لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (21%)

في هذا المستوى المتدنَّى من علوم العربية: قراءة وكتابة، ثم هو كلام يفضي بنا إلى قضيةٍ ذات خطر، وأتاك بكل عجيبة وغريبة، فإذا أخذ في كلام، أو أدار قلمه على بيان خلَّط واعتسف وأخطأ، لأنهما ملاك الأمر كله - وهما التفسير والحديث، لكنك قل أن تجد منهم من اعتنى بهذا العلم الجليل «رواية» من حيث حفظ المتون وإتقان الغريب. وهو الذي أورثهم العجز الذي يأخذ بألسنتهم وأقلامهم، يبغض إلى طالب العربية «الحفظ» ويزهده فيه، ونقرأ لمسؤول كبير عن التعليم في مصر قوله: «ولا بد أن يدرك الطالب أن زمن الحفظ والصمامين قد انتهى». وذلك لأن تراثنا كله قائم على الرواية والدراية، ولذلك قالوا: «الرواية من العشرين والدراية من الأربعين». والجوهري صاحب «الصَّحاح» يقول في مقدمته: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة = بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية». فروي عن الأصمعي أنه قال: «كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم». ويريد أنه حافظه ومستحضره في كل وقت وعلى كل حال. وقال محمد بن يسير - من شعراء الدولة العباسية الأولى:
فجمعك للكتب لا ينفع
حفظ اللغات علينا
فرض كفرض الصلاة
فليس يُضبط دين
وحسبك بقراء القرآن وعلماء القراءات، وقد قيل: - الحفظ الإتقان - وذلك ما رواه أيوب بن المتوكل قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، ولا يكون إمامًا في العلم من روى كل ما سمع، حفظ كلام العرب:
ويقول ابن خلدون: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم، من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم». ويقول أيضًا: «وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، وخالط عبارتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم». وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع. وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع، التي استنبطها أهل صناعة اللسان، وهذا الكلام الأخير هو الذي ينتهي إليه كلام الدكتور الربيعي، فإن «معرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان» هي «النظريات والمناهج» في أيامنا هذه. يقول أبو الفتح عثمان بن جني: «قال لنا أبو علي - الفارسي - يومًا قال لنا أبو بكر - ابن السراج -: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني لبلادهم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئًا عن معاني مفرداته فضلًا عن تراكيبه، وكل ذلك لضبط القاعدة وتثبيت الأحكام. ومع المنظومات المطولة في النحو والصرف كان هناك البيتان والثلاثة والأربعة لضبط القاعدة وترسيخها. بأَفْعُلٍ ثم أَفْعَالٍ وأَفْعِلَةٍ
في السُّفنِ الشُّهُبِ البُغاةُ صورٌ
صحبي سيبتدئون زجري طُلَّبًا
و «سكت فحثه شخص» لضبط الحروف المهموسة. أنه قال: «يا رسول الله، وهنا انفرجت أسارير ابني، ولكنه ينبغي أن يكون مؤسسًا على نصوص محفوظة للتلميذ بها أنس ومعرفة سابقة. وأكتفي هنا ببعض الأمثلة:
أمثلة من القرآن:
وإنما هو بمعنى عظم، وفي لغة من باب تعب، فيضمون ياء المضارعة، والأفصح والأكثر فتحها، ولم تأت في كلام فصيح، ﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [هود: 84]،


النص الأصلي

ن تلقين المناهج لطلاب العلم الذين يدرسون في الجامعات لدينا يجعلهم يتحدثون عن «أعوص» المناهج الغربية الأجنبية كأنهم أصحابها، فإذا طلبت إليهم أن يقرأوا (مجرد قراءة) نصًا إبداعيًّا باللغة التي يُعَدُّون للتخصص فيها (عربية أو أجنبية) لم يقيموا النص قراءة، فضلًا عن التعمق في فهمه بالتحليل والتركيب والتفكيك».


وهذا كلامُ حكيمٍ (بالتنوين والإضافة)، وهو أيضًا كلام ظاهر الوضاءة والحسن والتيقظ، لأنه يلخص المأساة التي نعيشها منذ نحو ثلاثين عامًا، في هذا المستوى المتدنَّى من علوم العربية: قراءة وكتابة، ثم هو كلام يفضي بنا إلى قضيةٍ ذات خطر، ليس في الأدب وحده، بل إن هذا الخطر يمتد ليشمل مختلف فروع التراث العربي، وأعني تلك الفجوة الواسعة بين النظرية والتطبيق، أو بين المحفوظ والمفوظ.


فأنت قد تصادق شخصًا دارسًا للأدب: تاريخه ومذاهبه ومدراسه، وإذا فاتشته في قضية من قضاياه النظرية تلك، صال وجال، ولاك ومضغ، وخلط عربيًّا بعجمي، وأتاك بكل عجيبة وغريبة، فإذا أخذته إلى نصٍّ مما كتبه السابقون الأولون، وأردته على شيء من التفسير أو التحليل والتذوق حارَ وأبلس، «وصار لسانه قطعة لحم خرساء تدور في جوبة الحنك» كما يقول شيخنا محمود محمد شاكر - في سياق آخر.


ومثل ذلك يقال في نحويّ خالطتْ بشاشةُ النحو قلبه، وخبر سواده وبياضه (زعم)، أسهر فيه ليله، وأدأب له نهاره، حتى ظن أنه ملك ناصيته: قواعد وخلافيات ونقدًا، فإذا أخذ في كلام، أو أدار قلمه على بيان خلَّط واعتسف وأخطأ، وما أتي هذا النحوي وذلك الأديب إلا من قبيل الإغراق في النظريات والمناهج والقواعد، واطراح الحفظ، وهجر النصوص، وإهمال التطبيق.


وقد سرى هذا الداء الخبيث إلى علمين جليلين في تراثنا - وما كان ينبغي أن يسرى إليهما، لأنهما ملاك الأمر كله - وهما التفسير والحديث، ففي ميدان التفسير قد تصادف دارسًا يحدثك بإفاضة وإحاطة عن مدارس التفسير واتجاهاته، من تفسير بالمأثور إلى تفسير بالرأي، والتفسير الموضوعي للقرآن، والتفسير الفقهي، والتفسير الإشاري الصوفي، إلى آخر هذه القائمة، فإذا طلبت منه تفسير شيء من كتاب الله لم تظفر منه بشيء إلا شيئًا لا يُعبأ به = وقد اختفت تلك الصور الجليلة النبيلة، حين كنت تستوقف شيخًا فاضلًا عقب صلاة الجمعة، أو في طريق عام، فتسأله عن آية من كتاب الله فإذا أنت أمام علم حاضر وإجابة شافية.


وقل مثل هذا في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اشتغل به كثير من طلبة العلم الآن: دراسة نظرية، تعنى بتدوينه وعلومه وتصانيفه من الصحاح والمسانيد = إلى غير ذلك مما كان يعرف قديمًا بعلم «الدراية»، لكنك قل أن تجد منهم من اعتنى بهذا العلم الجليل «رواية» من حيث حفظ المتون وإتقان الغريب.


وقد أدى هذا الأمر إلى مصيبة كبرى اجتاحت بعض الشباب المسلم المحب لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومعرفة السنة المطهرة، فقد اتجه كثير منهم في هذه الأيام إلى طلب معرفة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتجريح الرواة وتعديلهم - وهذا بحر لا ساحل له، ولا يقوى عليه إلا أولو العزم من الرجال - وقد صرفوا في ذلك جهودًا كثيرة كان الأولى أن تصرف إلى قراءة صحيحي الإمامين الجليلين: البخاري ومسلم، وبقية الكتب الستة التي هي دواوين السنة، ثم بعض المسانيد الأخرى، قراءة فهم وبحث وإمعان، فإذا أتقنوا ذلك كان لهم أن يبحثوا في الضعيف والموضوع، وقد بلغت السفاهة ببعضهم أن يقول عن حديث رواه الإمام الجليل أبو عبد الله البخاري: «صحَّحه فلان» يشير إلى أحد العلماء المعاصرين. أفبعد إخراج البخاري للحديث، يقال: صحَّحه فلان؟


إن الإسراف في النظريات والمناهج هو الذي أضعف إحساس أبنائنا بالعربية الأولى، وهو الذي أورثهم العجز الذي يأخذ بألسنتهم وأقلامهم، فلا يستطيعون قولًا ولا بيانًا.


على أن هذا الذي ذكره الدكتور الربيعي، والذي ذكرته أنا، يرجع إلى أننا أهملنا جوانب ضرورية في تعلم العربية. ومن هذه الجوانب التي أهملت جانب النصوص أو الحفظ = فإنه يشيع في أيامنا هذه كلام عجيب، يبغض إلى طالب العربية «الحفظ» ويزهده فيه، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل «الحفظ» مقابل «الفهم» وأن الطالب الذي قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل «الحفظ» مقابل «الفهم» وأن الطالب الذي يحفظ «صمام» وغير قادر على الفهم والاستيعاب، ونقرأ لمسؤول كبير عن التعليم في مصر قوله: «ولا بد أن يدرك الطالب أن زمن الحفظ والصمامين قد انتهى».


تراثنا قائم على الرواية:


وهذا الكلام إن صدق على العلوم المعملية والتطبيقية، لا يصدق على علوم العربية، من أدب وبلاغة ولغة ونحو، وذلك لأن تراثنا كله قائم على الرواية والدراية، والرواية مقدمة، ولذلك قالوا: «الرواية من العشرين والدراية من الأربعين». والجوهري صاحب «الصَّحاح» يقول في مقدمته: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة = بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية».


وقد وصل إلينا تراثنا في أول أمره عن طريق الحفظ والرواية، فقد وعته صدور الرواة والنقلة، وسلَّمته أجيال إلى أجيال، حتى أظل زمان التدوين والكتابة، فالحفظ هو الأساس، وقد حثوا عليه ومدحوا أهله، فروي عن الأصمعي أنه قال: «كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم». ويريد أنه حافظه ومستحضره في كل وقت وعلى كل حال. وقال محمد بن يسير - من شعراء الدولة العباسية الأولى:


أأشهد بالجهل في مجلس
وعلمي في البيت مستودع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا
فجمعك للكتب لا ينفع


وقال بعض أهل العلم:


حفظ اللغات علينا
فرض كفرض الصلاة
فليس يُضبط دين
إلا بحفظ اللغات


ولولا الحفظ في تاريخنا التراثي لما أمكن لهذه الطائفة من عباقرة العربية العميان أن يسجلوا لنا هذا القدر الضخم من المعارف الإنسانية، كالذي نقرأه عند أبي العلاء المعري - وأبو العلاء فوق شاعريته صاحب لغة ونحو وصرف وعروض -، وابن سيده صاحب المحكم والمخصص، والإمام الترمذي صاحب السنن، وغيرهم كثير، مما ذكره صلاح الدين الصفدي في كتابه الطريف «نَكْت الهِمْيان في نُكَت العميان». وحسبك بقراء القرآن وعلماء القراءات، كالشاطبي صاحب المنظومة الشهيرة في القراءات السبع المسمَّاة: «حرز الأماني ووجه التهاني». وفي هذا العصر الحديث يأتي الدكتور طه حسين - رحمه الله - على رأس أفذاذ العميان المعاصرين.


إن طبيعة تعلم العربية تقتضي حفظ كثير من النصوص لتثبيت القواعد والتمكين للأبنية والتراكيب في ذهن طالب العلم. وقد قيل: - الحفظ الإتقان - وذلك ما رواه أيوب بن المتوكل قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علمه وتواضع له، وإذا لقي من هو مثله في العلم ذاكره ودارسه.


وقال: لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، ولا يكون إمامًا في العلم من روى كل ما سمع، ولا يكون إمامًا في العلم من روى عن كل أحد، والحفظ الإتقان».


حفظ كلام العرب:


ويقول ابن خلدون: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم، من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضًا في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم».


ويقول أيضًا: «وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم، وخالط عبارتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم».


ويقول أيضًا عن هذه الملكة التي تحصل بالحفظ والدُّربة: « = فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلَّة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابًا وبلاغة أمر طبيعي، ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع، وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع. وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع، والتفطن لخواص تراكيبه = وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك، التي استنبطها أهل صناعة اللسان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها».


وهذا الكلام الأخير هو الذي ينتهي إليه كلام الدكتور الربيعي، وهو الذي أدرت عليه مقالتي هذه. فإن «معرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان» هي «النظريات والمناهج» في أيامنا هذه. فكما أن الوقوف عند «معرفة القوانين العلمية» هذه لا يصنع ملكة أدبية لغوية، كذلك الاكتفاء «بالنظريات والمناهج» لا يكسب هذه الملكة.


ويقرر ابن خلدون أيضًا: «أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ».


ويقول القاضي عبد الرحيم بن علي بن شيث الإسنائي القوصي، في سياق حديثه عن أدوات الكاتب وعدته: «والحفظ في ذلك ملاك الأمر، فإنه يؤهل ويدرب، ويسهل المطلوب ويقرَّب».


هل الحفظ مطلوب؟!


هذا وقد وقعت على نص خطير جدًّا، هو خير رد وأوفاه على هؤلاء الذين يشترطون الحفظ: الفهم، ويقولون: لا تطلبوا من الصبي حفظ ما لا يفهم، فإن هذا غير مُجدٍ في العملية التعليمية. يقول أبو الفتح عثمان بن جني: «قال لنا أبو علي - الفارسي - يومًا قال لنا أبو بكر - ابن السراج -: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه».


وهذا كلام صحيح، يصدِّقه الواقع وتؤكده التجربة، فإنَّ الإلحاح بالحفظ الدائم المستمر مما يمهد للفهم لا محالة. وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني لبلادهم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئًا عن معاني مفرداته فضلًا عن تراكيبه، ولكنهم بمرور الأيام يدركون ويفهمون. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى في اكتساب وإدراك المعارف. ونحن الذين حفظنا القرآن صغارًا نعرف هذا من أنفسنا، فما زلنا نذكر ألفاظ القرآن وتراكيبه الغريبة علينا في مطالع أيامنا، ثم إضاءة معانيه في نفوسنا بعد ذلك بالتدريج، وإن كنا لا ندرك بالضبط متى تم هذا، كما لا يدرك الناظر في السماء انسلاخ النهار من الليل إلا حين يغشاه نوره ويغمره سناه.


وليس أدل على أهمية «الحفظ» في العملية التعليمية في تراثنا، من هذا القدر الهائل من المنظومات في اللغة والنحو والفرائض (المواريث)، والقراءات، وعلوم الحديث والأصول والبلاغة والمنطق والعروض والميقات والطب، وكل ذلك لضبط القاعدة وتثبيت الأحكام. وما أمر «ألفيه ابن مالك» ببعيد!


ومع المنظومات المطولة في النحو والصرف كان هناك البيتان والثلاثة والأربعة لضبط القاعدة وترسيخها. فهذا جمع التكسير ينقسم إلى جموع قلة وإلى جموع كثرة، وللأول أربعة أوزان، وللثاني سبعة عشر وزنًا، ولصعوبة حصر هذه الأوزان صاغها بعضهم شعرًا ليسهل حفظها، فجموع القلة جمعت في قوله:


بأَفْعُلٍ ثم أَفْعَالٍ وأَفْعِلَةٍ
وفِعْلَةٍ يُعرَفُ الأدْنَى مِنَ العدَدِ
كأَفْلُسٍ وكأَثْوابٍ وأَرْغِفَةٍ
وغِلْمَةٍ فاحْفظَنَّها حفْظَ مُجتهدِ


وجموعُ الكثرة جُمعت في قولِه:


في السُّفنِ الشُّهُبِ البُغاةُ صورٌ
مَرْضَى القُلوبِ والبحارِ عِبَرٌ
غِلمانُهم للأشقياءِ عُمَله
قُطَّاع قضبانٍ لأجل الفِيلة
والعقلاءُ شُرُدٌ ومُنتهى
جُموعهِم في السَّبعِ والعشْرِ انتهى


وترتيب الخليل بن أحمد لمواد المعجم نظمها بعضهم في قوله:


عن حزن هجر خريدة غناجة
قلبي كواه جوى شديد ضرار
صحبي سيبتدئون زجري طُلَّبًا
دهشي تطلب ظالم ذي ثار
رغمًا لذي نصحي فؤادي بالهوى
متلهب وذوي الملام يماري


وواضح أن المراد الحروف الأولى من كلمات هذا النظم هكذا: ع ح هـ خ غ = الخ.


هذا إلى الضوابط النثرية، مثل «سألتمونيها» لضبط حروف الزيادة، و «سكت فحثه شخص» لضبط الحروف المهموسة. فبهذه الضوابط الشعرية والنثرية تعلمنا الأدب واللغة والنحو، وتعلم من قبلنا، لأننا سلمنا ولأنهم سلموا من زلازل التطوير وأعاصير التيسير. وإنه لواجب علينا إذا أردنا الخير لهذا الجيل أن نحيي فيهم مهارات الحفظ، ونقدم لهم قواعد العربية من خلال النصوص التراثية الموثقة.


ولقد جاءني ابني بكتاب القراءة والنصوص الأدبية للصف الثالث الإعدادي للعام الدراسي 1990 م - 1991 م، وفي ص 13 منه جاء هذا السؤال: (اختر الصواب مما بين كل قوسين: مقابل غضب (رضا - سرور - سكون) وطلب مني ابني الجواب الصحيح، فقلت له (رضا) وقال هو (سرور) وأصر على رأيه، لأنه لم يستسغ أن يكون «الرضا» مقابل الغضب ولأن أستاذه قال ذلك أيضًا والأستاذ لا يخطئ ولم يقتنع حتى ذكرتُ له حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي أخرجه أبو داود في سننه 3/ 318، والحاكم في مستدركه 1/ 105، أنه قال: «يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم»، قلت: عند الغضب وعند الرضا؟ قال: نعم إنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقًا».


وهنا انفرجت أسارير ابني، ونظر إليّ (نظرة الرضا لا الغضب).


فهذا السؤال الذي جاء في ذلك الكتاب المدرسي سؤال جيد، لأنه يزيد المحصول اللغوي عند التلميذ لا محالة. ولكنه ينبغي أن يكون مؤسسًا على نصوص محفوظة للتلميذ بها أنس ومعرفة سابقة. وأنَّى لتلميذ في هذه السن أن يختار بين هذه الكلمات القريبة المعاني دون نص يشهد وحفظ يؤيد، فالحفظ وسيلة ضبط وإتقان ينبغي أن تراعى من أول درجة من درجات سلم التعليم، ولا تشفقوا على الصغار والناشئة، فإن فيهم خيرًا كثيرًا، وانظروا إلى هؤلاء الصغار الذين يظهرون على شاشة التلفزيون من أعضاء «المسلم الصغير» وتأملوا حلاوة الأداء وسلامة مخارج الحروف، ثم حفظ نصوص القرآن والحديث عن ظهر قلب. ومن وراء ذلك كله فالحفظ عاصم من التخليط في أبنية الأسماء والأفعال.


وإذا كان القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فإنه أيضًا كتاب عربية وبيان، ويجب أشد الوجوب أن نشد أبناءنا إليه في كل مراحل تعليم العربية. وأن يكون اختيارنا لآياته في مقرر (القراءة والنصوص) قائمًا على تلك الآيات التي تنمي الحس اللغوي والنحوي عند التلاميذ، ولا سيما تلك الآيات التي تأتي فيها الأفعال مضبوطة على وجهها الصحيح، وقد لاحظت أن كثيرًا من أبنية الأفعال التي نهطئ نحن الكبار أيضًا في ضبطها، أو ننطقها على وجه من الوجوه الضعيفة غير الفصيحة، جاءت على وجهها الصحيح في الكتاب العزيز، وأكتفي هنا ببعض الأمثلة:


أمثلة من القرآن:


يقول الناس في كلامهم: «كبر الولد يكبر» فيضمون الباء في الماضي والمستقبل، والصواب بالكسر في الماضي، وبالفتح في المستقبل: «كبرِ يكبَر» وهذا يكون في السن والعمر، يقال: كبر الرجل يكبر كبرًا فهو كبير، أي طعن في السن، ومنه قوله تعالى عن أموال اليتامى والنهي عن أكلها: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [النساء: 6]، أما «كبر يكبر» بالضم في الحالتين، فليس من السن، وإنما هو بمعنى عظم، ضد صغر، وشواهده في الكتاب العزيز كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]، وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ [الإسراء: 50، 51]. ويقولون: نقمت عليه كذا وكذا - أي عبته وكرهته - فيكسرون القاف في «نقمت» والأفصح الفتح: نقمت، وهذا الفعل من باب ضرب، وفي لغة من باب تعب، والأولى هي الأفصح، قال ابن السكيت: «وقد نقمت عليه أنقم، والكسر لغة - أي في الماضي - والفتح الكلام»، قلت: وبه جاء التنزيل، قال تعالى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [التوبة: 74]، وقال تقدست أسماؤه: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]، وقال تقدَّست أسماؤه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا ﴾ [المائدة: 59].


ويقولون: فلان ينقصني حقي، وينقص في الميزان، فيضمون ياء المضارعة، والأفصح والأكثر فتحها، ينقصني، وينقص، وهذا الفعل ثلاثي: يستوي فيه اللازم والمتعدي، يقال: نقض الشيء، نقصته أنا، ونقصه هو. وفي لغة: أنقصه ونقَّصه، معدَّى بالهمزة والتضعيف، لكنها لغة ضعيفة، ولم تأت في كلام فصيح، وشواهد ذلك من القرآن المتلو المحفوظ، ﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [هود: 84]، وقوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ [الرعد: 41]، وقوله: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا... ﴾ [التوبة: 4]. وقد جاء اسم المفعول من الثلاثي في قوله عز وجل: ﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ﴾ [هود: 109].


ويقولون: حرص فلان على كذا، وحرصت على كذا، فيكسرون الراء، والأفصح فتحها، حرص وحرصت، وبالفتح جاء التنزيل، قال سبحانه وبحمده: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال عزَّ وجلّ: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ [النساء: 129].


ويقولون: صلح حالي، وصلح أمري، فيضمون اللام، والأفصح فتحها: صلَح، قال تعالى: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [الرعد: 23]، وقال تقدَّست أسماؤه: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر: 8]، ومن شواهد ذلك في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم من حديثه الطويل: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله»، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر فتح العين في «صلح»: «وحكى الفراء الضم في ماضي صلح». وهذا بالفعل من باب قعد: صلح يصلح، وذكر ابن دريد أن ضم اللام في الماضي ليس بثبت.


وهكذا تكون النصوص التراثية - وأعلاها كلام ربنا عز وجل - وسيلة ضبط وإتقان، إذا اعتنينا بها قراءة وحفظًا.


ويبقى أمر لا بد من إثارته، لأنه يتصل بموضوعنا هذا بنسب وثيق، وإن كان في الظاهر دخيلًا عليه وبعيدًا عنه، ولأنه أيضًا يتصل بالثقافة العامة وتنمية وجدان الأمة: وذلك أنك كنت تجد - في الزمان القريب - من أوساط الناس وعوامهم من يأنس للكلام الفصيح ويرتاح له، ويحفظ منه الشيء بعد الشيء، وذلك من خلال ما يسمعونه من خطيب الجمعة، العالم المتمكن، من نصوص القرآن العزيز والحديث الشريف، والأدعية المأثورة. أما الآن فتكاد خطب الجمعة - ولا سيما على ألسنة الشبان المتحمسين - تتحول إلى ثرثرة وكلام عام مبهم عن «مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم»، و «الإسلام في خطر» و «الإسلام هو الحل» وهذا وهذان مما يصرف عن الاستشهاد بالقرآن والحديث وكلام العرب، وإذا أتاك شيء من ذلك فهو يأتيك في معظمه ملحونًا ومزالًا عن جهته.


وكل هذا إنما جاء من مقولات مضللة، وهي أن «خطب الجمعة لا بد أن تتفاعل مع الأحداث المعاصرة، وأن تشارك في صنع القرار» = إلى آخر ما تعرف.


وليتنا نعود إلى خطبة الجمعة المكتوبة على الورق الأصفر، والتي كان الخطيب يدعو في آخرها للسلطان بالنصر - ونستغفر الله مما سخرنا من هذه الخطب - فمن خلال هذه الخطب المكتوبة حفظنا كثيرًا من النصوص، وضبطنا كثيرًا من أبنية الأسماء والأفعال. وربنا المستعان على ما يصفون.


المصدر: مجلة "الهلال"، فبراير 1991 م


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

تغير السمكة خط ...

تغير السمكة خط سيرها ولا اتجاهها ابدا طوال تلك الليلة وأمسى الطقس باردا غياب الشمس فاخذ الكيس الذي ي...

بموجب هذا القان...

بموجب هذا القانون فانّه يحظر على أصحاب المصالح التّجارية عرض وبيع المخبوزات المخ ّمرة على المأل في م...

Ibri Ibri or Wi...

Ibri Ibri or Wilayat Ibri is a big town in the Al-Zahirah region in the northwest part of Sultanate ...

في اليوم الخامس...

في اليوم الخامس من تعارف الطيار والأمير الصغير تستمر الحوارات بينهم، ليحاول الطيار معرفة شيء جديد عن...

المبحث الأو : ل...

المبحث الأو : ل الشخص الطبيعي التاجر أَ ْ ل َ َ ح ت ق )1 )المادة 215. ق ت ْ ال لا يزال ّذِ بالشخص...

(CAF) - La 4e é...

(CAF) - La 4e édition du Cyber Africa Forum (CAF) se tiendra les 15 & 16 avril 2024 à Abidjan, en Cô...

۲) غير أن مدة ع...

۲) غير أن مدة عضوية ثلث الأعضاء المختارين في الانتخاب الأول تنتهي بنهاية الدورة العادية الأولى للمؤ...

صباح الخير، صبا...

صباح الخير، صباح الخير، كان علي أن أحاول، أود أن أشكركم جميعًا وخاصة منظمي هذا الحدث، فهو مثير للإعج...

ويتشعب التفسير ...

ويتشعب التفسير في اكتناه العلاقة بين ترنيم القصيدة وإنشاد اللازمة، فيتناول موضوع اختلاف اللغة بين ال...

Patients’ recru...

Patients’ recruitment and data collection Patients were recruited through the nationwide German SCD ...

تذكير بأسس وأهد...

تذكير بأسس وأهداف مخطط المغرب الأخضر مخطط المغرب الأخضر يعتبر مبادرة هامة لتحقيق التنمية الزراعية وا...

ومن بين أهم روا...

ومن بين أهم رواد هذه المدرسة (1989Garter (الذي يقر بعدم كفاية مدخل السمات لتوصيف المقاول، واقترح درا...