Online English Summarizer tool, free and accurate!
م التاريخ : يعد التاريخ من أقدم المعارف البشرية التي عُنى بها اإلنسان على اختالف أطوار حياته، 1( في صور متفاوتة بتفاوت مداركه رقيا وانحطاطا التاريخ لغة واصطالحا ، فضال عن موضوعه وأهميته ، فالتاريخ والتوريخ في اللغة : اإلعالم وأما موضوعه: فاإلنسان والزمان ، وأما فائدته فمعرفة األمور على 2( وجهها، حسب تعريف السخاوي)ت902هـ(. وقد ثار جدل بين المتخصصين حول أصل كلمة تاريخ فمنهم من أكد أنها لفظ عربي انطالقا من كون العرب أميين ولم يعرفوا حساب غيرهم من األمم فتمسكوا بظهور الهالل ومنهم من ذكر أن لفظ التاريخ مشتق من كلمة "يارخ" العبرية التي تعنى القمر. وقد نسبها البعض اآلخر إلى اللغة الفارسية وعلى هذا لظهور القمر واختفائه. و لعل هذا المعنى يصبح معنى التاريخ هو حساب األيام و الشهور وفقاً بشهادة المستشرق روزنتال وهو نفسه يهودي ً ، 5 العرب في بردية تعود لعام 22 هجرية في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب حينما كثرت لديه األموال، واختلط عليه وقت توزيعها، فجمع وجوه القوم و طلب منهم الرأي استحسنه و أمر بالعمل به. ومنذ والمشورة، يتمثل في التاريخ الهجري. وقد أصبح هذا التقويم عنصراً ثابتاً ذلك الوقت وضع عمر تقويماً أساسياً في نشأة الفكرة التاريخية عند المسلمين. و الشك أن مرد هذا كان احتياج الدولة 6 اإلسالمية إليه ألمور إدارية و تجارية ودينية ثم تطور معنى ومدلول وموضوع وغاية التاريخ أما في اللغات األوربية الحديثة، فقد اشتقت كلمة (History )من اللغة اليونانية القديمة و تحديدا من كلمة هيستوريا )Istoria )و الكلمة اليونانية نفسها اُستخدمت بمعنى البحث و االستقصاء في حوادث الماضي. و قد نشط استخدام الكلمة بازدهار الحركة السياسية و الفكرية في دويالت المدن اليونانية، و أصبحت تعنى البحث عن األشياء الجديرة بالمعرفة. وسرعان ما أصبحت كلمة (History )تشتمل على معرفة األحداث التي وقعت في الماضي ورافقت نمو 7 العادات و التقاليد و المؤسسات في المجتمعات قديمها و حديثها وكان هذا هو المعنى الذي استخدمه مؤرخو اليونان األوائل مثل هيرودوت و ثوكيديديس، و قد قصراه على تتبع األحداث ما وقعت به فعال بقدر اإلمكان. و مما ال شك فيه أنه قد صاحب رواية األحداث التاريخية- رواية كل المظاهر الحضارية من ديانات و معتقدات وعمارة وفنون . وقد اتسع هذا المفهوم عند أرسطو ليعنى السرد المنظم لكل ما يتعلق باألحداث اإلنسانية أو النباتية و الحيوانية أو ما يتعلق بإنجازات الباحثين السابقين في كل مجاالت المعرفة اإلنسانية. تغيير و منهم انتقلت الكلمة إلى اللغات األوربية الحديثة مثل اإلنجليزية (History (و الفرنسية Histoire )و اإليطالية )Historie خرى كاأللمانية 8 فأصبحت )Geschichte( . نشأة الكون كله ، بما يحويه من أجرام وكواكب ومن بينها األرض ، وما جرى على سطحها من حوادث اإلنسان . حتى بدأ المؤرخون األقدمون كتاباتهم بالكالم عن نشأة األرض . وتابعهم في ذلك بعض المحدثين كالمؤرخ هربرت جورج ولز ، بدراسة نشأة الكون واألرض ، وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة ، ثم يتدرج ولز في عرض تواريخ األمم والشعوب والحضارات المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث 9( معبرا في ذلك عن وحدة البشرية ، على الرغم من جزئيات تواريخها وتفصيالتها إذ هو المرآة أو 10( األعمال واآلثار . والحقيقة أن التاريخ بهذا ليس معناه جمع المعلومات فالفرق واضح بين جمع المعلومات و تعليلها أو تفسيرها ، وهو ما كان مثار اهتمام األقدمين الذين وصفوا عملية جمع المعلومات بالسرد اإلخباري بمعنى تسجيل الحوادث وسنوات وقوعها، أما التاريخ فهو الثانية أي البحث في العلل واألسباب، ألن علم التاريخ في الواقع يشتمل على نظام يتعدى مجرد التتالي في 11 الزمان . السنين والعصور، وهو يمتد ليشمل كافة الجوانب السياسية واالقتصادية والثقافية والعلمية والدينية، هو سرد ألهم األحداث التي حصلت في الماضي البعيد، وهو نشاط إنساني فطري وجد قبل اختراع الكتابة على هيئة أساطي ٍر وقص ٍص وروايات ومالحم شعرية، ثم تطور شيئا . ً فشيئاً أما التأريخ (historiography (فهو إعادة كتابة التاريخ بعد نقد المصادر الموجودة، وإعادة سرد ونقد وتحليل التفاصيل والخوض فيها بطريقة أكثر مصداقية، اعتمادا ويعود مفهوم التأريخ الحديث إلى أواخر القرن الثامن عشر، وبداية مستقلة. يشتمل على خطوات وطرائق محددة ، ويؤدي إلى معرفة عن الكون والنفس والمجتمع يمكن 12( توظيفها في تطوير أنماط الحياة وحل مشكالتها" فإن ذلك ينطبق على التاريخ الذي أصبح " ثم تحليلها، واإلشارة إلى الروابط الواصلة . والمؤرخ مثل الكيميائي: هذا يجد وقائعه في االختبارات 13( التي يجريها، وذاك يبحث عن الوصول إليها بمالحظته الدقيقة" رنشو الذي أقر أنه رغم أننا ال وهو ما يبدو أكثر وضوحا عند المؤرخ البريطاني ه نستطيع من خالل دراسة التاريخ أن نستخلص قوانين علمية ثابتة على غرار العلوم الطبيعية إال فيكفي في إسناد صفة العلم لموضوع ما أن يمضي الباحث في دراسته ، مع سعيه لتوخي الحقيقة، وأن يؤسس بحثه على حكم ناقد اطرح منه هوى النفس ، وباعد نفسه عن كل افتراض سابق، مع إمكان التصنيف والتبويب فيه، فالتاريخ ليس علم تجربة واختبار ولكنه علم نقد وتحقيق ، فكل من المؤرخ والجيولوجي يدرس آثار الماضي ومخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه استخالصه عن الماضي والحاضر على السواء ، ويزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث لذا فالتاريخ مزاجا من العلم واألدب والفن ورغم ذلك فقد نفى فريق آخر صفة العلم عن التاريخ تماما مستندين إلى أن حوادثه تخضع في الغالب إلرادة أو لنزوات البشر ، سواء كانوا فرادى أو جماعات . وهؤالء ال يمكن أبدا التنبؤ بمسلكهم مستقبال، وذلك لشدة مرونة األفعال والظواهر اإلنسانية وتداخلها وتأثيرها في بعضها البعض ، قوانين عامة يمكن تطبيقها على الظواهر مستقبال، كعلم االجتماع، وعلم النفس االجتماعي ، وعلم السياسة - كل من وجهة نظره وبحسب مناهجه الخاصة - لكنها ليست بأي حال موضوعا للدراسة التاريخية التي ال يهمها سوى الماضي ودراسته ، ثم تقدم خالصة نتائجها لغيرها من التخصصات ليستفيد بها أصحاب هذه العلوم في دراستهم للمستقبل 15( إن كانوا مهتمين بهذا المستقبل بحکم وبحسب طبيعة تخصصهم وفي رأينا أن تلك العلوم ــــ علم االجتماع، وعلم النفس االجتماعي ، وعلم السياسةـــــ هي من العلوم المساعدة المهمة في دراسة التاريخ وبمقتضى نظرياتها ومناهجها يستطيع المؤرخ اإلفادة منها في تفسير التاريخ؛ والقرارات التاريخية المستقبلية بناء على دراسات نفسية واجتماعية؛ وال ريب فإن التاريخ يعرف اآلن عند األمم الغربية بعلم "صناعة القرار" ؛ وهو ما يومئ بإمكانية وجود قوانين في العلوم اإلنسانية كما في العلوم الطبيعية رغم االختالف . ففي العلوم اإلنسانية ال يعني القانون نتائج محددة دائما، وإنما يعني نتيجة تقديرية أو قواعد عامة مماثلة للقانون في العلوم الطبيعية أو قريبة منه. فقد وضع ابن خلدون مثال منذ أكثر من خمسة قرون عدة قوانين، مثل قوله: أن الدول كالبشر، تولد وتنمو وتكبر ثم تضمحل وتموت، أو قوله: أن الحضارات تتعاقب عليها ثالثة أطوار: بداوة وحضارة ثم اضمحالل. فقد رأى الفيلسوف األلماني هيجل)1831-1770( في فلسفته للتاريخ ، أن التاريخ وأنه يجب أن نركز على ما كان القادة يفكرون فيه حين أقدموا على أعمالهم، وأن القوة التي تدفع التاريخ هي قوة العقل ، ويعني 16( ذلك أن كل شيء يحدث وفق إرادة اإلنسان أي حريته، . أما الفيلسوف والمؤرخ األلماني كارل ماركس)1883-1818( فقد اهتم بالعامل االقتصادي في تسيير حركة التاريخ. فالتاريخ عند ماركس هو األعمال ، ومن هذه الصالت االجتماعية تتولد األفكار والمبادئ ، وهو ما يطلق عليه التفسير المادي للتاريخ. بمعنى أن الظروف الطبيعية القاسية وتحدياتها هي التي تحفز اإلنسان على العمل واإلبداع، فتعمل على إعادة بناء نفسها كي تتمكن من مواجهة التحدي، كما أن الضغوط الخارجية تولد شرارة الحضارة، فكلما ازداد التحدي تصاعدت قوة االستجابة)17(. لكننا ال نستطيع أن نزعم أن تلك القوانين دائمة وتنطبق على كل العصور، وتفسر لنا كل األحداث ، فهي قوانين تنطبق على مراحل تاريخية محددة أو على شعوب معينة ، وهو ما يقال مثال على قوانين ابن خلدون من أنها ال تنطبق إال على المجتمعات التي شاهدها ابن خلدون ودون سيرتها ، مثل العرب و البربر . كانت تلك القوانين قوانين مرحلية أو تنطبق على شعوب معينة ، فهي خطوة على الطريق نحو القوانين الدائمة التي نتوقع أن يتوصل إليها اإلنسان في المستقبل. عددا من القوانين العامة مستخلصة من التجارب اإلنسانية ، وهو ما يعتبره بعض المؤرخين أن هناك عالقة دائمة بين االستعمار العالمي وبين الحركة الصهيونية ، وأن هذه العالقة ما تزال قوية و متنامية رغم مرور ما يقرب من مائة عام عليها وأننا ال نعرف موقفا واحدا تخلى فيه االستعمار العالمي عن تأييد الحركة الصهيونية و مساندتها. أن الحكم االستبدادي قد يبني أمة أو يبني مرحلة تاريخية معينة ، يبني اإلنسان ، ويمكننا تطبيق هذه المقولة إذا أرخنا لنابليون بونابرت ، أو أو هتلر ، وغيرهم من عتاة الحكم االستبدادي. يصعب الوصول إلى حكمها لكن يسهل قيادتها. في جوانبها المختلفة ، ومن هذه الدراسة قد نتوصل إلى مجموعة قوانين يكون لها في نهاية األمر نظرية معينة . فدراسة الجانب االقتصادي للعالم أو لمنطقة معينة ، القوانين االقتصادية لمجتمعات مختلفة ، وهذه القوانين تتبلور في النهاية فيما يعرف بالنظرية االقتصادية)18( . فالجوانب المختلفة للظواهر االجتماعية ، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو غيرها ليست سوى روافد متصلة بهذا النهر الكبير ، فهناك ارتباط بين تلك الظواهر جميعها ، تأثيرات متبادلة بين هذه الظواهر ، وإن كان هذا التأثير يختلف كما وكيفا طبقا للقوانين العامة التي تحكم حركة هذه الظواهر ، والتي تجمعها جميعا حركة التاريخ وتطوره. وأخيرا ، فإذا كان من الممكن استخدام القوانين التاريخية بالنسبة للماضي ، فانه يمكن استخدمها أيضا للحاضر و المستقبل . وال يعني ذلك أن المؤرخ يستطيع أن يتنبأ علميا بأحداث المستقبل ، ألن ذلك أمر خارج عن قدرة البشر ، و المستقبل علمه عند هللا . و لكن الذي يمكن للمؤرخ أن يحدده –خاصة إذا استخدم بعض القوانين التاريخية- هو تحديد االتجاهات العامة لقضية معينة على ضوء دراسته لألصول التاريخية والربط بين الظواهر المختلفة لتك القضية ، ويعتمد هذا على تقدير موضوعي وإدراك واع للجوانب المختلفة للموضوع ، نطلق عليه ))التاريخ المستقبلي(( ، وهو ما يعني إمكانية التأريخ للمستقبل بالنسبة لقضايا معينة وإلمام بمصادرها األولية ، وكان المؤرخ في نفس وقدرة كبيرة على الفهم والتحليل والتفسير والنقد ، واإلدراك الواعي للعالقات التي تربط بين الظواهر المختلفة)19(. مـوضـوع التـاريـخ: للخالف إال أن ثمة اتفاقا برز من خالل لقد حيَّر موضوع التاريخ الكثيرين و كان مثاراً اعتبار أن اإلنسان هو محور هذا التاريخ، مهما اختلفت الرؤى حول هذا سواء في الماضي او الحاضر أو المستقبل. فمن العلماء من يرى أن التاريخ هو تاريخ الفرد البطل الالمع سواء كان أو أحد الساسة البارزين أو أحد الفالسفة، أو بوجه عام أولئك الذين لعبوا أدواراً متباينة و مؤثرة على مجرى التاريخ وأثروا في البشرية، لألفراد. وجهة نظر أخرى ترى أن التاريخ موضوعه هو المنجزات التي أحدثها اإلنسان و التي لحركة البشرية ويتسع وكواكب ومن بينها األرض وما جرى فيها من حوادث. وقد سار على نفس النهج المؤرخ ه. ج.ويلز Wells. الكون واألرض وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث معبرا . فصار يهتم بالشعوب ال باألفراد، بالكتل الجماهيرية و القواعد الشعبية الواسعة ال القمم و الملوك. أي بدأ يتجه أخبار الطبقات الدنيا المسحوقة التي كانت و ال تزال تشكل تسعة أعشار البشر. وهي ال ريب الجموع الواسعة التي تصنع التاريخ الحقيقي. دوافع حركة ماركس الشيوعية إال إذا فهمنا العالقة مابين أصحاب المصانع و العمال في أوربا، كذلك ال نستطيع أن نفهم دوافع الحروب الصليبية إال إذا درسنا و تعمقنا في تركيب المجتمع األوربي حينذاك، هذا إلى جانب أمثلة أخرى كالثورة الفرنسية التي كانت الطبقات الدنيا هي فالتاريخ ليس تاريخ دول وملوك وساسة وفالسفة فقط بقدر ما هو أيضا تاريخ البسطاء من الفئات العادية ، لطبقة الملوك والساسة و الفالسفة. وأيا كان األمر فإن اإلنسان سوا أم ًء كان قائداً سياسيا أم فقيراً ً إذا فما هي مادة هذا التاريخ؟ هل ماضي اإلنسان أم حاضره أم مستقبله؟ هناك مسلمة البد من االعتراف بها و هي أن الماضي هو مادة التاريخ، لكن هذه المسلمة بحاجة إلى تحديد أكثر؛ فهل التاريخ َمعني بأي ماضي، أم ماضي اإلنسان فقط، ثم هل يهتم التاريخ بكل ماضي اإلنسان؟ نقرر بداية أن التاريخ ال يُعنَى بكل الماضي بل الماضي اإلنساني فقط، حيث أن هناك علوم أخرى مهمتها دراسة الماضي القديم غير اإلنساني – الكائنات األخرى- و هي ليست من الباليونتولوجيا )الحفريات(، الذي يعني باستقصاء الكائنات الحية كالحيوانات والنباتات والفطريات ضمن بيئتها الطبيعية. ولما كان اإلنسان وحده دون بقية تلك الكائنات هو من يعي الزمن؛ فهو الكائن الوحيد الذي يمتلك تاريخا، فهو يصنع التاريخ والحضارة ويؤثر في البيئة. و جدير بالذكر أنه ال تاريخ فيما قبل اإلنسان زمنا إن اهتمام المؤرخ في ، ً وهذا ما أطلق عليه اصطالحا "ما قبل التاريخ". المقام األول هو اإلنسان بتجاربه وأفعاله ومنجزاته، ويأتي تسجيل بعض المؤرخين بعض األحداث الطبيعية مثل الزالزل والبراكين والكسوف والقحط والفيضانات وغيرها من الظواهر؛ إنما يأتي من باب أثرها في حياة اإلنسان فقط وليس شيء آخر. وبخصوص مقدار ما يُعنى به التاريخ من ماضي اإلنسان، فإن التاريخ ال يهتم بماضي اإلنسان كله. فاإلنسان كنوع ذو تاريخ ُخرى مثل علم الحفريات )الباليونتولوجيا(، وكذلك ماضي اإلنسان بيولوجي هو محور علوم أ العرقي هو محور علم اإلثنولوجيا. واإلنسان بوجه عام كموضوع للتاريخ عُنى به القرآن الكريم أشد العناية باعتباره أسمى المخلوقات، و ما كان القرآن الكريم إال دستوراً معالجته من أجل السعي به للرقى و التقدم، حيث أن الهدف األسمى للعلم هو إعادة صياغة اإلنسان و عالمه و الوصول إلى المعرفة الدقيقة بكيانه المادي و الروحي. إن القرآن الكريم هو و نصح، و و دعوة، كذلك هناك سورة قرآنية حملت اسم اإلنسان. و رفع اإلسالم اإلنسان وجعله هدفه و غايته ووسيلته و أداته و كان منهج اإلسالم مع اإلنسان أخالقي في المقام األول، 22 من حيث المحافظة على كيانه وكرامته وإبراز تكريم هللا له كما ورد في اآلية الكريمة؛ بسم هللا 23 هنا نصل إلى إشكالية أخرى علىقدر كبير من األهمية في عصر تحول العالم فيه إلى قرية صغيرة، عالقة هذا التاريخ بالمستقبل، وجدواه. أهمية دراسة التاريخ: بل هو من صميم مسألة النهضة، و الخروج من عثرتنا لم يعد البحث في التاريخ ترفاً التي طال أمدها، ذلك أن التاريخ ليس الماضي بل المستقبل. وعليه فإن جدوى دراسة التاريخ تنبع من غايته وهي نقل المعرفة )24( ، قبل أن يكون وصفا )25(. كما أن الكشف عن عيوب الماضي وأخطائه تفيد إلى حد كبير في قائال :"إننا بسبب هذه الفائدة التي نجنيها من معرفة الماضي معرفة ثابتة نستطيع أن نستبق الحكم في أمر األحداث المتماثلة أو المتعادلة التي ستتولد في مستقبل القيم المشتركة في الطبيعة كما يذهب بعض المفكرين مثل: الفيلسوف اإليطالي بندتو كروتشي إلى اعتبار التاريخ كله تاريخا معاصرا . وال يستطيع اإلنسان أن يفهم نفسه وحاضره دون أن يفهم الماضي . الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة ، والتأمل في الماضي يبعد باإلنسان عن ذاته ، فيرى ما ال يراه في نفسه بسهولة من مزايا الغير وأخطائه ، ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه ، وأقدر على وبعبارة أوضح فإن دراسة التاريخ ال يجب أن تنحصر فقط في معرفة الماضي و إنما البد أن تسهم في فهم الحاضر اإلنساني بكل تعقيداته ومشاكله، واستشراف مستقبل أفضل للبشرية)29(، وهنا تكمن مسؤولية المؤرخ في ضرورة المساهمة في إيجاد الحلول للمشكالت التي يعاني منها واقعنا العربي)30(، حيث أننا ال نغالي إذا ذكرنا أن األقوام الذين ال يعرفون لهم ماضيا محددا مدروسا بقدر المستطاع ، ال يعدون من شعوب األرض المتحضرة)31(. وسط هذا الزخم الكبير و التقدم الهائل و السرعة الفائقة في نقل األحداث من كافة جنبات العالم؛ و أثر الميديا الملموس في بلورة و تشكيل وعي وعقليات الشعوب ما هي جدوى دراسة التاريخ بالنسبة للمستقبل؟ هل يعيننا هذا الماضي أو التاريخ في المستقبل بحيث نستطيع رسم ُخرى هل نستطيع أن صورة المستقبل من خالل هذا الماضي، بعبارة أ نستشرف أفاق المستقبل من خالل معطيات تاريخية معينة؟ إن معرفتنا بالماضي وإدراكنا لهذا الماضي تؤثر بال ريب في رؤيتنا للمستقبل وعلى إعطائه صورة أقرب مما نأمل و نتمنى. فعلى سبيل المثال نجد أن معرفة وإدراك المسلمين لماضيهم؛ يمكنهم قطعا من استشراف آفاق المستقبل. وحضارتنا الزاهرة التي غطت بقاع شتى من العالم في آسيا و إفريقيا وأوربا، وعندما ندرك سماحة وعدل اإلسالم الذي عُومل به غير المسلمين، وهو ما وضح جليا في مقوالتهم التي خلدها التاريخ ، من ذلك قول اإلمام الشافعي: "من قرأ التاريخ زاد عقله إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من األمم في أخالقهم، يستمع إلى أخبار العرب والملوك السابقين من القا ّص شرية للشام عشرين عاما، ناجحاً ولذلك عرف كيف يكون والياً عشرين عاما أخرى، وكيف يوحد األمة، وهو ما وعاه وطبقه غيرنا من األمم الغربية في العصر الحديث، فقد تناول األمريكي س.ل. وارس في كتابه المؤلف سنة 1962 فائدة التاريخ وأهميته قائال: "إذا أرادت الواليات المتحدة األمريكية أن تصل إلى حكم العالم في يوم من األيام، فإني أنصح أولي األمر في بأقسام التاريخ في المعاهد والجامعات األمريكية، وأن ال أمريكا، األقسام إال خيرة أبنائهم وأذكاهم وأنبههم. ويذكر "وارس" في كتابه أمثلة عديدة لقادة سياسيين وعسكريين جاهلين بالتاريخ وعازفين عن قراءته، وبين كيف تسببوا لبلدانهم وشعوبهم بنكبا ٍت وهزائم وخسائر فادحة، فأحبوه، وقرأوه، الوفير. ويوضح الكاتب أن السبب في نجاح القائد العالِم بالتاريخ، هو أن األخير عندما يتخذ قراراً وتجارب ماليين القادة وآالف السنين. وهي
م التاريخ :
يعد التاريخ من أقدم المعارف البشرية التي عُنى بها اإلنسان على اختالف أطوار حياته،
)1( في صور متفاوتة بتفاوت مداركه رقيا وانحطاطا
؛ لذا نرى لزاما علينا أن نعرض لمعنى
التاريخ لغة واصطالحا ، فضال عن موضوعه وأهميته ، فالتاريخ والتوريخ في اللغة : اإلعالم
بالوقت أو تعريف الوقت ، وأما موضوعه: فاإلنسان والزمان ، وأما فائدته فمعرفة األمور على
)2( وجهها، حسب تعريف السخاوي)ت902هـ(.
وقد ثار جدل بين المتخصصين حول أصل كلمة تاريخ فمنهم من أكد أنها لفظ عربي
قديم، انطالقا من كون العرب أميين ولم يعرفوا حساب غيرهم من األمم فتمسكوا بظهور الهالل
في تأريخهم لألحداث بالليالي ألن الليل عند العرب سابق النهار. ومنهم من ذكر أن لفظ التاريخ
مشتق من كلمة "يارخ" العبرية التي تعنى القمر. وقد نسبها البعض اآلخر إلى اللغة الفارسية
)3( على أساس أنها مكونة من كلمتين هما )ماه( وتعنى القمر، و )روز( وتعنى اليوم
. وعلى هذا
لظهور القمر واختفائه. و لعل هذا المعنى
يصبح معنى التاريخ هو حساب األيام و الشهور وفقاً
بشهادة المستشرق روزنتال وهو نفسه يهودي
ما يؤيد كونه عربيا . ً ، وليس يهودياً
)4(
وكانت كلمة تاريخ تعني التقويم والتوقيت في صدر اإلسالم وقد ظهرت أول مرة عند
5 العرب في بردية تعود لعام 22 هجرية
، في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب حينما
كثرت لديه األموال، واختلط عليه وقت توزيعها، فجمع وجوه القوم و طلب منهم الرأي
مية من اليمن مؤ
ً
استحسنه و أمر بالعمل به. ومنذ
والمشورة، فلما جاءه كتاب يعلى بن أ رخاً
يتمثل في التاريخ الهجري. وقد أصبح هذا التقويم عنصراً
ثابتاً
ذلك الوقت وضع عمر تقويماً
أساسياً في نشأة الفكرة التاريخية عند المسلمين. و الشك أن مرد هذا كان احتياج الدولة
6 اإلسالمية إليه ألمور إدارية و تجارية ودينية
، ثم تطور معنى ومدلول وموضوع وغاية التاريخ
عند العرب والمسلمين مع مرور الوقت.
أما في اللغات األوربية الحديثة، فقد اشتقت كلمة (History )من اللغة اليونانية القديمة
و تحديدا من كلمة هيستوريا )Istoria )و الكلمة اليونانية نفسها اُستخدمت بمعنى البحث و
االستقصاء في حوادث الماضي. و قد نشط استخدام الكلمة بازدهار الحركة السياسية و الفكرية
(
في دويالت المدن اليونانية، و أصبحت تعنى البحث عن األشياء الجديرة بالمعرفة. وسرعان ما
أصبحت كلمة (History )تشتمل على معرفة األحداث التي وقعت في الماضي ورافقت نمو
7 العادات و التقاليد و المؤسسات في المجتمعات قديمها و حديثها
. وكان هذا هو المعنى الذي
استخدمه مؤرخو اليونان األوائل مثل هيرودوت و ثوكيديديس، و قد قصراه على تتبع األحداث
التاريخية التي صنعها اإلنسان في الماضي و محاولة تمحيص هذه األحداث وروايتها على نحو
ما وقعت به فعال بقدر اإلمكان. و مما ال شك فيه أنه قد صاحب رواية األحداث التاريخية-
رواية كل المظاهر الحضارية من ديانات و معتقدات وعمارة وفنون .
وقد اتسع هذا المفهوم عند أرسطو ليعنى السرد المنظم لكل ما يتعلق باألحداث
اإلنسانية أو النباتية و الحيوانية أو ما يتعلق بإنجازات الباحثين السابقين في كل مجاالت المعرفة
اإلنسانية. وعلى أية حال فقد انتقل المصطلح من اليونان إلى الرومان الذين أبقوا عليه دون
تغيير و منهم انتقلت الكلمة إلى اللغات األوربية الحديثة مثل اإلنجليزية (History (و الفرنسية
)Histoire )و اإليطالية )Historie خرى كاأللمانية
(، و قد ترجمت في بعض اللغات األُ
8 فأصبحت )Geschichte(
.
وقد كان بعض الكتاب يرى أن التاريخ يشتمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن
نشأة الكون كله ، بما يحويه من أجرام وكواكب ومن بينها األرض ، وما جرى على سطحها من
حوادث اإلنسان . حتى بدأ المؤرخون األقدمون كتاباتهم بالكالم عن نشأة األرض . وتابعهم في
ذلك بعض المحدثين كالمؤرخ هربرت جورج ولز ،الذي يبدأ كتابه » موجز تاريخ العالم «
بدراسة نشأة الكون واألرض ، وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة ، ثم يتدرج
ولز في عرض تواريخ األمم والشعوب والحضارات المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث
)9( معبرا في ذلك عن وحدة البشرية ، على الرغم من جزئيات تواريخها وتفصيالتها
.
وبذلك فالتاريخ يشكل أساسا جوهريا في موكب البشرية الحافل الدؤوب ، إذ هو المرآة أو
السجل أو الكتاب الشامل الذي يقدم لنا ألوانا من األحداث وفنونا من األفكار وصنوفا من
)10( األعمال واآلثار
.
والحقيقة أن التاريخ بهذا ليس معناه جمع المعلومات فالفرق واضح بين جمع المعلومات
و تعليلها أو تفسيرها ، وهو ما كان مثار اهتمام األقدمين الذين وصفوا عملية جمع المعلومات
بالسرد اإلخباري بمعنى تسجيل الحوادث وسنوات وقوعها، أما التاريخ فهو الثانية أي البحث
في العلل واألسباب، ألن علم التاريخ في الواقع يشتمل على نظام يتعدى مجرد التتالي في
11 الزمان
.
ويمكن القول أن التاريخ (history (يعني دراسة التغييرات التي حدثت على مر
السنين والعصور، وهو يمتد ليشمل كافة الجوانب السياسية واالقتصادية والثقافية والعلمية
والدينية، وبمعنى آخر، هو سرد ألهم األحداث التي حصلت في الماضي البعيد، وهو نشاط
إنساني فطري وجد قبل اختراع الكتابة على هيئة أساطي ٍر وقص ٍص وروايات ومالحم شعرية، ثم
تطور شيئا . ً فشيئاً
أما التأريخ (historiography (فهو إعادة كتابة التاريخ بعد نقد المصادر
الموجودة، وإعادة سرد ونقد وتحليل التفاصيل والخوض فيها بطريقة أكثر مصداقية، اعتمادا
على المصادر الموثوقة ، ويعود مفهوم التأريخ الحديث إلى أواخر القرن الثامن عشر، وبداية
القرن التاسع عشر الذي رافقه العديد من التطورات العلمية واعتماد التأريخ مهنة أكاديمية
مستقلة.
وإذا كان العلم يُعرف على أنه: "جهد إنساني عقلي منظم وفق منهج محدد في البحث،
يشتمل على خطوات وطرائق محددة ، ويؤدي إلى معرفة عن الكون والنفس والمجتمع يمكن
)12( توظيفها في تطوير أنماط الحياة وحل مشكالتها"
فإن ذلك ينطبق على التاريخ الذي أصبح "
كغيره من العلوم قوامه الكشف عن حقيقة الوقائع ،ثم تحليلها، ودراسة التقارب فيما بينها،
واإلشارة إلى الروابط الواصلة .... والمؤرخ مثل الكيميائي: هذا يجد وقائعه في االختبارات
)13( التي يجريها، وذاك يبحث عن الوصول إليها بمالحظته الدقيقة"
.
رنشو الذي أقر أنه رغم أننا ال
وهو ما يبدو أكثر وضوحا عند المؤرخ البريطاني ه
نستطيع من خالل دراسة التاريخ أن نستخلص قوانين علمية ثابتة على غرار العلوم الطبيعية إال
أن ذلك ال يجب أن يجرده من صفة العلم، فيكفي في إسناد صفة العلم لموضوع ما أن يمضي
الباحث في دراسته ، مع سعيه لتوخي الحقيقة، وأن يؤسس بحثه على حكم ناقد اطرح منه هوى
النفس ، وباعد نفسه عن كل افتراض سابق، مع إمكان التصنيف والتبويب فيه، فالتاريخ ليس
علم تجربة واختبار ولكنه علم نقد وتحقيق ، وأقرب العلوم الطبيعية شبها به هو علم الجيولوجيا
فكل من المؤرخ والجيولوجي يدرس آثار الماضي ومخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه استخالصه
عن الماضي والحاضر على السواء ، ويزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث
(
11اضطرار المؤرخ إلى دراسة العامل البشري االنفعالي حتى يقترب بقدر المستطاع من الحقائق
)14( التاريخية؛ لذا فالتاريخ مزاجا من العلم واألدب والفن
.
ورغم ذلك فقد نفى فريق آخر صفة العلم عن التاريخ تماما مستندين إلى أن حوادثه
تخضع في الغالب إلرادة أو لنزوات البشر ، سواء كانوا فرادى أو جماعات . وهؤالء ال يمكن
أبدا التنبؤ بمسلكهم مستقبال، وذلك لشدة مرونة األفعال والظواهر اإلنسانية وتداخلها وتأثيرها في
بعضها البعض ، على نحو ال يمكن التنبؤ به مستقبال، وأنه ال يمكن من خالله الوصول إلى
قوانين عامة يمكن تطبيقها على الظواهر مستقبال، في أي زمان ومكان على غرار العلم
الطبيعي. كما ذكروا أن مثل هذه الدراسات هي من اختصاص علوم أخرى ، كعلم االجتماع،
وعلم النفس االجتماعي ، وعلم السياسة - كل من وجهة نظره وبحسب مناهجه الخاصة - لكنها
ليست بأي حال موضوعا للدراسة التاريخية التي ال يهمها سوى الماضي ودراسته ، ثم تقدم
خالصة نتائجها لغيرها من التخصصات ليستفيد بها أصحاب هذه العلوم في دراستهم للمستقبل
)15( إن كانوا مهتمين بهذا المستقبل بحکم وبحسب طبيعة تخصصهم
.
وفي رأينا أن تلك العلوم ــــ علم االجتماع، وعلم النفس االجتماعي ، وعلم السياسةـــــ
هي من العلوم المساعدة المهمة في دراسة التاريخ وبمقتضى نظرياتها ومناهجها يستطيع
المؤرخ اإلفادة منها في تفسير التاريخ؛ ومن ثم يستطيع صناع القرار توجيهه وتحديد المواقف
والقرارات التاريخية المستقبلية بناء على دراسات نفسية واجتماعية؛ وال ريب فإن التاريخ
يعرف اآلن عند األمم الغربية بعلم "صناعة القرار" ؛ وهو ما يومئ بإمكانية وجود قوانين في
العلوم اإلنسانية كما في العلوم الطبيعية رغم االختالف .
والحقيقة أن القانون في العلوم اإلنسانية يختلف عن القانون في العلوم الطبيعية، ففي
العلوم اإلنسانية ال يعني القانون نتائج محددة دائما، وإنما يعني نتيجة تقديرية أو قواعد عامة
مماثلة للقانون في العلوم الطبيعية أو قريبة منه.
والقوانين في التاريخ ليست مسألة جديدة، فقد وضع ابن خلدون مثال منذ أكثر من
خمسة قرون عدة قوانين، مثل قوله: أن الدول كالبشر، تولد وتنمو وتكبر ثم تضمحل وتموت،
أو قوله: أن الحضارات تتعاقب عليها ثالثة أطوار: بداوة وحضارة ثم اضمحالل. ثم جاء من
بعد ابن خلدون من حاول وضع قوانين من هذا النوع مثل هيجل وماركس وتوينبي وغيرهم.
فقد رأى الفيلسوف األلماني هيجل)1831-1770( في فلسفته للتاريخ ، أن التاريخ
هو تاريخ الفكر، وأنه يجب أن نركز على ما كان القادة يفكرون فيه حين أقدموا على أعمالهم،
(
14 أن نركز على ما قاموا به من أعمال ، وأن القوة التي تدفع التاريخ هي قوة العقل ، ويعني
)16( ذلك أن كل شيء يحدث وفق إرادة اإلنسان أي حريته، فالحرية عنده هي العقل
.
أما الفيلسوف والمؤرخ األلماني كارل ماركس)1883-1818( فقد اهتم بالعامل
االقتصادي في تسيير حركة التاريخ. فالتاريخ عند ماركس هو األعمال ، كما أن اإلنتاج أو
النشاط المادي لإلنسان هو الذي يخلق المجتمع أو الصالت االجتماعية، ومن هذه الصالت
االجتماعية تتولد األفكار والمبادئ ، وهو ما يطلق عليه التفسير المادي للتاريخ.
كما آمن المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي)1975-1889( فيما يتعلق بتكوين الحضارات
بقانون التحدي واالستجابة، بمعنى أن الظروف الطبيعية القاسية وتحدياتها هي التي تحفز
اإلنسان على العمل واإلبداع، كما أن الدول التي يجتاحها االستعمار سرعان ما تفيق ، فتعمل
على إعادة بناء نفسها كي تتمكن من مواجهة التحدي، كما أن الضغوط الخارجية تولد شرارة
الحضارة، فكلما ازداد التحدي تصاعدت قوة االستجابة)17(.
لكننا ال نستطيع أن نزعم أن تلك القوانين دائمة وتنطبق على كل العصور، وتفسر لنا كل
األحداث ، فهي قوانين تنطبق على مراحل تاريخية محددة أو على شعوب معينة ، وهو ما يقال
مثال على قوانين ابن خلدون من أنها ال تنطبق إال على المجتمعات التي شاهدها ابن خلدون
ودون سيرتها ، مثل العرب و البربر . ومع قناعتنا بهذا المنطق ، لكننا نستطيع القول أنه إذا
كانت تلك القوانين قوانين مرحلية أو تنطبق على شعوب معينة ، فهي خطوة على الطريق نحو
القوانين الدائمة التي نتوقع أن يتوصل إليها اإلنسان في المستقبل.
ولعل مما يزيد من هذا التوقع أن المتتبع لتاريخ العالم الحديث والمعاصر يمكن أن يجد
عددا من القوانين العامة مستخلصة من التجارب اإلنسانية ، وهو ما يعتبره بعض المؤرخين
تعميمات . ومن تلك القواعد العامة التي الحظناها ما يلي:
أن هناك عالقة دائمة بين االستعمار العالمي وبين الحركة الصهيونية ، وأن
هذه العالقة ما تزال قوية و متنامية رغم مرور ما يقرب من مائة عام عليها
، وأننا ال نعرف موقفا واحدا تخلى فيه االستعمار العالمي عن تأييد الحركة
الصهيونية و مساندتها.
أن الحكم االستبدادي قد يبني أمة أو يبني مرحلة تاريخية معينة ، لكنه ال
يبني اإلنسان ، ويمكننا تطبيق هذه المقولة إذا أرخنا لنابليون بونابرت ، أو
محمد على ، أو هتلر ، وغيرهم من عتاة الحكم االستبدادي.
( أن الشعوب التي تكثر تناقضاتها االقتصادية أو االجتماعية أو الدينية يسهل
الوصول إلى حكمها لكن يصعب قيادتها ، أما الشعوب التي تقل تناقضاتها
يصعب الوصول إلى حكمها لكن يسهل قيادتها.
ويعني ذلك كله أن التاريخ ليس سوى دراسة للمجتمعات اإلنسانية ، وللظواهر االجتماعية
في جوانبها المختلفة ، ومن هذه الدراسة قد نتوصل إلى مجموعة قوانين يكون لها في نهاية
األمر نظرية معينة . فدراسة الجانب االقتصادي للعالم أو لمنطقة معينة ،أي التركيز على
دراسة النشاط االجتماعي المتعلق باإلنتاج االقتصادي وتوزيع الثروة ، يوصلنا إلى مجموعة من
القوانين االقتصادية لمجتمعات مختلفة ، وهذه القوانين تتبلور في النهاية فيما يعرف بالنظرية
االقتصادية)18( .
فالجوانب المختلفة للظواهر االجتماعية ، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو غيرها
ليست سوى روافد متصلة بهذا النهر الكبير ، وهو التاريخ اإلنساني . وال يمكن دراسة أي
ظاهرة من هذه الظواهر منفصلة عن غيرها . فهناك ارتباط بين تلك الظواهر جميعها ، و هناك
تأثيرات متبادلة بين هذه الظواهر ، وإن كان هذا التأثير يختلف كما وكيفا طبقا للقوانين العامة
التي تحكم حركة هذه الظواهر ، والتي تجمعها جميعا حركة التاريخ وتطوره.
وأخيرا ، فإذا كان من الممكن استخدام القوانين التاريخية بالنسبة للماضي ، فانه يمكن
استخدمها أيضا للحاضر و المستقبل . وال يعني ذلك أن المؤرخ يستطيع أن يتنبأ علميا بأحداث
المستقبل ، ألن ذلك أمر خارج عن قدرة البشر ، و المستقبل علمه عند هللا . و لكن الذي يمكن
للمؤرخ أن يحدده –خاصة إذا استخدم بعض القوانين التاريخية- هو تحديد االتجاهات العامة
لقضية معينة على ضوء دراسته لألصول التاريخية والربط بين الظواهر المختلفة لتك القضية ،
ويعتمد هذا على تقدير موضوعي وإدراك واع للجوانب المختلفة للموضوع ، وهو ما يمكن أن
نطلق عليه ))التاريخ المستقبلي(( ، وهو ما يعني إمكانية التأريخ للمستقبل بالنسبة لقضايا معينة
إذا توفر للمؤرخ اهتمام كاف بتلك القضايا ، وإلمام بمصادرها األولية ، وكان المؤرخ في نفس
الوقت ذا بصيرة، وقدرة كبيرة على الفهم والتحليل والتفسير والنقد ، واإلدراك الواعي للعالقات
التي تربط بين الظواهر المختلفة)19(.مـوضـوع التـاريـخ:
للخالف إال أن ثمة اتفاقا برز من خالل
لقد حيَّر موضوع التاريخ الكثيرين و كان مثاراً
اعتبار أن اإلنسان هو محور هذا التاريخ، مهما اختلفت الرؤى حول هذا سواء في الماضي او
الحاضر أو المستقبل. فمن العلماء من يرى أن التاريخ هو تاريخ الفرد البطل الالمع سواء كان
أو أحد الساسة البارزين أو أحد الفالسفة، أو بوجه عام أولئك الذين لعبوا أدواراً
قائداً عسكرياً
متباينة و مؤثرة على مجرى التاريخ وأثروا في البشرية، وكان هؤالء محور التاريخ لدرجة أن
لألفراد.
التاريخ في إحدى مراحله غدا تاريخاً
وجهة نظر أخرى ترى أن التاريخ موضوعه هو المنجزات التي أحدثها اإلنسان و التي
لحركة البشرية ويتسع
ًء على ذلك يصبح التاريخ تسجيالً
تميزه عن المادة الميتة والحيوان. وبنا
من هذا الجانب ليشمل المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله بما يحويه من أجرام
وكواكب ومن بينها األرض وما جرى فيها من حوادث. لذلك ال عجب أن المؤرخين األقدمين
يبدءون كالمهم وكتاباتهم بالحديث عن نشأة األرض. وقد سار على نفس النهج المؤرخ ه.
ج.ويلز Wells.G.H( 1946-1866 )الذي بدأ كتابة )موجز تاريخ العالم( بدراسة نشأة
الكون واألرض وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة منذ نشأتها حتى العصر
الحديث معبرا .20 ً في ذلك عن وحدة البشرية
لكن بدأ التاريخ ينحو منحاً جديدا:ً إذ سار في اتجاهين هامين من حيث االتجاه و الشمول،
فصار يهتم بالشعوب ال باألفراد، بالكتل الجماهيرية و القواعد الشعبية الواسعة ال القمم و
الملوك. أي بدأ يتجه أخبار الطبقات الدنيا المسحوقة التي كانت و ال تزال تشكل تسعة أعشار
البشر. وهي ال ريب الجموع الواسعة التي تصنع التاريخ الحقيقي.
عالوة على هذا صار التاريخ يهتم بالعوامل و التيارات التحتية، وأصبح تطور
المجتمعات يشكل عامالً مهما رة التاريخ حتى أنة ال يتسنى لنا فهم بعض ً في حركة و مسي
األحداث العظام إال بمعرفة أحوال المجتمعات حينذاك. على سبيل المثال ال نستطيع أن ندرك
دوافع حركة ماركس الشيوعية إال إذا فهمنا العالقة مابين أصحاب المصانع و العمال في أوربا،
كذلك ال نستطيع أن نفهم دوافع الحروب الصليبية إال إذا درسنا و تعمقنا في تركيب المجتمع
األوربي حينذاك، هذا إلى جانب أمثلة أخرى كالثورة الفرنسية التي كانت الطبقات الدنيا هي
محركها األول. هكذا اتسع التاريخ ليشمل اإلطار االجتماعي، فالتاريخ ليس تاريخ دول وملوك
وساسة وفالسفة فقط بقدر ما هو أيضا تاريخ البسطاء من الفئات العادية ، التي لم تكن ترقى
لطبقة الملوك والساسة و الفالسفة. وأيا كان األمر فإن اإلنسان سوا أم ًء كان قائداً
سياسيا أم فقيراً ً
هو المحور األساسي للتاريخ.إذا فما هي مادة هذا التاريخ؟ هل ماضي اإلنسان أم حاضره أم مستقبله؟ هناك مسلمة
البد من االعتراف بها و هي أن الماضي هو مادة التاريخ، لكن هذه المسلمة بحاجة إلى تحديد
أكثر؛ فهل التاريخ َمعني بأي ماضي، أم ماضي اإلنسان فقط، ثم هل يهتم التاريخ بكل ماضي
اإلنسان؟
نقرر بداية أن التاريخ ال يُعنَى بكل الماضي بل الماضي اإلنساني فقط، حيث أن هناك
علوم أخرى مهمتها دراسة الماضي القديم غير اإلنساني – الكائنات األخرى- و هي ليست من
التاريخ في شيء مثل الجيولوجيا، الباليونتولوجيا )الحفريات(، التاريخ الطبيعي، الذي يعني
باستقصاء الكائنات الحية كالحيوانات والنباتات والفطريات ضمن بيئتها الطبيعية.
ولما كان اإلنسان وحده دون بقية تلك الكائنات هو من يعي الزمن؛ فهو الكائن الوحيد
الذي يمتلك تاريخا، فهو يصنع التاريخ والحضارة ويؤثر في البيئة. و جدير بالذكر أنه ال تاريخ
فيما قبل اإلنسان زمنا إن اهتمام المؤرخ في ،ً وهذا ما أطلق عليه اصطالحا "ما قبل التاريخ".
المقام األول هو اإلنسان بتجاربه وأفعاله ومنجزاته، ويأتي تسجيل بعض المؤرخين بعض
األحداث الطبيعية مثل الزالزل والبراكين والكسوف والقحط والفيضانات وغيرها من الظواهر؛
إنما يأتي من باب أثرها في حياة اإلنسان فقط وليس شيء آخر.وبخصوص مقدار ما يُعنى به
التاريخ من ماضي اإلنسان، فإن التاريخ ال يهتم بماضي اإلنسان كله. فاإلنسان كنوع ذو تاريخ
ُخرى مثل علم الحفريات )الباليونتولوجيا(، وكذلك ماضي اإلنسان
بيولوجي هو محور علوم أ
العرقي هو محور علم اإلثنولوجيا.21
واإلنسان بوجه عام كموضوع للتاريخ عُنى به القرآن الكريم أشد العناية باعتباره أسمى
لكيان اإلنسان و أفعاله، ومن هذا الفهم كانت
المخلوقات، و ما كان القرآن الكريم إال دستوراً
معالجته من أجل السعي به للرقى و التقدم، حيث أن الهدف األسمى للعلم هو إعادة صياغة
اإلنسان و عالمه و الوصول إلى المعرفة الدقيقة بكيانه المادي و الروحي. إن القرآن الكريم هو
بحق كتاب اإلنسان فقد ذًكر فيه اإلنسان خمس وستين مرة تكرر فيها ما بين وصف، و نصح، و
إرشاد، و دعوة، كذلك هناك سورة قرآنية حملت اسم اإلنسان. و رفع اإلسالم اإلنسان وجعله
هدفه و غايته ووسيلته و أداته و كان منهج اإلسالم مع اإلنسان أخالقي في المقام األول،22 من
حيث المحافظة على كيانه وكرامته وإبراز تكريم هللا له كما ورد في اآلية الكريمة؛ بسم هللا
الرحمن الرحيم ﴿ ولقد كرمنا بني آدم﴾ صدق هللا العظيم.23 هنا نصل إلى إشكالية أخرى علىقدر كبير من األهمية في عصر تحول العالم فيه إلى قرية صغيرة، و تتمثل هذه اإلشكالية في
عالقة هذا التاريخ بالمستقبل، وجدواه.
أهمية دراسة التاريخ:
بل هو من صميم مسألة النهضة، و الخروج من عثرتنا
لم يعد البحث في التاريخ ترفاً
التي طال أمدها، ذلك أن التاريخ ليس الماضي بل المستقبل.
وعليه فإن جدوى دراسة التاريخ تنبع من غايته وهي نقل المعرفة )24( ، فالتاريخ بحث
قبل أن يكون وصفا )25(. كما أن الكشف عن عيوب الماضي وأخطائه تفيد إلى حد كبير في
السعي لتجنب عوامل الخطأ في الحاضر)26(. وهو ما عبر عنه المؤرخ اليوناني توسيديد
قائال :"إننا بسبب هذه الفائدة التي نجنيها من معرفة الماضي معرفة ثابتة نستطيع أن نستبق
الحكم في أمر األحداث المتماثلة أو المتعادلة التي ستتولد في مستقبل القيم المشتركة في الطبيعة
اإلنسانية")27(.
كما يذهب بعض المفكرين مثل: الفيلسوف اإليطالي بندتو كروتشي إلى اعتبار التاريخ كله
تاريخا معاصرا . وال يستطيع اإلنسان أن يفهم نفسه وحاضره دون أن يفهم الماضي . فمعرفة
الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة ، والتأمل في الماضي يبعد باإلنسان عن ذاته ، فيرى ما ال
يراه في نفسه بسهولة من مزايا الغير وأخطائه ، ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه ، وأقدر على
حسن التصرف في الحاضر والمستقبل)28(.وبعبارة أوضح فإن دراسة التاريخ ال يجب أن
تنحصر فقط في معرفة الماضي و إنما البد أن تسهم في فهم الحاضر اإلنساني بكل تعقيداته
ومشاكله، واستشراف مستقبل أفضل للبشرية)29(، وهنا تكمن مسؤولية المؤرخ في ضرورة
المساهمة في إيجاد الحلول للمشكالت التي يعاني منها واقعنا العربي)30(، حيث أننا ال نغالي
إذا ذكرنا أن األقوام الذين ال يعرفون لهم ماضيا محددا مدروسا بقدر المستطاع ، ال يعدون من
شعوب األرض المتحضرة)31(.وسط هذا الزخم الكبير و التقدم الهائل و السرعة الفائقة في نقل األحداث من كافة جنبات
العالم؛ و أثر الميديا الملموس في بلورة و تشكيل وعي وعقليات الشعوب ما هي جدوى دراسة
التاريخ بالنسبة للمستقبل؟ هل يعيننا هذا الماضي أو التاريخ في المستقبل بحيث نستطيع رسم
ُخرى هل نستطيع أن
صورة المستقبل من خالل هذا الماضي، بعبارة أ نستشرف أفاق المستقبل
من خالل معطيات تاريخية معينة؟
إن معرفتنا بالماضي وإدراكنا لهذا الماضي تؤثر بال ريب في رؤيتنا للمستقبل وعلى
إعطائه صورة أقرب مما نأمل و نتمنى. فعلى سبيل المثال نجد أن معرفة وإدراك المسلمين
لماضيهم؛ يمكنهم قطعا من استشراف آفاق المستقبل. فعندما ندرك مدى عظمة تاريخنا التليد
وحضارتنا الزاهرة التي غطت بقاع شتى من العالم في آسيا و إفريقيا وأوربا، وعندما ندرك
سماحة وعدل اإلسالم الذي عُومل به غير المسلمين، وما حظوا به من رعاية في كنف الحكم
اإلسالمي في البالد العربية أو األندلس أو غيرها من ديار اإلسالم؛ كل هذه المعطيات التاريخية
كفيلة أن تجعلنا ننتفض و ندرك ما يُحاك لنا من دسائس ومؤامرات، ونحاول أن نجعل مستقبلنا
صورة حديثة لهذا الماضي، والبد من العمل من أجل هذا الهدف من خالل هذا نعتقد أن تاريخنا
يمكن أن يفيدنا كثيرا بالشكل األمثل. ً في رسم صورة مستقبلنا
والحقيقة فقد وعى علماؤنا ومفكرونا تلك الغاية السامية لدراسة التاريخ ، وهو ما وضح
جليا في مقوالتهم التي خلدها التاريخ ، من ذلك قول اإلمام الشافعي: "من قرأ التاريخ زاد عقله
وقل خطؤه". وقول العالمة ابن خلدون: "اعلم أن ف ّن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد،
شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من األمم في أخالقهم، واألنبياء في سيرهم،
والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة االقتداء لمن يرومه". كما يُروى أن معاوية "رضي
هللا عنه" كان بعد كل صالة فجر، يستمع إلى أخبار العرب والملوك السابقين من القا ّص شرية
للشام عشرين عاما،ً وخليفة مبدعاً
ناجحاً
بن عبيد الجرهمي، ولذلك عرف كيف يكون والياً
عشرين عاما أخرى، وكيف يوحد األمة، ويجمعها بعد طول فرقة)32(. ً
وهو ما وعاه وطبقه غيرنا من األمم الغربية في العصر الحديث، فقد تناول األمريكي
س.ل.وارس في كتابه المؤلف سنة 1962 فائدة التاريخ وأهميته قائال: "إذا أرادت الواليات
المتحدة األمريكية أن تصل إلى حكم العالم في يوم من األيام، فإني أنصح أولي األمر في
بأقسام التاريخ في المعاهد والجامعات األمريكية، وأن ال
أمريكا، أن يهتموا جدا يوصلوا إلى هذه ً
األقسام إال خيرة أبنائهم وأذكاهم وأنبههم. وأال يوصلوا إلى مراكز القيادة السياسية والعسكرية
واالجتماعية إال أولئك المتخصصين في التاريخ".
ويذكر "وارس" في كتابه أمثلة عديدة لقادة سياسيين وعسكريين جاهلين بالتاريخ وعازفين
عن قراءته، وبين كيف تسببوا لبلدانهم وشعوبهم بنكبا ٍت وهزائم وخسائر فادحة، ثم يذكر أمثلةلقادة آخرين من المتخصصين في التاريخ، أو ممن استهواهم التاريخ، فأحبوه، وقرأوه،
واستوعبوه، من أمثال تشرشل، ويبين كيف حققوا لبلدانهم وشعوبهم االنتصارات والتقدم والخير
الوفير.
ويوضح الكاتب أن السبب في نجاح القائد العالِم بالتاريخ، وفشل القائد الجاهل بالتاريخ ،
يكون فقط أمام تجربته الشخصية وتجربة أساتذته، بينما القائد
هو أن األخير عندما يتخذ قراراً
العالِم بالتاريخ يكون أمام تجربته وتجربة أساتذته، وتجارب ماليين القادة وآالف السنين. وهي
تجارب الصواب والخطأ ، االنتصارات والهزائم التي خاضتها البشرية عبر تاريخها الطويل.
ويستطيع القائد العالم بالتاريخ إن كان ذكيا أن يتجنب األخطاء ً وقادراً على اإلفادة منه
ونتائجها المدمرة، ويسلك دروب النجاح والفالح التي قدمها له التاريخ)33(.
لذا ليس مستغربا أن تكون مقررات التاريخ إجبارية على كثير من التخصصات العلمية
والتكنولوجية في الدول الغربية، وأن يُعَرف التاريخ عندهم اآلن بـ "علم صناعة القرار" ، وهو
ما يعبرعن وعي كامل بأهمية وجدوى علم التاريخ.
يمكن القول إجماال أن جدوى دراسة التاريخ تكمن في:
ـــــ نقل المعرفة .
ــــــ تحقيق الدرس والعظة والعبرة.
ـــــ دوره في تربية الفرد وتقويم األخالق.
ـــــ التاريخ ذاكرة األمة لدوره في الحفاظ على هويتها وكيانها وتماسكها.
ــــ التاريخ مدرسة السياسة.
وعليه فإن الهدف من البحوث التاريخية هو إيجاد تفسيرات وتعميمات حصلت في
الماضي تمكن من فهم الحاضر وبالتالي يمكن توظيفها في المستقبل )34(.حيث ال تتوقف
الدراسات التاريخية عند حدود الماضي بل تتابع دراسة الظاهرة حتى تتوصل إلى دالالت تساهم
في فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، من خالل:
1 - الكشف عن األصول الحقيقية للنظريات والمبادئ العلمية، وظروف نشأة النظريات، مما
يساعد في إيجاد الروابط بين الظواهر الحالية والظواهر الماضية ، ورد الظواهر الحالية إلى
أصولها التاريخية.
2 - الكشف عن المشكالت التي واجهها اإلنسان في الماضي وأساليبه في التغلب عليها والعوائق
التي حالت دون إيجاد حلول لها. - تحديد العالقة بين الظواهر أو المشكالت وبين البيئة االجتماعية واالقتصادية والثقافية التي
أدت إلى نشوئها)35(؛ ومن ثم فهم تلك الظواهر والمشكالت وإدراك تطورها ، أو ما يمكن أن
تؤول إليه في المستقبل.
وال ريب أن تلك مسؤولية ال يجب أن يضطلع بها إال من لهم مواصفات وملكات خاصة
يمكن تفصيلها في الصفات الواجب توافرها في المؤرخ أو الباحث في التاريخ.
الصفات الواجب توافرها في المؤرخ أو الباحث في التاريخ:
-1 أن يكون محبا للدرس جلدا صبورا ، فال تمنعه وعورة البحث وال المصاعب والعقبات عن
مواصلة العمل ، وال توقفه ندرة المصادر ، وال يصرفه عن عمله غموض الوقائع والحقائق
التاريخية واختالطها ،وينبغي عليه أال يتسرع أو يقتضب تعجيال لنيل منفعة ، ألن هذا سيكون
على حساب العلم والحقيقة التاريخية)36(.
2 - الدقة شرط واجب للباحث أو المؤرخ و ليست اتجاها أخالقيا.37 ألن عدم التدقيق من جانبه
يسهل وقوعه في الخطأ و خلط األحداث والوقائع، و بالتالي البعد عن الحقيقة التاريخية. يجب
على الباحث أال ينقل خبرا أو يصف حدثا إال بعد تحرى الدقة فيه ألنه قد يترتب على هذا
إصدار أحكام غير دقيقة، وما بني على باطل فهو باطل، إن إصدار أحكام باطلة على أمور غير
دقيقة فيه مجافاة للحقيقة التاريخية وقد يترتب عليه نتائج غير صحيحة بالمرة مثل تناقل بعض
المؤرخين في القرن السادس الهجري تهمة حرق العرب لمكتبة اإلسكندرية عند فتحها مع أن
هذا األمر غير صحيح مما ترتب عليه شيوع فكرة غير صحيحة وباطلة عن الحضارة
اإلسالمية.
3 – األمانة والشجاعة ،فينبغي على المؤرخ أن يكون أمينا شجاعا مخلصا ، فال يكذب ، وال
ينتحل ، وال ينافق أصحاب الجاه والسلطان ، وال يخفي الوقائع والحقائق التي قد ال يعرفها غيره
في بعض األحيان ، والتي قد ال ترضيه أو ال ترضى قومه ، إذ أنه ال رقيب عليه غير ضميره
. ومن يخرج على ذلك ال يمكن أن يعد مؤرخا)38(.
4 - الموضوعية وعدم التحيز ،من الصفات األساسية للمؤرخ ،فعليه أن يحرر نفسه بقدر
المستطاع من الميل أو اإلعجاب أو الكراهية لعصر خاص أو ناحية تاريخية معينة . فالمؤرخ
بمثابة القاضي الذي ال يكون حكمه أقرب إلى العدل إال بقدر بعده عن التحيز والهوى . وكيف
ننتظر ممن بلغ إعجابه أو كراهته لعصر ما حد التحيز ، أن يكتب تاريخا علميا ؟ ألن تكون
كتابته ملونة بالتحيز الذي يجعلها تميل إلى جانب أو آخر ، مما يبعد بها عن بلوغ الحقيقة
التاريخية ؟)39(. كما أن تحميل النصوص التاريخية أكثر مما يجب، يؤدي حتما إلى استنتاجات
خاطئة.40
وقد حفلت كتب التاريخ بمواقف وقع أصحابها أسرى لمنظورهم التاريخي ، وانحازوا
على حساب الحقيقة التاريخية. وتأييدا لهذا؛ نجد المؤرخ ابن طباطبا )ت709ه 1309/م(
يمتدح الوزير ابن العلقمي-وزير المستعصم باهلل العباسي الذي قتل على يد المغول بعد دخولهم
بغداد وإسقاط الخالفة العباسية عام656ه1258/م- ويبرئه من كل التهم التي لصقت به نتيجة
خيانته للخليفة المستعصم، و تسهيل دخول المغول بغداد، وقد تمادى ابن طباطبا في امتداح ابن
العلقمي لدرجة أنه قال أن هوالكو وثق به وسلمه البلد وأحسن إليه وحكمه. لكن الواقع أن خيانة
ابن العلقمي كانت ثابتة، وسر موقف ابن طباطبا هذا هو عدم موضوعيته ألنه أسلم القياد لميله
ومذهبه الذي صاغ موقفه ؛ مما جاء على حساب الحقيقة التاريخية. إن الوزير ابن العلقمي كان
شيعيا وكذلك كان ابن طباطبا. و كانت خيانة ابن العلقمي للخالفة السنية ردا على ما لحق
بالشيعة من نهب منازلهم و تخريبها على يد ركن الدين الدوادار بأمر من الخليفة المستعصم
باهلل، من هنا كاتب الوزير ابن العلقمي المغول و أطمعهم في بغداد على حد تعبير أحد
المؤرخين المعاصرين.41
5 - ملكة النقد: من الضروري والالزم أن تتوفر للمؤرخ ملكة النقد، فال يجوز له أن يقبل كل
كالم أو يصدق كل وثيقة أو مصدر بغير الدرس والفحص واالستقراء ، فيأخذ الصدق ، أو
أقرب ما يكون إليه ، ويطرح جانبا ما ليس كذلك . وإذا أعوزت المؤرخ ملكة النقد سقطت عنه
صفته)42(؛ ألن النقد جزء ال يتجزأ من الممارسة العلمية، فمن الضروري أن تكون لدى
الباحث روح نقدية، ومعنى ذلك أال يتأثر بالمسلمات الموجودة أو الشائعة وأال يقبل إال ما يبدو
له مقنعا على أسس عقلية و علمية سليمة. وهذا يفضى بطبيعة األمر إلى وجود ما يمكن أن
نسميه ))الضمير النقدي للباحث((.43 وهذا الضمير النقدي له وجهان؛ األول يعنى أن الباحث ال
يعفي نفسه من النقد الذاتي متى وضح خطأ أفكاره. والنقد الذاتي ال يعنى أن يراجع الباحث
أفكاره ومواقفه السياسية نتيجة لتغير الظروف السياسية بمعنى أن يكون رجل كل العصور فهذا
ابتذال لمعنى النقد، وإبعاد للباحث عن الموضوعية التي هي حجر الزاوية في البحث العلمي.والوجه اآلخر يعنى تقبل الباحث النقد من اآلخرين ألنه ال يستطيع رؤية جوانب الضعف أو
النقص في عمله وبالتالي يكون في حاجة إلى من يتأمل هذا العمل بعيون أخرى.44
6 – البعد عن حب الشهرة والظهور ، على المؤرخ أال يسعى إلى ذلك، وأال يحفل بالكسب
واأللقاب والجاه والمناصب ، وأن يكرس نفسه لعمله العلمي في صمت وسكون ، من دون أن
يوزع جهده هنا وهناك ، ودون أن يقوم بأعمال أخرى ، نافعة بغير شك ، ولكن يمكن أن يقوم
بأدائها آخرون على خير وجه ، إذ أن الحقيقة العلمية التي قد يكشف عنها تعدل كل ألوان الكسب
وصنوف المناصب أو تزيد عنها . وهؤالء العاكفون المتفرغون للدرس والبحث في كافة العلوم
والفنون - ومنهم المؤرخون - هم الذين يقوم على أكتافهم على نحو أساسي – تقدم اإلنسانية
وازدهار الحضارة.
7 – الترتيب والتنظيم، فمن الضروري أيضا أن يكون المؤرخ - كغيره من رجال العلم - ذا
عقل واع مرتب منظم ، لكي يستطيع أن يميز بجالء بين الحوادث ، وينسق أنواع الحقائق ،
ويفيد بها في الموضع المناسب ، ولكي يكون قادرا على تحديد العالقة بين حوادث التاريخ في
الزمان والمكان ، ويربط بينها على اتساق وتوافق . وبغير ذلك تختلط الحوادث أمام المؤرخ
وتضطرب تفصيالتها ويعجز عن الربط بينها ، ويفقد صفته كمؤرخ)45( .
8 - إدراك العامل الزمني أي قياس األمور بعقلية عصرها فال يطبق معايير اليوم على أحداث
األمس، وهذه ملكة هامة يجب أن تتوفر لدى المؤرخ. إن الباحث يتعرض ألحداث وقعت في
أزمنة سابقة مغايرة لزمنه من حيث الظروف االجتماعية و األفكار السياسية السائدة في المجتمع
و المعتقدات و المبادئ المتعارف عليها في هذه األزمنة. و هو ال يجب أن يقيس األحداث
ويربطها بأفكار وعلل ومقاييس عصره. أو بمعنى أصح أن المؤرخ يجب أن يحذر تفسير
األحداث الماضية و تعليلها باألسباب و العلل التي لم تكن موجودة في زمنها لكنها قد تكون
بارزة وواضحة اليوم، فيجب عليه مراعاة الفارق الزمني.46
-9 اإلحساس والعاطفة ينبغي على الباحث أن يكون صاحب إحساس وذوق وعاطفة وتسامح
وخيال، بالقدر الذي يتيح له أن يدرك آراء الغير ونوازع اآلخرين. و بذلك يمكنه أن يتلمس
أخبار القادة و الزعماء و الفالسفة و األبطال مثل اإلسكندر األكبر، وقيصر، وعمر بن
الخطاب، وصالح الدين األيوبي، وابن رشد، ومايكل أنجلو، وباخ، و لويس الرابع عشر،
ونابليون، ومحمد علي، وأحمد عرابي وغيرهم، ويحس ما جاش بصدورهم من شتى العواطف،
و يفهم بقدر المستطاع الدوافع التي حركتهم التخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، و يشارك
رجال األمس موقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة، في فترات االنقالب، وفي عهود المقاومة،وفي ظروف النجاح والفشل. وإن آثار اإلنسان لتتحدث إلى قلب المؤرخ المجيد فيجد في ثناياها
صدى البشر و صدى نفسه، و تتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حيا، و يحيا في
التاريخ، ويعيش التاريخ47 .
األسس الجوهرية التي على أساسها تتحدد قيمة التاريخ المكتوب:
إن توافر الصفات اآلنفة في الباحث مع استعداده للعمل سيساعد بال شك على إخراج عمل
تاريخي جدير باالحترام، وذا قيمة. والوقع أن هناك عدد من األسس الجوهرية التي تحدد قيمة
التاريخ المكتوب، وهي-:
نوع المادة التي استقى منها الباحث معلوماته، أهي نقوش أو آثار قديمة معاصرة ثبتت
صحتها وصحة معلوماتها، فهي أصول وثائق ومراسالت مستخرجة من دور األرشيف
التاريخية وثبت أنها غير مزيفة، وأن معلوماتها صحيحة، وأنه لم يسبق نشرها، أو على
األقل لم يسبق استخدامها بدرجة كافية؟ أم أن المادة التي اعتمد عليها الباحث هي مجرد
مراجع ثانوية ليست ذات قيمة علمية ؟
قدرة الباحث على الدرس والبحث، وقدرته على نقل ما تحت يده من األصول
والمصادر والمراجع، وطريقته في استخالص الحقائق وتنظيمها وتفسيرها وعرضها.
بعد الباحث عن التحيز واألهواء، ومطابقته للواقع على قدر المستطاع وأحيانا يتأثر
الباحث بروح عصر معين، مثل عصر الحروب الصليبية أو عصر االنقالب الصناعي
أو نمو الديمقراطية أو ظهور االشتراكية، فيكتب وهو يحاول إخضاع الموضوع المعين
لرأيه وفكره. والكتابة التي يطعن فيها كاتب مسيحي على المسلمين في زمن الحروب
الصليبية أو العكس، ال تعد في إطالقها صحيحة. فالكتابة التي يتعمد فيها الكاتب أن
يتخذ اتجاها معينا، قد تعد تاريخا لنوع من التفكير أو النزعات اإلنسانية الجديرة
بالدراسة، ولكن ال يمكن أن يعد ما جاء بها معبرا عن الحقيقة التاريخية، بالنسبة لما
تناولته من موضوعات.
ثقافة الباحث، وإلمامه بطريقة البحث التاريخي ، وكثير من كتب التاريخ تعد من أمتع
ثمرات العقول لنضج عقلية المؤرخ، وثقافته الواسعة، وخبرته الوطيدة، وتبصره،
ونجاحه في إعطاء وحدة واضحة جامعة، وذلك بعكس كثير من الكتب التي تنسب
للتاريخ ظلما وافتراء، والتي يكتبها من ال يفهم التاريخ، ومن ال يملك النقد، ومن ال
يتصف بالصبر والجلد والصدق، ومن ال يطلب سوى المنفعة. ولن تزيد مثل هذه الكتابة
عن مجرد معلومات موضوعة بين دفتي كتاب. وتصبح مثل هذه الكتب غير جديرة
بأسمائها وقد ال تساوى الورق الذي طبعت عليه.48
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
أفادت مصادر طبية بمقتل 78 فلسطينيا في قصف إسرائيلي على غزة منذ فجر اليوم بينهم 38 من منتظري المساعدا...
الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للمدن الذكية شهدت المدن تطورا تاريخيا كبيرا بدأ منذ نشأتها كمدن كلاسيك...
1. قانون منع سوء معاملة الأطفال ومعالجته (CAPTA) – 1974: يوفر إطارًا لفحص وإبلاغ ومتابعة حالات إساءة...
ان تعاطي المخدرات من التحديات الاجتماعية و الصحية الواسعة التي ينظر إلي من زاوية أخلاقية أو قانونية...
دشن وكيل محافظة حضرموت لشئون مديريات الوادي والصحراء الاستاذ عامر سعيد العامري اليوم الحميس الموافق ...
دراسة ظاهرة المقاومة المكتسبة فى الفطريات نتيجة استخدام المبيدات الفطرية دراسة تأثير نظم الرى المختل...
(٥) المعرفة الكمالية ثبت مما تقدم أن المعارف العلمية والاختبارية والخاصة لازمة للإنسان كل اللزوم؛ لأ...
Morocco has recently been making huge preparations to host the African Cup of Nations in 2025 and th...
The Romantic movement, which emerged in the late 18th and early 19th centuries, transformed literatu...
تتركز رؤية القسم على تطوير تقنيات متقدمة للتشخيص المبكر والدقيق للأمراض البكتيرية النباتية، بالاستفا...
نفذ صباح امس الأربعاء موظفي وموظفات مؤسسة موانئ خليج عدن وقفتهم الاحتجاجية الرابعة امام محكمة استئنا...
.ركز أبحاث العلاج الجيني للصرع حاليًا على تخفيف الأعراض باستخدام ناقلات فيروسية مثل AAV، مع الاستفاد...