Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (2%)

اشتدت بي الرغبة — في أواخر الستينيات — أن أرسم لنفسي صورة متماسكة غنية —
حيال املشكلة املعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج املنطق الذي يقدم املقدمات
تقول الآية الكريمة: ﴿اللهُ نُ
تعمل عمل القالب الذي تنصب فيه مادة
147
لكنها جميعا تعكس واقع الحياة، لأنفسهم مثل هذا التعقيد في فهم املعاني، وإذا انتقلت إلى حلقة أخرى من حلقات البحث والنقاش — ونحن الآن في القرن
ثم ما هو إلا
لأنه أحسها بوجدانه كما يُحس العاشق عشقه
الوقت نفسه تدعو إلى نبذ أداة العقل كما تَمثل في فلسفة اليونان — وفلسفة أرسطو
املقربون منهم — على تعطيل قوانني
بحكم طبائع الأمور ذاتها — أن يكون في حياة الأسلاف كذلك ما يجوز — بل ما يجب
لكن تلك الجوانب من التراث تعرض نفسها
ومن هنا ينشأ السؤال الذي كثريً ٍّ ا جدا ما


Original text

اشتدت بي الرغبة — في أواخر الستينيات — أن أرسم لنفسي صورة متماسكة غنية —
نسبيٍّا — بتفصيلاتها عن الثقافة العربية إبَّان القرون الخمسة الأولى بعد ظهور الإسلام،
ً ه من ذلك التراث قراءة كانت دائما لا تستهدف
ٍ فلقد شعرت يومئذ أنني على كثرة ما قرأتُ
ِ تريد الوصول إليها، اللهم إلا املعرفة ل َ ذات املعرفة، لم تزل تنقصني الروابط التي
غايةً
تصل أشتات املقروء بعضها ببعض في صورة واحدة، فتستطيع أن تقول إنني كنت إلى
ً ذلك الحني قد خزنت في نفسي أكداسا من حقائق عن الثقافة العربية إبَّان تلك القرون
الخمسة التي أردت دراستها، لكن تلك الحقائق كانت عندي بغري «تاريخ» يربطها في
سرية متصلة املراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها؛ فاشتدت بي الرغبة في أن
أنصرف بمعظم جهدي بضع سنوات — نحو الدراسة املنشودة — لعلي أكمل النقص
الذي أحسست به في معرفتي بالتراث.
لكنني ما إن هممت بالتنفيذ وحولي مكتبة جامعية على درجة كبرية من الغنى بما
احتوت عليه من أصول ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيط متسع الآفاق
ً عميق الأغوار، قائلا لنفسي: دونك املحيط فاسبح إلى حيث شئت من شطآنه النائية!
َعد بالألوف؟ وماذا أدع
فكيف أبدأ وإلى أين أتجه؟ ماذا أختار من هذه املراجع التي تُ
ا ملا اخترت وما تركت؟
ٍّ
مطمئن
ُ إنه لا بد من خ َ طة سْري أرسم بها طريقي؛ أعني أنه لا بد لي من «منهج» ينظم لي
الخطوات املتعاقبة في رحلتي، فكان أول سؤال طرحتُه على نفسي لأرسم منهج الرحلة
ِد ُ م عليه؟ ولم ألبث أن أجبت: أريد
ُ على أساس الإجابة عنه، هو: ما هدفك مما أنت مقْ
أن أتعقب طريق «العقل» العربي في مساره، عندما كان العرب في ذروة عنفوانه، وملاذا
قصة عقل
«العقل» وطريقه دون سائر الجوانب التي منها ما هو خطري وهام كالوجدان الديني
والإبداع الفني وغريهما مما يتصل بالطبيعة الإنسانية في أعمق أعماقها؟ اخترت طريق
ً «العقل» في مساره إطار ُ ا يجمع لي الأشتات التي أعرفها والتي لم أكن قد عرفتها بعد من
الثقافة العربية؛ لعدة أسباب أدركتُ ً ها فور اختياري: فالاتجاه العقلي أولا أبرز ما يميزني
إزاءَ مواقف الحياة. وثانيًا لأن طريق العقل هو وحده الذي تأتي فيه الخطوات املتعاقبة
ً مكملة بعضها لبعض إما صعود ً ا أو هبوطا؛ فالخطوة اللاحقة تجيء لتكمل الخطوة
السابقة في اتجاهها وفي سرعتها وفي أهم مقوماتها. وثالثًا لأننا إذا كنا نريد اليوم أن
ً نلتمس رباطا قويٍّا يصل حاضرنا بماضينا، فيحسن أن نلتمسه في دنيا «املعقولات»؛
لأنها هي التي يمكن أن تدوم مع الأيام، فكما كانت «معقولة» للسابقني، تكون «معقولة»
كذلك عند اللاحقني.
ولكن ماذا أردت «بالعقل» عندما اخترت في تلك اللحظة أن يكون طريق العقل في
الثقافة العربية منهجي في البحث والاختيار؟ أردت به شيئني، يكفي أن يتوافر أحدهما
في موقف ما لأصف ذلك املوقف بأنه عقلاني في نزعته، أحدهما أن تكون حركة الفكر
حيال املشكلة املعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج املنطق الذي يقدم املقدمات
ً ثم ينتزع منها النتائج كما هو واضح — مثلا — في الفكر الرياضي أو في فكر الفقهاء
املسلمني، أو في طريقة التناول التي نراها بني الفلاسفة ومن يطلَق عليهم في الفكر
َع َر ْضت له معالجةً لا
َ الإسلامي باملتكلمني. وأما ثانيهما فهو أن يعالج ُ الإنسان مشكلةً
تردها إلى «مقدماتها»، بل تسري بها إلى ما يحلها ويزيل عنها موضع الإشكال، ففي
أمثال هذه الحالات تلمح ما يمكن أن نسميه بالإدراك الفطري السليم الذي يعرف كيف
َّ يخرج من مأزق تأزم في حياته، دون أن يعرف شيئًا عن املقومات النظرية ولا عند
قواعد الاستدلال الصحيح التي يشترطها أصحاب املنطق الصوري.
ولم يكد الأمر يتبلور أمامي على هذه الصورة، من حيث اختياري لطريق العقل
ً في مسار الثقافة العربية محورا أنتقي على أساسه ما أقرؤه، حتى أراد لي الله أن تقفز
إلى ذهني آية النور، مقرونة بتفسري الإمام الغزالي لها في كتابه «مشكاة الأنوار»، فكنت
ٍلاة ً لا تحددها معالم، وفجأة انفتح أمامه طريق السري واضحا
ٍ عندئذ ً كمن كان تائها في فَ
ُل
ْر ِض َمثَ
ُور َّ السَمَو ِ ات َو ْالأَ
َّ ا مفصل املراحل والخطوات. تقول الآية الكريمة: ﴿اللهُ نُ
مضيئً
ُد ِم ْن
ي يُوقَ
ٌّ
َه َ ا ك ْوَك ٌب ُدِّر
نَّ
َ
َكأ
ِم ْصبَ ُ اح ِفي ُز َج َ اجٍة ُّ الز َج َ اجةُ
ِورِه َكِم ْش َك ٍاة ِف َيه ِ ا م ْصبَ ٌ اح الْ
نُ
ٌور َعَلى
ٌ ار نُ
ْمَس ْسُه نَ
ْم تَ
ْو لَ
َها يُ ِضي َ ءُ ولَ
ٍة َلا َشرْ ِقيٍَّة َوَلا َغ ْرِبيٍَّة يَ َك ُ اد َزيْتُ
َ ار َكٍة َزيْتُونَ
َش َجَرٍة ُمبَ
َشاءُ﴾.
ِورِه َم ْن يَ
ٍور يَ ْهِدي اللهُ ِلنُ
نُ
146
رحلة في دنيا التراث
«النور» في تأويل الإمام الغزالي لهذه الآية الكريمة هو قوة الإدراك السليم، وملا
كان مثل هذا الإدراك إنما يتصاعد درجات، جاء «النور» في الآية على درجات تزداد قوةً
درجة فوق درجة، وهذه الدرجات في تعاقبها بمثابة مراحل ينمو بها العقل ويكتمل،
فأولى درجات الإدراك هي مجرد إحساس الحاسة بما ينطبع عليها ويؤثر فيها، وهي
الدرجة التي تمثلها الآية باملشكاة، واملشكاة كالنافذة مفتوحة تتلقى الضوء، ثم تأتي
الدرجة التالية التي هي املصباح داخل املشكاة، واملصباح هنا يرمز للعقل الذي يتلقى
ٍ املؤثرات الخارجية فيحولها إلى معان، وتبقى تلك املعاني مبهمة الحدود إلى أن تحيط
الزجاجة باملصباح فتثبت شعلة الضوء وتظهر حدودها ويزداد ملعانها؛ فالزجاجة هنا
هي كاملخيِّ ُّ لة عند الإنسان في عمليات الإدراك، تعمل عمل القالب الذي تنصب فيه مادة
لم تتشكل؛ فتنخرط في شكل يرسم حدودها، ولكن من أين تستمد املخيِّلة قوتها تلك؟
إنها تستمدها من «شجرة مباركة»، وهي ترمز هنا إلى وحي أو إلهام من الله سبحانه
وتعالى. وهنا ينتهي التسلسل لأن قوة الإلهام لا يُسأل عن مصدرها؛ إذ هي كالزيتونة
تضيء بزيتها وليست بحاجة إلى مصدر خارج ذاتها، فلو أننا رتبنا درجات الإدراك من
أعلى إلى أسفل قلنا: إن الوحي الإلهي يَ ً هدي أولا، فتستقيم بهدايته مخيِّلة الإنسان في
َ تشكيلها للمعاني، وكانت تلك املعاني قد تكونت بحدود مبهمة بفعل العقل، وفعل العقل
ُّ إنما ينصب ً على ما تتلقاه الحواس بصر ً ا وسمعا وغري ذلك. أو إذا رتبنا درجات الإدراك
ً صعودا بها من أدناها إلى أعلاها، كانت بداية الشوط انطباعات تتلقاها الحواس من
عني وأذن وغريها، فيتناول العقل تلك املادة الحسية ليستخرج منها معانيَها، ثم تؤدي
املخيِّلة دورها في صقل تلك املعاني والدقة في تحديدها، ومصدر هذه القوة آخر الأمر
مبادئ أولية يدركها الإنسان بلمعات من بصريته، ولا موضع بعد ذلك لسؤال يسأل عن
البصرية ما مصدرها؛ لأنها عيان مباشر يتفجر من فطرة الإنسان بمشيئة الله.
ُ أسلفت ُ لك القول بأنني ما كدت ً أرسم لنفسي منهجا أختار على أساسه ما أختاره
ِ من ذلك الخ َضِّم الزاخر من حولي — الذي هو «التراث» العربي في أصوله ومراجعه —
ْ حتى قفزت إلى ذهني آيةُ النور، وتأويل الغزالي للنور بأنه قوة الإدراك، تتدرج من مجرد
ً الحس بما هو موجود، صعود ً ا إلى الذروة الإدراكية املتمثلة في رؤية الحق إدراك ً ا مباشرا.
فكان السؤال الذي نشأ عندي، هو: أتكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها
الخطوات التي يتدرج فيها العقل عند نمائه؟ وهي نفسها املراحل الثقافية التي تتدرج
َ ه لأقيم عليه النتائج التي
بها أمة إبَّان صعودها الحضاري؟ إنه مجرد فرض فرضتُ
147
قصة عقل
َ ا أن أجد أول ما
ِمينً
ُ تهديني في السري، فإذا صدق هذا الفرض على الثقافة العربية كنت قَ
أجد مرحلة من الإدراك الفطري النقي السليم، الذي يَحكم على الأشياء وعلى املواقف بقوة
َ البديهة وحدها، ولا يطالب نفسه بالتنظري الذي يبحث عن العلل والبراهني. ووجدت بعد
ذلك مرحلة تتلوها، تتسم بما تتسم به العملية العقلية، ألا وهي تقعيد القواعد للمادة
َّ املحصلة قبل ذلك بقوة الإدراك الفطري. ووجدت ثالثًا مرحلة تواصل العملية العقلية
ً بمزيد من الدقة النظرية، وربط القوانني العلمية بعضها ببعض. ووجدت رابعا وأخريًا
مرحلةً يقف فيها صاحب الإدراك موقف املتصوفة، الذي ينشد رؤية الحق بمواجهة
َ مباشرة، فهو — مرة أخرى — ضرْب من الإدراك الفطري الذي بدأنا به، لكنه كان في
َراد َ ى، وهو الآن آخر ٌ الشوط إدراك للمبدأ الأول في
ً املرحلة الأولى إدراكا لجزئيات تأتي فُ
صورته الكلية الضرورية اليقينية الشاملة.
ُ هكذا فرضت الفَرض، واستخرجت منه ترتيب املراحل الثقافية التي اجتازها الفكر
العربي إبَّان قوته ونمائه، ذلك إذا صدق الفرض على الواقع.
فلم يكن أمامي بعد ذلك إلا أن أطالع نماذج من نتاج القرون الخمسة الأولى التي
ُ أردت دراستها، باحثًا في كل قرن منها عن أهم ما أثري من مسائل فكرية وأهم ما
قيل في تلك املسائل من آراء، وأبرز من أسهموا فيها من الرجال. فإذا بي وكأني أرى
ُ النور ماثلة أمامي واحدة بعد واحدة، في الأولى وجدت
َّ املراحل الإدراكية التي حددتْها آيةُ
ً إدراك ً ا للأمور بالفطرة الذكية، وفي الثانية وجدت إدراكا علميٍّا عقليٍّا يَستخلص القواعد
ً والقوانني واملبادئ في مجالات املعرفة كاللغة والفقه، وفي الثالثة وجدت مزيدا من دقة
ً الإدراك العلمي والفلسفي، وفي الرابعة وجدت إدراكا موفيًا للحق يعلو على عمليات العقل
َ في استخراج القواعد وصياغة القوانني؛ إذن فها هو ذا طريقي، ولم يبق إلا أن أسري على
بركة الله.
٢
لم يكن عسريًا على العني في أن ترى في املرحلة الأولى من مراحل السري — وهي القرن
ً الأول الهجري (السابع امليلادي) — كيف كان املوقف مزيجا من أدب وشعر وفروسية
وسياسة؛ فالسياسي أديب وفارس، والفارس أديب وسياسي. ولقد اخترت الإمام عليٍّا
ً نموذجا لتلك املرحلة، فهو كل العناصر التي ذكرناها، وأحكامه ومواقفه لا تحتاج منه
إلى دراسة منهجية واستشارة للمراجع، بل هو بديهة قوية ترى بلمع البصرية وملحها.
148
رحلة في دنيا التراث
على أن أهم ما استوقف نظري في تلك املرحلة الأولى: هو الصلة الوثيقة الحميمة بني
بَ َت من أرض
بْ ٌت نَ
الفكر والواقع؛ فاملشكلات التي تُ ْطَرح تحت أنظار املفكرين إنما هي نَ
َ الحوادث الجارية وما تثريه من أسئلة تنتظر الحلول، فمن معركتي الجَم ِ ل وصفِّني —
ْ ا بها — نشأت عدة أسئلة كانت هي
َ اللتني نشبتا بسبب الخلافة وم ْن ذا يكون حقيقً
ُ أول ما طِرَح على املسلمني في مجال الفكر النظري، وكان من أهمها مشكلة الذنوب
الكبرية ومقترفيها؛ فها هي ذي حرب بني فريقني من املسلمني فيهم صفوة من صفوة
املسلمني، وحسبنا أن يكون فيهم عائشة أم املؤمنني وعلي بن أبي طالب أمري املؤمنني.
ُ نعم، ها هي ذي حرب ناشبة بني فريقني من هؤلاء، سِف َكت فيها دماء، وما داما فريقني
َ متخاصمْني على قضية معيَّ ٌ نة، فلا بد أن يكون من الفريقني فريق واحد — على الأقل
َب الحق؛ إذ لو كان كلاهما على حق ملا اختلفا وتقاتلا، فماذا يكون الحكم
— قد جانَ
فيمن يثبت عليه الخطأ منهما؟ ألا يكون هو املسئول عن الدماء املسفوكة؟ فهل يَُعد مع
د ً خارج ُ ا على الإسلام؟ ... طِرَح السؤال، فجاءت
ً هذا الذنب الكبري مسلما كما كان، أم يَُعُّ
عنه إجابات ثلاث، لو تحدثنا عنها هنا بمفاهيم عصرنا هذا، لقلنا: إن إجابة منها جاءت
ً من يسار متطرف — وهم الخوارج — تقول إنهم بذنبهم ذاك يكونون كفارا، وإجابة
ً ثانية جاءت من يمني متطرف، تقول بل إنهم جميعا يظلون مسلمني كما هم، وإجابة
َّ ثالثة جاءت من وسط معتدل، تقول بل إن من يثبت عليهم الخطأ لا هم مسلمون أكمل
الإسلام، ولا هم خارجون على الإسلام، بل هم في منزلة وسطى بني املنزلتني، هي منزلة
ً «املسلم العاصي». كان هذا الوسط املعتدل متمثلا أول ما تمثل في واصل بن عطاء،
ٍ وكان في حلقة دراسية حول شيخها الحسن البصري، عندما طرح السؤال املذكور، فما
ً كان من واصل إلا أن أبدى الرأي املعتدل الذي ذكرناه، ولعله لم يصادف قبولا عند
ٍ شيخه؛ فترك الحلقة وجلس على مقربة منها ليلحق به من يؤيده في فكرته تلك، وعندئذ
ْطلَق
قال شيخه الحسن البصري عنه: قد اعتزل عنا واصل، فأصبح اسم «املعتزلة» يُ
على أتباع واصل، ثم اتسعت الدائرة على مر السنني وتشعب املعتزلة وتنوعت قضاياهم
ً وا جميعا بطابع مميز هو «عقلانية» النظر واعتدال الأحكام. وهكذا
ُ الفكرية، لكنهم عِرفُ
نشأ تيار فكري أعتقد أنه من أقوى ما شهد املسلمون الأولون في دنيا الفكر النظري.
وأعود فأكرر ما أسلفتُه، وهو أن ما يستوقف النظر مما يفيدنا نحن اليوم هو الطريقة
ْ التي خرجت بها املشكلة الفكرية من أحداث الواقع، كما ينبغي لكل فكر أن يكون.
ولم تلبث أن تفرعت من ذلك مشكلةٌ أخرى كانت أول ما عرض على الفكر الإسلامي
َ من قضايا السياسة، ألا وهي مشكلة الخلافة وم ْن ذا يكون أحق بها؟ وسرعان ما انتقل
149
قصة عقل
التفكري من مجرد النظر في الأمر على أنه مشكلة جزئية تنحصر في أشخاص الفريقني
املتحاربَْني َ في موقعتي الجَم ِ ل وصفِّني؛ ليصبح تفكريًا في النظرية السياسية من حيث
هي، فهل هنالك ما يقتضي أن تنحصر الخلافة في بيت الرسول؟ أو أنها حق لكل مسلم
تتبني صلاحيته للحكم دون الآخرين؟ فكانت تلك هي اللحظة التي انشعبت عندها الآراء
وبَنِ ِ يه م ِ ن بعده، وهؤلاء هم
ا لعليٍّ
في مذاهب، كان أهمها الرأي الذي جعل الحكم حقٍّ
ٌّ «الشيعة» — شيعة علي — وبجانبه رأي مضاد هو رأي «الخوارج» الذين خرجوا على
تبعيتهم لابن أبي طالب، قائلني إن الحكم إنما يكون لأصلح الناس له من املسلمني
أجمعني، عربً ً ا أو عجما على السواء، ومن بيت الرسول أو من خارج البيت.
وأخذت املسائل الفكرية تتفرع في موضوعاتها، ويتفرع معها املفكرون مذاهب
ً وتيارات، لكنها جميعا تعكس واقع الحياة، حتى ما قد يُظن منها أنه فكر نظري بَ ْحت،
ففي أواخر املرحلة الأولى في رحلتنا الثقافية هذه — ونحن الآن قد جاوزنا مرحلة الفطرة
والبداهة إلى مرحلة «العقل» ومنطقه في معالجة ما ينشأ من مشكلات — كانت دراسة
ُ اللغة والنحو على أشِّدها؛ فالهدف هو الكتاب الكريم وإجادة فهمه، ولا بد للفهم الجيد
ٍ من إتقان َ لدراسة اللغة وكل ما يتعلق بها، فماذا عسى أن تقول إذا ما نظرت فوجدت
جماعتني من الدارسني: إحداهما في البصرة، والأخرى في الكوفة، فإذا هما تختلفان
بْنَى عليه الدراسة اللغوية؛ فجماعة البصرة
إحداهما عن الأخرى في الأساس العميق الذي تُ
ْ — وفيها الخليل بن أحمد وسيبويه — ذهبت إلى أن يكون العقل بتقسيماته املنطقية هو
أساس الدراسة، بمعنى أن منطق التقسيم لو أخرج لنا لفظة مشتقة من أخرى على قواعد
الاشتقاق النظرية؛ وجب اعتبارها صحيحة حتى ولو لم يكن القدماء — الجاهلية — قد
استعملوها. وأما جماعة الكوفة — ومنها الكسائي — فترى أن ما لم يستعمله العرب
الأولون فهو غري صحيح ولا يجوز استعماله، فليست العبرة بالقواعد النظرية وتطبيقها،
َ بل العبرة بتاريخ العرب وما قالوه بالفعل. أقول: ماذا عسى أن تقوله إذا ما نظرت
فوجدت هاتني الجماعتني منهمكتني في دراستهما اللغوية إلا أن تقول إنه علم للعلم في
ْمِعن النظر تجد في جماعة
َ
ذاته، حتى وإن كان بينهما اختلاف على الأساس، ولكن أ
َ البصرة م ْن هم من أصول فارسية، وأن جماعة الكوفة من الأرومة العربية الخالصة،
أفلا تأخذك الريبة إزاءَ هذا أن تكون جماعة البصرة قد لجأت إلى إعمال العقل وحده
حتى لا يتركوا أفضليةً ملن هو سليل أصل عربي، وأن جماعة الكوفة قد جعلت مرجعهم
في الصواب والخطأ ما قاله العرب أو لم يقولوه؛ ليحتفظوا لأنفسهم باملنزلة الأولى؟
150
رحلة في دنيا التراث
على أن ما يهمنا في هذا كله هو الصلة الحيوية القائمة بني العمل العلمي والثقافي من
جهة، واهتمامات الناس وهمومهم الحقيقة من جهة أخرى.
وكان لا بد أن ينصرف املفكرون بكثري من جهدهم نحو طائفة من جوانب العقيدة
الإسلامية ليتناولوها بالتحليل ابتغاءَ الوضوح، ومن أهم تلك الجوانب فكرة التوحيد
ذاتها التي هي رسالة الإسلام الأساسية، فماذا تتضمنه «الوحدانية» من معنًى؟ لأنه إذا
كانت واحدية الذات الإلهية لا تتطلب كثريًا من العناء لفهمها، فماذا يقال في «الصفات»
التي توصف بها تلك الذات؟ هي صفات كثرية كالحياة والعلم والإرادة والخلق والرحمة
إلى آخر ما يحفظه املسلم منها، أفلا تنطوي على «تعدد» إذا نحن فهمناها على أن لها
ً استقلالا ً بذاتها؟ وها هنا كنت تجد الاختلاف قائما بني املعتزلة وأهل السنة: الأولون
َهم إلا من حيث هي الذات نفسها، فإذا قلنا عن الله
يقولون إن تلك الصفات لا تُفْ
سبحانه وتعالى إنه «عليم» كان معنى ذلك أن العلم الإلهي هو نفسه الذات في علمها،
وهو «خالق» كان الخلق هو الذات نفسها وهي خالقة، وهكذا. لكن أهل السنة لم يريدوا
لأنفسهم مثل هذا التعقيد في فهم املعاني، فظاهر العبارة التي تقول عن الله إنه عليم،
ً ى قائما وحده والذات موصوفة به.
يدل على أن للعلم معنً
وإذا انتقلت إلى حلقة أخرى من حلقات البحث والنقاش — ونحن الآن في القرن
ُّ الثاني الهجري (الثامن امليلادي) وفي مدينة البصرة التي كانت تعج برجال الفكر —
ً فترى موضوع ً ا آخر محورا للخلاف هو موضوع «العدل» الإلهي؛ إذ من فكرة العدل
ً ينشأ سؤال عن حرية إرادة الإنسان في فعله ليكون مسئولا أمام الله يوم الحساب عن
اختياره، وبهذه الحرية والتبعة الأخلاقية التي تترتب عليها كان يقول املعتزلة، لكن
فريق الجهمية يتصدى لهم؛ لأن ذلك الفريق يأخذ بالجبرية املطلقة، مستندين في ذلك
إلى نصوص قرآنية كثرية تدل على أن كل ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة الله.
٣
ً كانت املرحلة الثانية من الرحلة الثقافية التي ارتحلتها دارس ً ا ومتأملا في دنيا التراث في
ُولاءِ على أبواب
مدينة البصرة إبَّان القرن الثاني الهجري (الثامن امليلادي)، وها نحن أ
املرحلة الثالثة، وسوف ننتقل فيها إلى بغداد التي كان بنو العباس قد أنشأوها لتكون
ٍّ مقرا للخلافة الجديدة، وستمتد بنا هذه املرحلة ما يقرب من قرنني كاملني؛ الثالث والرابع
151
قصة عقل
من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من تاريخ امليلاد)، وفي هذه الفترة بلغ العرب
بثقافتهم إلى أوج أوجها.
ً لكنني إذا أردت فهم ً ا صحيحا للروح التي سادت تلك الفترة من الناحية الثقافية،
ً لم يكن يكفيني أن أسرد املنتجات سردا عدديٍّ َ ا، فأقول إنهم كتبوا كذا وكذا وترجموا كيْ َت
َوكيْت؛ فهذه املعلومات الإحصائية لها أهمية أولى عند الوراقني، أما من كانت الأولوية
ِ عندهم للثقافة في روحها ومعدنها، فعدد املنتجات لا يكفيه، فتراه يبحث عن العوامل
َ التي اصطرع ْت َ لتؤدي إلى ظهور تلك املنتجات.
وفي حالتنا هذه التي بني أيدينا — وأعني الحياة الثقافية العربية خلال الفترة التي
ْ علت ِفعلها؛ انكشف لنا
حددناها — إذا ما كشفنا عن بعض العوامل الرئيسية التي فَ
خبيءٌ ما كان لينكشف لو أننا اكتفينا بالإحصاءات العددية ملا كتبوه وما ترجموه، وإني
لأقولها هنا في غري تواضع لكي أتحمل التبعة كلها، وهي أن تلك العوامل التي رأيتها
ا
ِّ مفسر ٍ ة للروح الثقافية التي سادت عندئذ هي رؤيتي وحدي، فإذا كان استدلالي خاطئً
فأنا وحدي الذي أخطأ أو مصيبًا فأنا الذي أصاب.
فلقد كانت مرحلتي الثانية التي صورتها في الفقرة السابقة إبَّان الخلافة الأُموية،
ُّ وأما املرحلة الثالثة التي أهم الآن بتصويرها فقد وقعت في خلافة بني العباس، وإذا
نحن لم ندرك — في انتقال الخلافة من الأُمويني إلى العباسيني — كيف كان التحالف
وثيقً ا بني السياسة والثقافة فاتنا شيء كثري.
ْ فلنذكر بادئَ ذي بَ ْدء أن البيت الأُموي كان عربيٍّ ً ا خالصا، وأراد أن تكون السيادة
ْطِلقَت
ُ
للعرب وحدهم دون سائر املسلمني من غري العرب وبصفة خاصة الفُرس، ولقد أ
كلمة «املوالي» على الفُرس املسلمني؛ فكان من الطبيعي أن يَضيق هؤلاء املوالي؛ فهم
ْ ولاءِ يرو َن
ُ
يعلمون عن الإسلام أنه لا يفرق بني مسلم ومسلم إلا بالتقوى، ولكن ها هم أ
— من الناحية العملية — أن الخلافة العربية تتعصب للعرب وتخصهم وحدهم بمكان
السيادة، فماذا يحدث لهؤلاء املوالي من الفُرس إلا أن يرتد بعضهم من الساخطني إلى
ٍّ عقائدهم الدينية الأولى قبل الإسلام، وأن يجعلوا ردتهم تلك سرا في صدورهم؛ ومن هنا
شاعت موجة من أوهام الخرافة، هي التي يطلقون عليها اسم «الزندقة»، كما شاعت
منافسات وطنية إقليمية، كل فريق يُ ْعِلي من شأن إقليمه وثقافته وتاريخه: العرب
الخلص من ناحية، والفرس من ناحية أخرى، وتلك هي الحركة التي يطلقون عليها اسم
«الشعوبية».
152
رحلة في دنيا التراث
بدأ بنو العباس يتحركون للإطاحة بالدولة الأُموية والاستيلاء على الخلافة، فأول
ما يخطر لهم أن يفعلوه هو الاستعانة باملوالي الساخطني. وبهذا التحالف استطاع
العباسيون أن يقتلعوا الأُمويني، وأن يتولوا الخلافة سنة ٧٥٠ ميلادية، وأنشئوا بغداد
ٍّ لتكون مقرا لخلافتهم. لكن الذي يهمنا في هذا املقام ليس هو الأحداث السياسية في
ذاتها، بل هو التحولات الثقافية التي تسبق تلك الأحداث وتصاحبها وتلحق بها، فلئن
كانت مصلحة الأُمويني — وهم في الحكم — قد اقتضتهم أن يُ ْعلوا من شأن الثقافة
ِّ العربية وحدها، وألا يعملوا جادين على فتح الأبواب لسائر الثقافات، فمصلحة العباسيني
قد اقتضتهم شيئًا آخر، هو أن يُفسحوا املجال للثقافات الأخرى — وفي مقدمتها ثقافة
الفرس — إرضاءً للموالي الذين ساعدوا بني العباس في الإطاحة ببني أمية، ثم ما هو إلا
أن بدأت حركة النقل على أوسع نطاق من ثقافة اليونان.
فإذا رأينا املأمون يقيم للترجمة عن اليونان فلسفتهم وعلومهم «دار الحكمة» في
بغداد، فكان ما كان من سريان فكر جديد في شرايني الثقافة العربية؛ أدى بها إلى
الارتفاع كما ارتفعت خلال القرنني الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر
من التاريخ امليلادي)، فمن املهم أن نحسن فهم الأسباب التي كانت وراء الحركة كلها —
وهي أسباب سياسية في أساسها — لنعلم كيف تتآلف السياسة مع الثقافة في حركات
النهوض.
ِّ ولن تكون لنفسك صورة صحيحة عن مدى ما تغريت به الثقافة العربية نتيجة
ٍ ا مما أنتجوه، وعندئذ ترى كم هي جديدة
لذلك التحول إلا إذا قرأت لبعض الأعلام شيئً
تلك الصورة الثقافية الجديدة، فلم يكن للعرب سابق عهد بمثل هذا التفكري، ولا كان
لأصحاب املصادر املنقولة إلى العربية في حركة الترجمة سابق عهد بمثل هذه الكتابة،
فنحن الآن أمام فكر جديد سيق لنا بأسلوب جديد.
اقرأ الجاحظ من القرن التاسع امليلادي، ونظريه أبا حيان التوحيدي من القرن
َّ العاشر، اقرأ لأعلام املتكلمني كالنظام والعلاف؛ لترى على أية صورة باتت الأفكار
الإسلامية الخالصة تُعرض في تحليل منطقي بلغ من الدقة غاية قصوى، واقرأ — من
َ نتاج القرن العاشر — رسائل إخوان الصفا، أو م ْن شئت من الفلاسفة في تلك الفترة:
الفارابي أو ابن سينا، بل اقرأ لشعراء ذلك العصر: املتنبي أو أبي العلاء املعري، أو
ً اقرأ لأعلام النقد الأدبي في القرنني التاسع والعاشر مع َّ ا كابن سلام والقاضي الجرجاني
وعبد القاهر الجرجاني، اقرأ من كل تلك الكنوز ما شئت تجد ثمرة فكرية جديدة، فيها
153
قصة عقل
نضج وعمق وبصرية؛ جاءت نتيجة التزاوج بني ثقافة عربية تقليدية أراد املتعصبون
من بني أمية أن يقصروا أنفسهم عليها، وثقافات أخرى مختلفة املنحنى واملذاق، أرادت
لها السياسة بادئَ الأمر أن تسري في العقل العربي؛ فارتفعت الثقافة وارتفع الإنسان.
٤
وكأنما هو ضد طبائع الأشياء أن يولد جديد في الثقافة أو في الحضارة دون أن يتصدى
له قديم ليبرز عيوبه وليمحوه من الوجود إذا استطاع، وربما كانت هذه الحراسة من
التقاليد القائمة ملا عسى أن ينجم من الجديد من تشويه ملعالم الشخصية الأصيلة؛
فتتصدى له بالتحدي حتى تلجم خطاه. أقول: ربما كانت هذه الحراسة الثقافية في
ً صالح الأمة بصفة عامة حتى لا تلعب بها النزوات والأهواء، لكنها أيضا قد تكون مصدر
ضرر بالغ إذا بولغ فيها مبالغة من شأنها أن تقتل براعم الإبداع الفكري والفني كلما
بزغت لتينع وتزدهر. ومهما يكن من أمر فقد حدث للثقافة العربية الجديدة التي أشرنا
ً إليها في الفقرة السابقة أن نهض من يقاومها مقاومة عنيدة، مقيم ُ ا حجته على أساس
ٌّ أن الجديد غريب على الروح العربية الأصيلة وضار بها وليس بذي نفع لأبنائها، لكننا
ْشرِبُوا حتى
ُ
نلحظ في أولئك الذين نهضوا ملقاومة الثقافة الجديدة أنهم فعلوا ذلك بعد أن أ
َ ارتوْوا من تلك الثقافة نفسها التي يقاومونها؛ ولذلك جاءت مقاومتهم لها مستخدمة
َ أدواتها وأسلحتها. وأقوى مثَل نسوقه لذلك هو الغزالي في حملته ضد الفلسفة اليونانية
في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ً ولقد كنت أتحدث عن مراحل رحلتي الثقافية في دنيا التراث، متدرجا معه خلال
القرون الخمسة الأولى من تاريخ املسلمني، ومهتديًا بدرجات الإدراك املتصاعدة في قوتها
ي فشجرة
ٌّ
ُ وسطوعها، كما وردت في آية النور: مشكاة فمصباح فزجاجة فكوكب دِّر
مباركة. املشكاة لتأثر الحواس بما تتلقاه مما حولها من مؤثرات، واملصباح للعقل في
تكوينه للمعاني بناءً على ما استخلصه من إدراك الحواس، والزجاجة لانضباط تلك
ي للدرجة القصوى من ملع العقل،
ُّ
ُّ املعاني بما يحددها ويزيدها جلاء،ً والكوكب الدِّر
ً وهذه الخطوات كلها أجملناها إجمالا ًسريعا فيما أسلفناه، ثم تأتي الدرجة الأخرية التي
ً هي الشجرة املباركة رمزا لاعتراف العلم، لا من الخارج بل من النبع الباطني، من طبيعة
الذات الداخلية، وهو ضرب من الإدراك يجيء إلى صاحبه برؤية باطنية مباشرة، فلا
ٍ استدلال لأفكار ِمن أفكار سواها، ولا إقامة برهان على فكرة بفكرة أخرى، فمثل هذه
154
رحلة في دنيا التراث
ُ املعرفة اللدنِّية التي تَغترف من خلجات النفس لا شك في يقني صوابها — عند صاحبها
— حتى ولو عارضته فيها الدنيا بأسرها؛ لأنه أحسها بوجدانه كما يُحس العاشق عشقه
ملن يعشقه، وكما يُحس الخائف خوفه، واملتألم أمله، والنشوان نشوته.
ْمَسسه نار، هي املرحلة
مرحلة «الشجرة املباركة» التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تَ
ِّ إلى رفض الحواس ورفض
ُ الأخرية من رحلتي الثقافية في دنيا التراث، حيث سمعت دعوةً
العقل (إلا في امليادين الخاصة بهما)، واللجوء إلى رؤية الباطن رؤية مباشرة لشهود
«الحق». وكان صاحب الدعوى الذي اخترناه ليكون الناطق بها واملفصح عن فحواها
هو الإمام الغزالي.
لكنها وقفة ذات وجهني؛ لأنها إذ تدعو إلى رؤية الحق بالشهود املباشر، فهي في
الوقت نفسه تدعو إلى نبذ أداة العقل كما تَمثل في فلسفة اليونان — وفلسفة أرسطو
في صورتها السينوية (أي عند ابن سينا) بصفة خاصة؛ ومن هنا جاء كتابه «تهافت
الفلاسفة» ليبني كيف تتناقض تلك الفلسفة مع نفسها، فكان كتابه ذاك بمثابة إغلاق
تُك عنها. ولسوء
الباب الذي تسللت منه أضواء الثقافة الجديدة الساطعة التي حدثْ
ِبث
ْ حظ الثقافة العربية أن كان الغزالي من القوة بحيث جاءت حركته تلك إغلاقًا لَ
فعله يؤثِّر في مجرى الفكر العربي نحو ثمانية قرون كاملة، لم تظهر فيها حركة فتح
مضادة تلغيها إلا ابتداءً من القرن التاسع عشر، وحتى رد ابن رشد على كتاب الغزالي
بكتاب «تهافت التهافت» (أي إن التناقض ليس في فلسفة أرسطو، بل هو في كتاب
الغزالي) أقول: حتى ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت» لم يغري من الأمر شيئًا؛ إذ كاد
تأثري ابن رشد يقتصر على الغرب، فكأنما جعلناها قسمة ثقافية: الغزالي لأبناء الشرق
وابن رشد لأبناء الغرب (الرحلة الثقافية في دنيا التراث هي التي فصلت أخبارها وثمارها
في كتاب «املعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»).
٥
قل ما شئت عما في تراثنا العربي من قوة وغزارة وإبداع، فذلك كله صحيح، لكننا نُغمض
أعيننا عن الحق إذا نحن أغمضناها عن عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع
َ فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وإنه ملن العبث أن يرجو العرب املعاصرون
ً لأنفسهم نهوض ُّ ا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود؛ لتنطلق
155
قصة عقل
نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه، إنه لا بناء إلا بعد أن نُزيل الأنقاض ونمهد
الأرض ونحفر للأساس القوي املكني، وسأكتفي من هذه العوامل املعوقة بثلاثة:
الأول: أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه — وبسبب سلطانه
السياسي — صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغري أداة التعريف)، بحيث
لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغريه من الناس آراؤهم.
الثاني: أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه
وأعادوه ألف ألف مرة، لا أقول: إنهم أعادوه بصورة مختلفة، بل أعادوه بصورة
واحدة، تتكرر في مؤلفات كثرية، فكلما مات مؤلف لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق
ً فه اسم ً ا جديد ُ ا، فظن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثرية إذا تعددت له
على مؤلَّ
الأسماء.
الثالث: الإيمان بقدرة الإنسان — لا كل إنسان؛ املقربون منهم — على تعطيل قوانني
الطبيعة عن العمل كلما شاءوا على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون — على
صعيد الدولة — أن يعطلوا قوانني الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها
(راجع الفصل الثاني من كتاب «تجديد الفكر العربي»).
إنني حني انصرفت بمعظم جهدي إلى دراسة التراث العربي في أمهاته — وكان ذلك
ً في أواخر الستينيات وما بعدها — لم أفعل ذلك وفي نيتي أن أكون عبدا ملا أقرؤه، ولا أن
ً أكون سيدا متعاليًا عليه، كلا، ولا كان في نيتي أن أقف مما أقرأ موقف املؤرخ الذي يقصر
نفسه على الفترة التي يدرسها دون أن يأذن لنفسه بالحكم عليها وتقويمها بموازين
عصره هو، بل يجعل موازين أحكامه وتقديراته ما كان يحيط بالفترة التي يدرسها من
ً ظروف، لا، لم يكن شيء من ذلك هدفي، بل قرأت ما قرأته ليكون حكمي عليه قائما
على معايري عصرنا نحن، من حيث انتفاع الناس به وعدم انتفاعهم. إنني قرأت ما قرأته
ُ من التراث العربي قراءة مثقف يعيش في القرن العشرين، ويتنفس في مناخ حضاري
ً له خصائصه ومقوماته، ويريد أن يرى الحبل موصولا بينه وبني أسلافه، لكنه في الوقت
نفسه يشعر بأنه ما كل ما عاشه أولئك الأسلاف صالح له هو ولزمانه، ولكنه لا بد —
بحكم طبائع الأمور ذاتها — أن يكون في حياة الأسلاف كذلك ما يجوز — بل ما يجب
ً — أن يبقى ليبقى الرباط؛ فاللغة — مثلا — التي أتحدث بها وأكتبها «عربية»، وهي
نفسها ما كان يتحدث به الأسلاف وما كانوا يكتبون به — من حيث الروح والأسس
156
رحلة في دنيا التراث
إن لم يكن من حيث التفصيلات؛ وإذن فهذا رباط يجب الحفاظ عليه، ومع ذلك فحتى
ْستَخدم فيما يخدم
هذا الرباط نفسه هو كأية أداة أخرى من أدوات العيش، ينبغي أن تُ
ً أوعيتها علم ً ا من علم العصر، ووجدا من وجدان العصر.
عصرنا نحن، فأملأُ
... لننظر في حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها
ما ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا؛ لسبب بسيط، وهو أنها لم تكن هي نفسها املشكلات
ْ التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه املشكلات
مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما املعنيان اللذان تدور حولهما
أرجاء الحياة املعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك املعنيان اللذان لم يكونا
موضع النظر عند الأقدمني.
ِّ فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى املعنى الذي يقابل «الرق»؛ فالفرد
ٍّ من الناس إما أن يكون حر ً ا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبد ً ا مملوكا لغريه،
ً فلا حقوق له إلا ما يأذن له به هؤلاء، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم، فأولا
َ قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من املواطنني هم أنفسهم مجموعة
الأحرار، ثم اتسع املعنى — ثانيًا — ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة،
وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب املواطنني، إما بطريق
مباشر وإما بطريق غري مباشر، على الصورة التي نألفها — على اختلاف أشكالها — في
الدول الحديثة. لقد كان يسريًا علينا، أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها، أن
َ نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنني أن ينتخبوا
من يمثلونهم أمام من تُسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية
الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غري
حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل
املحكوم. أقول: إن نقل هذه الأنظمة كان يسريًا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل
َ يتعذر أن ننتقي ً عددا من املواد نجمعها في بعض صفحات، لنقول هذا هو دستورنا
الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في
كل ما نهتم له من شئون التشريع؟
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بني أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية،
وبني صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف، فعلى طول التاريخ العربي ندر — وكدت
ْ أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة — ندر أن زالت حكومةٌ لأن
157
قصة عقل
الشعب املحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمري أخذ الحكم
َ وراثة أو أخذه عنْوة، وفي كلتا الحالتني لا يزعزعه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن
أو ما رأيت من سبل تكون في وسع املتآمر عليه، فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك
ا
حق العزل، ولا القلة التي لهم الصدارة في املجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئً
إلا الطاعة أو العصيان أو املؤامرة (راجع الفصل الثالث، بعنوان «ثقافة في تراثنا لا
نعيشها» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).
٦
إنه كلما أثريت قضية التراث وما ينبغي أن يكون موقفنا منه أخذًا ونبذًا أثارت معها
الصعاب، كأنها سؤال بغري جواب أو مشكلة بلا حل، فهذا هو ما تركه أسلافنا من فكر
وشعر، من علم وأدب، من فقه وتاريخ ورحلات، من فلسفة ونقد، فماذا نحن صانعون
به؟ قد يكون فيه ما تظل له حيويته وضرورته إلى عصرنا هذا وما بعد عصرنا، كاللغة
ِ من حيث هي أداة لا بد منها للتعبري والتفاهم، وما فيه من شعر ونثر فني لا تبلى جَّدته
لأنه فن، والفن لا يفنى ما دام صادقً َ ا، وجوانب أخرى كثرية لا ضري علينا من سريانها في
شرايني حياتنا، بل لا مناص لنا ولها من ذلك السريان؛ لأنه حتم تاريخي ما دامت الأمة
الواحدة موصولة الحلقات حاضرها بماضيها، لكن تلك الجوانب من التراث تعرض نفسها
علينا مختلطة بغريها مما لم يعد لنا به شأن؛ ومن هنا ينشأ السؤال الذي كثريً ٍّ ا جدا ما
ً يتردد اليوم على ألسنتنا وأقلامنا: ماذا نصنع أمام تراث لم يعد صالحا لنبض الحياة؟
وفي مقالة عنوانها: «نحن نصنع املاضي» (راجعها في كتاب «مجتمع جديد أو
ً الكارثة») رسمت صورة تخيلتها لشابني كانا يتحدثان معا في حضوري، أحدهما يرفض
أن نشغل أنفسنا بذلك التراث ما دام زمانه قد ذهب، وما دمنا نعيش في زماننا نحن
ً متميزا بظروفه، وأما الآخر فلا يجد الحياة ممكنة في زماننا هذا دون أن نستمد بعض
غذائها من تراث الأسلاف، ثم أكملت الصورة املتخيَّ ْ لة للحوار بني الشابني بأن جعلتهما
يحتكمان إليَّ باعتباري أستاذهم فيما مضى من سنني، فقلت مجيبًا بما هو رأيي في
قضية املاضي:
َّ «... إنكما تتكلمان عن املاضي وكأنه قطعة من الحجر الصوان، إما قبلتها كما هي،
ِزيد صفحة
وإما رفضتها كما هي، أو كأن ذلك املاضي كتاب اكتملت صفحاته، لم تعد تَ
ولا تنقص صفحة، وعلى القارئ أن يتلوه من فاتحته إلى ختامه، أو أن يكف عنه من
ِغ ِ لافه إلى غلافه.»
158
رحلة في دنيا التراث
ً ولكن أمر املاضي ليس كذلك، فأولا ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه؛ لأن
ٍ هذا املاضي إنما هو ماض لحاضر، ولو بَترْنا العلاقة بينهما ملا جاز لنا بعد ذلك أن
َ نسمي املاضي ماضيًا، بل يصبح مجموعة من أحداث عائمة على تيار الزمن، دون أن
تربطها الروابط بهذه الأمة أو بتلك، لكن ماضينا هو ماضينا نحن، موصول الحلقات
بالحاضر الذي نعيشه نحن، ولكل شعب آخر ماضيه وحاضره، وذلك يشبه أن تكون
طفولتي هي طفولتي أنا دون أي إنسان آخر، موصولة الروابط بشبابي وكهولتي،
وليست هي مجرد طفولة سابحة في الهواء. إنه إذا كانت حياتنا كتابًا من عدة أجزاء؛
فالحاضر هو الجزء الأخري من تلك السلسلة، يتلوه بعد ذلك أجزاء جديدة تظهر على
َهم إلا على ضوء سوابقه.
ِ التوالي، على أن آخر الأجزاء لا يُفْ
وثانيً َّ ا: إن ماضينا كالسجادة املزخرفة بالصور املتشابكة، ويدخل في نسيجها عدد
َّ حمة وخيوط السَدى، تتقاطع بعضها مع بعض؛ وإذن فلا بد للرائي
ُّ
ضخم من خيوط الل
ٍّ أن يختار لنفسه من هذا الكل املركب خط ً ا واحدا لتعقبه، كأن يختار خط النباتات
املصورة على الرقعة أو خط الحيوان أو خط الأشكال الهندسية وما شابه ذلك.
ِ إنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن املاضي شيء مفروض علينا، لا قبَ ٍ ل لنا بعملية اختيارية
نتحكم بها فيما نأخذه وما نتركه، وأن هذه الحرية في التركيب والبناء مقصورة على
ْمِع ً ن النظر قليلا تجد ألا
َ
تصورنا للمستقبل، ولا تمتد كذلك إلى تصورنا للماضي، لكن أ
ٍ فرق في حرية الصنع والبناء بني ماض ومستقبل، كلاهما هو ما نصنعه نحن باختيارنا،
كل ما في الأمر من اختلاف بني الحالتني، هو أننا بإزاء املاضي أمام أكوام مركومة من
مواد البناء، فنتقدم ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه، ثم نقيمه في البناء الذي يحلو لنا
أن نقيمه لأنفسنا، على حني أننا بإزاء املستقبل نحفر القنوات التي يتسرب فيها الحاضر
على نحو ما نريد له أن يتسرب؛ لتتكون الصورة التي نحب لها أن تكون.
ُ املاضي والحاضر كلاهما من صنعنا، وإن هذا الصنع ليجيء نتيجة لاهتماماتنا نحن
في الآونة الحاضرة ...


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

Caitlin Clark s...

Caitlin Clark sets awful WNBA record in debut.The women's league season started last night, the oppo...

ثانيا : المنتجا...

ثانيا : المنتجات التأمينية الخاصة بالشركات أ- تأمين المركبات: يقدم هذا المنتج حلولاً تأمينية مرنة ...

بالتأكيد، فتحة ...

بالتأكيد، فتحة العدسة وسرعة الغالق هما اثنان من العناصر العاملة الثلاثة التي تُستخدم للحصول على التع...

RESULTS AND VAL...

RESULTS AND VALIDATION Introduction Outcomes and Verification This chapter will cover the outcomes t...

A psychoanalyti...

A psychoanalytical approach to a doll’s house… Nora All the characters in a doll’s house have ps...

علم الخضر كان غ...

علم الخضر كان غامضًا وعميقًا، يتجاوز العلوم الدنيوية التقليدية ويشمل الأبعاد الروحية والإلهية. كان ع...

تعريف اإلدارة ا...

تعريف اإلدارة اللوجستية: تدفق وتخزين السلع عملية تخطيط وتنفيذ فعالة للتحكم ف والمعلومات من المنشأ ...

‎‫اعتماد منظور ...

‎‫اعتماد منظور النوع في التربية الدلالة والأهمية‬‎ ‎‫إن اهتمام سوسيولوجيا التربية بموضوع النوع الاج...

وقد ازداد الغاز...

وقد ازداد الغاز الطبيعي المسال من 80 مليون طن مع نهاية تسعينيات القرن العشرين الى 230 مليون طن عام 2...

قد يحدث في بعض ...

قد يحدث في بعض الأحيان أن يود المؤلف إخفاء هويته الحقيقية، فيفضل نشر مصنفه بدون ذكر اسمه، هذه الفرضي...

Ich hatte Ihr W...

Ich hatte Ihr Wort ernst genommen und darauf vertraut, dass das Programm des Clubs vielfältiger und ...

يتم تجسيد التضا...

يتم تجسيد التضاريس الأرضية بطريقة برتشارد باتباع الخطوات الآتية : تحديد منطقة الدراسة على الخريطة ال...