Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة” لوران فلوي
1-مقدمة:
يعدّ المفكر الألماني ماكس ڤيبر (1864-1920) أحد أهم رواد علم الاجتماع المثيرين للجدل وأحد أبرز مؤسسيه الميامين، ولد ماكس ڤيبر (Max Weber) (ماكسيميليان كارل إميل فيبر) في مدينة ايرفيرت (Erfert) بألمانيا في 21 إبريل عام 1864، وقد شكل الوسط الاجتماعي البرجوازي المميز الذي ترعرع فيه ڤيبر الحاضن الأساسي لنشأته ڤيبر وإبداعه الفكري وانبثاق عبقريته التي اتسمت إلى حد كبير بالطابع الموسوعي [1]. واستطاع في نهاية تحصيله العلمي أن يبدأ سيرة أكاديمية مفعمة بالعطاء إلى أن أصبح واحداً من كبار علماء الاقتصاد والتاريخ والمجتمع، ويصنف على أنه أحد كبار مؤسسي علم الاجتماع، ولا سيما علم الاجتماع الإداري وعلم الاجتماع الديني. وحصل على درجة الأستاذية عن أطروحته الموسومة «التاريخ الروماني الزراعي وأهميته للقانون الخاص والعام» في عام 1892. ولم يطل به المقام حتى عُين أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة فرايبورغ في عام 1894. وتوفي في 14 يونيو 1920 في مدينة ميونيخ عن عمر يناهز 56 عاماً متأثراً بمرض الالتهاب الرئوي تاركاً وراء إرثاً فكرياً مرجعياً خصيباً في مجال العلوم الإنسانية. وقد تجلى هذا الإنتاج الفكري الملهم في عدد كبير من الأعمال العلمية التي ما زالت تشكل مصد إلهام للمفكرين والباحثين والدارسين في العلوم الإنسانية. 1923)، ومقالات في علم الاجتماع (Essays in Sociology )[4]، ومنهجية العلوم الاجتماعية (The Methodology of the Social Sciences)[5]، ورجل العلم ورجل السياسية (Man of science and Man of politic) والسياسة في الحرب العالمية (Politics in world war)، والديانة في الصين (The Religion of China) [9] وأخيراً كتاب نداء العلم أو العلم بوصفة رسالة (The Vocation Lectures: Science As a Vocation) [10]. وتدل هذه الأعمال آنفة الذكر على إسهامات ڤيبر في مجال العلوم الإنسانية، ولا سيما في مجالات المجتمع والاقتصاد والدين والإدارة والسياسة. وأنه خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة (أي في عامين) استطاع أن يفرض حضوره، إذ لا يمكن لأي مفكر عبقري في التاريخ أن يؤسس علماً، وأن يسجل اسمه بين عمالقة المفكرين في عامين من الزمن فقط. ومن المؤكد الواضح أيضا أن نبوغ ڤيبر السوسيولوجي احتاج إلى جهود كبيرة مترامية بذلت في تقاطعات عمره الزمني القصير، وعندما نمعن النظر في إنتاجه العلمي والفكري سنجد بأن معظم أعماله كانت -منذ البداية – تدور في فلك علم الاجتماع وتحلق في مداراته وتغور في أعماقه. وفي سياق آخر يمكن القول أيضاً: إن معظم الأعمال التي قدمها ڤيبر في مجال الفكر الديني ودراسات الأديان لا تخرج عن كونها فكراً سوسيولوجياً أصيلاً في منبته ومحتواه، وقد سجل نفسه في هذا المسار على أنه أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الديني، وقد تجلى هذا الأمر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يعد بحق من أهم الأعمال السوسيولوجية التي قدمها فيبر للفكر الإنساني، وهذا الأمر ينسحب بشكل عام على كتابيه الدين في الهند البوذية والدين في الصين الكونفوشيوسية، وهي جميعها قد كرست لدراسة العلاقة السوسيولوجية بين الفكر الدين وقيام الحضارة الإنسانية أو تمنعها، وهذه الأعمال كانت – بدون أدنى شك – أعمالاً سوسيولوجية في مختلف تجلياتها وأبعادها ومراميها. ومنها كتابه “مقالات في علم الاجتماع”، و “منهجية العلوم الاجتماعية” و”علم الاجتماع الديني”، و “علم اجتماع الموسيقى” و “المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع”، و”نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي”. وهو الكتاب الذي قامت زوجته ماريان ڤيبر (Marian Weber) بجمعه ونشره بعد وفاته. ويمكننا القول في هذا المقام بأن النضج السوسيولوجي في هذا الكتاب جاء نتاجاً لاختمار سوسيولوجي سابق تأصل في التكوين الفكري المبكر عند فيبر. ويمكننا بناءً على تصورنا هذا أن نعيد القول تأكيداً: بأن أعمال ڤيبر بعناوينها وموضوعاتها تدل على أن الرجل كان سوسيولوجياً منذ البدايات الأولى لنشاطه المعرفي، والتاريخ والإدارة والسياسة. ويمكن القول في هذا السياق أيضا: بأن أعماله الاقتصادية والتاريخية والإدارية كانت وثيقة الصلة بعلم الاجتماع ولم تنفصل أبداً عن تطلعاته السوسيولوجية، إذ توفي بصورة مفاجئة في ميونيخ (Munich) في الرابع عشر من حزيران 1920 وهو في السادسة والخمسين من عمره، وهو الأمر الذي جعل كثيرا من المفكرين يعتقدون بأن الموت المبكر لفيبر شكل خسارة كبيرة للفكر السوسيولوجي وللمعرفة الإنسانية
كما أشرنا، 2-1- عمالقة الفكر الإنساني:
ولم تكن تصورات ماكس ڤيبر تنطلق من فراغ فكري، وبنيوية دوركهايم (Durkheim) وداروينية سبنر (ٍSpencer). ومع ذلك فإن هذا التحدي الكبير الذي فرضه كبار المفكرين العمالقة شكل قوة حافزة لماكس ڤيبر في العمل على استلهامهم وتجاوزهم في الآن الواحد. 16]. الكانطية، والماركسية نوابض التفكير الفلسفي والسوسيولوجي عند ماكس فيبر. 2-2- مثالية فيبر:
ومن يتأمل بعمق في منهجية ڤيبر سيرى بوضوح أن ڤيبر قد استلهم كانط في مقولته عن معرفة الشيء (The thing in itself) في ذاته ومعرفة الشيء في ظاهره، وهم مدينون في إلهامهم لكتاب كانط “نقد العقل المحض”[17]. ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[18] – وفقاً لكانط – بأنّه الشيء في ذاته، وإذا كان العقل في مذهبه عاجزاً عن بلوغ حقائق الأشياء في ذاتها (الشيء في ذاته Noumena) فكيف لهذا العقل أن يتمكن من الوصول إلى حقيقة الذات الإلهية وهي أسمى معاني الوجود المتسامي على كل أشكال الحس؟[21]. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي)”[22]. وأقصى ما يمكنه أن يدركه لا يتجاوز مظاهرها، بل جلّ ما يمكن لمفاهيم العقل أن تفعله هو أن تقدم لنا تصوراً يتناسب مع خصائص العقل الإنساني وقدراته [23]. ويميز كانط، والإنسان ينتمي إلى العالم المحسوس بوصفه جسداً وإلى العالم المعقول بوصفه عقلاً وروحا؛ وقد سمّاه عالم النوميني. وهي كلمة لاتينية مفردها Neumenon وجمعها Neumena والمقصود بها حقيقة الأشياء في ذاتها لا في ظواهرها. والحواس تدرك الظواهر بينما العقل يدرك حقيقة الأشياء النوميني”[26]. ومن يتأمل سوسيولوجيا ماكس ڤيبر سيجد بوضوح أنه تلقف منهجية كانط واستفاد منها في التأسيس لمنهج سوسيولوجي يعتمد الفهم والتأويل؛ لأن الظاهرة الاجتماعية لا تدرك جوهرياً وفق منهجية الفينومينولوجيا آنفة الذكر أي: لا يمكن إدراكها في ذاتها، ولا يمكن قولبتها في قوانين جامدة، لأن قولبتها تؤدي إلى تشويهها وتدمير معانيها. على هذا الأساس يرى ڤيبر أن علم الاجتماع القائم على منهجية التفسير (السببي) لا يستقيم مع الظواهر المجتمعية التي تحتاج إلى أنماط مثالية خاصة لدراستها وفهمها. وهذا هو الأمر الذي تقوم به المنهجيات السوسيولوجية الوضعية (كونت ، ودوركهايم، وماركس) ومثل هذا التفسير يبقى شكلياً لا يستطيع إدراك البعد الوجداني في الظاهرة الاجتماعية؛ وقد يكون ممكناً لنا أن نغوص في أعماقها من خلال التأويل الذي يمكنه أن يستكشف الجوانب الخفية في الظاهرة المدرسة. فالظواهر الاجتماعية ظواهر ذاتية ثقافية وجدانية غائية معنوية لا تقبل القولبة، وتنفلت دائماً من قبضة السببية، وعلى هذا الأساس يقرر ڤيبر أن الظاهرة الاجتماعية لا تتكرر أبداً، فهي ظواهر فريدة في التاريخ الإنساني وهي تحتاج للمنهج الوجداني التفاعلي؛ وكأننا بماكس ڤيبر يريد أن يقول: بإننا لا ندرك طبيعة الظواهر الاجتماعية إلّا من خلال المعايشة والتفاعل الوجداني الصميمي. فالقول: بإن النار محرقة قانون سببي ولكن لا يمكنه أن يجعلنا ندرك مفهوم الاحتراق إلّا إذا عايشناه وجربناه على مبدأ قول الشاعر لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها. ويتضح لدينا – في هذا المقام – أن ماكس ڤيبر قد ألبس تصور كانط عن الشيء في ذاته “النومينون” والشيء في مظهره “الفينومينون” حلّة سوسيولوجية، وذلك بعد أن قام بتعديله وأسس عليها منهجه في الفهم القائم على الاستبصار الذاتي للوصول إلى جوهر الفعل الاجتماعي. فالفعل الاجتماعي يمكنه أن يفهم ويدرك ويفسر ويؤول ولا يمكن له أن ينتظم معرفياً في قوانين صارمة جامدة كالتي نراها في الطبيعة. وهي في أفضل أحوالها معرفة شكلية سطحية، تأخذ بما يظهر من السلوك، وليس بما يستبطن منه ويفهم، وكما يقول المثل ذلك عليك بما ظهر من الأمر وليس بما خفي واستتر. ومن أجل مزيد من التوضيح نقول هنا: إن منهجية ماكس ڤيبر تقوم على الفهم والتأويل، أو بما يطلق عليه الهيرمينوطيقا وهو المنهج الاستبصاري الذي يقوم على التأويل. 3- علم الاجتماع الفيبري:
جاءت السوسيولوجيا الفيبرية على هيئة انفجار ثوري كبير في مجال العلوم الاجتماعية. وقد تجلت هذه الانتفاضة الثورية في تقديم رؤى سوسيولوجية ومعرفية مغايرة للنظريات السوسيولوجية الكبرى التي روج لها كبار المفكرين من أسلافه ومعاصريه من أمثال: ابن خلدون وكارل ماركس ودوركهايم وأوغست كونت، وجاءت عطاءات ڤيبر المعرفية لتشكل قطباً جديداً في مجال الفكر الاجتماعي، غالباً ما يطلق عليه التيار التأويلي في علم الاجتماع كما في العلوم الإنسانية. ففي الوقت الذي كانت السوسيولوجيا العامة، في مختلف تياراتها الوظيفية والبنيوية والماركسية، تحثّ الخطى سعياً إلى تأسيس علم الاجتماع وتأصيل مناهجه على منوال المنهجيات المعروفة في العلوم الطبيعية، رافضاً كل المنهجيات التي تتناول الظواهر الاجتماعية بوصفها كيانات مادية جامدة تخضع لقوانين مجانسة لتلك التي تقوم في العلوم الطبيعية. وإذا كان هؤلاء جميعاً ينظرون إلى المجتمع بوصفه امتداداً للطبيعة في أكثر أشكالها تعقيداً، وعلى خلافهم جميعاً، ينظر إلى المجتمع بوصفه ذاتاً، فالمجتمع طاقة روحية سيكولوجية نفسيه معقدة لا يمكن للعلوم القانونية الوضعية أن تخترق جدرانها وأن تكتنه معانيها، كما يحدث في المادة الجامدة، بل يمكن فهمها وتفسيرها ومعرفتها. فالمجتمع يتمثل بوصفه نمطا لتفاعل كينونات ذاتية أو صيغة تفاعل جدلي بين ذوات متفاعلة بالإرادات والنوايا والمعاني والقيم، وهي في جماعها تشكل نسيجاً نوعياً ثقافياً روحياً يستعصي على الانتظام في قوانين جامدة كالتي نعتمدها في استكشاف العالم المادي، ومثل هذا النسيج الثقافي يحتاج من أجل فهمه إلى طاقة منهجية جديدة تعتمد منهجيات الاستبصار والتأمل والحدس والاكتناه الوجداني، فالظواهر الاجتماعية ليست كالذرات المادية التي تتحرك دون غاية أو معنى أو دلالة، وعلى عكس ذلك فالإنسان في علاقاته وتفاعلاته يتحرك وفقاً لمبدأ الغايات والمعاني والدلالات، وهذه لا تحكمها قوانين لأنها من نمط الوجدانيات التي تنتظم في قوانين محددة. إنها تتميز بعمق وجداني لا يكتشف إلا بمنهجيات وجدانية تعتمد التبصر والاستبصار والاستكشاف القائم على اكتناه العمق الدلالي والمعنوي في سلوك الإنسان. وباختصار يشكل الفهم والتأويل والتفسير ثلاث مراحل أساسية في مستويات المنهج السوسيولوجي عند ڤيبر ” [27]. 3-1- الثورة المنهجية -من التفسير إلى التأويل:
استطاع ڤيبر أن يحقق حضوره المميز في الحقل الاجتماعي وأن يحقق نجاحاً كبيراً في تأسيسه لعلم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology) الذي يشكل نمطاً سوسيولوجياً مبتكراً ومختلفاً عن التيارات السائدة في علم الاجتماع، ولا سيما الاتجاهات البنيوية والماركسية السائدة في الحقل السوسيولوجي. التي تحاول استكشاف القوانين الحاكمة للظواهر الاجتماعية، وهذا يعني رفضه لسوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر وأوغست كونت وغيرهم من المؤسسين لعلم الاجتماع. ويستند رفضه هذا إلى أن الدراسات الوضعية تأخذ طابعاً ظواهرياً، بمعنى أنها تستكشف العلاقات الظاهرية القائمة في المجتمع على غرار ما يجري في الطبيعة، وهذه المنهجيات لا تستطيع جوهرياً اكتشاف المعاني والدلالات في السلوك الإنساني الذي يتميز بأنه سلوك غائي معنوي ذاتي لا يمكن إدراكه بالقانونيات المعروفة في السوسيولوجيا الوضعية (Positive sociology)، دون القدرة على فهمها وإدراكها وتأويلها وفقاً للمعاني والدلالات الإنسانية. ويستند ماكس ڤيبر في استنتاجاته هذه إلى أن الظاهرة الاجتماعية تختلف نوعياً وجوهرياً عن الظواهر الطبيعية، أما الظواهر الاجتماعية فهي ظواهر حيّة معنوية دلالية غائية، لأنها تكشف ما هو خارجي وظاهر وشكلي، ولا يمكنها أن تغوص في الأعماق، وتغور في الطبقات الداخلية للظاهرة لتبحث فيما هو معنوي وذاتي وأخلاقي وإرادي، فالهوية الاجتماعية للفعل الإنساني متخفية غائرة خلف الظواهر وفي أعماق المظاهر، ولا يمكن الاستدلال على جوهريتها إلا بالاستبصار المعنوي والاستكشاف الذاتي الداخلي للفعل الاجتماعي. ودوركهايم، وغيرهم من المفكرين، وعلى خلاف المنهجيات الوضعية هذه جاء إعلان ماكس ڤيبر ميلاد منهجية انعكاسية جديدة ترفض قانونية المجتمع، وتؤسس لرؤية جديدة ومنهجية جديدة تعتمد على الفهم والتأويل، 3-2- غائية الفعل الاجتماعي
يؤسس ڤيبر رؤيته لهذه المنهجية على الطبيعة الغائية والمعنوية للفعل الاجتماعي، وهذه الطبيعة غالباً ما تكون خفية في السلوك الإنساني، مثقل بالمعاني والغايات، والآخر بغية الشهرة، وآخرون للدفاع عن الوطن، إذ لا يمكن أن نحدد غاية الحركة في الذرات والإلكترونات وانسياب أشعة الشمس واسترسال نور القمر وحركة النمو في النباتات. فالمغناطيس يجذب الحديد ولكن لا نعرف لماذا يفعل ذلك؟ ولا ندري لماذا لا يجذب الخشب؟ وكذلك الخشب يطفو على سطح الماء ولا ندري لماذا لا يطفو في الهواء؟ النار تحرق ولكننا لا نعرف ماهية الإحراق وما جوهر النار أو جوهر الإحراق؟ كما لا ندري ما جوهر الجذب المغناطيسي؟ [29] وكل ما يستطيع العلماء فعله إزاء هذه الظواهر يتمثل في العمل عل الضبط القانوني لها، ولا يمكن الوصول إلى جوهرها، وباختصار، الدراسة العلمية للظواهر المادية تقدم لنا إجابات عن الكيفية التي تحدث فيها الأشياء؛ وسنتحدث لا حقاً عن الانتقادات الكبيرة التي يمكن أن توجه إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه في البحث الاجتماعي، وحسبنا أن نشرح الطريقة المنهجية التي اعتمدها في التأسيس لمنهجه القائم على الفهم والاستبصار التأويلي[30]. 4- علم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology):
ولا سيما كتابه “البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يتضمن المقومات الأساسية لعلم الاجتماع الديني. وفي كل الأحوال فإن كتاب “الاقتصاد والمجتمع” ((Economy and Society)[31] هو أشبه بموسوعة فيبرية تضمنت مختلف آرائه وتصوراته الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد، وهذا يدل على الطابع الموسوعي لهذا الكتاب [32]. بتأويله ثم بتفسير مساره ومفاعيله تفسيراً سببياً [33]. وفي سياق آخر يقول: ” إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي” [34]. يتصرف بوعي، تحركه مقاصد وأهداف، وهذا يعني أن علم الاجتماع يجب أن يركز على فهم الفعل الإنساني والتفاعل القائم في المجتمع بين الأفراد”[35]. وإذا كان المجتمع يتكون من أفراد بالضرورة فإن هؤلاء الأفراد لا يوجدون إلّا في حالة الحركة والنشاط والتفاعل، والفعل يشكل جوهر حياة الفرد ووجوده وجوهر الحياة الاجتماعية ومعناها، والفعل الاجتماعي أي فعل يجب أن يكون إنسانياً؛ ويمكن للفعل أن يكون فردياً يدور حول ذاتية الفرد أو أن يكون اجتماعياً يدور في فلك الآخر. وعلى هذه الصورة يمكننا تصور المجتمع على صورة التفاعل الذري بين الذرات (الأفراد)، وكما يحدث في عالم الذرات تنطوي الذرة في ذاتها على فعل ذاتي يتمثل في حركة أجزائها في داخلها (الفوتونات والنترونات التي تدور في داخل الذرة)، كما تلتحم الذرة في أنساق من الذرات المشابهة لتكوين الأجسام والأشياء. وعلى هذا النحو يميز ڤيبر بين السلوك الفردي عندما يكون الفعل فردياً غائياً خارج سياق العلاقة مع الآخر، والسلوك الاجتماعي الذي يشمل حالة التفاعل بين الفرد والأفراد الآخرين. وباختصار: المجتمع والجماعات نسيج ذري من تفاعلات الأفراد وسلوكاتهم وأفعالهم الغائية. وترتسم نقطة البداية في سوسيولوجيا ڤيبر في تناوله للفعل الإنساني والاجتماعي بوصفه الموضوع المركزي والأساسي الذي ينطلق منه علم الاجتماع. أو بالأحرى قد يكون صادراً عن قوة خارجة اجتماعية، أو ناجماً عن أرادة ذاتية حرة. إذ لا يمكن للفرد أن يحيا إلّا من خلال النشاط والفعل الاجتماعي، فالفرد لا يوجد إلّا في حالة الفعل ليضمن حياته ووجوده. والفعل الاجتماعي لا يتم إلّا في أطار جماعة؛ أي في صلة مع الآخرين، وأن الفعل يكون في نسق التفاعل مع الآخرين، وهذا التفاعل الاجتماعي بين الجماعة أو في المجتمع يشكل النسيج الاجتماعي. وهذا يعني أن الأفراد يوجدون من خلال الأفعال التي يمارسونها في صيغة تفاعل اجتماعي بين الأفراد، ويبدأ ڤيبر في نسج أفكاره السوسيولوجية من خلال تناوله للفعل الاجتماعي الذي يشكل منطلق الحياة الاجتماعية. ويرى أن الفعل الاجتماعي يتميز عن الفعل الطبيعي بطبيعته الغائية والمعنوية، كما كان يحدث لدى الأقوام البدائية فيما نسميه بالظاهرة الأنيمية (Animism)، إذ كان ينظر إلى الكائنات الطبيعية والحية على أنها كائنات حيّة مماثلة له في جوهره النفسي والإرادي. فالإنسان القديم عندما أراد فهم الظواهر الطبيعية لم يستطع فهمها إلّا من خلال تصوراته الذاتية عن الإنسان نفسه؛ أي عما يشعر به ويراه، إذ يتوجب علينا أن نبحث عن المقاصد والمعاني والغايات والدلالات في سلوك الإنسان وفعله الاجتماعي كي نفهمه. وبناءً على ما تقدم يمكن القول: “بإن علم الاجتماع -بحسب ماكس فيبر- هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، واستكشاف الطريقة التي يعطي فيها الناس فهماً ذاتياً للعالم، واستقصاء الكيفية التي يسلكونها في حياتهم الاجتماعية،


Original text

” لم يقرأ ماكس ڤيبر أبداً لذاته: جرت قراءته لفترة طويلة بصفته نقيضاً لدوركهايم (Durkheim) تارة أو خصما لماركس ((Marx تارة أخرى أو بوصفه نقيضاً لهيغل (Hegel) حينا، أو نداً لبوبر (Popper) حينا آخر …. وقد شكلت هذه الوضعية معضلة معرفية حقيقة حجبت كثيراً من الزوايا القضايا المهمة في تفكير ڤيبر وفي نظرياته السوسيولوجية المهمة” لوران فلوي


1-مقدمة:
يعدّ المفكر الألماني ماكس ڤيبر (1864-1920) أحد أهم رواد علم الاجتماع المثيرين للجدل وأحد أبرز مؤسسيه الميامين، وقد أثار حضوره السوسيولوجي في بداية القرن العشرين جدلاً عنيفاً في الأوساط الفكرية واهتزازاً كبيراً في مجال التفكير السوسيولوجي والاقتصادي بين معاصريه، إذ تحولت السوسيولوجيا التي أبدعها إلى ظاهرة فكرية يَجِدُّ الدارسون في رصدها واستكناه مضامينها المستجدة.


ولد ماكس ڤيبر (Max Weber) (ماكسيميليان كارل إميل فيبر) في مدينة ايرفيرت (Erfert) بألمانيا في 21 إبريل عام 1864، لأسرة برجوازية ميسورة معروفة اجتماعياً وسياسياً، ولأب امتهن المحاماة وبرع في اعتلاء مناصب سياسية وحزبية فائقة أبرزها عضويته في البرلمان الألماني، وقد شكل الوسط الاجتماعي البرجوازي المميز الذي ترعرع فيه ڤيبر الحاضن الأساسي لنشأته ڤيبر وإبداعه الفكري وانبثاق عبقريته التي اتسمت إلى حد كبير بالطابع الموسوعي [1]. وقد عرف عن ڤيبر وفيتش شغفه الكبير بالمطالعة في مجالات الاقتصاد والتاريخ والإدارة والدين والسياسة وعلم الاجتماع، واستطاع في نهاية تحصيله العلمي أن يبدأ سيرة أكاديمية مفعمة بالعطاء إلى أن أصبح واحداً من كبار علماء الاقتصاد والتاريخ والمجتمع، ويصنف على أنه أحد كبار مؤسسي علم الاجتماع، ولا سيما علم الاجتماع الإداري وعلم الاجتماع الديني. ومن اللافت أيضاً أن ماكس ڤيبر مارس العمل السياسي ببراعة، وتسنم مناصب حزبية عالية المقام في ألمانيا. كما عرف بالنباهة والنبوغ منذ نعومة أظفاره، وترافق ذلك بحصوله على تعليم متميز في الاقتصاد والتاريخ والقانون والفلسفة واللاهوت. وقد تأثر كثيراً بالفلسفة المثالية الألمانية عند هيغل، وكانط، وفيتشة، وشلنج، ونيتشة، كما تأثر بجدليات ماركس واقتصاديات آدم سميث واتخذ منهما موقفاً نقدياً.


دافع ڤيبر عن أطروحة الدكتوراه حول “تاريخ الشركات التجارية القروسطية ” في عام 1889 محاطاً بإعجاب الحضور من طلاب ومفكرين ومتخصصين في هذا الميدان، وحصل على درجة الأستاذية عن أطروحته الموسومة «التاريخ الروماني الزراعي وأهميته للقانون الخاص والعام» في عام 1892. ولم يطل به المقام حتى عُين أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة فرايبورغ في عام 1894. وقد شارك في نشاطات سياسية وأكاديمية متعددة جداً ومنها أنه شارك في تأسيس “الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع في عام 1909. وفي المستوى السياسي شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي الألماني، وفي عام 1919 رافق ڤيبر الوفد الألماني إلى باريس لحضور مؤتمر فرساي الذي وضع حداً للحرب العالمية الأولى، وتوفي في 14 يونيو 1920 في مدينة ميونيخ عن عمر يناهز 56 عاماً متأثراً بمرض الالتهاب الرئوي تاركاً وراء إرثاً فكرياً مرجعياً خصيباً في مجال العلوم الإنسانية. وقد تجلى هذا الإنتاج الفكري الملهم في عدد كبير من الأعمال العلمية التي ما زالت تشكل مصد إلهام للمفكرين والباحثين والدارسين في العلوم الإنسانية.


ويجدر بنا في هذا السياق أن نستعرض بعضاً من مؤلفات ڤيبر التي تدل على تشعب عطائه الفكري وخصوبته في مختلف ميادين العلوم الإنسانية، ومن البداهة القول: إن عناوين هذه المؤلفات تمكن القارئ من الاطلاع على مسارات الخريطة الفكرية للمؤلف والتعرف إلى خصوبة عطائه المعرفي، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى كتابه المعروف “الاقتصاد والمجتمع ” (Economy and Society)[2] الذي نُشر لأول مرة عام 1922. وكتابه الأشهر (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism ,1904))[3]، ثم (تاريخ الاقتصاد العام (General Economic History ,1923)، ومقالات في علم الاجتماع (Essays in Sociology )[4]، ومنهجية العلوم الاجتماعية (The Methodology of the Social Sciences)[5]، وعلم الاجتماع الديني (The Sociology of Religion , 1922))، والعلم والسياسة بوصفهما حرفة (Science and politics as a craft)، ورجل العلم ورجل السياسية (Man of science and Man of politic) والسياسة في الحرب العالمية (Politics in world war)، وعلم اجتماع الموسيقى(sociology of music)، والمفاهيم الأساسية في علم الاجتماع (Basic Concepts in Sociology) [6] وكتاب المدينة (The City , 1912)، ونظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي (The Theory of Social and Economic Organization , 1925) وكتاب الدين في الهند (The Religion of India) [7] وكتاب اليهودية القديمة (Ancient Judaism) [8]، والديانة في الصين (The Religion of China) [9] وأخيراً كتاب نداء العلم أو العلم بوصفة رسالة (The Vocation Lectures: Science As a Vocation) [10]. وتدل هذه الأعمال آنفة الذكر على إسهامات ڤيبر في مجال العلوم الإنسانية، ولا سيما في مجالات المجتمع والاقتصاد والدين والإدارة والسياسة.


وقد شاع عن فيبر – في كثير من الأدبيات – أن اهتمامه بعلم الاجتماع لم يبدأ إلا في السنتين الأخيرتين قبل وفاته، وأنه خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة (أي في عامين) استطاع أن يفرض حضوره، بين كبار المؤسسين لعلم الاجتماع، وقد يكون هذا لادعاء أحد أكبر المغالطات في تاريخ الفكر، إذ لا يمكن لأي مفكر عبقري في التاريخ أن يؤسس علماً، وأن يسجل اسمه بين عمالقة المفكرين في عامين من الزمن فقط. ومن المؤكد الواضح أيضا أن نبوغ ڤيبر السوسيولوجي احتاج إلى جهود كبيرة مترامية بذلت في تقاطعات عمره الزمني القصير، وعندما نمعن النظر في إنتاجه العلمي والفكري سنجد بأن معظم أعماله كانت -منذ البداية – تدور في فلك علم الاجتماع وتحلق في مداراته وتغور في أعماقه.


وفي سياق آخر يمكن القول أيضاً: إن معظم الأعمال التي قدمها ڤيبر في مجال الفكر الديني ودراسات الأديان لا تخرج عن كونها فكراً سوسيولوجياً أصيلاً في منبته ومحتواه، وقد سجل نفسه في هذا المسار على أنه أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الديني، وقد تجلى هذا الأمر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يعد بحق من أهم الأعمال السوسيولوجية التي قدمها فيبر للفكر الإنساني، وهذا الأمر ينسحب بشكل عام على كتابيه الدين في الهند البوذية والدين في الصين الكونفوشيوسية، وهي جميعها قد كرست لدراسة العلاقة السوسيولوجية بين الفكر الدين وقيام الحضارة الإنسانية أو تمنعها، وهذه الأعمال كانت – بدون أدنى شك – أعمالاً سوسيولوجية في مختلف تجلياتها وأبعادها ومراميها.


ومن يتأمل ملياً أيضاً سيجد أن عدداً كبيراً من أعمال ڤيبر تغوص عميقاً في علم الاجتماع، ومنها كتابه “مقالات في علم الاجتماع”، و “منهجية العلوم الاجتماعية” و”علم الاجتماع الديني”، و “علم اجتماع الموسيقى” و “المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع”، و”نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي”. وكما يبدو لنا أن معظم مؤلفات ماكس ڤيبر كانت تدور في عمق القضايا الاجتماعية وفي عمق علم الاجتماع،


ويرى كثير من النقاد أن معظم أفكار ڤيبر السوسيولوجية تتجلى في كتابه المعروف “الاقتصاد والمجتمع” الذي نشر بعد وفاته بعامين، أي: في عام 1922، وهو الكتاب الذي قامت زوجته ماريان ڤيبر (Marian Weber) بجمعه ونشره بعد وفاته. ويمكننا القول في هذا المقام بأن النضج السوسيولوجي في هذا الكتاب جاء نتاجاً لاختمار سوسيولوجي سابق تأصل في التكوين الفكري المبكر عند فيبر. ويمكننا بناءً على تصورنا هذا أن نعيد القول تأكيداً: بأن أعمال ڤيبر بعناوينها وموضوعاتها تدل على أن الرجل كان سوسيولوجياً منذ البدايات الأولى لنشاطه المعرفي، وهذا لا يتناقض أبداً مع الطابع الموسوعي لتكوينه العلمي الذي جعله عالماً في الاقتصاد، والتاريخ والإدارة والسياسة.


ويمكن القول في هذا السياق أيضا: بأن أعماله الاقتصادية والتاريخية والإدارية كانت وثيقة الصلة بعلم الاجتماع ولم تنفصل أبداً عن تطلعاته السوسيولوجية، ومن البيّن الواضح أن ڤيبر لطالما تناول هذه القضايا ضمن سياقاتها السوسيولوجية وتفاعلاتها الحيوية مع الظواهر الاجتماعية.


ومن المؤسف حقا أن يد المنون خطفت ماكس ڤيبر مبكراً جداً قبل أن ينجز رسالته الفكرية وأن يفرغ حمولته الإبداعية، إذ توفي بصورة مفاجئة في ميونيخ (Munich) في الرابع عشر من حزيران 1920 وهو في السادسة والخمسين من عمره، وقد تصادفت وفاته مع نهاية أول جيل من علماء الاجتماع، أي: بعد موت إميل دورکهایم عام 1917 وجورج سيميل (Simmel) عام 1918([11]). توفي فيبر في أكثر مراحل العمر نشاطا وحيوية وخصوبة، وهو الأمر الذي جعل كثيرا من المفكرين يعتقدون بأن الموت المبكر لفيبر شكل خسارة كبيرة للفكر السوسيولوجي وللمعرفة الإنسانية


2- مؤثرات فيبر الفكرية:
شكل الحاضن العائلي الاجتماعي الخصب الذي أحاط بماكس ڤيبر التربة الخصبة لنمو عبقريته السوسيولوجية، فعائلة ڤيبر كانت -بطرفيها (الأب والأم) – من أكثر العائلات الألمانية حظوة في مجال الفكر والثقافة والعلم والأدب. هذه العائلة عُرفت بعدد كبير من أبنائها المثقفين والعلماء، من أطباء، وصناعيين، ومحامين، ومهندسين، ومفكرين، ومؤرخين. وكان منزل والده “كارل أوغست فيبر” موئلاً للمفكرين والمثقفين والسياسيين في عصره، وقد تركت هذه الأجواء الثقافية الفريدة والمفعمة بالعطاء الثقافي أثراً كبيراً في توليد الطاقة الفكرية الإبداعية عند فيبر، وقد توج تأثير العائلة هذا، كما أشرنا، بشغفه اللامحدود بالمطالعة والقراءة والتحصيل منذ نعومة أظفاره.


2-1- عمالقة الفكر الإنساني:
ولم تكن تصورات ماكس ڤيبر تنطلق من فراغ فكري، فالفضاء الثقافي الذي عاش فيه ونهل منه كان مترعاً بالنظريات والأفكار التي أضرم نارها كبار المفكرين وعمالقتهم في عصره، وهو الأمر الذي جعل من النبوغ السوسيولوجي لفيبر صعباً جداً، وذلك في عالم سادت فيه فلسفة كارل ماركس (Karl Marx) وسطت عليه مطارق نيتشه النقدية (Friedrich Nietzsche) وهيمنت عليه مثالية هيغل (Hugle)، ووضعية كونت (Comte)، وبنيوية دوركهايم (Durkheim) وداروينية سبنر (ٍSpencer). وفوق ذلك كله كان ماكس ڤيبر يُقرّ ويعترف بصعوبة الصعود والإبداع في عالم فكري “هو في جزء كبير منه من صنع كارل ماركس وفريدريش نيتشه”[12]. ومع ذلك فإن هذا التحدي الكبير الذي فرضه كبار المفكرين العمالقة شكل قوة حافزة لماكس ڤيبر في العمل على استلهامهم وتجاوزهم في الآن الواحد. ويرى كثير من النقاد أن كارل ماركس كان له أكبر الأثر في التشكيل الفكري لماكس فيبر، وقد ألهمه في جوانب كثيرة من إنتاجاته الإبداعية في التاريخ والدين والمجتمع، ومع ذلك كان ڤيبر يطرح نفسه نقيضاً لماركس أو صورة معكوسة له في مختلف تجلياته الفكرية والفلسفية.


وفي المستوى السوسيولوجي كان العصر يفيض أيضاً بحضور سوسيولوجي جبار لرواد علم الاجتماع العمالقة أمثال دوركهايم (Durkheim) ورواد النزعة الكانطية الجديدة أمثال سيميل (Georg Simmel) [13] وديلتاي (Wilhelm Dilthey) [14]وريكيرت (Heinrich Rickert)[15]. وكان عليه أن يتأثر بهم جميعاً وأن يتجاوزهم في الآن الواحد. واستطاع في النهاية أن يتخطى عقلانية ريكيرت ونزعة التحليل النفسي عند سيميل ونسبية ديلتاي التشكيكية، وكذلك مثالية هيغل، ومادية ماركس، وتاريخانية غوستاف شمولر (Gustav Schmoller) وشكلانية منجر (Carl Menger).[16].


ومن الواضح أن ڤيبر قد استلهم النزعة الوضعية عند كانط وبنيوية دوركهايم واقتصاديات آدم سميث وريكاردو، وسوسيولوجيا سان سيمون وفيكو وغيرهم المفكرين المعاصرين والسابقين له. وقد شكلت هذه المعطيات الفكرية الكبرى، الكانطية، والوضعية، والماركسية نوابض التفكير الفلسفي والسوسيولوجي عند ماكس فيبر.


2-2- مثالية فيبر:
ومن المعروف أيضا أن ڤيبر قد استلهم الفلسفة المثالية عند هيغل ولاسيما تجلياته في “فلسفة الروح،” وعند كانط في فلسفته المثالية المتعالية، وكان متأثراً بهما إلى حدّ كبير. ومن يتأمل بعمق في منهجية ڤيبر سيرى بوضوح أن ڤيبر قد استلهم كانط في مقولته عن معرفة الشيء (The thing in itself) في ذاته ومعرفة الشيء في ظاهره، وكان من السباقين إلى القول بإن المعرفة المادية معرفة ظاهرية لا تتعدى الصورة الخارجية للقوانين التي تحكمها، وإن هذه الظواهر لا يمكنها أن تدرك جوهريا، ولا يمكن أن تعرف في جوهرها الغائي؛ لأن قوانين الطبيعية تدرك في حدودها الظاهرية أي على النحو الذي تبدو فيه مظاهرها الخارجية، وقد يكون من الاستحالة بمكان إدراك جوهرها الثاوي في أعماقها الداخلية المضمرة البطينة.


ومن الواضح أيضاً أن فلسفة كانط حول “الشيء في ذاته” (النومينون) أثّرت في سوسيولوجيا ڤيبر وفلسفته. ويُلاحظ النقاد أن لهذه الفلسفة أثراً قويّاً أيضاً في فلسفة كل من كيرد وجرين، وولاس وواتسون، وبرادلي وكثيرين غيرهم في إنكلترا، وهم مدينون في إلهامهم لكتاب كانط “نقد العقل المحض”[17].


ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[18] – وفقاً لكانط – بأنّه الشيء في ذاته، أو هو كلّ “ما يجاوز نطاق التجربة والإدراك الحسّي؛ إذن فهو حقيقة مجرّدة من مسلّمات العقل العملي، وهو “الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي، وهي حقائق مجرّدة تأخذ صورة مسلّمات العقل العملي القبلية التي تدرك بالحدس العقلي كالحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله”[19]. والحقيقة المطلقة لا يمكنها – بحسب كانط – أن تدرك بالعقل النظري لعجز قوانينه عن الإحاطة بالمطلق [20]


وإذا كان العقل في مذهبه عاجزاً عن بلوغ حقائق الأشياء في ذاتها (الشيء في ذاته Noumena) فكيف لهذا العقل أن يتمكن من الوصول إلى حقيقة الذات الإلهية وهي أسمى معاني الوجود المتسامي على كل أشكال الحس؟[21]. وهو ما يعني أن كانط ” يُرجع الإيمان إلى وجدان الإنسان وشعوره الداخلي النفسي.. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي)”[22]. وعلى هذا النحو يقرر كانط أيضاً بأن العقل بأدواته المنهجية المعهودة لا يمكنه أبداً الوصول إلى معرفة الحقائق في جوهرها، وأقصى ما يمكنه أن يدركه لا يتجاوز مظاهرها، وأن جُلّ ما يستطيعه هو أن يرسم الحقيقة كما تتبدى لنا في المظهر لا في الجوهر، وهذا يعني أننا لا ندرك الكون كما هو في جوهره أو ذاته أو في صميمه، بل جلّ ما يمكن لمفاهيم العقل أن تفعله هو أن تقدم لنا تصوراً يتناسب مع خصائص العقل الإنساني وقدراته [23].


ويميز كانط، كما أوردنا آنفاً، بين عالمين: عالم محسوس وعالم معقول. والإنسان ينتمي إلى العالم المحسوس بوصفه جسداً وإلى العالم المعقول بوصفه عقلاً وروحا؛ وهو من حيث إنه جسد يخضع إلى قوانين الفيزياء والقوانين الطبيعية؛ ولكنه من حيث هو عقل يخضع إلى سنن العقل المستقلة عن السّنن الطبيعية، وقوانين العقل مستقلة عن التجربة ومتعالية عليها. ويستنتج من ذلك المنطلق أن كل ما يوجد في الطبيعة من أشياء ومظاهر محكوم بالقوانين الطبيعية والفيزيائية، باستثناء الإنسان الذي يمتثل لقوانين العقل بوصفه عقلاً ولقوانين الطّبيعة بوصفه كياناً حسياً وجسدياً ([24]).


وتجدر الإشارة إلى أن كانط استخدم في تناوله المصطلحات الفلسفية المدرسية (السكولاستية) السائدة في الجامعة الألمانية في زمنه للبحث في قضايا العقل. “وقد قصد بالعالم المحسوس: العالم الذي تدركه الحواس، وأطلق عليه فيما بعد اسم: عالم الظواهر أو الظاهرات (الفينومينولوجيا) Phenomenology)” [25]. أما “العالم المعقول فهو العالم الذي يدركه العقل والفكر ولا تدركه الحواس، وهو فوق نطاق الحواس، وإن كان هو أصل الأشياء وأصل المدركات، وقد سمّاه عالم النوميني. وهي كلمة لاتينية مفردها Neumenon وجمعها Neumena والمقصود بها حقيقة الأشياء في ذاتها لا في ظواهرها. والحواس تدرك الظواهر بينما العقل يدرك حقيقة الأشياء النوميني”[26].


ومن يتأمل سوسيولوجيا ماكس ڤيبر سيجد بوضوح أنه تلقف منهجية كانط واستفاد منها في التأسيس لمنهج سوسيولوجي يعتمد الفهم والتأويل؛ لأن الظاهرة الاجتماعية لا تدرك جوهرياً وفق منهجية الفينومينولوجيا آنفة الذكر أي: لا يمكن إدراكها في ذاتها، ولكن يمكن أن تفهم وتؤول وفق منهجيات مثالية قائمة على التجانس التي يمثلها المبدأ الشعبي الذي يقول: “كل شيء ضده من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد”.


فالظاهرة الاجتماعية ظاهرة إنسانية فريدة متفردة لا تتكرر ولا يمكن إخضاعها وفهمها عن طريق التفسير المنهجي السببي، ولا يمكن قولبتها في قوانين جامدة، كما يفعل الوضعيون؛ لأن قولبتها تؤدي إلى تشويهها وتدمير معانيها. على هذا الأساس يرى ڤيبر أن علم الاجتماع القائم على منهجية التفسير (السببي) لا يستقيم مع الظواهر المجتمعية التي تحتاج إلى أنماط مثالية خاصة لدراستها وفهمها. ولذا يجب الانتقال من منهجية التفسير (Explication) القائم على المحاكمات المنطقية والسببية إلى الفهم (Comprehension) ومن ثم إلى التأويل (interprétation). فالتفسير يقوم على استكشاف العلاقات السببية والمنطقية للظواهر ويعمل على استكناه القانونيات الاجتماعية التي تحميها، وهذا هو الأمر الذي تقوم به المنهجيات السوسيولوجية الوضعية (كونت ،أو ابن خلدون، ودوركهايم، وماركس) ومثل هذا التفسير يبقى شكلياً لا يستطيع إدراك البعد الوجداني في الظاهرة الاجتماعية؛ ولأنه كذلك يرى ڤيبر أنه يمكننا فهم الظاهرة وإدراكها جوهرياً بذاتها من خلال التبصر الوجداني في أعماقها، وقد يكون ممكناً لنا أن نغوص في أعماقها من خلال التأويل الذي يمكنه أن يستكشف الجوانب الخفية في الظاهرة المدرسة.


فالظواهر الاجتماعية ظواهر ذاتية ثقافية وجدانية غائية معنوية لا تقبل القولبة، وتنفلت دائماً من قبضة السببية، وعلى هذا الأساس يقرر ڤيبر أن الظاهرة الاجتماعية لا تتكرر أبداً، فهي ظواهر فريدة في التاريخ الإنساني وهي تحتاج للمنهج الوجداني التفاعلي؛ كي نستطيع فهمها وتأويلها لا مجرد تفسيرها تفسيراً يحيلها إلى قوانين منطقية مجانسة لتلك التي نجدها في العلوم الطبيعية. وكأننا بماكس ڤيبر يريد أن يقول: بإننا لا ندرك طبيعة الظواهر الاجتماعية إلّا من خلال المعايشة والتفاعل الوجداني الصميمي. فالقول: بإن النار محرقة قانون سببي ولكن لا يمكنه أن يجعلنا ندرك مفهوم الاحتراق إلّا إذا عايشناه وجربناه على مبدأ قول الشاعر لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها.


ويتضح لدينا – في هذا المقام – أن ماكس ڤيبر قد ألبس تصور كانط عن الشيء في ذاته “النومينون” والشيء في مظهره “الفينومينون” حلّة سوسيولوجية، وذلك بعد أن قام بتعديله وأسس عليها منهجه في الفهم القائم على الاستبصار الذاتي للوصول إلى جوهر الفعل الاجتماعي. فالفعل الاجتماعي يمكنه أن يفهم ويدرك ويفسر ويؤول ولا يمكن له أن ينتظم معرفياً في قوانين صارمة جامدة كالتي نراها في الطبيعة. ومع ذلك لا يتنكر ڤيبر كلياً للمنهجية الظواهرية، بل يراها قادرة على تقديم تصور خارجي للفعل الاجتماعي، ويرى أنها غير مناسبة لفهم السلوك البشري، وهي في أفضل أحوالها معرفة شكلية سطحية، تأخذ بما يظهر من السلوك، وليس بما يستبطن منه ويفهم، وكما يقول المثل ذلك عليك بما ظهر من الأمر وليس بما خفي واستتر. ومن أجل مزيد من التوضيح نقول هنا: إن منهجية ماكس ڤيبر تقوم على الفهم والتأويل، أو بما يطلق عليه الهيرمينوطيقا وهو المنهج الاستبصاري الذي يقوم على التأويل.


3- علم الاجتماع الفيبري:
جاءت السوسيولوجيا الفيبرية على هيئة انفجار ثوري كبير في مجال العلوم الاجتماعية. وقد تجلت هذه الانتفاضة الثورية في تقديم رؤى سوسيولوجية ومعرفية مغايرة للنظريات السوسيولوجية الكبرى التي روج لها كبار المفكرين من أسلافه ومعاصريه من أمثال: ابن خلدون وكارل ماركس ودوركهايم وأوغست كونت، وجاءت عطاءات ڤيبر المعرفية لتشكل قطباً جديداً في مجال الفكر الاجتماعي، وتياراً جديداً في مجال الفكر السوسيولوجي، غالباً ما يطلق عليه التيار التأويلي في علم الاجتماع كما في العلوم الإنسانية.


ففي الوقت الذي كانت السوسيولوجيا العامة، في مختلف تياراتها الوظيفية والبنيوية والماركسية، تحثّ الخطى سعياً إلى تأسيس علم الاجتماع وتأصيل مناهجه على منوال المنهجيات المعروفة في العلوم الطبيعية، يفاجئنا ماكس ڤيبر برؤية جديدة مختلفة تدعو إلى منهجية جديدة في علم الاجتماع تقوم على الفهم والتأويل والتفسير، رافضاً كل المنهجيات التي تتناول الظواهر الاجتماعية بوصفها كيانات مادية جامدة تخضع لقوانين مجانسة لتلك التي تقوم في العلوم الطبيعية. وهي نمط المنهجيات الوضعية التي استنزفت طاقة المفكرين الاجتماعيين والمنظرين في مجال السوسيولوجيا، من ابن خلدون إلى فيكو وسان سيمون وماركس ودوركهايم. وإذا كان هؤلاء جميعاً ينظرون إلى المجتمع بوصفه امتداداً للطبيعة في أكثر أشكالها تعقيداً، فإن ماكس فيبر، وعلى خلافهم جميعاً، ينظر إلى المجتمع بوصفه ذاتاً، وروحاً، وفكراً وثقافةً نوعيةً معنويةً لا تخضع للقوانين الجامدة التي ينادي بها علماء الاجتماع من سابقيه ومعاصريه ولاحقيه. فالمجتمع طاقة روحية سيكولوجية نفسيه معقدة لا يمكن للعلوم القانونية الوضعية أن تخترق جدرانها وأن تكتنه معانيها، كما يحدث في المادة الجامدة، بل يمكن فهمها وتفسيرها ومعرفتها. فالمجتمع يتمثل بوصفه نمطا لتفاعل كينونات ذاتية أو صيغة تفاعل جدلي بين ذوات متفاعلة بالإرادات والنوايا والمعاني والقيم، وهي في جماعها تشكل نسيجاً نوعياً ثقافياً روحياً يستعصي على الانتظام في قوانين جامدة كالتي نعتمدها في استكشاف العالم المادي، ومثل هذا النسيج الثقافي يحتاج من أجل فهمه إلى طاقة منهجية جديدة تعتمد منهجيات الاستبصار والتأمل والحدس والاكتناه الوجداني، وباختصار يحتاج السلوك الاجتماعي إلى الفهم والتفسير الذي يقوم على منجيات التأمل المنهجي الاستبصاري الخالص.


فالظواهر الاجتماعية ليست كالذرات المادية التي تتحرك دون غاية أو معنى أو دلالة، وعلى عكس ذلك فالإنسان في علاقاته وتفاعلاته يتحرك وفقاً لمبدأ الغايات والمعاني والدلالات، وهذه لا تحكمها قوانين لأنها من نمط الوجدانيات التي تنتظم في قوانين محددة. ولذا فإن الظواهر الاجتماعية ظواهر فريدة في عمقها ومحتواها وظاهرها، إنها تتميز بعمق وجداني لا يكتشف إلا بمنهجيات وجدانية تعتمد التبصر والاستبصار والاستكشاف القائم على اكتناه العمق الدلالي والمعنوي في سلوك الإنسان. وباختصار يشكل الفهم والتأويل والتفسير ثلاث مراحل أساسية في مستويات المنهج السوسيولوجي عند ڤيبر ” [27].


3-1- الثورة المنهجية -من التفسير إلى التأويل:
استطاع ڤيبر أن يحقق حضوره المميز في الحقل الاجتماعي وأن يحقق نجاحاً كبيراً في تأسيسه لعلم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology) الذي يشكل نمطاً سوسيولوجياً مبتكراً ومختلفاً عن التيارات السائدة في علم الاجتماع، ولا سيما الاتجاهات البنيوية والماركسية السائدة في الحقل السوسيولوجي. وتنطلق الفكرة الأساسية لماكس ڤيبر من رفضه الواضح للمنهجيات الوضعية في علم الاجتماع، التي تحاول استكشاف القوانين الحاكمة للظواهر الاجتماعية، وهذا يعني رفضه لسوسيولوجيا دوركهايم وسبنسر وأوغست كونت وغيرهم من المؤسسين لعلم الاجتماع. ويستند رفضه هذا إلى أن الدراسات الوضعية تأخذ طابعاً ظواهرياً، بمعنى أنها تستكشف العلاقات الظاهرية القائمة في المجتمع على غرار ما يجري في الطبيعة، وهذه المنهجيات لا تستطيع جوهرياً اكتشاف المعاني والدلالات في السلوك الإنساني الذي يتميز بأنه سلوك غائي معنوي ذاتي لا يمكن إدراكه بالقانونيات المعروفة في السوسيولوجيا الوضعية (Positive sociology)، وجلّ ما يمكن للمناهج الاجتماعية القائمة هو أن تستكشف ظواهر الحقيقة الاجتماعية، دون القدرة على فهمها وإدراكها وتأويلها وفقاً للمعاني والدلالات الإنسانية.


ويستند ماكس ڤيبر في استنتاجاته هذه إلى أن الظاهرة الاجتماعية تختلف نوعياً وجوهرياً عن الظواهر الطبيعية، فالظواهر الطبيعية جامدة، أما الظواهر الاجتماعية فهي ظواهر حيّة معنوية دلالية غائية، والمناهج الوضعية (Positivism) لا تستطيع أن تتوغل في العمق الذاتي للظاهرة الاجتماعية؛ لأنها تكشف ما هو خارجي وظاهر وشكلي، ولا يمكنها أن تغوص في الأعماق، وتغور في الطبقات الداخلية للظاهرة لتبحث فيما هو معنوي وذاتي وأخلاقي وإرادي، فالهوية الاجتماعية للفعل الإنساني متخفية غائرة خلف الظواهر وفي أعماق المظاهر، ولا يمكن الاستدلال على جوهريتها إلا بالاستبصار المعنوي والاستكشاف الذاتي الداخلي للفعل الاجتماعي. ومن منطلق الحاجة إلى فهم الفعل الاجتماعي يؤسس ماكس ڤيبر منهجاً بديلاً يعتمد الأنماط المثالية التي يمكنها أن تستكشف الأبعاد المعنوية للفعل الاجتماعي.


لا يمكن فهم السوسيولوجيا الفيبرية إلّا من خلال الفهم الأعمق للثورة التي أعدها في مجال المنهجية التي أصلّها في تناول قضايا المجتمع وظواهره، ففي الوقت الذي رسخت فيه معالم علم الاجتماع الجديد المنهمك بالبحث عن القوانين التي تحكم المجتمع بدءاً من ابن خلدون، مروراً بـ جامباتيستا ڤيكو، [28]وسان سيمون، وأوغست كونت، وهربرت سبنسر، ودوركهايم، وكارل ماركس، وغيرهم من المفكرين، وعلى خلاف المنهجيات الوضعية هذه جاء إعلان ماكس ڤيبر ميلاد منهجية انعكاسية جديدة ترفض قانونية المجتمع، وتؤسس لرؤية جديدة ومنهجية جديدة تعتمد على الفهم والتأويل، أي على اكتناه الظواهر الاجتماعية بوصفها روحاً وثقافةً لا يستقيم معها الضبط المنهجي الوضعي الذي يسعى لرصدها في صورة قوانين مستلهمة من قوانين الطبيعة الجامدة.


3-2- غائية الفعل الاجتماعي
يؤسس ڤيبر رؤيته لهذه المنهجية على الطبيعة الغائية والمعنوية للفعل الاجتماعي، وهذه الطبيعة غالباً ما تكون خفية في السلوك الإنساني، فالسلوك الإنساني شديد الرمزية، مثقل بالمعاني والغايات، وهي غالباً تكون كامنة في أعماق النفس الإنسانية وليس خارجها، فالمضمر في السلوك الإنساني يأخذ صورة معقدة، ولذا ما يمكننا فعله لا يقوم على تقنين السلوك الإنساني، بل في بذل الجهد في فهمه وتأويله. فعلى سبيل المثال: الإنسان الذي يتطوع للحرب، فمن حيث المظهر الخارجي أو القانوني فإنه المتطوع الذي يريد الدفاع عن الوطن. ولكن تختلف الغايات وتتنوع الدلالات في مسار هذه الاندفاع للحرب: فبعظهم يذهب إلى الحرب بغية الحصول على المال، والآخر بغية الشهرة، وآخرون للدفاع عن الوطن، وبعضهم الآخر تدفعه النزعة العدوانية، وقد تكون هناك منظومة أخرى من العوامل والغايات.


وهذا الأمر يختلف في عالم الذرات والماهيات المادية والظواهر الطبيعية، إذ لا يمكن أن نحدد غاية الحركة في الذرات والإلكترونات وانسياب أشعة الشمس واسترسال نور القمر وحركة النمو في النباتات. فالعلماء يلاحظون ما يجري ويقرنون العلل بالأسباب والأسباب بالمسببات، فالمغناطيس يجذب الحديد ولكن لا نعرف لماذا يفعل ذلك؟ ولا ندري لماذا لا يجذب الخشب؟ وكذلك الخشب يطفو على سطح الماء ولا ندري لماذا لا يطفو في الهواء؟ النار تحرق ولكننا لا نعرف ماهية الإحراق وما جوهر النار أو جوهر الإحراق؟ كما لا ندري ما جوهر الجذب المغناطيسي؟ [29] وكل ما يستطيع العلماء فعله إزاء هذه الظواهر يتمثل في العمل عل الضبط القانوني لها، واستكشاف علاقاتها فيما بينها وفيما بينها وما يحيط بها من ظواهر، ولا يمكن الوصول إلى جوهرها، كما يرى كانط وكما يرى لاحقاً تلميذه النجيب فيبر.


وباختصار، الدراسة العلمية للظواهر المادية تقدم لنا إجابات عن الكيفية التي تحدث فيها الأشياء؛ أي أن تقدم إجابة عن سؤال كيف تحدث الأمور؟ وما أسبابها الملحوظة؟ وعلى خلاف ذلك فإن الدراسات الاجتماعية تقدم لنا إجابة عن سؤال لماذا تحدث الأمور على هذا النحو أو ذلك؟ وما الغاية من حدوثها؟ ومن المؤكد أننا نتحفظ كثيراً على ما يذهب إليه ماكس ڤيبر في هذا السياق، وسنتحدث لا حقاً عن الانتقادات الكبيرة التي يمكن أن توجه إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه في البحث الاجتماعي، وحسبنا أن نشرح الطريقة المنهجية التي اعتمدها في التأسيس لمنهجه القائم على الفهم والاستبصار التأويلي[30].


4- علم الاجتماع التأويلي (Interpretive Sociology):
يرى كثير من المتخصصين في المجال السوسيولوجي أن ماكس ڤيبر قد ضمّن معظم أفكاره في كتابه “الاقتصاد والمجتمع” وهذا لا يقلل من أهمية ما تضمنته أعماله الأخرى، ولا سيما كتابه “البروتستانتية وروح الرأسمالية” الذي يتضمن المقومات الأساسية لعلم الاجتماع الديني. وفي كل الأحوال فإن كتاب “الاقتصاد والمجتمع” ((Economy and Society)[31] هو أشبه بموسوعة فيبرية تضمنت مختلف آرائه وتصوراته الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد، وتقع الترجمة العربية لهذا الكتاب في 862 صفحة، وهذا يدل على الطابع الموسوعي لهذا الكتاب [32].


يعرف ڤيبر علم الاجتماع في أول جملة من كتابه الاقتصاد والمجتمع بقوله: “نسمي علم الاجتماع… العلم الذي يأخذ على عاتقه تفهم النشاط الاجتماعي بالتأويل، بتأويله ثم بتفسير مساره ومفاعيله تفسيراً سببياً [33]. وفي سياق آخر يقول: ” إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي” [34].


ومن الواضح أن المجتمع يتكون من أفراد متفاعلين يقومون بسلوكيات وأفعال في سياق اجتماعي، ويشكل هذا التفاعل بين أفراد المجتمع الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. والإنسان الفاعل يتميز بأنه “إنسان كائن واع، يتصرف بوعي، تحركه مقاصد وأهداف، وذلك على عكس الأشياء التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية، وهذا يعني أن علم الاجتماع يجب أن يركز على فهم الفعل الإنساني والتفاعل القائم في المجتمع بين الأفراد”[35].


وإذا كان المجتمع يتكون من أفراد بالضرورة فإن هؤلاء الأفراد لا يوجدون إلّا في حالة الحركة والنشاط والتفاعل، والحركة تعني الفعل، والفعل يشكل جوهر حياة الفرد ووجوده وجوهر الحياة الاجتماعية ومعناها، والفعل الاجتماعي أي فعل يجب أن يكون إنسانياً؛ أي يجب أن يرتبط بغاية وأن يحمل معنى ودلالة، ويمكن للفعل أن يكون فردياً يدور حول ذاتية الفرد أو أن يكون اجتماعياً يدور في فلك الآخر. وعلى هذه الصورة يمكننا تصور المجتمع على صورة التفاعل الذري بين الذرات (الأفراد)، وكما يحدث في عالم الذرات تنطوي الذرة في ذاتها على فعل ذاتي يتمثل في حركة أجزائها في داخلها (الفوتونات والنترونات التي تدور في داخل الذرة)، كما تلتحم الذرة في أنساق من الذرات المشابهة لتكوين الأجسام والأشياء. وعلى هذا النحو يميز ڤيبر بين السلوك الفردي عندما يكون الفعل فردياً غائياً خارج سياق العلاقة مع الآخر، والسلوك الاجتماعي الذي يشمل حالة التفاعل بين الفرد والأفراد الآخرين. وباختصار: المجتمع والجماعات نسيج ذري من تفاعلات الأفراد وسلوكاتهم وأفعالهم الغائية.


وترتسم نقطة البداية في سوسيولوجيا ڤيبر في تناوله للفعل الإنساني والاجتماعي بوصفه الموضوع المركزي والأساسي الذي ينطلق منه علم الاجتماع. ويتمثل الفعل الاجتماعي في سلوك الفرد وتفاعله الاجتماعي مع الآخرين بصورة تتميز بطابع الديمومة والاستمرار، والفعل الاجتماعي -كما يراه فيبر – قد يكون ظاهراً معلناً أو خفياً مضمراً، أو بالأحرى قد يكون صادراً عن قوة خارجة اجتماعية، أو طبيعية، أو ناجماً عن أرادة ذاتية حرة.


وبعبارة أخرى يرى ڤيبر أن الفرد هو العنصر الأولي في النسيج الاجتماعي، ولكي يعيش الفرد يجب عليه أن يكون دينامياً نشطاً، إذ لا يمكن للفرد أن يحيا إلّا من خلال النشاط والفعل الاجتماعي، وهذا يعني أن الفعل أمر لازم بالضرورة عن الفرد وصفة جوهرية من صفاته، فالفرد لا يوجد إلّا في حالة الفعل ليضمن حياته ووجوده. والفعل الاجتماعي لا يتم إلّا في أطار جماعة؛ أي في صلة مع الآخرين، وأن الفعل يكون في نسق التفاعل مع الآخرين، وهذا التفاعل الاجتماعي بين الجماعة أو في المجتمع يشكل النسيج الاجتماعي. وهذا يعني أن الأفراد يوجدون من خلال الأفعال التي يمارسونها في صيغة تفاعل اجتماعي بين الأفراد، وهذا التفاعل يشكل بالضرورة النسيج الوجودي للمجتمع.


ويبدأ ڤيبر في نسج أفكاره السوسيولوجية من خلال تناوله للفعل الاجتماعي الذي يشكل منطلق الحياة الاجتماعية. ويرى أن الفعل الاجتماعي يتميز عن الفعل الطبيعي بطبيعته الغائية والمعنوية، وهنا يكمن بيت القصيد، فالفعل الاجتماعي فعل غائي يحمل معنى ودلالة، وهذا يعني أن دراسة الفعل الاجتماعي تعتمد على منهجية مختلفة تماماً عن تلك التي تُعتمد في رصد الفعل الطبيعي. فالأفعال الطبيعية من مثل: الرياح، والصواعق، والمدّ، والجزر، والبراكين وغيرها من الظواهر الطبيعية لا تجري وفق غايات محددة أو نيات مسبقة، فالريح لا تهب لغاية إغراق السفن، والقمر لا يضيء من أجل المسافرين، فهذه الظواهر تحكمها قوانين الطبيعية وهي مجردة من الغاية والمعنى، وهي لا تكتسب غايتها إلّا في مخيال الإنسان الذي يسقط عليها مشاعره ونواياه، كما كان يحدث لدى الأقوام البدائية فيما نسميه بالظاهرة الأنيمية (Animism)، إذ كان ينظر إلى الكائنات الطبيعية والحية على أنها كائنات حيّة مماثلة له في جوهره النفسي والإرادي. فالإنسان القديم عندما أراد فهم الظواهر الطبيعية لم يستطع فهمها إلّا من خلال تصوراته الذاتية عن الإنسان نفسه؛ أي عما يشعر به ويراه، وعلى هذا النحو ربما يستقيم فهمنا للفعل الاجتماعي عند ڤيبر عندما نعتمد ما يجانس هذه “الأنيمية”، إذ يتوجب علينا أن نبحث عن المقاصد والمعاني والغايات والدلالات في سلوك الإنسان وفعله الاجتماعي كي نفهمه.


وبناءً على ما تقدم يمكن القول: “بإن علم الاجتماع -بحسب ماكس فيبر- هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، واستكشاف الطريقة التي يعطي فيها الناس فهماً ذاتياً للعالم، واستقصاء الكيفية التي يسلكونها في حياتهم الاجتماعية، ويهدف في النهاية إلى فهم الفعل الاجتماعي وتأويله وتفسيره في ضوء عوامل وجوده وديناميات حركته القيمية. وهذا كله يعني أن منهج علم الاجتماع الفيبري يقوم على مبدأ فهم السلوك الاجتماعي وتأويله وأدراك معانيه واكتناه دلالته، وباختصار يمكن القول: بإن المنهج الفيبري يؤكد على أهمية الفهم والتأويل ويركز على استحضار الذات المؤولة في الفعل الاجتماعي الذي لا يمكن فهمه إلّا في سياق تاريخي ثقافي مخصب بالدلالات والمعاني.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

يُعتبر الضب جنس...

يُعتبر الضب جنساً من طائفة الزواحف يتبع أسرة الضباب ضمن فصيلة الحرذونيات التي تتبع رتبة الحرشفيات. و...

This mobile app...

This mobile application advances the field of museum studies by exploring the application of mobile ...

In conclusion, ...

In conclusion, the detailed analysis of concord methodology in the Cat in the Rain short story by Er...

الفصل التاسع سي...

الفصل التاسع سيكولوجية الإصابات الرياضية أهداف الفصل: بعد قراءة هذا الفصل يستط...

كانت السيدة ريت...

كانت السيدة ريتشيل ليند تسكن حيث ينحدر طريق قرية افونليا الرئيس نحو الغور الصغير الذي تحفه الاعشاب ا...

غير مباشر. ويرى...

غير مباشر. ويرى بعض الباحثين أن ظاهرة المادية - التجريدية، تؤثر في التعلم اللفظي، إذ إن تعلم الكلمات...

ويأتي الاهتمام ...

ويأتي الاهتمام بكل من الأمن الكيميائي والسلامة الكيميائية، وذلك لأجل المحافظة على صحة وسلامة العاملي...

أنكره الإمام ال...

أنكره الإمام الشافعي وقال: )من استحسن فقد شرَّع( ثم يقول: "على العا لَ أن لا يقول إلا من جهة العلم، ...

5. الشكل المنخر...

5. الشكل المنخرق: توجد بعض الاجزاء من دوله داخل دوله اخرى وهذه الاخيره تعد دوله منخرقة ومن امثله ذلك...

Inspection, ass...

Inspection, assembly and packaging (IAP) ● ● ● ● The IAP room is usually the central point of CSSDs ...

إن المراهقين هم...

إن المراهقين هم شريحة اجتماعية حيوية في المجتمع، حيث يتمتعون يحس استكشافي وخيالي كبير في هذه المرحلة...

المبتدأ والخبر ...

المبتدأ والخبر : المبتدأ والخبر هما العنصران الأساسيان في الجملة الاسمية، وهما مرفوعان دائما. المبتد...