لخّصلي

❑ يقوم السؤال الفلسفي السقراطي على أساس استبطان النفس، وفحص
أفكار المخاطب من خالل استفزازه باألسئلة وإثارة دهشته من جهة،
وإرغامه على اتخاذ مواقف جديدة تجاه أفكاره ومعتقداته من جهة أخرى.
❑ يسمح السؤال الفلسفي عند سقراط بخلق مسافة نقدية بين الشخص
وأفكاره، يكون الغرض منها اختبار الوعي باألشياء والموضوعات،
وتمحيص الفكر وإعادة بناء المعرفة من خالل الرجوع إلى الذات، ذلك
أن طبيعة الذات اإلنسانية هي التي تحجب الحقائق أو تحول دون
2 بلوغها، لذا كان شعار سقراط: »أيها اإلنسان: اعرف نفسك بنفسك
»
❑ يستند السؤال السقراطي إلى تمثل خاص للحقيقة باعتبارها كامنة في
أعماق الذات اإلنسانية، لهذا ليست العبرة بنقل األفكار أو تلقينها، وإنما
في سؤال أنفسنا باستمرار من أجل اك تشاف المعرفة وبلوغ الفضيلة. ولقد
ورد في محاورة ثياتيتوس )Théétète )على لسان سقراط ما يلي:
»إني إذ أوجه األسئلة للغير فإني ال أقدم رأيي الخاص في أي موضوع،
ألني ال أمتلك الحكمة، وإليك السبب في ذلك؛ إن توليد اآلخرين هو
فرض علي من اإلله، أما قدرة اإلنجاب فقد سلبت إياها، إذ لست حكيما
على أي نحو كان، وليس لدي أي اكتشاف أعده مولودا لنفسي، غير أن
من بين من يتعاملون معي ألول مرة من يبدو أنهم ال يعرفون شيئا على
اإلطالق)...(إنهم في الواقع لم يتعلموا مني شيئا، فالحقائق العديدة
3 الجميلة التي أخرجوها إلى النور إنما تم لهم اكتشافها في أنفسهم
. »
❑ تكمن أهمية السؤال السقراطي في اتجاهه إلى إيقاظ النفس وخلخلة
تصوراتها، لتمكينها من الوعي بذاتها، من خالل تحقيق تطابق الشخص
مع فكره؛ فقد كان سقراط يشبه نفسه بالحشرة التي تلسع وتلدغ للداللة
على الطابع الثوري لممارسته الفلسفية، لذا يمكن القول: إن السؤال
الفلسفي السق ارطي يتعارض مع سكون الفكر، ألنه يتضمن إثارة خاصة
للتعقل وتحصيل المعرفة من داخل النفس
❑ يرى الفيلسوف أرسطو )322-384 ق. م( أن سقراط عكف على دراسة
الموضوعات األخالقية، وفي هذا المجال كان يعنى بالكليات، وكان أول
من أقام العلم على التعريفات. لهذا ارتبطت ممارسة سقراط بسؤال القيم
داخل فضاء الدولة المدينة؛ حيث دأب فيلسوف أثينا على تحديد
المفاهيم الكلية أو البحث عن الحد الكلي لألشياء، مثل: ما العدالة؟ ما
الفضيلة؟ ما الجمال؟ ما التقوى؟ ما الصداقة؟
❑ يهتم السؤال السقراطي بفحص واختبار المعاني التقليدية الملتصقة باللغة
والرأي العام، وذلك قصد تجاوزها وتأسيس رؤية عقلية تخلص النفس
من اآلراء واالعتقادات الفاسدة، وبذلك يمكن اعتبار البحث الفلسفي
السقراطي مناهضا لطريقة السفسطائيين القائمة أحيانا على التالعب
باأللفاظ، وإبهام المعاني، وتلبيس األفكار، واستعمال المغالطات،
باإلضافة إلى إنكار الحقيقة أو االعتقاد بنسبيتها كما يستفاد من قولة
بروتاغوراس: »اإلنسان مقياس كل شيء«.
❑ يتيح الحوار السقراطي مسألة التقابل بين األفكار وتضاربها، وكذا الوقوع
في التناقض والحيرة بين ثنايا األسئلة المتشعبة، ما يفضي في أفضل
األحوال إلى االعتراف بالجهل، الذي يعد خاصية أساسية تميز
الفيلسوف الحق، وتدفعه إلى مزيد من البحث والتأمل:»الشيء الذي
أعرف هو أني ال أعرف شيئا«.
❑ تعطي الممارسة الفلسفية السقراطية أولوية للسؤال على الجواب القطعي
أو اليقين، بل إن السؤال يصبح أداة إلعادة بناء الحقيقة واليقين، وهذا
ما يجعل السؤال السقراطي سؤاال نقديا وجدليا، يروم تصحيح الفكر
وكشف أشكال الزيف أو الوهم الذي يحول بين الشخص وذاته
بخصوص إدراك الطبيعة الحقيقية لألشياء والموضوعات.
❑ يرتبط السؤال الفلسفي عند سقراط بمنهج يعرف بالمنهج التوليدي،
وهو منهج يقوم في أساسه على دعامتين: األولى: التهكم أو السخرية
Ironie :وهي مرحلة سلبية في الحوار السقراطي، تقوم على تشعيب
األسئلة وتفريعها، مع الحرص على إرباك المحاور وإيقاعه في التناقض
في أجوبته، وهذا ما يؤدي إلى إرغامه في النهاية على تر ك ادعائه
امتالك الحقيقة من خالل وقوفه على نسبية معارفه وأفكاره. والثانية:
التوليد Maïeutique :وهي مرحلة إيجابية في الحوار السقراطي
غايتها تأسيس المعرفة، و حمل المخاطب على اكتشاف الحقيقة بنفسه
عن طريق توليد األفكار، أي توليد العقل لحقائق موجودة فيه بالقوة دون
وعي بها.
❑ إذا كانت الممارسة الفلسفية عند سقراط تهتم بالبحث عن الماهيات
باعتبارها موضوع المعرفة الحقيقة، فإن هذه الماهيات العقلية أو
المفاهيم ليست أشياء، بل هي أفكار، كما أنها ليست أفكارا إنسانية
موجودة في عقل جزئي، إن لها حقيقة موضوعية تستمدها من ذاتها،
بحيث تفرض نفسها باعتبارها معارف عقلية يقينية تتعالى عن اإلدراكات
الحسية، لذا يمكن القول: إن المنهج السقراطي جعل المفاهيم قاعدة للفكر وتنظيما ألفعاله، بل إن تعريف المفاهيم وتحليلها يعتبر نقطة
بداية الفلسفة عند سقراط.
❑ إذا كان السؤال السقراطي سؤاال عن الماهية، من أجل رسم الحدود
وتمييز األشياء من حيث جنسها ونوعها، فإن التعليم السفسطائي ينفر
من وضع هذه الحدود والتعريفات، ما دامت تتعارض مع رغبة
السفسطائي الذي يستفيد من خصائص اللغة، المتمثلة في: االستعارة،
والمجاز، واشتراك األلفاظ، وتسيب الدالالت والمعاني؛ حيث يتيح ذلك
إمكانية المراوغة والمغالطة باستعمال الحيل الجدلية.
❑ إن ارتكاز التفلسف السقراطي على طلب التعريف الكلي لألشياء، من
خالل تحديد الماهيات الثابتة، يدل على أن سقراط يقر بأن وراء
المظاهر الحسية والعوارض المحسوسة توجد حقائق جوهرية يدركها
العقل، وهي بمثابة كليات مفارقة ال وجود لها في العالم الخارجي،
وبذلك يبقى المفهوم الكلي مطلقا ينتمي إلى مملكة الحقائق الميتافزيقية.
بل إن العقل نفسه قطعة من العالم الميتافزيقي، لهذا يرى الفيلسوف
األلماني نيتشه أن سق ارط نقل هذا الحقد على المحسوس إلى أفالطون،
فغدا التحرر من الحواس قدر اإلمكان واجبا أخالقيا)العالم
المحسوس/العالم المعقول(.
❑ يفضي التأمل في خصائص السؤال الفلسفي السقراطي إلى إدراك حقيقة
التفلسف عند فيلسوف أثينا، باعتباره اهتماما بالذات على حد تعبير
ميشيل فوكو. ويرى بيير هادو)1922-2010م( -من ناحية أخرى أن فلسفة سقراط تتضمن تمرينا روحيا spirituel Exercice بواسطة
فن الحوار والتوليد ؛ أي أنها دعوة إلى طريقة في العيش وعالج النفس،
من خالل الرجو ع إلى الذات وإعادة تشكيلها ، قصد تحويلها واالرتقاء بها
في مراتب المعرفة والفضيلة.
❑ يتجه المنهج الفلسفي السقراطي إلى العناية بالنفس باعتبارها جوهر
اإلنسان الذي ينبغي أن يقدم على الجسد، وبذلك تكون حكمة سق ارط
عبارة عن طريقة لل حياة، ألنها ال تفصل بين الفكر والحياة أو بين
المعرفة والفضيلة وفعل الخير، وإنما تربط بينهما على نحو فعال.
❑ يستفاد أن الغاية األخالقية تعد موجها أساسيا للتفلسف السقراطي الذي
يقرر أن المعرفة فضيلة، والفضيلة معرفة، وذلك على مستوى النفس في
مقابل الجسد، وفي هذا السياق يروي اكزينوفان في مذكراته أن سقراط
يعتبر النفس سيدة البدن، وأنه من الواجب أن تحكمه كما يحكم العقل
اإللهي العالم.
❑ تنهض الفلسفة األفالطونية على أساس مجموعة من المفاهيم والثنائيات
التي تتخلل أفكار سقراط، ومنها نذكر: النفس/الجسد؛ الحد الكلي أو
الكليات)=المثل عند أفالطون(؛ الرأي، الظن/العلم، الحقيقة؛ الحوار
والجدل والتوليد)=الديالكتيك، المعرفة تذكر عند أفالطون(؛ الفيلسوف
والمدينة)=الحاكم الفيلسوف والمدينة الفاضلة عند أفالطون(.
❑ تقدم محاورة " الدفاع" صورة لفكر وحياة الفيلسوف في عالقته الجدلية
بالواقع والسياسة، كما تدل لحظات إعدام سقراط على مجمو عة من المعاني الفلسفية التي تبرز التزام الفيلسوف بقيم المسؤولية واحترام
القانون والدفاع عن العدالة؛ ويمكن أن نلحظ ذلك في األقوال التالية
المقتبسة من محاورة الدفاع:
-»أقول حتى إذا برأتموني، وقلتم بخصوص هذا: " يا سقراط، إننا لن
نطيع اليوم أنيتوس و سنبرئك، ولكن على شرط أال تعود إلى شغل وقتك
بذلك البحث والتفلسف، أما إذا ضبطت وأنت تقوم بهذا، فستموت" ، إذا
أنتم برأتموني على هذه الشروط فإني مجيبكم بالتالي: أنا أعزكم أيها
األثينيون وأحبكم، ولكني أطيع اإلله أكثر مما أطيعكم، وطالما بقي في
نفس وكنت قادرا على ذلك، فلن أتوقف عن التفلسف وعن إسداء
4 النصح وإرشادكم«
❑ يجسد السؤال السقراطي فاعلية الفلسفة وحضورها في عالقة مباشرة مع
األشخاص وواقع الحياة، ويبدو أن الصورة التي أعطاها سقراط للممارسة
الفلسفية قد استفادت من الشروط االجتماعية والفكرية للحضارة اليونانية،
لهذا يطرح السؤال حول إمكانية التفكير في صيغ جديدة للسؤال الفلسفي
تتالءم مع الشروط الراهنة للعالم المعاصر، وذلك من أجل تفعيل دور
الفلسفة.