنت، ترددتُ في كتابةِ اسمي فكتبتُ في الإمضاءِ: الحافلة الحمراء.. فاجأني ردُّ فعلِ الفتياتِ تجاهَ قصتي وما وَصَفوني به من شجاعةٍ وقوةٍ. شعرتُ بثقةٍ تملؤُني: لا لم يَنَلْ مني.


«أنا حياة سعيد، أنا فتاةُ الحافلةِ الحمراءِ»


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

فالفعل يكون مبا...

فالفعل يكون مباحاً إذا وقع استعمالاً لحق يقرره القانون لفاعله. وهذا الاستعمال ليس مطلقاً فهو مقيد با...

1 المزيج التر...

1 المزيج الترويجي الإعلام كافة أوجه النشاط الاتصال ي ، والتي تستهدف تزويد الجمهور بكاف...

‏Every language...

‏Every language has its flaws and limitations. Some people have been so frustrated with the imperfec...

يكشف هذا الاختب...

يكشف هذا الاختبار عن وجود دماء في موقع الجريمة وذلك عن طريق خلط محلول الفينولفثالين مع بيروكسيد الهي...

- تطبيق مبادئ ا...

- تطبيق مبادئ المدونة العالمية لآداب السياحة: - 1) )ينبغي لأصحاب المصلحة في التنمية السياحية، سواء م...

تحدثنا في مقال ...

تحدثنا في مقال سابق عن القلب، وعلمنا أنه ليس مجرد مضخة للدم، بخلاف ما كان قد استقر لدى علماء الغرب ل...

صراع الاقدام - ...

صراع الاقدام - الاحجام يحدث هذا النوع من الصراع عندما يرغب الكائن الحي في أن يقترب وأن يحجم في نفس ...

زيادة كفاءة وفع...

زيادة كفاءة وفعالية العمليات: يسهم التحول الرقمي في تحسين كفاءة وفعالية عمليات الإدارة الجبائية. من ...

‌ه- وفي ظلِ اشت...

‌ه- وفي ظلِ اشتعالِ الحربِ على الدّولارِ الأميركيِ في التبادلِ التجاريِ الدوليِ في عصرٍ يفوحُ بالرّق...

As the precedin...

As the preceding examples illustrate, marketing communications is a critical aspect of companies’ ov...

The best presen...

The best presentation in the world will bomb if it is not delivered well, and without putting the fo...

Unpacking the P...

Unpacking the Pinteresque in The Dumb Waiter and Beyond Marc E. Shaw "Lady, if I have to tell you...