Online English Summarizer tool, free and accurate!
رأيت مظاهرات التحرير، لكني لم أحك لك كل شيء. كنت في الترام قادمة من شبرا، ورأيت عند الانتكخانة العديد من العساكر. قالوا أن هناك مظاهرة طلبة في ميدان التحرير. في الترام، رجل عجوز كان يصرخ على ابنه، متسائلا عن أهداف المتظاهرين. عند الانتكخانة، رأينا العساكر يجرون نحو الميدان، ورأينا حوالي خمسين أو ستين طالباً يجرون وهم يحملون كتبهم، والعساكر يضربونهم. أحد الطلبة قفز لترام آخر، ثم اختبأ في ترامنا مجروحاً. امرأة عجوز ساعدته بخرقة. صعد عسكري للترام، وفتش، لكن المرأة العجوز أخفت الطالب. الرجل العجوز الذي كان في الترام، هو نفسه من شارك في مظاهرات ضد الإنجليز، كشف عن الطالب للعسكري، فاعتقلوه. ابنه حاول الهرب ولكنه اعتقل أيضا. بعد ذلك، شعرت بحالة سيئة، وذهبت للنوم. الرواية تتضمن ذكريات الراوية عن موقفها من الموت، وعن جدها الذي أصلح الأرض، وعن خلاف بينها وبين عمها وأبيها حول الأرض، وعن علاقتها بليلى، وعلاقة حسين بفريدة. حسين يحكي قصة طفولته مع راعي من البشارية، ويشير إلى أن علاقته بفريدة تشبه علاقة الراوية بليلى، لكن أسلوبه في التعبير عن حبه يختلف عن أسلوب الراوية.
رأيته ! .. قلت لك كانت هناك مظاهرات في التحرير ولكني لم أحك لك كل
شيء . لا . لا تقلق لم أو سمير ولا أعرف عنه أى شيء ومع ذلك جهت لأطمئن عليه . كنت آتية من شبرا في الترام ، وقبل أن نصل الى ميدان التحرير ، عند الأنتكخانة وقف الترام وكانت تقف أمامه عربات ترام كثيرة ، ورأيت عند سور الأنتك خانة كثيرا من العساكر بملابسهم السوداء وعلى رؤوسهم برائيط الحديد وبأيديهم الشوم . سألنا فقالوا لنا أن مظاهرة الطلبة في ميدان التحرير وجاء السائق
فجلس معنا في ديوان الدرجة الأولى وهو يقول ربنا يستر . نزل كثير من الركاب
وبقى معى في الديوان رجل عجوز ومعه ابنه الشاب وكان يصرخ فيه ووجهه محمر
والولد ، يا عينى ، لا يفتح فمه بكلمة . كان يقول ماذا يريدون ؟ يريدون أن
يخربوا البلد ؟ يريدون أن تحارب ونحن لم تستعد ؟ عندما كنا شبابا كنا تعمل
مظاهرات ضد الانجليز . قال هذا وهو يدير نظراته بيننا نحن الجالسين في الديوان ولا أعرف ماذا كان يريد منا أن نقول له لأنه كان هو نفسه الله يخرب بيته يمشى في المظاهرات ضد الانجليز، وكلما علا صوته كلما أحنى ابنه رأسه في الأرض . وكنا مجبرين أن تستمع اليه لاننا كنا محبوسين في الترام والناس يقولون أن البوليس يضرب الطلبة في ميدان التحرير. وأخيرا خرس وأصفر وجهه عندما رأينا العساكر الواقفين عند الانتكخانة يجرون ناحية الميدان وهم يرفعون عصيهم . وحين نظرت من شباك الترام رأيت حول خمسين أو ستين من الطلبة يجرون وهم يضعون كتبهم وأبديهم على رؤوسهم ومن ورائهم العساكر والطلبة يقولون بلادي بلادي والعسكر يضربون ولا هم هنا . وقابل الطلبة وهم يجرون العسكر الذين كانوا يقفون عند ميدان الأنتكخانة وحصروهم بينهم وبالشوم وهات . وجرى واحد
من الطلبة وقفز إلى ترام واقف ووثب من شباكه إلى الناحية الأخرى خلف صنف العربات الواقفة ولكن كان هناك عساكر أيضا عند أول شارع شامبليون ، فاستدار وفقر من شباك الترام الذي تركبه وزحف على يديه ورجليه حتى أختبأ في الديوان عند أقدامنا . كان مجروحا في رأسه والدم ينزف من جبينه على أرضية الترام فأعطيته منديل لكنه كان صغيرا ورحت أفتش في شنطتي عن شيء أكبر
وكانت إمرأة عجوز تجلس على أرض الترام قرب ديوان الدرجة الأولى وهي تستند على قفة فأخرجت منها خرقة كبيرة وأغطتها له وهى تقول يا كبدي يا ابني . وفى هذه اللحظة صعد الى الترام عسكرى وهو يلهث وزملاؤه تحت يقولون له هنا هنا
.. فتش الترام وبدون أن تنظر المرأة العجوز أزاحت قفتها قليلا لتخفى الطالب
المقرقص على الأرض ولكن العسكرى راه وهم نحو الديوان فقالت العجوز بصوت
خافت ربنا يسترك يا ابنى ، لو عندك ابن أو أخ صغير ربنا يبارك لك . مجروح يا كبدى . ومدت يدها على قفتها وكأنها ستسد باب الديوان . وتطلع العسكري إلى وجوهنا ثم إلى الطالب على أرضية الترام ووقف قليلا ثم استدار لينزل ، ولكن كان زميل له يحاول أن يصعد تسبقه عصاه فقال له لا أحد هنا ، انا فتشت الترام ، ولكن زميله دفعه في صدره وهو يقول بل هنا . فتشنا كل العربات الأخرى . ولكن العسكرى وقف يسد الباب ويدفع زميله وهو يقول قلت لك لا أحد هنا . تعال نفتش العربات الأخرى، وفى هذه اللحظة يا سيدى وقف الأفندي ابن الحرام صاحب المظاهرات ضد الانجليز وقال مناديا العسكري وهو يشير بيده إلى الأرض - هنا يا عسكرى . تعال هنا . دفع العسكري الواقف على السلم زميله حتى كاد يقع وداس على المرأة العجوز وهجم على الطالب ورفعه من رقبته وحاول الطالب أن يقف وهو يقول بلادى بلادى ولكن العسكري أخذ يجره على وكيته ويقول له أخرس ، وعندما تخرجه خارج الترام وتلقفه العساكر الآخرون بالشوم كفت المرأة العجوز التي هرسها العسكري عن التأوه وتطلعت الينا كأنها تستفسر منا ، ثم نظرت الى الأفندي الذي كان لا يزال واقفا وبصقت على أرض الترام دون صوت. وفجأة قام ابنه الذي كان يضع يده على وجهه ثم اندفع يجرى خارج الترام وهو يبكى ويصيح بلادى بلادى فتلقفه العسكر . وصرخ الأفندى وهو يهم وراءه يا ولد وقام يصرخ في العساكر الذين يسدون باب
الترام لا تضربوه . هذا ابني . ابنى أنا . لكن أحدهم لكزه في صدره بعضاء
وصرخ فيه ارجع مكانك يا أفندى . فاتحط مكانه . أنظر . أترى الى هذه البقع
الصغيرة من الدم على الفستان . انها دم الطالب الذي تناثر علينا عندما رفعه
٢٦
العسكرى من على أرض الترام . أين هو الآن يا ولداه وأين الأفندي ابن الحرام ؟
وأين سمير ؟ .. قالت ذلك ثم أحنت رأسها فجأة وأجهشت بالبكاء مرة أخرى
هم جاعلى صوت سوزي وهي تصيح وتهزني :
ماذا بك ؟ ماذا بك ؟ يا للمصيبة ! تكلم | رجعت لك الحالة ؟
نعم ، وجعت . كل شيء يرجع . كل شيء من جديد .
غلطتي أنا الله يخرب بيتي. ليتنى ما حكيت لك . قلبك ضعيف الى هذا
الحمد ؟ يا للمصيبة ما كل هذا العرق ؟
قهوة أو سوزى . لا تخاف .
تحاملت على نفسى ووقفت مستندا إلى المائدة ثم قلت لها :
عن اذنك . سأدخل الأنام لحظة .
أستلك حتى السرير ؟
لا ، اذهبي أنت أو انتظرى سمير ان شئت . لا تهتمي بي .
27
وها أنذا ء على فراشي لكني لن أموت . العرق البارد يجف - ضربات القلب
السريعة عهداً . والضباب الذى على عيني يزول . لا إن أموت . ستتبي هذه
الحالة كما انتهت غيرها وغيرها وفى المساء سأكون مهيئا لأن أشر من جديد. لا
يأتي الموت حين بود الانسان أن يموت . لا يأتى الموت المجرد ان الإنسان يكره
حياته ، ملايين الناس تعيش هكذا . ربما . لست متأكدا . لا أعرف ، ولا أعرف
ايضا ان كنت مستعدا للموت أم لا . ألم يكن ذلك ما فكرت فيه ليلتها ؟ حين
حكت لي أمي ما حدث ذهبت في الليل إلى المكان ، أمام المسجد الصغير. كان
معتها وخاليا بعد صلاة العشاء . استفهمت من مثلنته القصيرة ، استفهمت من
جلوانه . من ساحته الخارجية المكشوفة التي تحف بها لتحددها قطع صغيرة من
الحجارة البيضاء . كانوا هنا جميعا ، فرشوا سجاجيدهم الصغيرة وصلوا ثم حدث
ما حدث . استفهمت من الخلاء ومن بقعة الأرض لكني لم أشعر بشيء . لم يكن
هناك أحد أسأله ويحكى لى . وماذا كنت أريد أن أعرف بعد ما عرفت ؟ ظللت
29
أمشى . عبرت الجسر كله حتى وصلت الى شاطيء النيل قرب المدينة . نزلت حتى حافة الطين لأمشى في النهر الأسود حتى الموت . فما الذي أوقفتي عندئذ ؟ لم يحدث شيء مهم يوقفني . لم يحدث شيء على الاطلاق . كان هناك الصوت
الخافت الموج هادىء يتكسر على الطين . كان سكون . صهل حصان من
بعيد . رأيت أعمدة المعبد القديم على الشط المقابل في ضوء القمر . كانت تشبه تخيلا بلا سعف . كانت حزينة. وكان القمر فوقها ، فوقها تماماً ، عيناً فضية
كبيرة تتطلع للخراب والحياة في هدوء وصمت . ما الذي حدث ؟ لم يحدث شيء ولكن قلبي أمد يدق بعنف واندفعت
الدموع التي ظلت حبيسة طول النهار ، لكنى عرفت أيضا ساعتها أني أجبن من أن أموت حتى لو أردت. كان باستطاعتي أن أفعل ذلك من قبل وأن أموت
لسبب . فقد ادركنا منذ ذلك اليوم البعيد ، حين عدت من القاهرة في أجازة السنة الثانية ، أن شيئا سيحدث - أدركته أنا وأدركه أبى وهو يجلس على دكته العاليه في صحن البيت وبجواره عمى . قال أبى وهو يتشاغل بتسوية فراء الخروف
الناعم الذي يتربع فوقه لكى لا تلتقى عيناه بعمى يا أخى وما أهمية بضعة قراريط . قال عمى الشرف . قال أبى ربنا يقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فرد عمى ويقول أيضاً ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه .
وكنا نجلس واجمين أنا وحسين . كنا على الأرض متقابلين نتابع الحوار ولكننا لا
تملك ان تشارك فيه . وثبت أنا نظرى في الأرض - سمعت أبي يقول في صوت ضعيف والمحكمة ؟ فرد عمى ومن الذي يجب ان يشكو أنا أم هم ؟ الأرض ازرعها واعرفها من يوم ان مات أبى ومن قبل ان يموت . أرضى وقد نزل عرق في كل شبر منها وقلبته يدى. وقبل أن يموت أبى يومين وكنت أنت أيامها في الأزهر قام وهو مريض وأخذني من يدى لأرض الشرق وقال كل هذه النخلات لك وكل الأرض في شرقها حتى الجيل لك والأحيك . ثم : قال خذني إلى الحديقة ، وحين ذهبنا وقف يتطلع لأشجارها ثم جلس على الأرض وانتزع قبضة من طينها فتته بين
20أصابعه وقال لي أتعرف ، كانت هذه الأرض كلها رملا وحسكا وزرعتها بيدى شجرة شجرة . والآن يريدون أن يأخذوا أرض الحديقة وتريدني ان أسكت ؟ وماذا أقول لأبي في قبره حين أنام جنبه ؟
قال أبي : يا أخي أنت تعرف انها في حضن أرضهم وتعرف انهم أشرار . فقال عمى غاضبا : أليست الأوراق معك ؟ أليست حقنا ؟
نعم ، ولكنهم يقولون
أليست أرضنا ؟
نعم ، ولكن ...
اذن ليشربوا من البحر . اذا ذهبوا للمحكمة فمعى أوراق ، واذا كانت مع أحدهم بندقية فأنا أيضا معى .
قال أبي : أنت تركب رأسك ولا فائدة من الكلام معك . الناس يقولون معهم
أوراق قديمة من أيام الجدود. وأنا اتفاهم معهم بالعقل وأقول يحكم القاضي . قال عمى : اسمع يا أخى . أنت أخى الأكبر وتحفظ كلام ربنا وقد منعت لساني دائما أن يقول لك ما لا تحب ولكن الكيل قاض .
ماذا تقصد من هذا الكلام ؟
أقصد أنهم أصحابك ، أنا أخوك . لحمك ودمك وانتظر ان تنصرني ان احتجت لنجدتك ولكن أصحابك أغلى عندك من أخيك . أو لعلها
مصلحتك . أنا اعرف يا أخى ان كثيرا من ارضهم مرهونة عندك وأنك
تقرضهم . كلهم. كل بيوتهم وكل واحد منهم له عندك حساب .
31
كذب .
أبدا . كل البلد تعرف ان اولاد الحاج صادق يأتون لك في ذلة ليقترضوا منك ومع ذلك فأنت الذي تعاملهم في الطريق بذلة ولا ينقص الا ان تقبل
أيديهم ..
يعنى لابد ان اكون مجرما لكى ترضى ؟ أهذا ما تريد ؟ أن أحمل بندقيني
على كتفى وأمشى في البلد كالمجرمين ؟
سامحك الله . ستعلم غدا من هم المجرمون. ولكن تذكر . لقد بدأوا اليوم بأرضى وسيجورون غدا على أرضك . أنت لا تريد ان تفعل شيئا ولا يكلف الله
نفسا إلا وسعها . لن أطلب منك شيئا .
قام أبي غاضيا فانزلق فراء الخروف من الدكة على الأرض بيني وبين حسين وأثار
غبارا وقال أبى لعمى كيف تكلم أخاك الأكبر بهذا الشكل يا ولد ؟ فقام عمى ايضا وهو يقول - لا بهذا الشكل ولا بغيره . سلام عليكم .
خرج عمى مسرعا وقام حسين وراءه وجريت وراءهما حتى الباب . وقف حسين لحظة وهو يمسك بالباب المفتوح شاحب الوجه ثم قال - أتعلم ؟ ارض الحديقة هذه كانت أول أرض أصلحها جنك ، وكل البلد تعرف ذلك . حكاية
الأوراق القديمة هذه اخترعوها الآن . أطمعهم فينا أبوك . واستدار لينصرف لكنه
التفت لي فجأة وقال :
وهل تعرف أن أباك الذي يحفظ كلام الله يقرض الناس بالربا ؟
قلت - هو أيضا عمك
ولكنه لم ينتظر أي رد بل جرى ولحق بأبيه الذى كان يمشي بخطوات واسعة
22
ويلوح بعصاه الرفيعة وبضربها في الأرض ومن خلفه تجرى كلبنا الأبيض يهز ذيله
ويتوائب حوله ليتشبت به هضم عمى ثوبه اليه . ونهر الكلب بعيدا عنه . دار
عمى حول البيت حيث كان يربط حصانه وظللت واقفا مكاني حتى ظهر وقد
أردف من خلفه حسين على ظهر الحصان البني ورفعت يدى أحييهما لكنهما لم
ينظرا الى بل غمر على الحصان في جنبه بقدميه فمرق مسرعا وهو منتصب على
صهوته يرتفع عنها ويهبط عليها بجسمه كله دون أن ينحنى وحسين بمسك بوسطه
ويجاهد ليضبط حركته معه .
لم اكن قد رأيت جدى فقد مات قبل أن أولد بزمن طويل ، لكن البلد كانت
تقول عن عمى انه سر أبيه . ورث عنه قامته الطويلة وعيونه الواسعة وحبه
للخيل . ومرة قلت لعمى أنت فارس بلدتنا . لم أو أحدا يحكم حصانه مثلك .
فهز رأسه مبتسما وقال هذا يا ولدى لأنك لم تر جدك رحمة الله عليه . جدك هو
الفارس الحق الذي لم يسبقه خيال. أتصدق يا ولدى أنه كان يثب بحصانه فوق
قواديس الساقية ؟ لا أنا استطيع ذلك ولا رأيت من جربه أو فعله غير جدك .
أتصدق انى رأيته وهو يحرس الأجران يوقف الحصان ساكنا بالساعات لا يتحرك
ولا تسمع له صوتا حتى لتظن أنه لا يتنفس ؟ كان جدك في الليالي المقمرة بلبس
ثيابا بيضاء ويركب حصانا بيض وفى الليالى المظلمة يلبس ثيابا سوداء فوق
حصان أسود حتى يصبح قطعة من الليل فلا يراه لصوص الأجران حين بنقض
عليهم . ذلك كان جدك . كان وحيدا بطوله بعد أن مات أبوه ومات أكثر ناسة
في الوباء لكن البلد عرفته وعملت له حسابا . لم يجرؤ أحد أن يعتدى على أرضه
أو يسرق له جرنا ، وهل تعرف كيف أصلح جدك الأرض ؟ لم يزد ميراثه كله عن
نخلات الشرق وأرض رملية هناك لا تصلح للزرع . وبدأ جدك يذهب وراء
الجيل . ثم يعود وقد حمل حصانه ترابا أحمر يغمر به الأرض . يقولون هناك وراء
الجبل رمال تغرق فيها الجمال وأوكار ذئاب وضباع . وفي كل مرة كان جدك يخرج
ويغيب أياما فيظن الناس أنه تاه أو افترسته الذئاب لكنه يعود وحصانه محمل
بالسماد الذي اكتشفه في الجبل والذى لم يعرف أحد طريقه بعده ، وكان الناس
33
يضحكون مما يفعله ولا يفهمونه . ثم لم يعد حصانه يكفى فصار يستأجر جمالا
ويقود هو القوافل التي تغيب ثم تعود محملة بأكياس التراب الأحمر الذي يسمد به
الأرض . وبيديه حفر جدك آبارا وغرس أشجار البرتقال وشجر التين في الأرض
التي صارت بعد ذلك حديقته . ولم يكن أحد يظن أن هذا الزرع في الأرض الميته
سينيت . ونصح الحاج صادق جدك ألا يضيع وقته وطلب اليه ان يستأجر أفضل
قطعة من أرضه وان يزرعها إذا شاء ، وشكر جدك الحاج صادق ورفض . وراح
ينتظر والناس معه تنتظر ولا تصدق . لكن الأرض صحت ، والزراعة صحت ،
واخضرت الأرض التي كانت خرابا . جدك يا ولدى كانت يده مباركة .
وجين يروى عمى عن أبيه تلمع عيناه عميقنا السواد وهو يحكى عن النخل
والسماد والجبل والجمال في صوت منغم بالخشوع والحب ، كان عمى يحب أباه
ويتصرف في الحياة بعد موته كأنه مازال يعيش معه ويراقبه ، ويريد أن يكون كل ما
يفعله جديرا باعجاب أبيه الغائب . مرات كثيرة حكى لى عنه . وكان يعرف
في كل مرة أني سمعت هذه القصة من قبل ، ولكن في قريتنا تعاد رواية القصص
كثيرا ، ويطلب السامعون اعادة تفاصيل استمعوا اليها بالأمس وأول من أمس .
ويقاس وزن الانسان واحترامه بقدر دقة علمه بقصص الأجداد ومعرفته بالقرابات
والأنساب وبتاريخ الأسر والمواقع. وتصنع هذه القصص العالم الخاص لبلدتنا . من
يعرفها فهو منا ومن لا يعرفها فهو غريب ، له احترامه ان كان يستحقه ، ولكنه
لا يدخل دنيانا ولا أسرارنا . تنقضى الليالي في قصص يتبادلها الجالسون ،
ويصوبون للراوى بعض التفاصيل ، ويصححون له درجة قرابة شخص من
الأسلاف لشخص آخر ورد اسمه في الحكاية ويتتبعون نسله وما فعلته بهم الأيام .
قصص تلد قصصا وتتفرع في تفاصيل وحكايات جانبية لا تنتهى . تبدأ من تلقاء
نفسها أو تبدأ متعمدة حين يقول احدهم وسط مجموعة أو حتى لشخص آخر
يجلس معه تعال نتسامر وتنتهى بالتنهدات وهز الرؤوس ويرحم الله الجدود
34
وسمعت عن جدى قصصا كثيرة متفرقة في هذه الأسمار . سمعت عنه كفارس
وكيف انه حين حل السيل الكبير بالبلد ليلا وأغرقها وهرب من استطاع الى
الجبل ، خاض هو بحصانه في الماء وراح ينتشل النساء والأطفال . وسمعت عن كرمه وكيف كانت مضافته مفتوحة لكل طارق
ولكن القصة المفضلة كانت حكايته مع الأرض وكيف أصلحها من العلم ، ثم
كيف أدهش الناس حين اشترى أول ( وابور ( رى في بلدتنا فأصبحت أرضه
تزرع ثلاثة مواسم بعد ان كانت البلد كلها تزرع موسما واحدا يعقب فيضان
النيل . وقلد جدى الحاج صادق وغيره من الملاك فعرفت بلدتنا ماكينات الرى
والزراعة طول السنة ، وخلف جدى أولديه أرضا غنية وحديقة وكثيرا من الخيل .
وكان كلاهما مزارعا ماهرا زاد من الأرض التي ورثها ، لكن أحدهما كان مثله
فارسا وكريما والآخر كان أبي . نعم ، كنت أعرف أيضا قصة أبي . لم يحكها في
أحد هذه القصة. بل ربما لم يكن يعرفها الا القليل . فقد كان أبي كتوما
وحريصا ، لا يعقد صفقاته الا في السر وعلى انفراد . ولم يكن يقرض غير أغنياء
البلد وهؤلاء لم يكونوا يحدثون أحدا عن اسرارهم . لكني منذ صغرى عرفت أن أبى
يفعل شيئا تكرهه أمى . سمعت بينهما أكثر من مرة حديثا هامسا ومتوتراً . أمي
بنيرتها المتوسلة الشاكية وأنى بلهجته العنيفة الغاضية . سمعتها مرة تقول له يستر
الله عليك . هذا المال جمر نأكله في الدنيا وفي الآخرة . لا خير فيه . أخاف على
أولادي . ورد أبي من حدثك بذلك يا امرأة ؟ حديث نساء وكذب . وكانت أمي
تسكت حين ينهرها أبى ويشتمها . وفى مرة ، مرة وحيدة ، رأيت أمي غاضبة ،
هي التي تصرخ في وجه أبى ، كان قد دخل عليها وهي تصلى ورمى لها ثوبا من
القماش وقال خذى ، اعملى ثوبا جديدا ، اشتريت لك هذا القماش من مصر
لكن أمى مدت يدها بسرعة وانتشلت ثوب القماش وانتصبت بجذعها على
سجادة الصلاة ورمت بالثوب في وجه أبى وقالت خذه ، خذ مصائبك بعيدا
عنى . أنا لا أذوق طعاما من مالك وتريدني أن البس هذا الثوب النجس الذي
جاء بمال نجس ؟ ترميه على سجادة صلاتي ؟ وأنا امام ربى ؟ ووقف أبى مأخوذا
يمسك الثوب الذي تدلى طرفه على الأرض ثم خرج وهو يجره وراعه دون إن يرد على
35
أمي أو يشتمها كما كان يفعل دائما . وخفت أنا ان أسأل أمي عن شيء ساعتها ، وحين سألتها بعد ذلك لم تجب . مسحت على رأسى وقبلتني كعادتها وقالت نجاك الله يا ولدى . في كل صلاة أدعو ان ينجيك الله ولم تزد لم أفهم وقتها الا ان أمي تكره نقود أبى ، وحين كبرت كرهت نقوده انا ايضا وصرت أخجل منها . كنت قبل ان يحدث ما حدث لا أطلب منه شيئا وأكتفى بالقليل الذي يقدره هو
المصروفي
وبعد ان اختلف عمى مع أولاد الحاج صادق وتشاجر مع أبي حل في بيتنا صمت ثقيل . كانت فريدة مختفية معظم الوقت وعندما أراها لا أجسر أن أرفع عيني في وجهها . أما أمي فراحت تطلق البخور طول الوقت لتطرد الشر وتبكي كثيرا في غيبة أبي وتقول يا حزنك يا فريدة - يا حزنك يا أم فريدة ، وأنا التي كنت أريد أن أفرح بفريدة وحسين هذا الصيف . ومن أين يأتيني الفرح وأنا أعيش في هذا البيت . قلت تخرج فريدة من بيت الحزن فجاء الحزن الى فريدة في
البيت
وحين تقول ذلك بلهجة أغانى الماتم تلطم فاطمة الصغيرة التي لم تكن تتجاوز العاشرة على خديها وتحلو التراب على رأسها ، وترى فريدة ذلك وتسمعه فتزداد
انزواء وتحولا . ولم تنفع توسلاتي لأمى ولا زجرى الفاطمة التي كنت أضربها أحيانا ، ولكنها ما ان تسمع أمها ( تعدد ) حتى تعود لما كانت تفعله
واعتدت ان اذهب لبيت عمى كل يوم دون ان يعلم أبى . كنت أقول لعمى
ان الحق معه وان الانسان لا يجب ان يفرط في حقه والا ما بقى له ما يستحق
الحياة فكان عمى يضحك وهو يربت على كتفى ويقول لو سمع أبوك هذا الكلام : ! اياك ان يسمعك أبوك تقول هذا الكلام . كان عمى يعاملني
كشخص صغير ليس مفروضا فيه ان يفهم الكثير عن هذه الأمور . فقد كنت متعلما . أذهب للجامعة فى مصر وأقرأ الكتب والجرائد . لا أزرع في النهار ولا
36
أحرس الزرع بالليل . وكان عمى يغفر لى كوني صغيرا فيملأني هذا بالخجل . اما حسين فلم يغفر لي في اليوم السابق السفرى ، عندما انتهت اجازة الصيف قال لي أريدك في
كلمة . تعال معى . ولم يقل لى الى أين فقد كنت أعرف . خرجنا من بيت عمى الذي كان في طرف القرية ومشينا على الجسر المرصوف الذي ترقد تحته الحقول . سرنا في الطريق الذي قطعناه معا مئات المرات منذ صغرنا ونحن نترثر وتضحك ونحكي الأسرار وتتكلم عندما كبرنا عن النساء وأسرار الجنس . لكننا في هذه المرة سرنا صامتين تغمرنا الشمس والعرق الى ان اقتربنا من بيتنا الذي كان يقف وحده في الخلاء كما بناه جدى وورثه أبى . وقبل بيتنا من ناحية القرية تنتهى الحقول ويصبح الجسر طريقا مرصوفا وسط الرمال. وكانت هناك وسط الرمل حفرة عميقة خلفتها احدى قنابل الانجليز التي طاشت عن المطار ايام حرب بورسعيد ولم تعمرها الرمال بعد. وكنا نعتبرها علامة تشرق بعدها . درنا حول الحفرة ومضينا شرقا تغوص اقدامنا في كثبان الرمال المتدرجة الارتفاع التي تنبت فيها صبارات قصيرة أوراقها صلبة وتنبثق وسطها على مسافات متباعدة حشائش
طويلة خشنة ومفاجئة تشبه المراوح . وكنا في سيدنا نتجنب هذه الصبارات والحشائش التي تعلم ان الثعابين تلبد تحتها . صعدنا الكثبان فبدت قمم النخيل والسعف الأخضر المتعانق . وكلما ارتفعنا أخذت الأطراف العليا للجذوع السابقة السمراء تستطيل في اتجاه الأرض إلى أن تتبسط الأرض امام عيوننا فجأة فتبدو غابة التخيل وكأن جذوعها تميل على بعض وتتقاطع مع بعض ويرسم سعفها في الأفق أقواسا خضراء متشققة ومتعاقبة تتوهج أطرافها المذهبة بنور الشمس . وكلما اقتربنا من غابة النخيل بدأت اشجارها المتفرقة تتضح وتتميز . لم تعد تنقاطع وتتشابك بل بدت على حقيقتها ، نخلات متفرقة على مسافات شبه منتظمة ، بهوا من الأعمدة الليفية الخشنة تلقى في الهجير ظلا رطبا من سعفها العالي الذي يحتضن
سباطات البلح الأخضر الجديد وقد احمرت أطرافه فبدت كحلمات صغيرة متجاورة . وحاولت أن أتحدث الى حسين ونحن تجتاز التخيل . أردت أن اقترح
37
عليه ان نجلس قليلا لتستريح ، لكنه كان صامتا ومتجهما فآثرت السكوت
أخذت أشغل نفسى محاولا ان أحمن ما سوف يقول . سيكا منى بالطبع عن فريدة
وعن زواجهما المتعثر فيم يمكن ان أرد ؟ لكن حسين فاجأني حين توقف فجأة امام
نخلتين تثبتان من أصل واحد وتفترفان قليلا ثم تنتصبان متوازيتين وقال أترى هاتين
النخلتين ؟ توقفت وأسندت ظهرى الى احداهما لأستريح دون ان أبالى بخشونة
الليف وقلت رأيتهما آلاف المرات وكذلك أنت . ماذا فيهما ؟ اجلس قليلا
التستريح . وانزلقت على الرمال الساخنة دون ان انتظره ، لكنه ظل واقفا يحدق في
الفراغ بين النخلتين وقال دون أن ينظر في وجهي سأحكى لك حكاية لم أحكها
لأحد من قبل . حكاية حدثت هنا ، وكنت وقتها طفلا . في السابعة أو الثامنة
من عمرى . كان أبي يشتغل في الحديقة وأرسلتني أمي عليها رحمة الله لأقول له
شيئا لم أعد أذكره . وكنت دائما أفرح بأن أقطع هذا المشوار للحديقة وبأن أمر
وسط النخيل وأحاول ان تسلقه بعيدا عن عين أبي . وفى ذلك اليوم بينما أمر
وسط النخل برز لى من بين هاتين النخلتين عفريت . لا تضحك يا ابن عمى .
هكذا ظننت وقتها وصرخت وكدت أموت من الخوف . نعم ، لم يكن عفريتا
بالطبع ولكنه كان راعيا من البشارية الذين يظهرون أحيانا على أطراف بلدتنا
بخرافهم الهزيلة ، ولم أكن قد رأيت أحدا منهم من قبل . كان مثلهم ، أسود ،
واسع العينين ، شعره مهوش ومرتفع فوق رأسه يندلى في ضفائر كثيرة لامعة على
كتفيه . وكان عاريا الا من خرقة حول وسطه ، وعلى صدره عقد كبير وبيده
عصا . صرخت حين رأيته كما قلت لك وتسمرت مكاني . كان وجهه وجسمه
كله يلمع بالعرق وهو يستند إلى النخلة وحين رأني مد لى يده بكوز من الصفيح
وقال لي يا ولد . وما أن سمعت صوبه ورأيته يحدق في بعينيه المحمرتين حتى جريت
مناديا أبي . وخرج البشاري من بين النخلتين من بين هاتين النخلتين مشيرا الى
بعصاه وقال مرة اخرى يا ولد فأيقنت انه سيضربني أو سيقتلني وجريت بسرعة هاربا من الموت . جرى البشاري ورائى وأنا اسمع كلمته الوحيدة يا ولد يا ولد
وكلمات أخرى لم أفهمها وحين اقتربت من الحديقة انقطع صوته فتلفت خلفى
38
دون ان أتوقف عن الجرى ووجدته يرقد على بطنه وعصاه ملقاة امامه على الرمل .
وعندما دخلت الحديقة على أبى رمى بالفأس التي كانت في يده وأخذني في حضنه وقال ولدى ماذا حدث ؟ ماذا جرى لك ؟ فأخذت أشير للخارج وأنا أقول
العفريت العفريت . وحاول أبى أن يبدلني وسقانى شيئا من الماء وقال لي انتظر
هنا ولا تتحرك والتقط فأسه وخرج . ولكن حين عاد أن كان في وجهه غضب
وكان يمسك بيده كوز الصفيح الذي مده البشارى لي وقال لي بلهجة آمرة أملاً
هذا الكوز بالماء ، ولما ملأته قال تعال معى . بدا على التردد فأمسكنى أبى من
كتفى وقال بصوت خفيض كأنه لا يخاطبني ستأتى معى يا حسين وستسقى
الرجل البشاري المريض بنفسك . اما ان يكون ابنى رجلا والا فلا أريد أولادا .
وكان في لهجته ونظرته ما فهمت منه على صغرى أني لو خالفته فان شيئا مخيفا
سيحدث . أمسكنى من يدى بقوة وخرجت معه والكوز يهتز في يدى المرتعشة
من الخوف . وكان الرجل البشارى لا يزال ممددا على الرمل . فجلس أبي وأسند
رأس الرجل لى صدره ثم تطلع التى وأنا أرتعش وقال بهدوء يا حسين اسق الرجل .
فعلت ووضعت الكوز في فمه
صمت حسين وكان لا يزال واقفا وهو يروى قصته . وحلقت فوق النخل
طائرة تزعق وتجر وراءها دخانا أبيض ، ثم علت فى السماء وصغرت وخفت
أزيزها . وقلت الحسين بعد فترة في دهشة - وكيف حدث أنك لم ترو لي هذه
القصة طول هذه السنين ؟ فالتفت نحوى مبتسما وقال - أمرنى أبى ألا أحكيها
لأحد ، وفهمت ، رغم أني كنت طفلا . هيا بنا . نهضت وسرنا معا . عبرنا النخل وبدا من بعيد السور الرمادي للحديقة المكسو بالطين .. ولم يكن سطحه الخارجي مستويا بل كان منبعجا في أجزاء
كثيرة تملأه تشققات متعرجة تمتد بعرضه . لم يكن سورا يستعصى على أي انسان
يحاول أن يتسلقه وكان القصد منه مجرد منع الحيوانات من التسلل للحديقة .
فتح حسين الباب الخشبى العتيق بمفتاحه الضخم الذي كان معلقا فيما يشبه
29
الحبل حول عنقه ، فثار غبار وراء الباب، وواجهتني في المدخل شجرة الموز
بأوراقها العريضة الخضراء وقد تهدل على الجانبين منها ورقتان مصفرتان كذراعين
يتأهبان للاحتضان، واجتزنا صفوف شجيرات البرتقال القصيرة وشجر التين
الذي كان يلقى ظلا مرقطا بالشمس على الأرض ، وشجر الجوافة النحيل الذي
كانت رائحته المعطرة تملأ المكان. وذهبنا للمكان الذي اعتدنا ان نجلس فيه ونتسامر منذ كنا صغارا . تحت كرمة العنب الخشبية حيث كان الظل رحلبا وضوء النهار القاسى ينفذ من خلال الكرمة نورا هادئا .
جلست على الأرض مستندا على احدى دعائم الكرمة الخشبية بينما جلس حسين
أمامي على حجر عال مسحه بيده جينا قبل ان يجلس عليه . كانت هذه الكرمة مخبأنا وملاذنا . هنا هربت عندما تزوجت منيرة ، وهنا كنا نأتى وجلس نتبادل أنا
وحسين الحكايات بالساعات. لكنى كنت أعرف ان هذه المرة تختلف . ان حسين هنا ليحاكمني أنا وأبى من على حجره المرتفع وانه ليس لدى ما اقوله حين يبدأ
محاكمته في . قلت لنفسي الآن سيبدأ وتحاشيت النظر في عينيه وانتظرت ، ولكن مرة أخرى فاجأني حسين حين قال لي :
أتذكر ما قلته لي هنا في العام الماضي عن ليلى ؟
تطلعت له مندهشا وقلت - أى شيء تعنى ؟ حكيت لك كثيرا عن ليلى . لا أخفى عنك شيئا أبدا ، ولا انت تخفى عنى شيئا . فما الذي ذكرك الآن بلیلی ؟
قال اريدك ان تحكى لى كل شيء كما حكيته لى من قبل . حدقت في وجهه وكان هو الذي يتحاشى النظر في عينى الآن وقلت له ... ليس هذا هو الموضوع المهم الذى مشينا من أجله كل المسافة إلى هنا . ماذا تريد حقا يا حسين ؟
٤٠
نظر الى وقال - لا شيء . سمعت انك مسافر غدا . قلت نتسامر كما كنا تفعل من قبل عندما كانت قلوبنا عالية . احك لي . كان يميل الآن مقوساً ظهره وهو يشبك يديه مثبتا نظره على وقال في تصميم وحبات من العرق تطفر من جبهته . احك كل شيء . كما حكيته من قبل . هذا
هو ما أريد . وبدأت أحكى له متعثرا . أحكى القصة التي رويتها له مرارا عندما عدت في اول اجازة لى من القاهرة . وكنت وقتها عندما أحكى له يقاطعني مستفسرا عن التفاصيل ويعتب على اذا تذكرت شيئا لم أقصه عليه من قبل . ويفرح ويقوم ويصفق ان حكيت له شيئا أسعدني ويحزن لما أحزنتي . أما الآن فقد ظل صامتا يتابعني ويستحثنى بعينيه اذا سكت ولكنه لا يعلق بشيء . وبدأت من البداية كما آراد . كيف كنت وحيدا عندما تركت البلد الى القاهرة . لم يكن لي فيها اصدقاء وكنت أخجل من الحديث مع زملائى الذين لا اعرفهم في الكلية . كان الأولاد والبنات يقفون في مجموعات قبل المحاضرات وبعدها يتكلمون ويضحكون ، لكنى كنت أجلس مكاني في آخر المدرج أتظاهر أني أقرأ شيئا لأخفى خجلي ووحدتي . وكنت اذهب للمكتبه بعد ان تنتهى المحاضرات وأقرأ كثيرا وقد اخترت فيها ايضا ركنا بعيدا . وذات يوم جاءت ليلى وجلست بجواري في المدرج . كنت
أراها في المحاضرات ، تجذبني عيناها الخضراوان وبسمتها المرحة . لكنى لم اكن
. أتأملها الا اذا أدارت وجهها بعيدا عنى . كنت حريصا على ألا تراني وأنا أنظر اليها . وفى ذلك اليوم كانت عندنا محاضرة بعد الظهر وجلست في مكاني المألوف وكان المدرج مزدحما والمكان الذي تجلس فيه ليلى عادة مشغولا فجاءت وجلست بجواري وحيتني وخاطبتني باسمي وكأنها تعرفني من زمن . رددت عليها متلعثما ثم لم أنظر اليها لكنى لم أفهم كلمة من المحاضرة. وبعد المحاضرة بدأت تكلمني ونحن في طريق الخروج . سرنا معا حتى باب الجامعة ، وكنا في الغروب ، ولما أردت ان اودعها وأتركها عند باب الجامعة سألتني عن طريقي . قلت لها اني سأعبر كوبرى
٤١
الجامعة وأمشى حتى المنيرة فقالت ولكن هذا هو طريقي وسرنا معا . كانت طول
الطريق تتحدث وتضحك وهى تقلد طريقة الأساتذة في المحاضرات . الدكتور الذي ترق لهجته ويتهلل وجهه حين تخاطبه البنات ويتجهم ويفقد اعصابه حين يسأله الطلبة . والدكتور الذي يمثل وهو يلقى المحاضرات ويصرخ ويشوح بيديه ، ودائما ما ترتطم يده أثناء ذلك بالحائط أو السبورة فيظل يهزها متألما ولكنه يعود للتشويح من جديد. وكانت ليلى تقلده وترفع صوتها ونشوح ونحن نعير كوبرى الجامعة فارتطمت يدها بالفعل بالصور الحديدى للكوبرى وأخذت تهزها وهي تتأوه وتضحك وتقول ذنب الدكتور. وكنت انا ايضا اضحك معها لكني كنت مرتبكا وأنا أمشى مع فتاة من القاهرة لأول مرة في حياتي ولا أعرف كيف أرد عليها. وتظاهرت ليلى انها لا تلاحظ ارتباكي. وقالت انها ترى الى اقرأ كثيرا وأنتي في الغالب طالب صمام وتتنباً لى الى سأكون معيدا في الجامعة أما هي فلا تريد الا الستر والنجاح. وحين تركتني بعد الكوبرى لبيتها في الروضة مرت في الشوارع ساعات فرحا ومنفعلا، أقول لنفسي أخيرا أصبحت لي صديقة ، أخيرا لى صديقة في مصر ، واسترجع حديثها وتخطر على بالى اجابات ظريفة كان يمكن ان تجعلها تضحك وتجدنى ذكيا ولكن بعد فوات الأوان . وأغضب من نفسي لأني كنت غبيا وأقول لن تكلمنى بعد ذلك .
لكنها في صباح اليوم التالي جاءت وجلست بجانبي في المدرج مبتسمة كعادتها وهمست في أذنى انها ستعلمنى الثرثرة لكي لا أكون طالبا صماما . وعلمتني ليلى . علمتني كيف أخرج من أسر نفسى وكيف اتكلم وأصادق وأدخل في مجموعات الطلبة والطالبات دون أن أخجل من نفسي ومن لهجتي ومن قرويتي . كانت ليلى دائما معى . وكانت تراني دائما أفضل من الباقين وأنضج منهم وتقنعنى بذلك دون ان تقوله . لكنها لم تعلمني كيف أحبها . كنت قد أحببتها من أول يوم سرنا فيه معا بل ومن قبل ان تحدثني في ذلك اليوم الأول وكانت هي تعرف ذلك .
42
وذات يوم قالت لي في الكلية ماما تريد ان تراك حدثتها عنك كثيرا وهي تريد
ان تراك فقلت لها ولكنى لا استطيع ان اخطبك الا إذا قلت لأبي .
ظلت تنظر لى لفترة صامتة دون فهم ثم فجأة قالت نعم ؟ تخطبني ؟ وبدأت
تضحك وهي تخبط قدمها في الأرض وترتج من شدة الضحك حتى سقطت
الكتب من يدها وقالت لا تخف يا صعيدي ، والله ماما ست طيبة . وحين
ذهبت الى بيتها في الموعد اكتشفت انه عيد ميلادها وأنها دعت كثيرا من الزملاء
والزميلات . قدمتنى لأمها . قالت بعد أن دخلت أنت الوحيد هنا الذي لا
تعرف ماما . تعال أعرفك عليها . وأخذتني إلى غرفة المائدة حيث كانت أمها
مشغولة باعداد أطباق من الحلوى. كان الشبه بينهما كبيرا ، لكن ليلى كانت
أجمل بكثير وفي تلك الليلة كانت أجمل من كل يوم . كانت تلبس فستانا أخضر
بلون عينيها وتحيط عنقها بعقد من اللؤلؤ الأبيض وعيناها تتألقان، وحين قدمتنى
لأمها همست في أذنها هذا هو يا ماما . فشدت الأم على يدى بقوة والتفئت
خلفها تخاطب شخصا وهميا وتقول له بحزم يا ولد هات المأذون بسرعة . ثم
ضحكت هي وليلى ، وضحكت أنا أيضا ، وسألتني عندكم في البلد لا يمكن ان
يزور الواحد واحدة الا ان كان سيتزوجها ؟ فقلت نعم وملأني الحجل .
فضحكت وقالت ، كما قالت لك ليلى ، لا تخف ، هنا نحن متهاودون . لكن ليلى
قالت هيا . كفى . وبدلا من أن نعود للصالة حيث كان بقية الزملاء خرجنا
الشرفة واسعة تحتها النيل يلمع سواده في الليل، وقالت لي أرأيت ؟ كل الناس
جاءوا ومعهم هدايا لعيد ميلادي . أين هديتك ؟
كانت تضحك كعادتها ولكن كلماتها كانت متقطعة وانفاسها لاهثة وكأنه
تعدو . قلت لم أكن أعرف انه عيد ميلادك . فقالت في همس وهي تقترب منى
أنت هديتك كلمة ، قلها . قلت أحبك ، قالت لم أسمع . قلت أحبك .
ومددت يدى وامسكت كتفيها وقبلتها في جبينها وارتكزت ليلى على ذراعي وهي
تسند وجهها على رقبتي وجسمها يثقل بين يدى حتى شعرت أني أحملها لكي لا
تقع ولكنها تمالكت نفسها بسرعة وقالت يجب ان نعود فورا حتى لا يلاحظ أحد
٤٣
شيئا . ولكنها عند باب الشرفة قالت لى وقد عادت لطبيعتها، ليلي التي كانت
أيامها ، أرأيت ؟ أنا ساحرة. حتى الحجر أجعله ينطق . ثم بعد خطوة وقفت
وتطلعت إلى بعينين لامعتين ووجه متورد وهي تبتعد عنى قليلا وقالت في ممس من
أنت ؟ ولم أحببتك ؟
وعندما وصلت في قصتى الى هذا الحد كنت قد نسبت حسين فسكت
ونكست رأسي في الأرض يملألى الحنين لليلى والحب لها ، لكن صوت حسين
نبهني وهو يقول :
وبعد ؟ أكمل .
لم أرفع رأسي اليه فقال - أكمل . وبعد ؟ عندما مشيت مع البنت التي اسمها
ما جدة وغارت ليلى وغضيت وتخاصمتها ثم تصالحتها . أكمل .
قلت - لا . أنت تعرف كل شيء .. لم أعد أريد ان أحكى
قال
هل أحببت ماجدة ؟
قلت - لا ، ولا هي أحبتني . ماجدة كانت تغار من ليلى فقط . كانت تريد
أن تثبت لها أنها تستطيع أن تأخذ منها من تحب .
قال حسين - وكيف سمحت لها بذلك ؟ كيف استطعت ان تنظر الواحدة
اخرى وانت تحب ليلى ؟
لم أرد عليه فقال
والآن تشتاق لليلى ؟
٤٤
هززت رأسي فقال - ولهذا تريد أن تسافر غدا ؟
قلت - انتهت الاجازة . لابد ان أعود للجامعة .
قال بصوت خافت - أنا أيضا أحب فريدة وأشتاق اليها . لكني لا استطيع
ان احكى مثلك .
تخجل ؟
لا ، لا أخجل منك أنت . لكنى لا أعرف . فريدة تشبه ليلى كما تحكى
لى عنها . عندما توانى تقول كلاما تغيظنی به وتسخر منى كما كنا نفعل ونحن
أطفال
وكنت أنا أعرف ذلك . أرى فريدة كثيرا وهى تقف في صحن البيت تخفى
نصف وجهها الأسفل بطرحتها حين تكلم حسين وكلما قال شيئا تجعل منه
لكته . وكانت قامته الفارعة الجميلة مثل أبيه وجده موضوعها المفضل . في آخر
مرة كان عندنا قبل ان يحدث ما حدث قالت لها أمى اصعدى يا فريدة إلى السطح
وماتي الشيء الفلاني . فقالت فريدة أنا مشغولة يا أمي . اعمل معروفا يا ابن
عمى مد يدك وناولنا اياه من فوق السطح، فضحكت انا وقالت أمي عيب يا
بنت . عيب يا مكشوفة الوجه . فازداد ارتباك حسين وازداد ضحك فريدة .
وابتسمت حين تذكرت هذا وقلت له - ولكن فريدة تحبك .
فقال - ربما . لا أعرف ولكن أنا ايضا لا استطيع ان اقول لها كلاما جميلا
مثل كلامك لليلي لا استطيع أن اجعلها تعرف كيف أحبها .
فقلت - صدقني انها تحبك وانها تعرف انك تحبها . لا يحتاج هذا إلى كلام .
ليلى قالت لى انها عرفت الى أحبها من قبل ان اقول لها كلمة . منذ كنت أنظر لها
من مكاني البعيد في آخر المدرج وأظن انها لا تراني .
رفع حسين رأسه وقال وعيناه تلمعان . لا . لن تعرف أبدا كيف
أحبها . أنا أحببت فريدة منذ كنا طفلين . منذ ان تشاجر أبي وأبوك ولم أعد أزوركم
أو أرى فريدة أو أسمع صوتها لم تعد الدنيا هي الدنيا . كل شيء أصبح ماسخا .
45
Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance
You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT
ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.
We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate
تعتبر فرضية السوق الكفء او فرضية كفاءة السوق بمثابة الدعامة او العمود الفقري للنظرية المالية في عصرن...
@Moamen Azmy - مؤمن عزمي:موقع هيلخصلك اي مادة لينك تحويل الفيديو لنص https://notegpt.io/youtube-tra...
انا احبك جداً تناول البحث أهمية الإضاءة الطبيعية كأحد المفاهيم الجوهرية في التصميم المعماري، لما لها...
توفير منزل آمن ونظيف ويدعم الطفل عاطفيًا. التأكد من حصول الأطفال على الرعاية الطبية والتعليمية والن...
Le pêcheur et sa femme Il y avait une fois un pêcheur et sa femme, qui habitaient ensemble une cahu...
في التاسع من مايو/أيار عام 1960، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الاستخدام التجاري لأول أقر...
أهم نقاط الـ Breaker Block 🔹 ما هو الـ Breaker Block؟ • هو Order Block حقيقي يكون مع الاتجاه الرئي...
دوري كمدرب و مسؤولة عن المجندات ، لا اكتفي باعطاء الأوامر، بل اعدني قدوة في الانضباط والالتزام .فالم...
سادساً: التنسيق مع الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية وفريق إدارة شؤون البيئة لنقل أشجار المشلع ب...
I tried to call the hospital , it was too early in the morning because I knew I will be late for ...
أكد موقع " construction business news " في أحد تقاريره عزم الشركات اليابانية والصينية على استهداف ال...
This paragraph is a description about ... The relation).. I am ... (name of the person)....•• is thi...