Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

(Using the AI)

لأنّ شعوري بالعجز كان أشدّ عليّ من حمل مدينة، ولأنّ ندوب الماضي هاجمتني فجأةً، و إدراكي أنّ لكلّ حرب طرفين، قرّرت الانسحاب من هذه المعركة. آسف، لم يعد لديّ صبر لتحمّل باقي أيامي. هذه آخر رسالة كتبتها لأخي قبل أن أُقدم على الانتحار، والدموع تتساقط كالمطر، وقلبي يتفتّق حزنًا. لا أريد أن أترك أخي وحيدًا، لكنني لا أستطيع أن أكون عالة عليه. مع كلّ كلمة، كانت ذاكرتي تستحضر مشهدًا مؤلمًا، بكيت حتى غشيت، لكنّني انتقلت لعالم آخر: صحراء جرداء، وحيدًا تحت شمسٍ مُحرقة. ظهر رجلان طويلان، لم أستطع تمييز ملامحهما، حاولت الهرب لكنّ الصحراء بلا نهاية، هما محيطان بي. صمت مهيب، حتى نطق أحدهما (عريض المنكبين، وجنتاه حمراء، يرتدي جلبابًا أخضر) مخاطبًا الآخر (نحيلاً، يرتدي جلبابًا رماديًا): "أتعرف هذا؟" فردّ: "عرفني. هذا ثائر، 25 عامًا، درس المحاسبة، أسرته مكوّنة من أب وأم وأخين، عاطف وعاصم". قلتُ: "أسرتي الآن شخص واحد، أخي عاطف". انهالت عليّ ذكرياتي المؤلمة، غشيتُ، رأيتُ نورًا أبيض ساطعًا، ثمّ شعرتُ كأنّني طائرٌ يحلق، ثمّ سحبتُ بقوة وسقطت في هاوية، الرياح تعصف، أصوات متداخلة، روحي تنفصل عن جسدي، أضواء خافتة تُرشدني. سمعتُ صوت أمي: "ثائر، هل أتيت؟". ظهرت من وسط الأضواء كالملاك، "متى أتيت يا بني؟" قلتُ: "جئت يا أمي، افتقدتك كثيرًا!" احتضنتني، دخلتُ بيتًا لم يمرّ عليه الزمن، وإخوتي صغار، نادت أمي: "عاطف، عاصم، ما الغداء؟" رأيتهم صغارًا، لمستُ جسدي، وجهي صغير، كيف لي أن أكون بعمر التاسعة؟ صوت عاطف: "بما أن ثائر نجح، الغداء كفّة احتفال". ضحكت أمي، اجتمعنا على مائدة الطعام، أبي مسافر. تمنّيت لو بقيت في هذه الفترة. نادى عاصم: "حلوى؟" قالت أمي: "كعكة عاطف في الثلاجة". تذكّرتُ ما لا أريد تذكّره. ذهبت للمطبخ، كعكة عيد ميلاد عاطف، رقم 18. خفت. سمعتُ جرس الباب، أبي عاد بعد غياب ثلاث سنوات! اختبأت، أترقّب. هل عدت لأصلح الماضي؟ فكرتُ بتغيير كلّ شيء. رأيتُ أبي يبحث عني: "أين المشاغب؟" ترددت، ثمّ خرجتُ، عانقني أبي عناقًا طويلًا، قلتُ: "العالم دونك موحش يا أبي". نظر إليّ بعمق: "تعبيرك بليغ يا ثائر، لا أريد الابتعاد". كنتُ أقصد السنوات القادمة، لكنني لم أستطع شرح ذلك. جاءت أمي بالكعكة، احتفلنا بعيد ميلاد عاطف. قال أبي: "هديتي لك سيارة أحلامك". دهشة عاطف، عانقه أبي. قلتُ: "أبي، لا تجلب له سيارة". صمت، نظر إليّ أبي باستغراب: "لماذا يا بني؟" قلتُ: "حاجة في نفسي". غضب عاطف: "هل لأنّني سأمتلك رخصة وأنت لا تستطيع؟" هدأت أمي الوضع. ذهبتُ لغرفتي، حاولتُ التفكير بهدوء. اشتراها أبي، علم عاطف القيادة بصحبتي وعاصم. لم أرد رفض تلك الجولات، أردت استرجاع تلك الأيام، ولم أرد إغضاب أبي وعاطف. لم أتراجع عن قراري، لن أنشغل بالسيارة، طلب مني أبي أن أوصل أمي وعاصم، وافقت ثم تراجعت، تذكّرتُ الحادثة، أمي تصرخ، عاصم، أنا أفقد الوعي، المستشفى، جدتي، خالتي، أبي يبكي، عاطف في ذهول، وفاة أمي وعاصم. صرختُ: "أمي! عاصم!" سمعتُ صوت أمي: "نحن هنا يا بني". طمأنتني، قالت: "سنذهب بتاكسي، ثائر ليس بحالة جيدة". شعرتُ براحة، لم أقُد السيارة، بعد ساعتين، رنّ الهاتف، أبي: "يا بني، حدث شيء... أمّك وأخوك... تعرّضا لحادث سير". بكيتُ بصوت عالٍ. خيبة أمل وكسرة نفس. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ مرّت أيام العزاء، أنا أكثر رصانة وصبرًا. غيّرتُ شيئين: أبي لم يُسجن، ولم أقضِ وقتًا في الإصلاحية. لكنّ أبي لم يخرج من الصدمة، بدأ يغيب عن عمله، لا يأكل، يشرد. في يومٍ غاب أبي، عاد عاطف سكرانًا، غائبًا عن الوعي. أبي أدمن، لم يعد كما كان. أبي نام طوال النهار، رأيتُ أموالًا كثيرة، أبي يتاجر بالمخدرات. ألقي القبض عليه، رأيتُ وجهه خلف القضبان، هزيلًا، انهزم أمام نفسه وأمام الحياة. وبعد أشهر، توفّي أبي في السجن. لماذا عدت للماضي؟ لماذا أعيش هذه اللحظات؟ كلّما حاولتُ الهرب، كان الماضي يلاحقني. وصلت للثالث الإعدادي، لم أحصل على مجموع يؤهّلني للثانوية العامة، دخلتُ الفنية التجارية، كالمرّة السابقة. لُمتُ مكوثي في الإصلاحية على كلّ شيء، لكنّ هذه المرّة لم يكن هناك سبب واضح. بنفس تتابع الأحداث، التحقتُ بكلية تجارة، قرّرتُ التركيز على عدم ضياع فرصة سفري. في السنة الرابعة، فرصة سفر، وظيفة مضمونة، لكنّ خالتي تمرّ بحالة نفسية سيئة، بقيتُ بجانبها. هذه المرة، جرت الأمور كما في الماضي. لكنّني هذه المرّة عارضت خالتي، أصررتُ على السفر. كنتُ أعتقد أنّ سفري سيرسم مسارًا مختلفًا، سأجني أموالًا، أتزوج الفتاة التي أحبّها. سافرتُ، بدأتُ أيامي بحماس، لكنّ الواقع مُرّ، الدعم المادي بالكاد يكفيني، ضغوط دراسية، عملتُ لساعات طويلة. ثمّ حادث أوقف كلّ شيء، اضطريتُ للتوقّف عن الدراسة، انقطعت المساعدات المالية، عالقٌ بين جدران باردة. كنتُ أظنّ أنّني أستطيع تغيير الماضي، لكنّني وجدتُ نفسي أمام تحدٍّ جديد، أكثر قسوة. أيامي سلسلة من التعقيدات، وحيدٌ، مريضٌ، بلا عائلة أو صديق. قرّرتُ العودة. علمتُ أنّ حالة خالتي تفاقمت، محتجزة في مستشفى الأمراض النفسية. لم يخبرني أخي. ذهبتُ لزيارتها، رأيتها حزينة، نظرت لي نظرة عتاب قاسية، أدركتُ أنّ خسارتي لفرصة السفر كانت أرحم من خسارتي خالتي. قبّلتُ جبينها ومشيت. رأيتُ ناريهان، أول حبّ في حياتي، تعمل ممرضة في المستشفى. تسارعت نبضات قلبي. سمعتُ حديثها مع صديقتها: "ثائر شابّ نقيّ، لكنّني لا أعرف عنه شيئًا بعد سفره، إذا عاد بمنصب مرموق، سأفكّر في أمره، أما هيثم فهو غنيّ ويمكنه أن يحقق لي ما أتمناه". كلماتها كشظايا زجاج، تجرح قلبي. غادرتُ المستشفى، ناريهان أنانية وخائنة، سرتُ في الشارع كالمجنون، بكيتُ، صداع شديد، صرختُ. تلك الصرخة أعادتني للصحراء، الرجلان ظهرا مجددًا، الرجل ذو الجلباب الرمادي سار في اتجاه السراب، بقي الرجل ذو الجلباب الأخضر، نظر إليّ، ابتسم، "كيف حالك الآن يا ثائر؟" أجبتُ: "تائه". قال: "هذه الحياة اختبار، هناك نوعان من الناس: الشقيّ والراضيّ. ما عليك سوى السعي والدعاء. ما كان موت أمّك وأخيك وأبيك بيدك، بل هو بيد الله. ما كان عدم سفرك خاطئًا، بل هو الأفضل. ما كان زواجك بتلك الفتاة هو ما سيجمّل حياتك. ستعيش مواقف كهذه، سلّمها لله. كنتُ ثائرًا على أقدارك، نسيتَ أنّ ربّك يدبّر لك كلّ ما لا تراه. لقد عشتَ الحياة كما كنتَ تظنّها، حتى علمت أنّ الله اختار لك الأفضل. افتَح قلبك للحياة، انطلق، عش، وانسَ الماضي. كن لأخيك عونًا، وكن رحيمًا بنفسك." شعرتُ بشيءٍ يشدّني بعيدًا، استيقظتُ، رأيتُ السكّين ورسالة الانتحار. هذا لم يكن حلمًا، بل رسالة واضحة. أعدتُ السكّين لمكانها، وقطعتُ الرسالة. استقبلتُ أخي بابتسامة، تناولنا العشاء، الروح بدأت تشفى. توضّأتُ، وتضرّعتُ لله، طلبتُ منه أن يغفر لي جزعي. شعرتُ براحة عميقة، اقترب وقت صلاة الفجر، أيقظتُ أخي، الشيخ يتلو الآية: "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم"، شعرتُ وكأنّها رسالة ثانية، الله يعلم ما هو خير لي. مع إشراقة الفجر، كلّ شيء في مكانه الصحيح، لم أعد كما كنت، التسليم لله هو المفتاح الوحيد لنجاة المرء!


Original text

"لأن شعوري بالعجز أثقل عليّ من حمل مدينة بأكملها على ظهري، ولأن ندبات الماضي كلها قررت أن تحاربني فجأةً، وبإدراكي أنه لا يوجد حرب إلا ولها طرفان، قررت أن أنهي هذه الحرب، بمعنى أن أكون الطرف المنسحب من تلك المعركة.
آسف، ولكن لم يعد لدي من الصبر ما يكفيني لتحمل باقي أيامي."


هذه آخر رسالة كتبتها لأخي بعد أن قررت الانتحار.
كنت أكتبها والدموع تتساقط من عيني وكأنها مطر، وقلبي من شدة الحزن يتفتق، لا أريد أن أترك أخي وحيدًا في هذه الدنيا، ولكنني لا أستطيع أن أكون عالة عليه أيضًا.
مع كل كلمة كنت أكتبها في هذه الرسالة كانت ذاكرتي تستحضر مشهداً مؤلماً.
بكيت كثيرًا حتى تقطعت أنفاسي وَغُشِيَتْ.
لكن لم أغب عن الوعي كليةً، بل شعرت وكأني انتقلت إلى عالم آخر. حيث وجدت نفسي وحيداً في صحراء جرداء والشمس فوق رأسي محرقة، لا يوجد أثر لقدم مشت من هنا، ولا حتى صوت طنين ذبابة.
وإذ فجأةً آتي رجلان من شدة طولهما لم أستطع التدقيق في ملامح وجههما، خفت وابتعدت عنهما، ولكن دون فائدة، فكانت الصحراء بلا نهاية، وكانا هذين الشخصين محيطين بي، فكلما ابتعدت رأيتهم حولي.
وكانت لحظات صامتة مهيبة، حتى إنني لم أصرخ وهما لم يتكلما.
حتى نطق أحدهما، كان عريض المنكبين، وجنتاه حمراء جدًا، ويرتدي جلباباً أخضر، وقال للآخر الذي كان نحيلاً جدًا، ويرتدي جلباباً رمادياً: أتعرف من هذا؟ فرد الآخر: عرفني.
فقال: هذا "ثائر" شاب يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، درس المحاسبة، وأسرته مكونة من أب وأم وأخين؛ عاطف وعاصم. فنطقت بلا تفكير: أسرتي الآن مكونة من شخص واحد فقط وهو أخي عاطف وفجأة انهالت عليّ كل ذكرياتي المؤلمة، حتى أجهشت بالبكاء، وسقطت في غياهب اللاشعور، فإذ بعيني لا تبصر شيئًا، لا أرى سوى نور أبيض ساطع جدًا يؤلم عيني بشدة.
وشعرت بتيار هواء قوي لدرجة أنني شعرت وكأني تحولت إلى طائر يحلق في السماء، وإذ بيد تسحبني بقوة، وتسقطني في الهاوية.
وبينما كنت أسقط في تلك الهاوية، كانت الرياح تعصف من حولي، وأسمع أصوات متداخلة، ثم أحسست أن كل شيء في داخلي يتجرد من ثقله، كأنما روحي تنفصل عن جسدي، وفي غمرة ذلك السقوط الغامض، بدأت أن أرى ثمة أضواء بعيدة وخافتة كأنها ترشدني نحو سبيل لا أعلمه.


وفي وسط هذا الصمت المرعب سمعت صوتاً ليس بغريب على مسمعي يناديني: ثائر، هل أتيت؟
هذا الصوت الذي تجمع فيه كل دفئ العالم، هذا الصوت الذي ألفته سنوات كثيرة، وافتقدته سنوات أكثر.
أهذا صوت أمي الحبيبة؟
ظهرت أمي من وسط الأضواء البعيدة وكأنها ملاك هبط من السماء توًا وكررت: متى أتيت يا بني؟
نظرت إليها وأنا لا أفكر في شيء سوى شوقي لها، لساني انعقد أمام جلال حضورها، ولكن سرعان ما تمالكت أدمعي وقلت: جئت يا أمي، لقد افتقدتك كثيراً! ابتسمت بحنانٍ وضمتني بين ذراعيها، وكأنها احتضنت كل ما مررت به من آلام فبتُ سليمًا.
وكانت المفاجأة عندما دخلنا أن ليس البيت فقط الذي لم يمر عليه الزمن، بل إخوتي أيضًا، كأني عودت بالزمن خمسة عشر عامًا.
فعندما نادت أمي: عاطف، عاصم احزروا ما الغداء اليوم؟
فرأيت إخواني صغاراً تلمع البراءة من أعينهم.
لمست جسدي كأني أتفحصه، ووضعت يدي ع وجهي وشعري أشعر بشيء غريب!
اقتربت من مرآة صغيرة في وجه الباب، ونظرت إلى ملامحي الطفولية، ووجهي الصغير.
كيف لوجهي أن يكون بعمر التاسعة! وكيف لعقلي وصوتي الداخلي يكون قد اقترب من عمر الثلاثين؟
ما هذه الكارثة؟ هل أنا محكوم علي بإعادة الماضي؟ أم ماذا يجري لي الآن؟
قاطعني صوت أجش، ولكن ليس بصوت رجل كبير، بل صوت مراهق يبدو في نبرته بعض الحكمة، فكان عاطف أخي الأكبر يقول: إذا فكرنا بشكل منطقي، بما أن ثائراً نجح فالغداء كفتة احتفالًا به.
ضحكت أمي ضحكة ملأت البيت سرورًا، وألوانًا زاهية وقالت: أحب ذكاءك ياطفطف!


أنا كنت بين خليط من المشاعر لا أعلم إن كنت خائفاً وتائه أم أن حنيني لتلك الأيام يجعلني مبتهجاً أنني أعيشها مجددا!


اجتمعنا على طاولة الطعام كأسرة، ولكن أبي لم يكن معنا، أتذكر جيدًا أنه في تلك الفترة كان مسافراً بالخارج.
كنت أتأمل وجوه إخوتي وأمي، وأنظر إليهم باشتياق، كنت أتمنى أن أكون عدت بالزمن لهذه الفترة، وتوقفت إلى الأبد، حيث الدفء والسكينة.
انغمست بأفكاري حتى قاطعها أخي عاصم وهي ينادي: أمي، هل سنأكل الحلوى بعد الغداء؟
ردت أمي: نعم يا بني يتبقى من كعكة عيد ميلاد عاطف أخيك في الثلاجة.
وهنا تسارعت نبضات قلبي، وتذكرت ما لا أود تذكره.
استأذنت كي أقوم وتوجهت إلى المطبخ لأنظر إلى الثلاجة حيث وجدت كعكة الميلاد بالفعل ومكتوب عليها "عيد ميلاد سعيد عاطف" ورقم "١٨".
هنا خفت أكثر.
أنا أعرف ماذا سيحدث في هذه الفترة، هذا الحدث الذي غيّر حياتي بأكملها.
وهنا سمعت صوت جرس الباب يدق، تنادي أمي عاصم كي يفتح.
بعدها سمعت مزيجاً من الأصوات، صرخات الدهشة والابتهاج والشوق.
أبي عاد من السفر بعد غياب ثلاث سنوات!
اختبأت خلف الستار أترقب شيئاً لا أعلمه، لربما يحدث شيء ينتشلني من هنا.
على الرغم من حبي لفترة طفولتي وأسرتي، إلا أن معاناتي ستبدأ من تلك اللحظة.
ولكن هنا فكرت، هل يا ترى عودت إلى هذه الفترة كي أصلح ما مضى؟
وفجأة لمع في خاطري تلك الفكرة، أنني سأغير كل ما حدث.
وفي وسط كل هذه الأفكار المزدحمة، رأيت أبي يرفع عينيه باحثًا عني وصاح باسمي: أين المشاغب؟ أين ثائر؟
ترددت للحظة، ثم خرجت من مكاني بخطوات بطيئة.
كانت ملامح أبي متعبة، أرى فيها شقاء الغربة، ولكنني أيضًا أرى فيها أمانًا غاب عني كثيرًا.
عانقني أبي عناقًا طويلًا كدت من فرط الحنين إليه أبكي.
عندما أفلتني أخيرًا، نظرت في عينيه، وقلت له بصوت مرتعش "العالم دونك موحش يا أبي".
نظر إلي بعمق وقال: تعبيرك بليغ يا ثائر، وأنا لا أريد الابتعاد عنكم ثانيةً.


كنت أنا أقصد أنه موحش بدونه في السنوات القادمة، وليس فقط السابقة، ولكنني لم أستطع شرح ذلك.


توجهت أمي إلى المطبخ جالبة كعك العيد ميلاد والمشروبات، وجلسنا معًا مجددًا على السفرة، لكن هذه المرة لنغني ونحتفل بعيد ميلاد عاطف.
كان في عقلي يدور الكثير والكثير حتى جاءت اللحظة المنتظرة، وتفوّه أبي بالمفاجأة: عام سعيد يا عاطف، كبرت وصرت شابًا، هديتي لك هذا العام مختلفة، سأشتري لك سيارة أحلامك.
ارتسمت على وجه عاطف ملامح دهشة وفرحة لم يستطع إخفاءها، وقام عانق أبي مهللًا: الحمد لله تتحقق أحلامي، أنت أعظم أب يا أبي.
وبينما كانت أسرتي في سعادة وبهجة شديدة، كنت أنا في حيرة ماذا أصنع، حتى نطقت دون أن أفكر بالعواقب: أبي، لا تجلب له سيارة.
ساد الصمت لثواني ونظراتهم تتوجه عليّ باستغراب.
قال أبي: لماذا يا بني؟
قلت: حاجةٌ في نفسي يا أبي.
رد عاطف بغضب: لا تحقد عليّ يا أخي، هل لأنني سأمتلك رخصة قيادة وأنت لا تستطيع الآن؟
حين رأت أمي عصبية عاطف حاولت تهدئة الوضع قائلة: يا ثائر يا بني، لا تدخل بهدية أخيك، في عيد ميلادك اختار يا بني ما تريد أنت.
قومت بغضب متجهًا إلى غرفتي، وأغلقت الباب بقوة، أمسكت بدماغي، لا أعلم ماذا أصنع كي أمنع أبي من شراء تلك السيارة لعاطف.
حاولت أن أفكر بهدوء، وشعرت أنني يمكنني السيطرة على الأمر حتى وإن اشترى أبي السيارة.
وبالفعل اشتراها، وكان يُعلم عاطف القيادة بصحبتي أنا وأخي الأصغر عاصم.
لم أود أن أرفض تلك الجولات لسببين، الأول أنني حقًا أشتاق إلى تلك الأيام، وأريد أن استرجعها، والثاني أنني لم أرد أن أغضب أبي وعاطف مني.
لم أتراجع عن قراري في تغيير الماضي، لن أنشغل بتلك السيارة، ولن أتوّق لقيادتها.
ولكن تمر الأيام، ويطلب مني أبي أن أوصل أمي وعاصم إلى مشوار صغير قريب من البيت، حيث كان أبي مشغول في عمله وعاطف في الجامعة.
في البداية وافقت ثم تراجعت، ما يدريني لعل تلك المشوار القريب فيه هلاك أمي وأخي عاصم كما حدث بالماضي.
ومرّ في ذاكرتي هذا الحدث الأليم، تذكرت تفاصيله كلها...
تذكرت الحادثة، أمي تصرخ وتحتضن عاصم بيد والأخرى تضعها عليّ مخافاةً لكي لا أصاب، أنا أفقد الوعي ولا أفوق إلا في المستشفى وجدتي وخالتي يصرخون بشدة.
أبي يبكي بكاء طفل في عمر الخامسة، أخي عاطف في حالة ذهول ولا يبدي أي ردة فعل.
كان بجانبي ابن خالتي سالم فسألته ماذا يحدث، فأخبرني بوفاة أمي وأخي عاصم.


صرخت صرخة مدوية أصيح: أمي أمي عاصم...
وفجأة سمعت صوت أمي يملأ المكان وكأنها توقظني من تلك اللحظة المظلمة التي كنت غارقًا فيها.
قالت أمي وهي تمسك بكتفي برفق: نحن هنا يا بني، نحن هنا يا ثائر، وأخذت تطمئنني حتى تلاشى هذا مشهد الحادثة من عيني شيئًا فشيئًا.
ثم هاتفت أبي قائلة: سنذهب بتاكسي يا راضي، يبدو أن ثائر ليس بحالة جيدة الآن.
أخبرتني أمي أنها لن تتأخر، وأنه مشوار صغير ضروري مع عاصم أخي وستعود سريعًا.


وبمجرد خروج أمي وعاصم من المنزل بدوني، شعرت براحة لأنني لن أقود السيارة اليوم وأستطيع الآن أن أعيش بسلام دون أن أتسبب في أذى لعائلتي.
لكن ذلك الهدوء لم يدم طويلًا. بعد ساعتين تقريبًا، رن الهاتف الأرضي في المنزل. تقدمت ببطء نحو الهاتف، ورفعت السماعة.
كان المتصل والدي. صوته كان مكسورًا وحزينًا بشكل جعلني توقعت ماذا حدث، قال بصوت ثقيل: "يا بني، حدث شيء... أمك وأخوك..." صمت للحظات، ثم تابع: "تعرّضا لحادث سير.
الشرطة اتصلت بي وأبلغتني.


شعرت بخيبة أمل وكسرة نفس جعلتني أبكي بصوت عالٍ كأني أتلقى خبر وفاتهما للمرة الأولى. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ ظننت أنني بحمايتي لهم من قيادتي سأحفظهم، ولكن القدر كان أقوى من أي محاولة لحمايتهم.


بعد مرور أيام من الحادث، عشنا مراسم العزاء وصدمة أبي وأخي عاطف لم تهدأ، بينما كنت أنا أكثر رصانة وصبرًا.
وبدأت أفكر في الجزء الإيجابي وهو أنني استطعت أن أغير شيئين، الأول أن أبي لم يُسجن كما حدث بالسابق بسبب إهماله وسماحه لي بالقيادة دون رخصة، والثاني أنني لم أقض تلك المدّة الصعبة في المؤسسة الإصلاحية لتهذيبي.
ولكن أبي لم يخرج من صدمة فقدان أمي وعاصم، بدأ أبي أن يغيب من عمله ولا يأكل طوال اليوم ويشرد كثيرًا في اللاشيء.
وفي يومٍ غاب أبي طوال اليوم عن البيت، نام أخي عاطف وانتظرته أنا حتى الساعة الثالثة صباحًا ليأتي إلى البيت سكران غائب عن الوعي.
لقد أدمن أبي، ولم يعد مثل السابق أبًدا.
وفي يومٍ طويل لم نرَ فيه أبي طوال النهار، نام أخي عاطف مبكرًا، بينما ظللت أنا جالس أنتظره.
عقارب الساعة كانت تزحف ببطء، حتى تجاوزت منتصف الليل ووصلت إلى الثالثة صباحًا. حينها فتح أبي باب البيت أخيرًا، لكنه لم يكن أبي الذي عرفته. كان غائبًا عن الوعي، مترنحًا، وقد أثقل السكر على كاهله.
لم يعد أبي كما كان، ذلك الرجل الذي كنت أرى فيه الأمان. الإدمان سرق ملامحه وأطفأ روحه.
حاولت أن أغير الواقع مرة أخرى وأنصح أبي وكأننا تبادلنا الأدوار، ولكن لم يجد بشيء.
ومرت الأيام، ولم يتحسن حاله، بل زادت الأمور سوءًا، أصبحت أرى معه الكثير من المال الذي لا أعلم مصدره، فأبي ينام طوال النهار ولا يذهب للعمل، فكان من الممكن توقع مصدر المال، أبي الذي عاش يذاع صيطه بالضمير والأخلاق أصبح يتاجر بالمخدرات.
وأُلقي القبض عليه، ورأيت وجهه خلف القضبان، لكنه لم يكن وجه أبي كان شخص هزيل، وانهزم أمام نفسه وأمام الحياة.
وبعد أشهر توفى أبي بالسجن..
أنا كنت سأجن، لماذا عودت إلى الماضي طالما لن أستطع تغييره؟
لماذا أعيش في هذه اللحظات مرة أخرى وكأنني عالق في دائرة مغلقة لا مفر منها؟ كلما حاولت الهروب كان الماضي يلاحقني.
كنت أعيش في تلك الفترة وكأنني في حالة ترقب دائم، أنتظر سببًا يقودني إلى مؤسسة إصلاحية، ذلك المكان الذي مررت به سابقًا، وألقيت عليه اللوم على كثير مما ضاع مني.
مرت الأيام، حتى وصلت إلى الصف الثالث الإعدادي، حيث اصطدمت بحقيقة مريرة: لم أتمكن من الحصول على المجموع الذي يؤهلني للثانوية العامة. فدخلت إلى الثانوية الفنية التجارية، مثلما حدث في الماضي. كنت ألوم مكوثي في المؤسسة الإصلاحية على كل شيء، لكن هذه المرة لم يكن هناك سبب واضح. ومع ذلك، وجدت نفسي أتخذ نفس الطريق، ملتحقًا بالثانوية الفنية، وكأنني لا أستطيع الهروب من تلك الدائرة التي تدور حولي.
مضيت فترة الثانوية بنفس الأحداث، مشاجرات بيني وبين أخي عاطف، وفاة جدتي، انتقالنا لبيت خالتي.
وبنفس تتابع الأحداث التحقت بكلية تجارة، لم أكن أبالي بتلك الأحداث وقررت التركيز على عدم ضياع فرصة سفري التي عزمت على أنني لن أتركها هذه المرة مهما كلفني الأمر.
ففي السنة الرابعة من الجامعة كان لدي الفرصة أن أسافر إلى الخارج في بعثة دراسية يمكنني من خلالها أن أحول حياتي إلى الأفضل حيث كانت وظيفتي مضمونة بعد تلك البعثة ولكن في تلك الفترة كانت خالتي تمر بحالة نفسية سيئة بعد وفاة ابنها سالم بمرض السرطان اللعين، وكانت لا تطق بُعدنا عنها فاضطررت وقتها إلى البقاء بجانبها وعدم سفري.
هذه المرة جرت الأمور كما في الماضي ولكن عندما حاولت خالتي منعي من السفر عارضتها بكل حزم وأوصيت عليها أخي وأخبرته أن في سفري هذا منافع كثيرة لنا.
كان وقتها ماي جول في خاطري أن سفري سيرسم مسارًا مختلفًا لحياتي، سأجني من الأموال ماي جعلني غنيًا وأستطيع أن أتزوج بالفتاة التي سأحبها، على الأقل سيأخذني المال من تلك الحياة التي عيشتها في رعاية أخي عاطف وأنا على مشارف الثلاثين.
كان في مخيلتي أن السفر سيرسم لي مسارًا جديدًا، بعيدًا عن حياة الرعاية التي عشتها مع أخي عاطف، وأنا على مشارف الثلاثين. كنت أعتقد أنني سأحقق ثروة تمكنني من الزواج بمن أحب، وسأعيش الحياة التي لطالما كنت أحلم بها. كنت أرى في المال مفتاحًا للخروج من تلك الحياة التي بدا لي أنها قد أضاعت الكثير من سنواتي.
فبدلاً من أن يرفضني والد الفتاة التي أحببتها أكثر من نفسي، ويزوّجها لرجل آخر، وبدلاً من أن أجد نفسي في وظيفة حكومية تكفي أساسيات الحياة بالكاد، تكاد لا تفي باحتياجاتي اليومية، كنت أرى في السفر الحل. كان في ذهني أن البعثة الدراسية هي الفرصة الوحيدة التي ستغير كل شيء، ستفتح لي أبوابًا جديدة، وستجعلني أحصل على أموال طائلة، كنت أريد أن أحقق كل أحلامي لا سيما حلمي بالزواج من الفتاة التي كانت تعني لي كل شيء.
ولكن كان القدر يخبئ لي مفاجأة كارثية. سافرت رغم كل شيء وكأنني قد انتزعت حلمي من بين أنياب الظروف. وصلت إلى البلد الجديد مفعمًا بالأمل، مشبعًا بالطموح، ومقتنعًا بأن هذه هي اللحظة التي ستغير كل شيء.


بدأت أيامي الأولى هناك بحماس لا يوصف، لكن سرعان ما ارتطمت بالواقع المرير. البعثة التي كنت أراها مفتاحًا للمستقبل بدأت تتحول إلى عبء. الدعم المادي كان بالكاد يكفيني، والضغوط الدراسية كانت أكثر مما توقعت. كنت أعمل لساعات طويلة بجانب الدراسة، وأعيش في شقة صغيرة بالكاد تليق بإنسان.


ثم جاءت الصدمة الكبرى. تعرضت لحادث مفاجئ أثناء عملي، حادث أوقف كل شيء. كأن الحياة قد أوقفت عقاربها فجأة. اضطررت للتوقف عن الدراسة لفترة طويلة، وانقطعت المساعدات المالية، وبقيت عالقًا بين الجدران الباردة، عاجزًا عن العودة أو الاستمرار.


كنت أظن أنني أستطيع تغيير الماضي لمستقبل أفضل، لكنني وجدت نفسي أمام تحدٍ جديد، ربما أكثر قسوة مما تركته خلفي.
أيامي هناك أصبحت سلسلة من التعقيدات التي لم أكن أتوقعها. كنت وحيدًا تمامًا، مريضًا بلا عائلة أو صديق يرعاني. كل شيء كان مختلفًا عن الأحلام التي رسمتها في ذهني. في لحظات المرض والضعف، كانت تلاحقني فكرة واحدة مؤلمة: لو كنت في بلدي، لكان أخي بجانبي، لكانت خالتي تمسح عني وحدتي وتخفف عني.
وبعد الكثير مع الصراعات الداخلية التي سيطرت عليّ طوال فترة سفري، قررت العودة.
لكن كانت الحياة قد أعدّت لي صدمة أخرى، فعندما وصلت علمت أن حالة خالتي النفسية تفاقمت، واحتجزت بمستشفى الأمراض النفسية.
لم يخبرني أخي لأنه كان يشعر بحالتي النفسية في الغربة ففضل أن يعاني بمفرده من وحدته وقلقه على خالتنا، عوضًا عن أن يثقلني بمزيد من الألم. ذهبت لزيارة خالتي بالمستشفى، وعندما دخلت غرفتها، رأيتها حزينة ومنكسرة، نظرت لي نظرة طويلة كانت بمثابة عتاب قاسٍ، كأنها تقول لي: "أهان عليك تركي بعد وفاة ابني؟ أليس من الواجب أن تكون جواري ترعاني؟"
في تلك اللحظة أدركت أن خسارتي لفرصة سفر كانت أرحم بكثير من خسارتي خالتي.
لم تسعفني كلماتي لأبرر لخالتي ولم يكن هناك تبرير يجدي في تلك الحالة أساسًا.
فقبّلت جبينها دون نطق أي حرف ومشيت.
بينما كنت أغادر المستشفى وأنا في حالة من الضياع التام، شعرت بشيء غريب يحثني على النظر إلى الأمام، وفجأة، رأيتها. كانت هناك، تقف على بعد خطوات قليلة، ترتدي الزي الخاص بالممرضات، حيث كانت تعمل بتلك المستشفى. كنت أشعر أنها ملاك رحمة كما يُقال.
تسارعت نبضات قلبي وكأنني عدت إلى تلك اللحظات التي لم أكن أريدها أن تنتهي، شعرت بالفراشات تطير من حولي، وكأن الزمن توقف للحظة.


"ناريهان"، أول حب في حياتي، الفتاة التي كنت أظن أنني سأتشارك معها كل لحظة في الحياة. لم أكن قد تواصلت معها طوال فترة سفري، لم أرد أن أكون ضعيفًا أمامها أو أن أظهر نفسي كما أنا، فقد كانت خطتي أن أعود إليها غنيًا، قادرًا على أن أقدم لها حياة مليئة بالفرح والراحة، وأن أطلب يدها بشكل يليق بمشاعري تجاهها.
سرت نحوها ببطء، ولكنها كانت منهمكة بالحديث مع إحدى زميلاتها. وقفت في مكان بعيد قليلاً، حيث لم تستطع رؤيتي، كي أتأملها بصمت.
لم يكن من المفترض أن أسمع حديثهما، ولكن كان الصوت مرتفع، وكانت الكلمات تخترق قلبي كخنجر مسموم.
كانت صديقتها تسألها بتعجب: "هل يوجد فتاة طبيعية تعطي مشاعرها لشخصين؟ كيف فعلتي هذا ياناريهان؟"
ثم جاء رد ناريهان كالصاعقة وكأنها كانت لطمة قوية على خدي: "لا تبالغي ياشاهندا، ثائر شاب نقي وطيب، لكنني لا أعرف شيئًا عنه بعد سفره. إذا عاد بمنصب مرموق، سأفكر في أمره، ولكن إذا عاد كما ذهب، ليس له أهمية بالنسبة لي ولن يكون جزءًا من تفكيري حتى.
أما هيثم فهو شاب غني وطموح، ويمكنه أن يحقق لي كل ما أتمناه، ويجب أن أضعه في حساباتي."


ثم تابعت بصوت هادئ ورصين كأنها تُلقي حكمة: الحياة فرص يا شاهندا، لا تتصرفي كالبلهاء و تتركي الزمام إلى قلبك فقط.
كانت كلماتها مثل شظايا الزجاج المكسور، تجرح قلبي ببطء وبشدة. غادرت المستشفى فورًا دون أن تشعر بوجودي، وكأنني كنت مجرد ظل عابر في حياتها.
ناريهان، التي كنت أظنها ملاكًا متجسدًا في إنسان، الفتاة التي عشت عمري كله أحلم بها وأرغب في مستقبل مشترك معها، تحولت في لحظة إلى كذبة كبيرة. كانت شخصًا أنانيًا وخائنًا، لم يكن لها في حياتي سوى دور الزيف والخداع.
سرت في الشارع كالمجنون، أتجادل مع رأسي اللعين، لا أعلم إن كان القدر يعاندني أم كنت أنا من أعاند القدر، جلست ع الرصيف وأخذت أبكي بحرارة وحرقة وبصوت عال مثل الأطفال، كان لا يهمني نظرات الناس من حولي لأني شارد في عالم آخر لا أرى به سوى خيبة أمل.
شعرت بصداع شديد لم أشعر به من قبل وأمسكت برأسي وصرخت بكل ما أوتيت من قوة، كانت صرخة مدوية خرجت من أعماق قلبي وكأنها تعبيرًا عن تمردي.
تلك الصرخة التي خرجت مني كانت بمثابة المفاتيح التي فتحت أمامي أبواب الماضي والمستقبل في آن واحد. أعادتني إلى تلك الصحراء التي ضعت فيها مع هذين الرجلين، حيث كانت تلك اللحظة بمثابة كشف اللغز.
وجدت نفسي في الصحراء مجددًا، وعقلي مشوش، وكأنني انتقلت بين عوالم مجهولة، تتداخل فيها الأيام والذكريات.
فجأة، ظهر الرجلان مجددًا، تبادلا التحية، ثم سار الرجل ذو الجلباب الرمادي في اتجاه السراب، بينما بقي الرجل ذو الجلباب الأخضر ثابتًا في مكانه.
نظر إلي نظرة كانت مليئة بمعانٍ كثيرة؛ شفقة، وحكمة، وود. ثم ابتسم وقال لي بهدوء: "كيف حالك الآن، يا ثائر؟"
نظرت إليه، وعيني مليئة بالأسى، كأنني خرجت لتوي من معركة ضارية، ثم أجبت بصوت مملوء بالحزن: "تائه".
أجاب مبتسمًا: "إجابة متوقعة. وأنا هنا لأدلك، يا بني الصغير.
هذه الحياة اختبار وأقدار. هناك نوعان من الناس: الشقي، وهو الذي يعاند قدره، يظن أنه قادر على التحكم فيه، ثم يغضب إذا لم تسير الأمور كما يريد. والنوع الثاني هو الراضي، الذي يعلم أن أمره كله خير، وأنه مجرد أداة في يد الله لتسيير هذه الأقدار.
ما عليك سوى السعي والدعاء، فالله يفعل ما يريد.
لا تظن الحياة سهلة، فلو كانت كذلك، لما كانت الجنة جزاء.
ما كان موت أمك وأخيك وأبيك بيدك، بل هو بيد الله، لحكمة لا تعلمها. رحلوا وما عليك سوى الصبر والتسليم لله.
ما كان عدم سفرك قرارًا خاطئًا، بل هو الأفضل لك.
وما كان زواجك بتلك الفتاة التي أحببتها هو ما سيجمل حياتك، بل البعد عنها هو ما كان في مصلحتك.
ستعيش مواقف كثيرة كهذه، وما عليك سوى أن تسلمها لله وحده.
كنت أستمع لتلك الكلمات وعيناي تغرقان بالدموع، أدركت حينها أنني حقًا كنت ثائرٌ على أقداري، ونسيت أن ربي، رب أقداري، يدبر لي كل ما لا أراه.
أنهى الرجل كلامه، ثم فتح ذراعيه لي، واحتضنني بحنان قائلاً: "لقد عشت يا ثائر الحياة كما كنت تظنها، حتى علمت أن الله اختار لك الأفضل وأبعد عنك الأسوأ.
والآن، يا بني، افتح قلبك للحياة، انطلق، عش، وانسَ الماضي. كن لأخيك عونًا، وكن رحيم بنفسك."
فجأة، شعرت بشيء غريب يشدني بعيدًا عن تلك الصحراء اللامتناهية، وكأنني أُسحب إلى الواقع. اهتزت صور الحلم من حولي، وتلاشت كما تتلاشى السحب في سماء صافية. شعرت بهزة قوية في جسدي وكأنني استيقظ من غيبوبة طويلة.
فتحت عيني لأجد بيدي سكين وجانبي رسالة انتحاري التي كتبتها لأخي.
أدركت حينها أن هذا لم يكن مجرد حلم عابر، بل كان بمثابة رسالة واضحة تلهمني بالعزم على العيش مجددًا، والانطلاق نحو بداية جديدة. أعدت السكين إلى مكانه في المطبخ، وقطعت تلك الرسالة التي كدت أتركها تملي عليّ مصيري.


وعندما عاد أخي من العمل، استقبلته بابتسامة عريضة وعانقته بقوة، كأنني أريد أن أُعبر له عن امتناني لوجوده في حياتي. تناولنا العشاء معًا، وقد شعرت بأن الروح التي كانت في داخلي قد بدأت في الشفاء.


وفي جوف الليل، توضأت وتضرعت إلى الله، أطلب منه أن يتقبل توبتي ويغفر لي جزعي على أمور كان الصبر عليها أوجب. شعرت براحة عميقة تسري في جسدي، واطمئنان غريب يغزو صدري وكأنه استوطنه.


اقترب وقت صلاة الفجر، أيقظت أخي كي نذهب معًا إلى المسجد. كان الشيخ يتلو الآية الكريمة: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، فشعرت وكأنها كانت رسالة ثانية، تأكيدًا لما تعلمته من حلمي، بأن الله يعلم ما هو خير لي حتى لو كان في الظاهر أمرًا سيئًا.
ومع إشراقة هذا الفجر، شعرت بأن كل شيء بدى في مكانه الصحيح. لم أعد كما كنت في السابق، ذلك الشخص الذي يغرق في آلامه وندمه على الماضي، أدرك أخيرًا أن التسليم لله هو المفتاح الوحيد لنجاة المرء!


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

بدينا تخزينتنا ...

بدينا تخزينتنا ولم تفارقني الرغبة بان اكون بين يدي رجلين اثنين أتجرأ على عضويهما المنتصبين يتبادلاني...

خليج العقبة هو ...

خليج العقبة هو الفرع الشرقي للبحر الأحمر المحصور شرق شبه جزيرة سيناء وغرب شبه الجزيرة العربية، وبالإ...

فرضية كفاءة الس...

فرضية كفاءة السوق تعتبر فرضية السوق الكفء او فرضية كفاءة السوق بمثابة الدعامة او العمود الفقري للنظر...

‏@Moamen Azmy -...

‏@Moamen Azmy - مؤمن عزمي:موقع هيلخصلك اي مادة لينك تحويل الفيديو لنص https://notegpt.io/youtube-tra...

انا احبك جداً ت...

انا احبك جداً تناول البحث أهمية الإضاءة الطبيعية كأحد المفاهيم الجوهرية في التصميم المعماري، لما لها...

توفير منزل آمن ...

توفير منزل آمن ونظيف ويدعم الطفل عاطفيًا. التأكد من حصول الأطفال على الرعاية الطبية والتعليمية والن...

Le pêcheur et s...

Le pêcheur et sa femme Il y avait une fois un pêcheur et sa femme, qui habitaient ensemble une cahu...

في التاسع من ما...

في التاسع من مايو/أيار عام 1960، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الاستخدام التجاري لأول أقر...

أهم نقاط الـ Br...

أهم نقاط الـ Breaker Block 🔹 ما هو الـ Breaker Block؟ • هو Order Block حقيقي يكون مع الاتجاه الرئي...

دوري كمدرب و مس...

دوري كمدرب و مسؤولة عن المجندات ، لا اكتفي باعطاء الأوامر، بل اعدني قدوة في الانضباط والالتزام .فالم...

سادساً: التنسيق...

سادساً: التنسيق مع الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية وفريق إدارة شؤون البيئة لنقل أشجار المشلع ب...

I tried to call...

I tried to call the hospital , it was too early in the morning because I knew I will be late for ...