لخّصلي

هو أبو معاذ بشار بن برد بن يرجوخ ، بن أبي صفرة والى خراسان . وبذلك عد هو وابنه في موالى بني عقيل ، وقد نسب نفسه من جهة أمه إلى الروح إذ يقول : عـددت يوما نسبى وقد ولدته أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وفي ذلك يقول يذكر أن هذا الشاعر اتخذ لنفسه مجلسا يحضره الغزلات من النساء فيحادثهن ويحادثه ، لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا وقوله : والصعب يمكن بعدما جمحا ونحن نرى الإنسان ، وأسلس على اللسان من الماء العذب - الأذن كالعين توفي القلب ما كانا بل يأتى القلب ليكون عوضا عن هذه الآفة فيقول : فبالقلب لا بالعين يبصر نو اللب ونستطيع أن نذكر أن الحسرة الكامنة داخل نفس بشار على فقدانه لحاسة البصر ، بشعرك الساحر الخلاب للعرب . وقد فاخر بشار أن له اثنى عشر ألف بيت عين . إنها دواخل النفس المكلومة التى تحدثه فيعبر عن هذا بحسرته في قوله : ويتفجر منه الحزن على عاهته التي حالت بينه وبين رؤية محبوبته " عبدة " التي تنعم بالبصر وذلك في قوله : - ولقد حسدت على عبيدة عينها . إنه يجهد نفسه فى التصور وأحيانا يجهد نفسه في المحاكاة لشعر سابق محاولا أن يستعين بفكرته قاصدا إلى أن يأتي بصورة أفضل منه . فنراه يقترب في هذا التيار فيتحدث عن الأطلال والرسوم كما في قوله : تلوح مغانيها كما لاح أب حتى تأتى المعاني والصور تنم عن أثر البيئة وما شاع فيها من ترف مادي وشعور رقيق حاد . هاروت ينفث فيه سحر ه ثيابها ذهباً وعطرا الرثاء : وفيه يقول : فرانس دهر مخطئ ومصيب نؤمل عيشاً في حياة ذميمة .

هو أبو معاذ بشار بن برد بن يرجوخ ، ولد بالبصرة في أواخر . من طخارستان ممن سباهم المهلب القرن الأول للهجرة . وجده يرجوخ من ، بن أبي صفرة والى خراسان . ومن أجل ذلك نشأ ابنه برد على الرق ، وكان في عداد رقيق امرأة المهلب ، ثم وهبته الامرأة من بني عقيل ، وفي ملكها ولد له بشار على الرق ، ولم تلبث العقيلية أن اعتقت بردا ، وبذلك عد هو وابنه في موالى بني عقيل ، وقد نسب نفسه من جهة أمه إلى الروح إذ يقول :

وقيصر خالي إذا .. عـددت يوما نسبى

نوان صح ذلك كان فارسي الأب رومى الأم ، وقد ولدته أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وفي ذلك يقول

عميت جنينا والذكاء من العمى .. فجئت عجيب الظن للعلم موئلا.

وكان أبوه طيانا يعيش من ضرب اللبن معيشة تقوم على الشظف ، ويقال إنه كان له أخوان : بشر وبشير وكانا قصابين يبيعان اللحم ، ولم يكونا سويين إذ كان أحدهما أعرج والآخر أبتر اليد . وآفة بشار المبكرة حددت حياته منذ نعومة أظفاره ، فاتجه إلى المساجد ، وإلى مريد البصرة ينهل من حلقات العلم والشعر ، وأعانته نشأته فى بنى عقيل على أن يتمثل السليقة العربية .
ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أخذ ينبوع الشعر يسيل على لسانه وكان طبيعيا أن يكون الهجاء على رأس أشعاره ، نظرا لانتشار هذا الفن بين الشعراء آنذاك . بل يقال أن أباه كان يعنفه ويضربه لكثرة ما يشكو الناس منه ، وكانت أمه تستعطفه عليه ، فيقول إني لأرحمه ، ولكنه يتعرض للناس ، فقال له بشار : قل لهم : أليس الله يقول : " ليس على الأعمى حرج " ، وعادوا إلى بشار يرددون شكواهم ، فتلا عليهم الآية الكريمة ، فانصرفوا وهم يقولون : فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار.

ويذكر لنا صاحب ، طبقات الشعراء ، أنه كان شاعرا مجيدًا مطلقا ظريفا محسنا ، خدم الملوك وحضر مجالس الخلفاء ، وأخذ فوائدهم وكان يمدح المهدى ويحضر مجلسه ، وكان يأنس به ويدنيه ، ويجزل له فى العطايا ، وكان صاحب صوت حسن ومنادمه ، وكان إذا حضر المهدى في مجلس مع جواريه بعث إليه لأجل المسامرة والمحادثة ، وكان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء ، وله قصائد وأشعار كثيرة .

وفي وفاته : أخبار كثيرة ، إذ وشى به بعض من يبغضه ل إلى المهدى بأنه يدين بدين الخوارج ، فقتله ، وقيل : بل قيل للمهدي : إنه يهجوك فقتله ، والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدحالمهدى ، والمهدى ينعم عليه ، فرمى بالزندقة فقتله ، وقيل ضربه سبعين سوطا فمات : وقبل ضرب عنقه . وكانت سنة سبع وقيل : ثمان وستين ومائة في أيام المهدى.

ويرى أهل العلم أن المهدى قتله بهجوه يعقوب بن داوود وزيره

بني أمية هبوا طال نومكم .. إن الخليفة يعقوب بن داوود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود

دينه.

تظاهر بشار بالإسلام ، والإسلام منه براء ، فقد كان مستخفا به وبالقرآن الكريم ، ويروى أنه سمع احدى الجواري تغنى بشعره فقال : " هي والله أحسن من سورة الحشر "

وفى الواقع أنه كان مجوسى العقيدة ، دين أبائه وأجداده ، فهو يفضل إبليس المخلوق من النار على آدم المخلوق من الطين قائلا :

إبليس أفضل من أبيكم آدم .. فتنبهوا يا معشر الفجار النار عنصره وآدم طينة .. والطين لا ينمو سمو النار ويشيد بعبادة النار وأنها أفضل من الأرض والطين فيقول :

الأرضُ مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة من كانت النار

أما صفاته وخلقه : فكان قبيحا دميما ، فظا غليظ القلب ، جافي الطبع ماجنا مستهترا ، لا يؤمن إلا بالعيان وما شهده الحس ، فهو لا يؤمن بجنة ولا نار ، ولا يبعث ولا حساب ، ويحاول أن يثير الغبار في وجه واصل وغيره من المعتزلة ، فيعلن أنه يعارض ما يذهبون إليه من أن الإنسان يخلق أفعاله ، ويقول إنه جبرى ، بل لا شيء سوى .

الجبر وتعطيل الإرادة الإنسانية .

يذكر أن هذا الشاعر اتخذ لنفسه مجلسا يحضره الغزلات من النساء فيحادثهن ويحادثه ، ويعشق من بينهن صاحبة الصوت الرحيم ، فإذا انصرفت أرسل غلامه فى أثرها ، فإذا أبت قذفها بفاحش القول وفى ذلك يقول مالك بن دينار " ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة من الفسق ، من أشعار هذا الأعمى " ، كما يقول أبو عبيدة : " وأى حرة حصان تسمع غزل بشار ولا يؤثر في قلبها ، فكيف بالمرأة الغزلة التي لا هم لها إلا الرجال ؟ .

ويدعو بشار في كثير من شعره إلى الجرأة في الهجوم على الملذات وعدم الاهتمام بالقيم والتقاليد ، بل زاد في ذلك حتى عرج بشعره على الحرائر ، فشكك في قدرتهن على دفع الانحراف ، وراحيدعو إلى الفحشاء كما في قوله :

لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا

لا تلتقى وسبيل الملتقى نهج

وقوله :

قاسي الهموم تقل بها نجحا .. والليل إن وراءه صبحــــا لا يؤينك من مخبأة .. قول تغلطه وإن جَرحًا عشر النساء إلى مياسرة .. والصعب يمكن بعدما جمحا

إن مثل هذا الغزل المكشوف هو الذي دعا الخليفة المهدى حينما سمعه أن يوجه إلى بشار من الشتائم ما لا يتوقع خروجه من فم أمير المؤمنين الذي قال لبشار تعليقا على أبياته " تلك أمك ، أتحض الناس على الفجور ، وتقذف المحصنات المخبات ؟ والله لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لأتين على روحك .

العمى والنبوغ عند بشار :

إن كف البصر عند البعض يخلق مشكلة لصاحبه ترمى به في حومة من ركام العقد النفسية والحسية لا يستطيع أن يتغلب عليها ، إلا كل مؤمن شجاع ، وهي عند الذين ولدوا مكفوفين أشد منها عند هؤلاء الذين ضروا وهم كبار ، فهؤلاء تكون للحياة في أذهانهم وعقولهم صور باقية يتحسسونها ويلتمسون منها الوحي الصادق الدقيق في أكثر الأحيان ، وقد عرف التاريخ عددا من الشعراء العظماء المكفوفين ، فمن شعراء العرب المكفوفين ، السائب بن فروخ المعروف بأبي العباس الأعمى ومنهم ، ربيعة بن ثابت المعروف بربيعة الرقى ، ومنهم أبو العلاء المعرى ، ومنهم الأعمى التطيلي الشاعر الوشاح الأندلسي ، ومنهم من كف بصره في آخر حياته ، مثل حسان بن ثابت ، ومعن بن أوس ، وصالحبن عبد القدوس وكل هؤلاء من عباقرة شعراء العربية ...

ومن الشعراء المكفوفين العالميين من غير العرب ، الشاعر الإنجليزي ملتن ، والشاعر اليوناني الذائع الشهرة هوميروس ، معجزة الشعراء المكفوفين.

وقد عبر لنا الصفدى عن العلاقة الوثيقة بين هذه الآفة والنبوغ فقال " ما وجد أعمى بليدا ، ولا يرى أعمى إلا وهو ذكي ... والسبب الذي أراه في ذلك ، أن ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه ، ولا يعود متشعبا بما يراه ، ونحن نرى الإنسان ، إذا أراد أن يتذكر شيئا نسيه أغمض عينيه وفكره ، فيقع على ما شرد من حافظته ، وفي المثل : احفظ من العميان ... .

ويقول بشار بن برد " إن عدم النظر يقوى ذكاء القلب ،

ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء ، فيتوفر حسه ،

وتنكو حافظته .

وكعادة البشر ، فالشعور بالنقص يدفع الإنسان إلى القيام بعملية تعويضية تخفف من الشعور بالنقص ، فيحاول أن يؤكد لنفسه وللجماعة أن العيب أو القصور لا وجود له . بل هو في كثير من الأحيان مصدر من مصادر العبقرية ، وانظر معى قول شاعرنا بشار :

عميت جنينا والذكاء من العمى .. فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلا ب وفاض ضياء العين للقلب رائدا .. بحفظ إذا ما ضيع الناس حصلاً

وهكذا فقد جعل شاعرنا من فقدان البصر قوة للبصيرة ، فنراه يلح على هذا المعنى في أكثر من موضع . والسمع عنده يحل محل العين في تقدير الجمال والإحساس به ، ولعلنا نلمح هذا النبوغ في الأبيات القادمة ، التي أعجبت صاحب كتاب طبقات الشعراء ، فذكر أن بشارا " يعد في الخطباء والبلغاء ، ولا أعرف أحدا من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة ، وأصفى من الزجاجة ، وأسلس على اللسان من الماء العذب -

أَمِنْ تَجَنِّى . حبيب راح غضبانا .. أصبحت في سكرات الموت سكرانا لا تعرف النوم من شوق إلى شجن .. كأنها لا ترى الناس أشجانا أود من لم لم ينلنى من موته من مودته ::. إلا سلامًا يردا يرد القلب حيرانا جديد يا قوم أنني يا قوم أذني لبعض الحى عاشقة .. والأذن تعشق .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا : يمن لا ترى تهذى ؟ فقلت لهم .. الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

وتعويض البصر بالبصيرة عند بشار لا يجعله يقف عند الأذن التي تعوض فقدان البصر ، بل يأتى القلب ليكون عوضا عن هذه الآفة فيقول :

فقال بعض الحديث يشغفني .. والقلب راء ما لا يرى البصر

ويقول : ن حب عبدَة معشر .:. قلوبهم فيها مخالفة قلـ يزهدنى فى حب عبدة معشر قلبي فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى .. فبالقلب لا بالعين يبصر نو اللب ونستطيع أن نذكر أن الحسرة الكامنة داخل نفس بشار على فقدانه لحاسة البصر ، هي التي دفعته كي يعزى نفسه بعدة أشياء تحل مكان هذه الحاسة فكان " عجيب الظن " تتوقد عنده ملكة الخيال ، وكان قوى الذاكرة " للعلم موئلا " أما ثالث هذه الأشياء فهو شعره ، كما في قوله :

قالت أكل فتاة أنت خادِعُها ... بشعرك ا .. بشعرك الساحر الخلاب للعرب .

وقد فاخر بشار أن له اثنى عشر ألف بيت عين . فلما قيل له : إن هذا لم يكن يدعيه أحد قط سواك قال : لى اثنتا عشرة ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت عين .

ولما كان فقد البصر يحرم الإنسان من التمتع بالحياة ، ولم لا فالعين كما يقولون ، مدار السحر ، ومبعث الفتنة ، ولأنها أنطق الجوارح ، وأقدرها على التعبير ، نجد شاعرنا بشار لم يستطع إخفاء

مشاعره الحزينة على هذا الفقد ، مهما كان عنده من تعويض ، إنها دواخل النفس المكلومة التى تحدثه فيعبر عن هذا بحسرته في قوله :

هجرت الآنسات وهن وهن عندى ...
كماء العين فقدهما سواء.

ويتفجر منه الحزن على عاهته التي حالت بينه وبين رؤية محبوبته " عبدة " التي تنعم بالبصر وذلك في قوله : - ولقد حسدت على عبيدة عينها .. عجبا خلقت لما أحب حسودا

لكن عقدة العمى هى التى دفعت بشارا إلى أن يقول أرق مقطوعاته وأجمل قصائده ، تلك القصائد التي شجعت كثيرا من النقاد على أن يجعلوه رأس المجددين ويعتبروه شيخهم .

ولا نبالغ إذا قلنا أن كثيرا من شعره جاء ثمرة عماه لو صح هذا التعبير وكان للعمى ثمار ، إنه يجهد نفسه فى التصور وأحيانا يجهد نفسه في المحاكاة لشعر سابق محاولا أن يستعين بفكرته قاصدا إلى أن يأتي بصورة أفضل منه .

غزل بشار :

يجمع غزله بين تيارين ، الأول منهما الذي يتوشح بمعاني العفة وطهارة البداوة وجزالة الأسلوب وحسن الجرس ، وكل ما يشمله هذا الفن القديم من تشبيب ونسيب وبكاء الديار ، فنراه يقترب في هذا التيار

من القدماء ، فيتحدث عن الأطلال والرسوم كما في قوله :

أنطار لعبدة دار ما تكلمنا الدار .. تلوح مغانيها كما لاح أب

أسائل أحجاراً ونؤيا مهدما .. وكيف يجيب القول نوى القول نوى وأحجار

أما التيار الثانى ، فنراه فيه يقترب من عمر بن أبي ربيعة وغيره من شعراء مكة والمدينة في الغزل المادى ، ومن الغزل العذرى عند جميل وأمثاله من النجديين والنازلين بوادي الحجاز ، وهو غزل تبدو فيه ملامح الحضارة الجديدة ، حتى تأتى المعاني والصور تنم عن أثر البيئة وما شاع فيها من ترف مادي وشعور رقيق حاد . هذا فضلا على سهولة الألفاظ وتجنب الغريب ، كما في قوله :

یا لیلتی تزداد نكرا .. من حب من أحببت بكرا

حوراء إن نظرت إلي .. ك سقتك بالعينين خمرا

وكان رجع حديثها .. قطع الرياض كُسِينَ زَهْراً

وكان تحت لسانها .. هاروت ينفث فيه سحر

اضلف أنواع حبة وتخال ما جمعت علي ..ه ثيابها ذهباً وعطرا

جنية إنسية .. أو بين ذاك أجل أمــرا

الرثاء :

ولم تؤثر لبشار مرات كثيرة ، وربما رجع ذلك إلى أنه كان منغمسا في اللهو ، وأن نفسه لم تكن مفطورة على الحزن ، و مع ذلك فإننا نرى الموت يهز نفسه هذا حين فقد ابنه محمدا ، وفيه يقول :
أصيب بنى حين أورق غصنه .. وألقى على الهم كل قريب وكان كريحان العروس تخاله ما نوى . بعد إشراق الغصون وطيب التربية وما نحن إلا كالخليط الذي مضى ... فرانس دهر مخطئ ومصيب نؤمل عيشاً في حياة ذميمة .. أضرت بأبدان لنا وقلوب

الحكمة عند بشار :

من العجب أن نرى هذا الشاعر يصطنع الحكمة التي تجرى على ألسنة الناس ، إعجاباً وتمثلاً واستشهاداً ، بينما هو يقول من الشعر ما يخدش حياء العذارى ، ويخجل من سماعه الرجال ويبدو أن طبيعة تكوينه المتناقضة الخلقية والخلقية والتى اجتمعت مع طبيعة العصر الذي جمع أخلاطا متباينة ، واشتاتاً متاوتة من البشر ، ساعدت على انتاج هذه الحكم .

ولك أن تعرف أن المجتمع الذى يعيش فيه هذا الشاعر ، اختلط فيه الحابل بالنابل ، وضاعت القيم وانحسرت ظلال الفضيلة ، فكانت البصرة سوقا للجوارى ومستودعاً للرقيق ومجمعاً للقيان ، وكانت دور القيانين مرتعا لطالبي اللذة ، ومنتجعا للباحثين عن المتع غير الحلال، وفي البصرة سوق للخلاعة ، ومنابت للزندقة حتى إن أكثر الخلعاء والزنادقة قد عاشوا في البصرة وارتبطوا بها من أمثال حماد عجرد ، وأبي الشمقمق ، وسلم الخاسر ، ووالبة بن الحباب ، وأبي نواس ، وصالح بن عبد القدوس ، وغيرهم ممن يستعصون على الحصر حتى إن المهدى العباسى جعل لهم جلادا اسمه عبد الجبار وسماه صاحب الزنادقة، مع أن هذا المجتمع ، مجتمع البصرة هو نفسه الذي كان مجتمعاً للعلماء والمفكرين والوعاظ ، والقصاص والنحاة واللغويين ، إن البصرة بلدة علماء زمانه ، الحسن البصرى ، وهي مسرح النشاط الفكرى للمعتزلة ، وعلى رأسهم واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد وإبراهيم النظام والجاحظ فيما بعد ، وأبو هذيل العلاف ، ومن النحاة سيويه ، ومن الرواة الأصمعي ، ومن الفقهاء هلال بن يحي المعروف بهلال الرأى .

لقد عاش بشار بن برد في هذا المجتمع الفكرى الرفيع ، بما فيه من تناقض ، وعده صاحب كتاب الأغانى من رجال المعتزلة ، وأصحاب الكلام الستة ، وهم : عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وبشار الأعمى ، وصالح بن عبد القدوس ، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وجرير بن حازم.

وقد لقى ثلاثة من هؤلاء مصيرهم قتلا بتهمة الانحراف : وهم : عبد الكريم بن أبى العوجاء الذى كان فاسق العقيدة ، وصالحابن عبد القدوس الذى ضرب بالسيف على رغم كبر سنه ، وشاعرنا بشار الذى جلد حتى مات ، وإن اختلف في أمر الأخيرين ، وهل ماتا على الزندقة أم أنها تهمة سياسية الأصل والمقصد

بور ومهما يكن من أمر هذا المجتمع فإن الحكمة كانت تجرى على لسان بشار بألوان مختلفة ، وبموضوعات متعددة ، مرتبطة بأحداث الحياة ، وصروف الزمان الزمان ، فيقول بشار معبرا عن طمع الناس: د أدرك الحاجة ممنوعة .. قد

وتولع النفس بما لا تنال

والهم ما أمسكته في الحشا .. داء وبعض الداء لا يُسْتَقال

فاحتمل الهم على عاتق .. إن لم تُساعدك العلندي الجلال

وانظر إلى حكمته التي يعبر بها عن التسامح بين الأصدقاء ويصوغها في إطار عذب الإيقاع كما في قوله :

یہ

إذا كنت في كل الأمور معاتباً .. صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدًا أوصل أخاك فإنه .. مُفَارِقُ ذَنْبِ مرة ومُجَانِبه يستحق إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن .. برأي نصيح أو نصيحة حازم

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى .. ظمِنتَ وأى الناس تصفو مشاربه

أما أعظم ما قدمه فى الحكمة فهي أبياته في الشورى التي جاء فيها :

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن.. برأى نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الثورى عليك غضاضة .. فإن الخوافي قوة للقوادم