Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (100%)

حينما نطل من القلعة نشاهد مدينة لها كل مميزات العصور الوسطى ، غير أنه من بين جميع المباني العربية لا نجد بناء واحدا في حالته الحاضرة يرجع إلى الفتح العربي. فقبل أن يغزو المسكون مصر فى سنة ٦٤٠ م لم تكن هناك مدينة تسمى
فإن هذه المدينة لم يكن لها وجود في الواقع إلا بعد هذا التاريخ بثلاثة قرون، حين وضع القائد الرومي أساس المدينة التي اتخذها
الخلفاء الفاطميون مقراً لهم والتي أطلق عليها اسم القاهرة ، Cahere و Caire و Cairo . غير أن هذه ليست سوى ألفاظ لا طائل وراءها إذ أنها لا تدل على شيء . وكما هو الحال في انجلترا فإننا نقصر اسم لندن London على المدينة نفسها ونأبى أن نطلقه على مقاطعة وستمنستر Westminster وميفير Mayfair . لقد كانت هناك حاضر إسلامية منذ الفتح العربي ، وعلى الرغم من أنها لم تكن تسمى القاهرة ، كانت قريبة من المدينة الحالية التي لا تعدو أن تكون اتساعا للمدينة الأصلية. وتاريخ هذا النمو والاتساع سوف يتجلى لنا حين ندرس التطور الذي لحق هذه المدينة وآثارها . أما الآن فإنه يكفى مجرد الإشارة إلى تاريخ نشأتها وتطورها . فقد بنيت في بادىء الأمر المدينة العربية التي تسمى و الفسطاط أو مدينة الخيمة - في سنة ٦٤١ م . . وفي سنة أضيف إليها حي في الشمال الشرقى ليكون مقرا للأمراء ومعسكرا
الجيوشهم ، فسميت بذلك و العسكر ، . وإلى الشمال الشرق أيضا أضيف إليها ضاحية جديدة أو مدينة صغيرة بناها أول حاكم مسلم استقل بحكم مصر حول سنة ٨٦٠ م وهو ابن طولون . وهذه المدينة تسمى « القطائع ، لأنها كانت تنقسم إلى أحياء منفصلة كل منها يختص بشعب معين أو طبقة معينة . ثم لم تلبث هذه المدن الثلاث أن أصبحت مدينة واحدة من الناحية العملية ، فقد تجولت كل من العسكر» و«القطائع . كما تحولت تشاسی Chelsea وسانت چیمس St. James إلى لندن ـ إلى الحاضرة التجارية وهي الفسطاط. أما الخطوة الرابعة في تطور هذه المدينة فتتلخص في اتساع آخر نحو الشمال الشرقي أيضا . وقد تركت مساحة كبيرة بينها وبين القطائع - التي كانت قد تهدمت إلى حد كبير جدا - حتى يتوافر الأمن والعزلة للخلفاء الذين كان ينظر إليهم أنصار هم نظرة الاحترام والتقديس ، والذين بنيت هذه المدينة باسمهم سنة ٩٦٩ م . وكانت هذه المدينة الأخيرة هى القاهرة الحقيقية ، ولكنها لم تكن الحاضرة التجارية ولا مقرا للحكم كما كانت العسكر أو القطائع من قبل . وكانت الفسطاط - على ضفة النيل - لا تزال سوقا للتجارة ، أما
ومقرا للحكومة . مصر الفسطاط ، ولكن الحاضرة القديمة تظل أهم هذه المدن حقا. هنالك كان القضاة يجلسون في الجامع العتيق ليصدروا أحكامهم، وهناك كانت تصك نقود الدولة ، وهناك أيضا كان يقيم عامة الشعب الذين لم يكن لهم اتصال بالقصر. ولم تصبح القاهرة الحاضرة الحقيقية ومركز الحكم في مصر إلا بعد أن أحرقت الفسطاط عمدا في سنة ١١٦٨ م لتخليصها خوفا من أن تقع في أيدى الصليبيين . وكان صلاح الدين الأيوبي هو منشىء. القاهرة الحقيقى كما هو معروف . ذلك أنه هو الذى وضع تصميم السور الذى كان يحيط لا باالقاهرة وحدها ، بل بالقلعة أيضا وبما تبقى من مدينى القطائع والفسطاط . ومنذ ذلك الوقت بدأت المباني تقام على ذلك الفضاء الذي كان يقع بين القلعه وقصر القاهرة ، والذى أخذ على مر الزمن عتلى بمبانى القاهرة التي نراها اليوم. وهكذا فإن نمو هذه المدينة يتكون في الأصل من ثلاث مراحل من الاتساع نحو الشمال الشرقي . وكل من هذه الاتساعات المتعاقبة كان يتبعه بطبيعة الحال تهدم الأحياء والمناطق المهجورة. وتكتل الأماكن الآهلة بالسكان وانضمام بعضها إلى بعض . ومنذ أيام صلاح الدين الأيوبى اختفى تماما كل ما تبقى من مدينه الفسطاط ، ولم يبق إلا تلك القرية المتفرقة التي نراها على مقربة من موقع الفسطاط، الأصلى وتسمى «مصر العتيقة ، وتعرف عند الأوربيين باسم Old Cairo ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ثمة مدينة
جديدة قد أقيمت بين القاهرة والنيل نتيحة لبعض المؤثرات الأوربية . غير أن هذه المدينة الشتوية الجميلة ليس لها أية علاقة على الإطلاق بمدينة العصور الوسطى . و تاريخ غزو العرب لمصر غامض في كثير من النواحى ؛ وهذا يرجع إلى أن العرب لم يبدوا في تدوين تاريخهم إلا بعد قرنين أو أكثر. وإن ماتركه يوحنا أسقف نقيوس - الذي يكاد يكون حجتنا المعاصر الوحيد ـ قد وصل إلينا في ترجمة كتابه المحرفة، وقد دخل العرب مصر بقيادة عمرو بن العاص في ديسمبر سنة ٦٣٩م ، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ثانى الخلفاء الراشدين. وكان عددهم لا يزيد على أربعة آلاف مقاتل من الأقوياء . وبعد أن حاصر العرب الفرما و بلبيس مصر
-وقاتلوا الروم في حي أم دنين ـ وهي بالقرب من قصر عابدين الحالي ـ هاجموا أو بابليون ، وكانت هذه المدينة الأخيرة امتدادا إلى الشمال أو اتساعا لممفيس الحاضرة المصرية القديمة التي كانت لاتزال حتى ذلك الوقت ، ولكن في شكل أطلال بالية . وكانت تبعد عن القاهرة الحالية باثني عشر ميلا تقريبا ، وقد تم نموها تحت حماية حصن بابليون الروماني. ومما لا مراء فيه أن الروم قد دافعوا عنها دفاعا شديدا، حتى إن القائد العربي لم يجد بدا من طلب المدد حتى بلغ جيشه اثنى عشر ألفا قبل أن يتمكن من فتحها . وقد قسم عمرو بن العاص قواته إلى ثلاث فرق ، وضع الأولى إلى الشمال من حصن بابليون، والثانية في تندو نياس Tend unyas ومن المحتمل أن تكون هذه هي أم دنين التي تكلم عنها كتاب العرب) ، والثالثة إلى الشمال من هليوبوليس . وقد نجحت هذه الخطة ، إذ خرج الروم من حصونهم وأخذوا يهاجمون المسلمين في هليوبوليس، حيث أطبقت على مؤخرتهم قوات عمرو، فاضطروا إلى الفرار إلى النيل وألقوا بأنفسهم فيه. حاميتها في المعركة ، ولم ينج منها إلا ثلثمائة رجل أغلقوا أبواب الحصن من دونهم وهربوا بالقوارب إلى نقيوس. وقد اقترن استيلاء العرب على تندو نياس باستيلائهم على مدينة مصر كلها عدا القلعة التي أحاط بها العرب . ويذكر لنا يوحنا أسقف نقيوس ــ الذي نعتمد على تاريخه فيما نكتبه عن هذه الناحية ـ أن العرب لم يلاقوا أية مقاومة إلا حينما حاولوا الاستيلاء على الحصن . ومهما يكن من شأن مدينة مصر أو تندونياس، فإنها قد اختفت تماما من عالم التاريخ بمجرد استيلاء العرب عليها . باسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عمرو بن العاص أهل مصر ، على أنفسهم ودينهم وأموالهم وكنائسهم وصلياتهم وأرضهم ومانهم ، لا يدخل في شيء من هذا ولا ينقص ، وأن يسمح لأهل النوبة بأن يقيموا بينهم ، وإن أذعن أهل مصر للصلح فرضت عليهم الجزية خمسين ألف إذا هبط ماء نهرهم . وكل منهم مسئول عما يأتيه سراقهم من أعمال العنف . ومن لم يدخل في هذا الصلح أدى ما على غيره من الجزية من تلقاء نفسه وتحت مسئوليته . وإذا نقص ماء النيل نقصت الجزية تبعا لهذا النقصان . عومل كغيره من أهل مصر ؛ ومن أبي وأراد الخروج أمن على نفسه حتى يبلغ مأمنه أو ترك بلادنا . وستجمع الضرائب على أقساط ثلاثة كل ثلث منها على حدة. وعهد المؤمنين . شهد على ذلك الزبير وولداه عبد الله ومحمد وكتبه وردان ويربط المؤرخون العرب هذه المعاهدة التي يظهر أنها وثيقة لها قيمتها - باستسلام مدينة مصر بعد موقعة هليوبوليس. ولكن لما كانت مصر يقصد بها القطر المصري كما يقصد بها الحاضرة ، فإن هذه الوثيقة نفسها إنما تثبت أن الفاتح العربي قد توخى الكرم والسخاء في معاملته لأهل مصر . فهي لا تذكر شيئا واضحا يحا عن مدينة مصر التي أصبحت تسمى بعد قليل الفسطاط، على حين أن موقعها
لم يعد يعرف بعد ذلك . إنما التفسير الوحيد الذي يبدو صحيحا هو أن المدينة المصرية قد أخذت أهميتها في الضعف كلما أخذت المدينة العربية في النمو ، وأن السكان كانوا يرحلون إلى الأماكن القريبة الأكثر رخاء من مدينتهم الأولى . وإن بقايا الأسوار المتهدمة جنوبى مصر القديمة ممكن أن تمثل جانبا من موقعها ، وإن اختفاء إحدى المدن المصرية له لسوء الخط أكثر من سابقة . فمدينة ممفيس نفسها قد اختفت اللهم إلا من بعض بقايا الجدران والتماثيل المتهدمة، ولم ينج من مدينة طيبة إلا معابدها . والسبب في ذلك يرجع إلى أن المصرى القديم كان
يبنى مسكنه من الطوب المجفف في الشمس الذي كان معرضا للتلف والتهدم بعد وقت قد يقصر وقد يطول . أما الأحجار الصلبة فلم تكن تستخدم إلا في بناء مقابر العظماء ومعابد الآلهة الخالدين . ومهما يكن من شان التغيير الذي لحق المدينة التي نحن بصددها ، فإن حصن بابليون ما زال قائما حتى يومنا هذا . ولقد كلف حصار هذا الحصن العرب سبعة أشهر حتى تمكنوا من الاستيلاء عليه . فموقعة هليوبوليس قد كسبها العرب في آخر صيف ٦٤٠ م ؛ ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على الحصن قبل شهر إبريل سنة ٦٤١ . ويرتبط استسلام هذا الحصن بشخصية غامضة هي شخصية المقوقس الذي دعاء العرب حاكم مصر وتذهب الروايات العربية إلى أن المقوقس هو الذي اقترح المعاهدة الآنفة الذكر التي ضمنت للمصريين حرية الدين وأمنتهم على حياتهم . ولما رفض الإمبراطور هرقل البيزنطى هذه المعاهدة تمسك المقوقس بكلمته وأصبح فيصف العرب الذين كان لشجاعتهم وحماستهم أثر بالغ في نفسه . ولما عاد الرسل الذين كان قد بعث بهم إلى معسكر المسلمين ، سألهم عن حال المسلمين فأجابوا : رأينا قوما الموت أحب إليهم من الرفعة ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة ، وأميرهم كواحد منهم ، ولا السيد فيهم من العبد . وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد ، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم ، . ومثل هذا الخلق كان جديدا بالنسبة إلى المصريين الذين كانوا قد قاسوا الكثير من فساد
الإمبراطورية الرومانية الشرقية . ومهما يكن من شأن الدور الذي قام به المقوقس فها أطلق عليه خيانة مصر المسيحية، فيما لا شك فيه أن الشعب نفسه قد ساعد الغزاة الفاتحين . وعلى الرغم من أن المسيحية كانت الديانة الرسمية في مصر منذ أصدر ثيودوسيوس مرسوم سنة ٣٧٩م ، كانت لا تزال هنالك طقوس محلية قديمة على جانب عظيم من القوة . وأهم من هذا كانت لا تزال هناك أيضا نزعة قوية إلى بث روح القومية في الدين والدولة معا . فإن حكم البيزنطيين لم يكن ما يرتاح له أهل مصر . أضف إلى ذلك اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية ، فإنه لما عقد مجمع سنة ٤٥١ م رمى الأساقفة المصريون الذين دانوا بعقيدة أو تيخا بالإلحاد ، وأصبح الانقسام شيئا لا مفر منه . والثانية الكنيسة القومية ، أما من ناحية الاشتقاق اللغوى ، ي نفس كلمة مصرى ، والكنيسة القبطية لا تعنى أكثر من الكنيسة المصرية حينها انفصلت على أثر بدعة أو تيخا الدينية . ولم يكن المسيحيون المصريون من حيث كونهم قبطا قبل مجمع نيقية أقل مما كانوا عليه بعده . هو وفى اليونانية Aiguptios ، وفى العربية قبط ) بالفتح ) وقبط ( بالضم ) ، وفى الانجليزية Copt . الذي جعل منهم كنيسة مستقلة مما أدى إلى وقوع المصائب التي نزلت بهم وتنيه أذهان
المؤرخين إلى استجلاء ذلك الدور الذي يتعلق بتاريخهم . وكان تمكسهم بمذهب نيقية الذي يقول بأن للمسيح طبيعة واحدة ، أن عرضوا أنفسهم للاضطهاد والعزلة، كما كان سببا في أنهم لم يساهموا في تلك الإصلاحات التي أفادت منها الكنائس الأخرى، بل إنهم ظلوا في جماعتهم الضئيلة المهملة لا يتغيرون تخوا من خمسة عشر قرنا ، واحتفظوا بنفس التقاليد والطقوس الدينية كما كانوا في القرن الخامس الميلادى . وكانت كراهتهم الزائدة للملكيين هي التي ألقت بهم في أحضان المسلمين الغزاة . فقد رأيناهم يعملون بنصيحة بطريقهم الذي كان منفيا ، ويمدون يد المساعدة للعرب منذ اللحظة التي وطئت أقدامهم فيها أرض مصر . وكان ولوعهم في التخلص من الحكم البيزنطى ، يؤثرون هذا الرأى على غيره . وبعد أن نجح المقوقس – بمساعدة أحد الرجال الكاثوليك ولعله قيرس بطريرك الإسكندرية الملكاني - في أن يحصل من القائد العربي على عهد الصلح الذي يدل على السخاء ، أسدى القبط كل مساعدة إلى المسلمين، فكانوا يعاونونهم معاونة صادقة في بناء الجسور ، كما أمدوهم بالمؤن . غير أنهم ما لبثوا أن أدركوا أنهم إنما غيروا سيدا بآخر. بيد أن العربي ـ على الرغم من نزعته إلى الأنفة والتكبر وما كان يعتريه بين آن وآخر من نزعة التعصب والاضطهاد، كان في استبداده أرق من الحاكم الروماني بكثير . ولما وجدت الحامية الرومانية التي حاصرها العرب في حصن بابليون نفسها محرومة معاضدة الشعب ، اضطرت إلى التسليم في ابريل سنة ٦٤١ م . وسرعان ما غزا العرب الدلتا وأرغموا الروم على الانسحاب إلى الإسكندرية التي استسلمت للفزع والرعب وقبلت الشروط السخية التي عرضها عمرو . وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت قد سادتها الانقسامات كما كانت محرومة من القواد الصالحين . وباستسلام هذه الحاضرة الرومانية في أكتوبر سنة ٦٤١ م ، تم فتح مصر على أيدى العرب ، فلم تعد هناك مقاومة تستحق الذكر . وهكذا انتشر المسلمون في البلاد حتى وصلوا إلى الشلال الأول للنيل وأصبحت مصر ولاية تابعة للخلافة . وبعد أن عاد عمرو من الإسكندرية أسس مدينة الفسطاط ، وذلك لأن ميناء الإسكندرية العظيم على ساحل البحر الأبيض المتوسط لم يعد صالحا لأن يكون حاضرة للقبائل العربية التي أدت طبيعتها البدوية إلى أن يتسلط عليها شيء غير قليل من الخوف من الإسكندرية وبحرها العميق. هذا إلى أن الإسكندرية كانت معرضة في وقت فيضان النيل لأن تصبح في عزلة عن مركز سيادة العرب في المدينة . كما أن الخليفة عمر بن الخطاب ـ الذي لم يكن يحلم في ذلك الوقت بتأسيس إمبراطورية إسلامية شاسعة الأرجاء كان مولعا بأن يكون على اتصال دائم بجيشه في مصر . وقال له و منازل قد كفيناها . ؟ ، قال : نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل . عندئذ حول الخليفة وجهه عن الإسكندرية ، إذ كان ينظر إلى البلد التي تم له فتحها على أنها بمثابة ثكنات للجيش أكثر مما كان ينظر إليها على أنها مستعمرة. وعلى ذلك أصدر أمره إلى قائده عمرو بن العاص بأن يختار موقعا أكثر توسطا . وقد وجد عمرو هذا المكان على بعد عشرة أميال شمال أطلال مدينة ممفيس حاضرة القديمة في موقع الفسطاط الذي أقامه أمام حصن بابليون . وكانت هناك قناة تسمى أمنيس تراجانوس كانت قديما تربط بابليون بالبحر الأحمر عند السويس مارة بمدينة بلبيس وبحيرة التمساح . وقد أعاد عمرو فتح هذه القناة بعد أن نظفت مما كان بها من الأملاح ، حتى إن الضرائب وكذلك القمح ، أصبحت ترسل إلى بلاد العرب بحرا عن طريق هذه القناة ، وبذلك احتفظت مصر بعلاقاتها الوثيقة مع الخليفة . ويرجع السبب في تسمية مدينة الفسطاط بهذا الاسم إلى قصة طريفة لا يبعد أن يكون لها نصيب من الصحة . ذلك أن عمرو بن العاص حينما قاد قوانه العربية إلى حاضرة القديمة ، أقام فسطاطه حول المكان الذي يقع فيه جامع عمرو بن العاص . وبعد سقوط حصن بابليون سار إلى مدينة الإسكندرية. غير أن الجند الآن عندما ذهبوا ليقوضوا فسطاطه وجدوا ممامة قد باضت في أعلاه ، فقال عمرو : ولقد تحرمت بجوارنا ، ، وأمرهم بأن يقروا الفسطاط حتى يطير فراخها . ولما فتح عمرو الإسكندرية ، أخذ الجند يختطون منازلهم حول فسطاطه الذي خلفه قبل مسيره إلى الإسكندرية. وهكذا أصبحت أولى المدن العربية في مصر، الفسطاط أو مصر الفسطاط أو مصر . وكان الفضاء الذي يمتد بين النيل وجيل المقطم ــ حيث تقوم الآن القلعة على مكان بارز من الجبل - فضاء خاليا في ذلك الوقت . غير فضاء ومزارع ، كما لم يكن هناك من المبانى سوى بعض الكنائس وحصن بابليون الروماني ، . . وكان هذا القصر - كما يقول المقريزى – « يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر ، ، وبذلك يستخدم كتقويم شهرى . غير أنه من المحتمل ـ كما يرى الدكتور بتلر - أن يكون هذا الاسم تحريف اسم آخر هو قصر مصر ، و أن قصة الشمعة قد اخترعت لتفسير ذلك الرأى
وأما لماذا لم يحتل عمرو بن العاص مدينة مصر القديمة ، فهذا ما لا نعرف عنه شيئا . فكل ما كان له علاقة بتلك المدينة التي اندثرت لغز من الألغاز . ففي البلاد الأخرى التي فتحها العرب ، لم يترددوا عن الاستيلاء على الأقدم تاريخاً مثل دمشق والرهاء . أما في مصر فإنهم آثروا أن يستولوا على أراء جديدة . ربما كانت مصر صغيرة جدا أو من الممكن أن يكون الخليفة قد حرم عليهم أن يستحوذوا على الممتلكات وأن يستقروا في الريف ، مما دفع العرب إلى أن يحتلوا ذلك الفضاء الممتد بين بابليون وتلال المقطم . ومما لا شك فيه أن المكان الذي نزل فيه العرب أولا كان أشبه بمعسكر وقتى أكثر منه بمدينة بالمعنى الصحيح . فقد احتاجوا مساحة واسعة لكي يفضلوا القبائل المختلفة التي تألف منها الجيش العربي ، والتي كانت برغم الإخاء الذى ينادى به الإسلام عرضة لإثارة أحقادهم القديمة . وكان الموقع الذي اختاروه واسعا فسيحا لا يكاد يعوقه شيء . والحمراء القصوى . من الواضح أن هذه التسمية ترجع إلى اللواء الأحمر الذى أقيم في الوسط. واختطت منازلها فيها ، مبتدئة من حصن بابليون إلى حيث ترى جامع ابن طولون الآن . وفى وسط الفسطاط اختط عمرو بن العاص داره ، وبني بجواره أول مسجد أقيم في مصر وهو جامع الفتح ، وتاج الجوامع كما أطلق عليه العرب من قبيل المباهاة والفخر . غير أنه لم يلبث أن أطلق عليه اسم الجامع العتيق ، ويسمى الآن جامع عمرو . وكان هذا الجامع أولا عبارة عن غرفة مسطحة مستطيلة جدا طولها نحو ۲۰۰ قدما وعرضها ٥٦ قدما ، وقد بنى من الأحجار الخشنة الملساء . وكان سقفه منخفضا جدا أقم على عدة أعمدة وتتخلله بعض الثقوب لدخول الضوء . ولم تكن هناك للمسجد مئذنة أو مقصورة للصلاة . كذلك لم يكن هناك زينة أو أفاريز في الخارج، وحتى المنبر الذي اتخذه عمرو قد أزيل حين كتب إليه الخليفة يوبخه :
أما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس عند عقبيك ؟. وكان من واجب الفاتح أن يؤم الناس في الصلاة ويلقى خطبة الجمعة في ذلك المكان المتواضع الذي لم يلبث أن أصبح صغيرا جدا بالنسبة لأهل الفسطاط الذين أخذ يزداد عددهم ، مما أدى إلى زيادته في سنة ٦٧٣م بأن ضم إليه جزء من دار عمرو. وفي الوقت نفسه أقيمت فيه بضعة أعمدة في الأركان وهذه هي نواة المآذن - ليؤذن المؤذنون من فوقها . وبعد خمس وعشر من سنة هدم أحد أمراء مصر هذا المسجد عن آخره وأعاد بناءه بعد أن وسعه. وكان من أثر الإصلاحات الكثيرة وتجديد المباني، أنه لم ييتي هناك الآن قدم واحدة من البناء الأصلى . أما ما نراه اليوم فهو فى الواقع ذلك المسجد الذي أعاد بناءه عبد الله بن طاهر في سنة ٧٢٧ م ، ثم أصلحه مراد بك في
سنة ۱۷۹۸ م قبل أن يشتبك مع الفرنسيين في معركة الأهرام في إمبابة . كما أنه يختلف عنه في كل ناحية من النواحي . "والجامع العتيق - كما يسميه المقريزى - كان محل احترام المسلمين قديما . ففى هذا الجامع كان القاضى يجلس ليحكم بين الناس، وكان يجتمع في صحنه كثير من العلماء ، كما كان أيضا المكان الذى يجتمع فيه السنيون ، في الوقت الذي انقسم فيه المسلمون على أنفسهم . ولما احترقت مدينة الفسطاط في سنة ١١٦٨ م ، . نجا هذا الجامع برغم الأضرار الكثيرة التي لحقت به ، وأعاد صدر الجامع ، والمحراب الكبير ورخمه . غير أن الناس لم يلبثوا أن غيروا نظرتهم إلى هذا الجامع ، حين وجدوا أنه قد أصبح تابعا لبلدة أحرقت ، فأصبحت أطلالا دارسة . كما أنفضت الاجتماعات التي كانت تعقد فيه من قبل . وهكذا حلت بجامع عمرو أيام السوء . وقد وجد ابن سعيد الرحالة المغربي الذي عاش في القرن الثالث عشر هذا البناء العظيم وقد غطاء العنكبوت ، وجدرانه التى علاها عبث العامة والمتعطلين، وقد نثروا على أرضه ما خلفوه من فضلات الطعام. في ذلك الوقت كان هناك عدد قليل من الأتقياء الحقيقيين، على حين كان فيه عدد أكبر من العابثين . قال الجبرتي المؤرخ الذي عاش في القرن الثامن عشر، إنه كان هناك كثير من الموسيقيين وقواد القردة والمشعوذين والحواة والراقصات ممن كانوا يترددون على صحن الجامع . حتى إن هؤلاء الناس قد هجروه. ولولا أن مراد بك كان قلقا على حياته، لأسباب معقولة جدا وأرضى ضميره بإنفاق بعض الأموال التي حصل عليها بطرق غير مشروعة على أعمال البرنحو إعادة بناء هذا الجامع ، وفي مستهل القرن التاسع عشر ، كان هذا الجامع لا يزال الجامع الذي يفضله أهالى القاهرة ، لإقامة صلاة الجمعة الأخيرة أو اليتيمة من شهر رمضان. وكانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى يتقبل صلاة من يصلى في هذا الجامع العتيق . فإذا تأخر فيضان النيل ، وخشي الناس هبوط مائه ، وما يعقبه من القحط وندرة الأقوات ، صدرت الأوامر إلى كبار المشايخ والأئمة وأهل الورع والعلم من المسلمين بأن يذهبوا إلى جامع عمرو ويصلوا صلاة الاستسقاء من أجل زيادة ماء النيل . كذلك كان يعقد قساوسة الكنائس المسيحية المختلفة اجتماعات لهذا الغرض، ويشاركهم اليهود في ذلك . وهكذا كان جامع عمرو المكان الذي يقدسه المسلمون والمسيحيون واليهود على سواء التماسا للمطر ، ويقيمون الصلوات العامة في الوقت الذي حل القحط بالبلاد منذ عشرين سنة ( ۱۸۲٥ - ۱۸۲۸ م ) . وكان من أثر ذلك أن نزل المطر في اليوم التالي. إن الناظر لأقدم هذه المساجد من الخارج لا يتأثر كثيرا . ففي وسط أكوام القمامة التي تميز موقع مدينة الفسطاط، نشاهد جدرانه المرتفعة الرمادية اللون التي لا أثر للنوافذ ولا للزينة فيها . كذلك نميز بوضوح مئذنتيه اللتين هما غاية في البساطة. أما من الداخل فإنه يختلف كثيرا برغم ما لحقه من التهدم والإهمال . هنا نجد فناء مساحته أربعون ألف قدم مربع تقريبا ، وهنالك
نشاهد منظرا غاية في الروعة والبهاء . ويزدحم المسجد بالمتعبدين الذين يؤدون صلاتهم في انحاء منظم ، فيضفون على المكان جوا من الهيبة والجلال . أما الحنايا فيرجع تاريخها إلى عصور مختلفة ، وأما الأعمدة التي انتزعت من الكنائس فقد وضعت في غير مواضعها في أغلب الأحيان . والأروقة غير متوازية مع الجدران كالصوامع التي تحيط بالكنيسة ، ولكنها مقامة على شكل زوايا قائمة في صحن الجامع . والقطع الخشبية الطويلة تمتد من عمود إلى عمود لتحمل المصابيح التي كان يضاء منها ثمانية عشر ألف مصباح كل ليلة في الأزمان السالفة. ونستطيع أن تتصور ذلك الضوء الساطع الذي كان يترامى أمام المسجد . غير أن ليالى الوقود قد ذهبت منذ أمد بعيد ، وأصبح جامع الفاتح حطاما باليا ، يوحى إلى الخيال بما كان يتردد عليه من طوائف العلماء والصالحين والمتعصبين ورجال الدين والفقهاء والصوفية الذين كانوا ينحنون أمام قبلته التي هجرها الناس فيما بعد. إن ذلك الجامع الأصلي الذي بناه الفاتح العربى قد اصحى منذ أمد بعيد, غير أن ذلك الجامع الذي يمثله اليوم يقوم على نفس موقعه المبارك . وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نذكر عن مدينة الفسطاط التي شيدها عمرو مثلما ذكرنا عن جامع عمرو . هنالك ، حينما تهب ريح عاصفة تثير الرمال ، تستطيع في أغلب الأحيان أن تلتقط بطريق الصدفة بعض قطع من الزجاج أو الفخار أو المصابيح الرومانية ، والنقود والصور والنقوش التي تدون أسماء ولاة القرن الثامن الميلادي ، وما إلى ذلك من بقايا الأشياء التي كانت في مدينة الفسطاط. أما المنازل وقصور الأمراء والحمامات والمدارس التي كانت فى الفسطاط فلا أثر لها البتة . ومن المؤكد أن مخازن غلال يوسف يرجع تاريخها على الأقل إلى عهد يوسف الأخير وهو صلاح الدين ؛ ولكن مصر العتيقة ، أما ما تبقى خراب بلقع. وسوف نلقى نظرات سريعة على تاريخ القاهرة القديمة فى الأبواب التالية ، ونقرأ وصفها فيما كتبه الرحالة من الفرس والمغاربة أى من الغرب والشرق الإسلاميين . غير أن مثل هذا الوصف لا يمكننا من أن ندرك إدراكا كاملا المدينة العربية التي ذهبت معالمها الآن . ومهما يكن من شيء فإنه قد تبقى هناك حتى الآن أثر يرجع تاريخه إلى الفتح العربي ، غير أنه ليس عربيا على أي حال . ذلك هو حصن بابليون الذي يقوم الآن حيث كان يشرف فيما مضى على خيام المسلمين ، ويشرف على الحاضرة العربية وهى تنمو تحت أسواره . ولكي نفهم سبب تسمية حصن بابليون بهذا الاسم - أو كما يسميه بعض باب لى أون أو باب أون ، يجب علينا أن نذهب إلى المطرية على بعد بضعة أميال شمالى القاهرة، حيث تقوم مسلة منعزلة هي كل ما تبقى من مدينة أون On أو مدينة هليو پوليس Heliopolis ( مدينة الشمس ) . وهناك في منبسط المطرية حارب الأتراك أمام هذه المسلة المنعزلة في المعركة الأخيرة التي انتهت باستيلائهم على القاهرة من أيدى المماليك في سنة ١٥١٧ م . وهنا أيضا انتصر كلير على الأتراك في سنة ۱۸۰۰ . هنالك يقوم بعد أون on الذي كان حمو يوسف - يعمل فيه كاهنا . هنالك أيضا كان يوتيفيراه Potipherah پیانشی Pianchi - ملك الكهنة الأثيوبيين priest-king في القرن الثامن قبل الميلاد يستحم في عين شمس، ويقدم الثيران البيض واللبن والعطور والبخور والأخشاب العطرة المختلفة ، وحيث رأى عند دخوله المعبد أباه رع Ra ( إله الشمس ) في المحراب . والتي سبقت جميع المدارس في أوربا . ويغلب على الظن أن موسى كان يتلقى حكمة المصريين على أيدى كهنة رع . وهنالك عمل فيرودوت على نقض هذه التعاليم نفسها ، وأحرز شيئا من النجاح في هذه السبيل . وهنالك أيضاً أتى أفلاطون لتاق تعاليمه ، كما ذهب العالم الرياضي بودوكس Eudoxus ليدرس الفلك ، كما شهد استرابون Strabo المنازل التي عاش فيها مشاهير اليونان. فلقد تكسرت, وضاع أثرها ، واحترقت منازل آلهة المصريين ، وبجانب تلك المسلة المنعزلة الآنفة الذكر نشاهد شجرة جميز عتيقة جفت بفعل الزمن، وشوهتها الأسماء التى لا عدلها ، وعلى
مقربة من هذه الشجرة نبع ماء عذب ، وهو بلا شك منظر غريب في تلك الضاحية المقفرة . ويقال إن ماءه قد أصبح عذبا لأن الطفل قد استحم فيه . ومن هذه البقع حيث تساقطت قطرات الماء من قماطه الذي غسل في ذلك النبع المقدس ، نمت أشجار البلسم التي لم تنم كما يعتقد البعض - في أي مكان آخر . وليس هنالك شاهد من الشواهد يدل على صحة هذه الأوهام التى هى أشبه ما يكون بالخرافات . أما شجرة الجيز فقد خلفت بطبيعة الحال تلك الشجرة المزعومة ، وهي لم تزرع إلا بعد سنة ١٦٧٢ م . غير أن ما يقال من أن أو نياس Onias اليهودي بني معبدا ليتعبد فيه مواطنوه بالقرب من ذلك المكان ، وأنه استحضر بعض المزارعين من اليهود ليتعهدوا نمو شجر البلسم ، باب أون ، الذي يحرسها ما زال يتحدى الزمن . والواقع أن اسم بابليون مصر الذي يستعمل للدلالة على الخاضرة ( الفسطاط ) وعلى الحصن ، يظهر كثيرا في تاريخ العصور الوسطى و أقاصيصها . مثال ذلك تلك القصة التي تصور لنا كيف انتصر ريتشارد قلب الأسد على صلاح الدين الأيوبي . وسواء أكان هناك أساس لما رواه كل من استرابون وديودورس، من أن ذلك الحصن بناء أول الأمر بعض المنفيين من بابليون العظيمة في بلاد كلديا ، فإن الحصن الحالى يرجع تاريخه إلى القرن الثالث - ولا يبعد أنه يرجع إلى القرن الثاني من الميلاد . والواقع أن منظر الحصن من الخارج يضفى على النفس كثيرا من العظمة برغم تصدع جدرانه ، وأن الرمال قد غطت قواعدها . غير أن منظره العام لم يطرأ عليه تغيير كبير، إذ تستطيع أن نميز بوضوح طوابيه الخمس وبرجيه المستديرين. أما الجدران فقد بنيت على الطريقة الرومانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت : خمس طبقات من الأحجار وثلاث من الطوب على التبادل . أما الأساس فلا يبعد أن يكون قد طلى باللونين الأحمر والأصفر كما كان الحال في المساجد والدور الإسلامية. وحتى مظهر هذا البناء الضخم يجعل الإنسان يدرك في سهولة ما كان لاستيلاء العرب على هذا البناء من أهمية . ونحن إذ نصل إلى داخل الحصن ، نستطيع أن نلس لأول وهلة الطابع الخاص الذي يطبع به هذا الحصن. ذلك أننا تمر خلال ممرات معتمة أضيق وأظلم وأقذر من الأزقة التي تقع وراء مدينة القاهرة . على المكان بأكمله . والمنازل المرتفعة التي تحجب الشارع ليس فيها الكثير من زخارف المشربيات التي تزين شوارع القاهرة . ولولا بعض الأصوات التي تصدر بين الفينة والفينة من داخل تلك المنازل ، وبعض الأبواب التي تترك نصف مغلقة لما خطر لنا على بال أن كان هنالك أي لون من ألوان الحياة في ذلك الحصن . ومما يميز تلك المنازل كذلك صغر حجم نوافذها ذات القضبان الحديدية المتشابكة وليس هناك حقا ما بدل على أن تلك الجدران المنبسطة تحوى بين طياتها ست كنائس فخمة ، لكل منها هيكلها الخاص الحافل بالنقوش والصور والملابس الكهنوتية وغيرها من الأشياء التي ليس لها مثيل . والواقع أن الكنيسة القبطية تشبه الحريم عند المسلمين - فهى من الخارج غيرها من الداخل . فكما أن منظر معظم المنازل في القاهرة لا يدل على أي شيء مما يحويه داخل هذه المنازل من فناء واسع في الداخل، تحيط به غرف فسيحة نقشت على جدرانها أبدع الرسوم وأروعها ، وأسقف ليست بأقل بهجة ولا روعة . هذا فضلا عما تحويه من الطنافس الفاخرة التي تتلألأ من وراء ذلك الضوء القليل الذي ينعكس من وراء النوافذ ذات الزجاج الملون
كذلك الحال في الكنائس القبطية حيث لا يمكنك أن تتكهن وأنت في الخارج بما تحويه هذه الكنائس في الداخل . فإن الأسوار العالية تخفى كل ما تحويه هذه المباني . وليس أدل على هذا
من تلك الجدران المرتفعة المحيطة بالكنائس من الخارج ، والتي لا تحوى أى نقوش ليتخلصوا بها من تلك الملاحظات التي كانت تثير فيما مضى الشراهة والتعصب الديني . وبعد أن تمر من الباب المتين ونعبير أحد الدهاليز أو ترتقي بعض الدرجات ، نجد أنفسنا أمام كنيسة فخمة ، لها محراب قد تحسدها عليه أية كنيسة في انجلترا. وفي ذلك الضوء الضئيل نشاهد صفوفا من تماثيل رائعة للقديسين تطل عليك من فوق المحراب والستائر ، كما نجد بعض العبارات منقوشة بالذهب باللغتين القبطية والعربية مشيدة بتمجيد الله سبحانه وتعالى ، على حين تجد في أعلى المكان حنايا في أحد حافتي الكنيسة، تبين لنا أنه لا يبعد أن تكون ثمة كنوز أخرى فنية سوف يكشف عنها في المستقبل . ولعل أهم ما تصطبغ به الكنيسة القبطية بوجه عام هو أنها من طراز بناء الكنيسة الباسليقية الشهيرة في روما. غير أن هناك بطبيعة الحال بعض أوجه الخلاف التي جعلت الكنيسة القبطية تخرج في بعض الأحيان عن هذا الطراز . والقبة القبطية تتميز بالطابع البيزنطى الذى يكاد يكون شائع الاستعمال في العالم . وفى بعض الأحيان قد نجد الكنيسة مسقوفة بعنقود من القباب يصل إلى اثنتى عشرة قبة . وتكون الكنيسة من صحن وأجنحة جانبية و بعض الأقواس التي تشيه تماما أقواس الكنيسة الإيرلندية القديمة والتي لم تكن لتوجد في غيرها ) . ومن النادر أن يكون لهذه الكنية أجنحة أو أنها تقرب من شكل الصليب . وفي مؤخرة الكنيسة مكان خاص تجلس فيه السيدات اللاتي يرى أهل الرأى من القبط أن يجلسن خلف الرجال ، ويحولون بذلك دون حدوث أي اضطراب في أثناء العبادة والصلوات في حالة جلوس الجنسين بعضهما مع بعض كما يحدث في بعض الكنائس الغربية . ولذلك يفصل قسم النساء عن قسم الرجال حاجز ذو عوارض خشبية يكون عادة أعرض بكثير وأحسن زخرفة وتنميقا . كما يفصل قسم الرجال عن المرتلين فاصل آخر . والكنيسة تحوى ثلاثة هياكل مختلفة ومنفصلة ، كل منها تعلوه قبة ( ليست على شكل نصف دائرة ) خاصة به . وبداخل كل هيكل أخر الستائر محلاة بصليان من العاج والأبنوس والأشكال الهندسية المنقوشة على الطراز العربي على الخشب في براعة ودقة تعلوها صور وعبارات منقوشة بالذهب باللغتين القبطية والعربية. وفي أثناء إقامة الصلاة تفتح الأبواب الداخلية والستارة الموشاة بالفضة ، فيبدو المذبح المجتمعين المتعبدين في صورة تذكرنا بالاحتفال الذي يثير العواطف كما يقام في كاتدرائية القديس إسحاق بمدينة بطر شرج. بغطائه الحريرى، وتلك المشكاة التي لا تقدر بثمن قد وضعت في الجهة الشرقية ، وكان لها دلالة غامضة في غابر الأيام، أما الآن فإنها تستخدم لوضع الصليب فيها وحوله أوراق الورد عند الاحتفال يوم الجمعة الحزينة تمهيداً للاحتفال بعيد القيامة. وقد تكون الجدران في بعض الأحيان مغطاة
بالزجاج الملون mosaic على الطراز المصرى . أما السقف فقد رسمت عليه صور بارزة على الخشب ، وأخرى بالألوان المسائية تمثل الاثنى عشر رسولا وفي وسطهم السيد المسيح وهو يبارك الناس . ومن فوق المذبح رواق رسمت عليه صور الملائكة رسما رائعا. ومن الأشياء الغريبة في الهيكل ، ذلك الصندوق الذي يحمل كأس التناول المصنوع من الفضة الخالصة . وإن تلك المروحة التي تستخدم لطرد الهوام أثناء العشاء الربانى لا تقل مطلقاً عما تقدم في إثارة اهتمام الناظر . وهنالك مراوح
مماثلة في كتاب كيلا Kela الإيرلندى . وليس هناك إطلاقا صليب يظهر عليه المسيح مصلوبا . وقد نجد في بعض الهياكل بقايا عظام أحد القديسين ، ولكن الكنيسة القبطية لا تحرم مثل هذه البقايا ، منها . وهناك كثير من المؤمنين يعلقون أهمية عظيمة على ما في هذه البقايا من خواص تساعد على الشفاء. خدمت بالشمع ، مع أنه ليس بداخله غير بعض أوراق الشجر . وهو في الغالب مثل جميل للنقوش المعدنية التى تمثل الصيد فيبرز النقش على السطح المقابل . وهذا الصندوق يؤتى به من على المذبح حيث يتسلمه أحد الشمامسة ويضعه على المقرأ ثم
يقرأ من إنجيل آخر هناك . والمقرأ نفسه شيء بديع أعد ليكون أداة من أدوات الزينة . وذلك المقرأ الذي كان في الكنيسة المعلقة و الذي نراه الآن في كنيسة الأقباط الكبرى فى القاهرة - مغطى بنقوش بديمة تشبه تلك النقوش التي نراها على أبواب المساجد و منارها . ومن بين الكنائس الست التي كان يشتمل عليها حصن بابليون ، نرى ثلاثا في غاية الروعة والبهاء . ذلك أنه على الرغم من أن كنيسة سان جورج الإغريقية التي تقوم على قمة البرج المستدير محلاة بالقرميد السورى والمصابيح المصنوعة من الفضة فإن البرج الروماني نفسه أكثر إمتاعا من الكنيسة المقامة عليه ، والدرجات الكثيرة ، ومن هذه الكنائس القبطية الأساسية الثلاث ، نجد كنيسة القديس سرجيوس أو « أبى سرجه، وهى التي يتردد عليها الناس أكثر من غيرها ، لأنه قد أثر أن العائلة المقدسة استراحت في ناووسها حينما أتت إلى مصر. ومن المؤكد أن هذا الناووس أقدم من الكنيسة التي تعلوه بقرون كثيرة ، إذ يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي . والكنيسة نفسها تتميز بستارة بديعة الصنع ، وعلى مقربة منها مثل واضح للنقوش القبطية القديمة التي تمثل ولادة المسيح والقديسين المحاربين وقد بدت صورهم بارزة . وثمة مثل آخر لهذه الصور المحفورة نراه فى كنيسة القديسة برباره . وإلى جانب كنيسة أبى سرجه وكنيسة القديسة برباره ، لا تزال هناك كنيسة قبطية ثالثة جديرة بالذكر لا تقل عن هاتين الكنيستين روعة وبهاء . وهذه الكنيسة معلقة بين برجين رومانيين مرتفعين ، فوق باب من الطراز القديم منقوش عليه نسر . وقد سميت هذه الكنيسة - كما يدل على ذلك موقعها ـ الكنيسة المعلقة . وهذه الكنيسة جديرة بالملاحظة وتثير الانتباه لعدة أسباب، ولهذه الكنيسة مزايا أخرى ، فليس لها هيكل كغيرها من الكنائس ، بل هنالك منصة مرتفعة أمام السقف المنخفض فى الجهة الشرقية . وهذه المنصة تؤدي الغرض الذي يؤديه الهيكل، على حين نرى السقف مضاعفاً في الجانب الشمالي، والحاجز المنقوش في الجانب الشمالي مرصع بالزخارف المصنوعة من العاج الرقيق مما يزيد في بهجة المسكان وجماله حينما كانت تضاء المصابيح المعلقة خلفه . أما المنير فقد نقش نقشاً بديعاً رائعا ، وهو مقام على خمسة عشر عمودا دقيقا صنعت على الطراز الإسلامي ، مقسمة إلى سبعة أزواج أقيم أحدها في المقدمة . ولعل من أغرب ما تحويه الكنيسة المعلقة ، حديقتها المعلقة حيث ساعدت الخبرة على غرس النخيل في الفضاء على تأييد تلك
الرواية القائلة بأن السيدة العذراء حينما أنت إلى مصر أفطرت بعد صيامها من تمر ذلك النخيل . و ليس هذا مجال الكلام عن طقوس الكنيسة القبطية وعقائدها . إن صيام الأقباط الكبير الذي يستغرق خمسة وخمسين يوما ، والذي يمتنع فيه الشخص امتناعا تاما عن الطعام منذ شروق الشمس حتى غروبها في كل من هذه الأيام هذا الصيام لا شك أنه يوحى إلينا بصوم رمضان الأقل شدة عند المسلمين . وسر الزواج المقدس يحمل بين طياته بعض العناصر الغربة. غير أنه مما لاشك فيه أن معظم الاحتفالات التي تتم في الكنيسة القبطية لها وقارها وهيبتها . فما من أحد يستطيع أن
يشهد القداس في كنيسة قبطية دون أن يثير ذلك انتباهه . وكذلك لا يستطيع أحد ألا يتحرك لسماع أصوات الشمامسة وهم يترنمون فى الكنيسة القبطية في صوت واحد مرتفع .


Original text

حينما نطل من القلعة نشاهد مدينة لها كل مميزات العصور الوسطى ، غير أنه من بين جميع المباني العربية لا نجد بناء واحدا في حالته الحاضرة يرجع إلى الفتح العربي. فقبل أن يغزو المسكون مصر فى سنة ٦٤٠ م لم تكن هناك مدينة تسمى
القاهرة . وإن نحن توخينا الدقة ، فإن هذه المدينة لم يكن لها وجود في الواقع إلا بعد هذا التاريخ بثلاثة قرون، حين وضع القائد الرومي أساس المدينة التي اتخذها
الخلفاء الفاطميون مقراً لهم والتي أطلق عليها اسم القاهرة ، وهو الاسم الذي اشتق منه الأوربيون أسماء . Cahere و Caire و Cairo . غير أن هذه ليست سوى ألفاظ لا طائل وراءها إذ أنها لا تدل على شيء . وكما هو الحال في انجلترا فإننا نقصر اسم لندن London على المدينة نفسها ونأبى أن نطلقه على مقاطعة وستمنستر Westminster وميفير Mayfair . لقد كانت هناك حاضر إسلامية منذ الفتح العربي ، وعلى الرغم من أنها لم تكن تسمى القاهرة ، كانت قريبة من المدينة الحالية التي لا تعدو أن تكون اتساعا للمدينة الأصلية. وتاريخ هذا النمو والاتساع سوف يتجلى لنا حين ندرس التطور الذي لحق هذه المدينة وآثارها . أما الآن فإنه يكفى مجرد الإشارة إلى تاريخ نشأتها وتطورها . فقد بنيت في بادىء الأمر المدينة العربية التي تسمى و الفسطاط أو مدينة الخيمة - في سنة ٦٤١ م . . وفي سنة أضيف إليها حي في الشمال الشرقى ليكون مقرا للأمراء ومعسكرا
الجيوشهم ، فسميت بذلك و العسكر ، . وإلى الشمال الشرق أيضا أضيف إليها ضاحية جديدة أو مدينة صغيرة بناها أول حاكم مسلم استقل بحكم مصر حول سنة ٨٦٠ م وهو ابن طولون . وهذه المدينة تسمى « القطائع ، لأنها كانت تنقسم إلى أحياء منفصلة كل منها يختص بشعب معين أو طبقة معينة . ثم لم تلبث هذه المدن الثلاث أن أصبحت مدينة واحدة من الناحية العملية ، فقد تجولت كل من العسكر» و«القطائع .كما تحولت تشاسی Chelsea وسانت چیمس St. James إلى لندن ـ إلى الحاضرة التجارية وهي الفسطاط.
أما الخطوة الرابعة في تطور هذه المدينة فتتلخص في اتساع آخر نحو الشمال الشرقي أيضا . وقد تركت مساحة كبيرة بينها وبين القطائع - التي كانت قد تهدمت إلى حد كبير جدا - حتى يتوافر الأمن والعزلة للخلفاء الذين كان ينظر إليهم أنصار هم نظرة الاحترام والتقديس ، والذين بنيت هذه المدينة باسمهم سنة ٩٦٩ م .
وكانت هذه المدينة الأخيرة هى القاهرة الحقيقية ، ولكنها لم تكن الحاضرة التجارية ولا مقرا للحكم كما كانت العسكر أو القطائع من قبل . وكانت الفسطاط - على ضفة النيل - لا تزال سوقا للتجارة ، كما كانت أكبر مدينة للثقافة والأعمال . أما
القاهرة فإنها كانت بمثابة قصر فخم ، وثكنات للجنود ، ومقرا للحكومة .
ويلاحظ أن مؤرخى العصور الوسطى من أمثال وليم الصوري William of Tyre حين يكتبون عن مصر - وكلمة مصر تستخدم في اللغة العربية للدلالة على القطر المصرى وعلى الحاضرة على السواء - فإنهم لا يشيرون إلى القاهرة، بل إلى الفسطاط، أو كما كانت تسمى عادة, مصر الفسطاط ، . ولقد كان الأمير أو الخليفة أو السلطان يختار أية ضاحية ببنيها لنفسه ويحكم منها ، ولكن الحاضرة القديمة تظل أهم هذه المدن حقا. هنالك كان القضاة يجلسون في الجامع العتيق ليصدروا أحكامهم، وهناك كانت تصك نقود الدولة ، وهناك أيضا كان يقيم عامة الشعب الذين لم يكن لهم اتصال بالقصر. ولم تصبح القاهرة الحاضرة الحقيقية ومركز الحكم في مصر إلا بعد أن أحرقت الفسطاط عمدا في سنة ١١٦٨ م لتخليصها خوفا من أن تقع في أيدى الصليبيين .
وكان صلاح الدين الأيوبي هو منشىء. القاهرة الحقيقى كما هو معروف . ذلك أنه هو الذى وضع تصميم السور الذى كان يحيط لا باالقاهرة وحدها ، بل بالقلعة أيضا وبما تبقى من مدينى القطائع والفسطاط . ومنذ ذلك الوقت بدأت المباني تقام على ذلك الفضاء الذي كان يقع بين القلعه وقصر القاهرة ، والذى أخذ على مر الزمن عتلى بمبانى القاهرة التي نراها اليوم. وهكذا فإن نمو هذه المدينة يتكون في الأصل من ثلاث مراحل من الاتساع نحو الشمال الشرقي . وكل من هذه الاتساعات المتعاقبة كان يتبعه بطبيعة الحال تهدم الأحياء والمناطق المهجورة. وتكتل الأماكن الآهلة بالسكان وانضمام بعضها إلى بعض . ومنذ أيام صلاح الدين الأيوبى اختفى تماما كل ما تبقى من مدينه الفسطاط ، ولم يبق إلا تلك القرية المتفرقة التي نراها على مقربة من موقع الفسطاط، الأصلى وتسمى «مصر العتيقة ، وتعرف عند الأوربيين باسم Old Cairo ، وهى ذلك الجزء الذى نستطيع أن تتبع أثره إذا حاذبنا أكوام القمامة الملقاة على جاني الطريق . هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ثمة مدينة
جديدة قد أقيمت بين القاهرة والنيل نتيحة لبعض المؤثرات الأوربية . غير أن هذه المدينة الشتوية الجميلة ليس لها أية علاقة على الإطلاق بمدينة العصور الوسطى .
و تاريخ غزو العرب لمصر غامض في كثير من النواحى ؛ وهذا يرجع إلى أن العرب لم يبدوا في تدوين تاريخهم إلا بعد قرنين أو أكثر. وإن ماتركه يوحنا أسقف نقيوس - الذي يكاد يكون حجتنا المعاصر الوحيد ـ قد وصل إلينا في ترجمة كتابه المحرفة، وقد دخل العرب مصر بقيادة عمرو بن العاص في ديسمبر سنة ٦٣٩م ، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ثانى الخلفاء الراشدين. وكان عددهم لا يزيد على أربعة آلاف مقاتل من الأقوياء . وبعد أن حاصر العرب الفرما و بلبيس مصر
-وقاتلوا الروم في حي أم دنين ـ وهي بالقرب من قصر عابدين الحالي ـ هاجموا أو بابليون ، وكانت هذه المدينة الأخيرة امتدادا إلى الشمال أو اتساعا لممفيس الحاضرة المصرية القديمة التي كانت لاتزال حتى ذلك الوقت ، ولكن في شكل أطلال بالية . وكانت تبعد عن القاهرة الحالية باثني عشر ميلا تقريبا ، وقد تم نموها تحت حماية حصن بابليون الروماني. ومما لا مراء فيه أن الروم قد دافعوا عنها دفاعا شديدا، حتى إن القائد العربي لم يجد بدا من طلب المدد حتى بلغ جيشه اثنى عشر ألفا قبل أن يتمكن من فتحها .
وقد قسم عمرو بن العاص قواته إلى ثلاث فرق ، وضع الأولى إلى الشمال من حصن بابليون، والثانية في تندو نياس Tend unyas ومن المحتمل أن تكون هذه هي أم دنين التي تكلم عنها كتاب العرب) ، والثالثة إلى الشمال من هليوبوليس . وقصد بذلك أن يحمل الروم على الخروج من حصونهم فيطبق عليهم القسمان الآخران من المؤخرة . وقد نجحت هذه الخطة ، إذ خرج الروم من حصونهم وأخذوا يهاجمون المسلمين في هليوبوليس، حيث أطبقت على مؤخرتهم قوات عمرو، فاضطروا إلى الفرار إلى النيل وألقوا بأنفسهم فيه. عند ذلك احتل المسلمون تندو نياس التي أبيدت
حاميتها في المعركة ، ولم ينج منها إلا ثلثمائة رجل أغلقوا أبواب الحصن من دونهم وهربوا بالقوارب إلى نقيوس. وقد اقترن استيلاء العرب على تندو نياس باستيلائهم على مدينة مصر كلها عدا القلعة التي أحاط بها العرب . ويذكر لنا يوحنا أسقف نقيوس ــ الذي نعتمد على تاريخه فيما نكتبه عن هذه الناحية ـ أن العرب لم يلاقوا أية مقاومة إلا حينما حاولوا الاستيلاء على الحصن . ومهما يكن من شأن مدينة مصر أو تندونياس، فإنها قد اختفت تماما من عالم التاريخ بمجرد استيلاء العرب عليها . وآخر ما نسمعه عنها في معاهدة الصلح التي أبرمها عمرو بن العاص ، وهاك نصها :
باسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عمرو بن العاص أهل مصر ، على أنفسهم ودينهم وأموالهم وكنائسهم وصلياتهم وأرضهم ومانهم ، لا يدخل في شيء من هذا ولا ينقص ، وأن يسمح لأهل النوبة بأن يقيموا بينهم ، وإن أذعن أهل مصر للصلح فرضت عليهم الجزية خمسين ألف إذا هبط ماء نهرهم . وكل منهم مسئول عما يأتيه سراقهم من أعمال العنف . ومن لم يدخل في هذا الصلح أدى ما على غيره من الجزية من تلقاء نفسه وتحت مسئوليته . وإذا نقص ماء النيل نقصت الجزية تبعا لهذا النقصان . ومن رضى من الروم والنوبيين بهذا الصلح
عومل كغيره من أهل مصر ؛ ومن أبي وأراد الخروج أمن على نفسه حتى يبلغ مأمنه أو ترك بلادنا . وستجمع الضرائب على أقساط ثلاثة كل ثلث منها على حدة. وعلى عهد الله وعهد رسوله وعهد الخليفه أمير المؤمنين ، وعهد المؤمنين ... شهد على ذلك الزبير وولداه عبد الله ومحمد وكتبه وردان ويربط المؤرخون العرب هذه المعاهدة التي يظهر أنها وثيقة لها قيمتها - باستسلام مدينة مصر بعد موقعة هليوبوليس. ولكن لما كانت مصر يقصد بها القطر المصري كما يقصد بها الحاضرة ، فإن هذه الوثيقة نفسها إنما تثبت أن الفاتح العربي قد توخى الكرم والسخاء في معاملته لأهل مصر . فهي لا تذكر شيئا واضحا يحا عن مدينة مصر التي أصبحت تسمى بعد قليل الفسطاط، على حين أن موقعها
لم يعد يعرف بعد ذلك . إنما التفسير الوحيد الذي يبدو صحيحا هو أن المدينة المصرية قد أخذت أهميتها في الضعف كلما أخذت المدينة العربية في النمو ، وأن السكان كانوا يرحلون إلى الأماكن القريبة الأكثر رخاء من مدينتهم الأولى . وإن بقايا الأسوار المتهدمة جنوبى مصر القديمة ممكن أن تمثل جانبا من موقعها ، وإن اختفاء إحدى المدن المصرية له لسوء الخط أكثر من سابقة . فمدينة ممفيس نفسها قد اختفت اللهم إلا من بعض بقايا الجدران والتماثيل المتهدمة، ولم ينج من مدينة طيبة إلا معابدها . والسبب في ذلك يرجع إلى أن المصرى القديم كان
يبنى مسكنه من الطوب المجفف في الشمس الذي كان معرضا للتلف والتهدم بعد وقت قد يقصر وقد يطول . أما الأحجار الصلبة فلم تكن تستخدم إلا في بناء مقابر العظماء ومعابد الآلهة الخالدين .
ومهما يكن من شان التغيير الذي لحق المدينة التي نحن بصددها ، فإن حصن بابليون ما زال قائما حتى يومنا هذا . ولقد كلف حصار هذا الحصن العرب سبعة أشهر حتى تمكنوا من الاستيلاء عليه . فموقعة هليوبوليس قد كسبها العرب في آخر صيف ٦٤٠ م ؛ ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على الحصن قبل شهر إبريل سنة ٦٤١ . ويرتبط استسلام هذا الحصن بشخصية غامضة هي شخصية المقوقس الذي دعاء العرب حاكم مصر وتذهب الروايات العربية إلى أن المقوقس هو الذي اقترح المعاهدة الآنفة الذكر التي ضمنت للمصريين حرية الدين وأمنتهم على حياتهم . ولما رفض الإمبراطور هرقل البيزنطى هذه المعاهدة تمسك المقوقس بكلمته وأصبح فيصف العرب الذين كان لشجاعتهم وحماستهم أثر بالغ في نفسه . ولما عاد الرسل الذين كان قد بعث بهم إلى معسكر المسلمين ، سألهم عن حال المسلمين فأجابوا : رأينا قوما الموت أحب إليهم من الرفعة ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة ، وإنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ، لا يعرف رفيعهم من وضيعهم ، ولا السيد فيهم من العبد . وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد ، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم ، . ومثل هذا الخلق كان جديدا بالنسبة إلى المصريين الذين كانوا قد قاسوا الكثير من فساد
الإمبراطورية الرومانية الشرقية . ومهما يكن من شأن الدور الذي قام به المقوقس فها أطلق عليه خيانة مصر المسيحية، فيما لا شك فيه أن الشعب نفسه قد ساعد الغزاة الفاتحين .
وعلى الرغم من أن المسيحية كانت الديانة الرسمية في مصر منذ أصدر ثيودوسيوس مرسوم سنة ٣٧٩م ، كانت لا تزال هنالك طقوس محلية قديمة على جانب عظيم من القوة . وأهم من هذا كانت لا تزال هناك أيضا نزعة قوية إلى بث روح القومية في الدين والدولة معا . فإن حكم البيزنطيين لم يكن ما يرتاح له أهل مصر .
أضف إلى ذلك اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية ، فإنه لما عقد مجمع سنة ٤٥١ م رمى الأساقفة المصريون الذين دانوا بعقيدة أو تيخا بالإلحاد ، وأصبح الانقسام شيئا لا مفر منه . ومن ثم أصبح في مصر منذ ذلك الحين كنيستان : الأولى كنيسة الدولة ( مذهب الروم الأرثوذكس ) وتؤيدها القسطنطينية ويطلق عليها الكنيسة الملكية، والثانية الكنيسة القومية ، وقد أطلق عليها فيما بعد اليعقوبية وتعرف عادة بالكنيسة القبطية. أما من ناحية الاشتقاق اللغوى ، تجد أن كلمة قبطى Copt ، ي نفس كلمة مصرى ، والكنيسة القبطية لا تعنى أكثر من الكنيسة المصرية حينها انفصلت على أثر بدعة أو تيخا الدينية . ولم يكن المسيحيون المصريون من حيث كونهم قبطا قبل مجمع نيقية أقل مما كانوا عليه بعده . غير أن تمسكهم بالطبيعة الإلهية التي لم يستطع أن يدركها إلا القليل منهم ، هو وفى اليونانية Aiguptios ، وفى العربية قبط ) بالفتح ) وقبط ( بالضم ) ، وفى الانجليزية Copt . الذي جعل منهم كنيسة مستقلة مما أدى إلى وقوع المصائب التي نزلت بهم وتنيه أذهان
المؤرخين إلى استجلاء ذلك الدور الذي يتعلق بتاريخهم . وكان تمكسهم بمذهب نيقية الذي يقول بأن للمسيح طبيعة واحدة ،أن عرضوا أنفسهم للاضطهاد والعزلة، كما كان سببا في أنهم لم يساهموا في تلك الإصلاحات التي أفادت منها الكنائس الأخرى، بل إنهم ظلوا في جماعتهم الضئيلة المهملة لا يتغيرون تخوا من خمسة عشر قرنا ، واحتفظوا بنفس التقاليد والطقوس الدينية كما كانوا في القرن الخامس الميلادى . وكانت كراهتهم الزائدة للملكيين هي التي ألقت بهم في أحضان المسلمين الغزاة . فقد رأيناهم يعملون بنصيحة بطريقهم الذي كان منفيا ، ويمدون يد المساعدة للعرب منذ اللحظة التي وطئت أقدامهم فيها أرض مصر . وكان ولوعهم في التخلص من الحكم البيزنطى ، وأهم من هذا من نفوذ رؤساء الدين من الملكيين ، هو الذي جعلهم
يؤثرون هذا الرأى على غيره . وبعد أن نجح المقوقس – بمساعدة أحد الرجال الكاثوليك ولعله قيرس بطريرك الإسكندرية الملكاني - في أن يحصل من القائد العربي على عهد الصلح الذي يدل على السخاء ، أسدى القبط كل مساعدة إلى المسلمين، فكانوا يعاونونهم معاونة صادقة في بناء الجسور ، كما أمدوهم بالمؤن . غير أنهم ما لبثوا أن أدركوا أنهم إنما غيروا سيدا بآخر. بيد أن العربي ـ على الرغم من نزعته إلى الأنفة والتكبر وما كان يعتريه بين آن وآخر من نزعة التعصب والاضطهاد، كان في استبداده أرق من الحاكم الروماني بكثير .
ولما وجدت الحامية الرومانية التي حاصرها العرب في حصن بابليون نفسها محرومة معاضدة الشعب ، اضطرت إلى التسليم في ابريل سنة ٦٤١ م . وسرعان ما غزا العرب الدلتا وأرغموا الروم على الانسحاب إلى الإسكندرية التي استسلمت للفزع والرعب وقبلت الشروط السخية التي عرضها عمرو .وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت قد سادتها الانقسامات كما كانت محرومة من القواد الصالحين . وباستسلام هذه الحاضرة الرومانية في أكتوبر سنة ٦٤١ م ، تم فتح مصر على أيدى العرب ، فلم تعد هناك مقاومة تستحق الذكر . وهكذا انتشر المسلمون في البلاد حتى وصلوا إلى الشلال الأول للنيل وأصبحت مصر ولاية تابعة للخلافة .
وبعد أن عاد عمرو من الإسكندرية أسس مدينة الفسطاط ، وذلك لأن ميناء الإسكندرية العظيم على ساحل البحر الأبيض المتوسط لم يعد صالحا لأن يكون حاضرة للقبائل العربية التي أدت طبيعتها البدوية إلى أن يتسلط عليها شيء غير قليل من الخوف من الإسكندرية وبحرها العميق. هذا إلى أن الإسكندرية كانت معرضة في وقت فيضان النيل لأن تصبح في عزلة عن مركز سيادة العرب في المدينة . كما أن الخليفة عمر بن الخطاب ـ الذي لم يكن يحلم في ذلك الوقت بتأسيس إمبراطورية إسلامية شاسعة الأرجاء كان مولعا بأن يكون على اتصال دائم بجيشه في مصر . والواقع أن عمرا نفسه أراد أن يجعل الإسكندرية حاضرة لمصر ، وهم أن يسكنها
وقال له و منازل قد كفيناها .. غير أن الخليفة عمر بن الخطاب لما سمع بذلك سأل رسول عمرو : و هل يحول بيني وبين المسلمين ما . ؟ ، قال : نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل .. عندئذ حول الخليفة وجهه عن الإسكندرية ، إذ كان ينظر إلى البلد التي تم له فتحها على أنها بمثابة ثكنات للجيش أكثر مما كان ينظر إليها على أنها مستعمرة. وعلى ذلك أصدر أمره إلى قائده عمرو بن العاص بأن يختار موقعا أكثر توسطا .
وقد وجد عمرو هذا المكان على بعد عشرة أميال شمال أطلال مدينة ممفيس حاضرة القديمة في موقع الفسطاط الذي أقامه أمام حصن بابليون . وكانت هناك قناة تسمى أمنيس تراجانوس كانت قديما تربط بابليون بالبحر الأحمر عند السويس مارة بمدينة بلبيس وبحيرة التمساح . وقد أعاد عمرو فتح هذه القناة بعد أن نظفت مما كان بها من الأملاح ، حتى إن الضرائب وكذلك القمح ، أصبحت ترسل إلى بلاد العرب بحرا عن طريق هذه القناة ، وبذلك احتفظت مصر بعلاقاتها الوثيقة مع الخليفة .
ويرجع السبب في تسمية مدينة الفسطاط بهذا الاسم إلى قصة طريفة لا يبعد أن يكون لها نصيب من الصحة . ذلك أن عمرو بن العاص حينما قاد قوانه العربية إلى حاضرة القديمة ، أقام فسطاطه حول المكان الذي يقع فيه جامع عمرو بن العاص . وبعد سقوط حصن بابليون سار إلى مدينة الإسكندرية. غير أن الجند الآن عندما ذهبوا ليقوضوا فسطاطه وجدوا ممامة قد باضت في أعلاه ، فقال عمرو : ولقد تحرمت بجوارنا ، ، وأمرهم بأن يقروا الفسطاط حتى يطير فراخها . ولما فتح عمرو الإسكندرية ، أخذ الجند يختطون منازلهم حول فسطاطه الذي خلفه قبل مسيره إلى الإسكندرية. وهكذا أصبحت أولى المدن العربية في مصر، الفسطاط أو مصر الفسطاط أو مصر . وكان الفضاء الذي يمتد بين النيل وجيل المقطم ــ حيث تقوم الآن القلعة على مكان بارز من الجبل - فضاء خاليا في ذلك الوقت . فلم يكن هنالك ، غير فضاء ومزارع ،، كما لم يكن هناك من المبانى سوى بعض الكنائس وحصن بابليون الروماني ، أو باب اليون الذي يسميه العرب حتى اليوم قصر الشمع ، . . وكان هذا القصر - كما يقول المقريزى – « يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر ، ، وبذلك يستخدم كتقويم شهرى . غير أنه من المحتمل ـ كما يرى الدكتور بتلر - أن يكون هذا الاسم تحريف اسم آخر هو قصر مصر ، و أن قصة الشمعة قد اخترعت لتفسير ذلك الرأى
وأما لماذا لم يحتل عمرو بن العاص مدينة مصر القديمة ، فهذا ما لا نعرف عنه شيئا . فكل ما كان له علاقة بتلك المدينة التي اندثرت لغز من الألغاز . ففي البلاد الأخرى التي فتحها العرب ، لم يترددوا عن الاستيلاء على الأقدم تاريخاً مثل دمشق والرهاء . أما في مصر فإنهم آثروا أن يستولوا على أراء جديدة . ربما كانت مصر صغيرة جدا أو من الممكن أن يكون الخليفة قد حرم عليهم أن يستحوذوا على الممتلكات وأن يستقروا في الريف ، مما دفع العرب إلى أن يحتلوا ذلك الفضاء الممتد بين بابليون وتلال المقطم . ومما لا شك فيه أن المكان الذي نزل فيه العرب أولا كان أشبه بمعسكر وقتى أكثر منه بمدينة بالمعنى الصحيح . فقد احتاجوا مساحة واسعة لكي يفضلوا القبائل المختلفة التي تألف منها الجيش العربي ، والتي كانت برغم الإخاء الذى ينادى به الإسلام عرضة لإثارة أحقادهم القديمة . وكان الموقع الذي اختاروه واسعا فسيحا لا يكاد يعوقه شيء . وكانت تلك البقعة تعرف بالحمراوات الثلاث الحمراء القريبة ، والحمراء الوسطى ، والحمراء القصوى .
من الواضح أن هذه التسمية ترجع إلى اللواء الأحمر الذى أقيم في الوسط. وقد قسمت القبائل العربية هذه الحمراوات الثلاث فيما بينها ، واختطت منازلها فيها ، مبتدئة من حصن بابليون إلى حيث ترى جامع ابن طولون الآن . وفى وسط الفسطاط اختط عمرو بن العاص داره ، وبني بجواره أول مسجد أقيم في مصر وهو جامع الفتح ، وتاج الجوامع كما أطلق عليه العرب من قبيل المباهاة والفخر . غير أنه لم يلبث أن أطلق عليه اسم الجامع العتيق ، ويسمى الآن جامع عمرو . وكان هذا الجامع أولا عبارة عن غرفة مسطحة مستطيلة جدا طولها نحو ۲۰۰ قدما وعرضها ٥٦ قدما ، وقد بنى من الأحجار الخشنة الملساء . وكان سقفه منخفضا جدا أقم على عدة أعمدة وتتخلله بعض الثقوب لدخول الضوء . ولم تكن هناك للمسجد مئذنة أو مقصورة للصلاة . كذلك لم يكن هناك زينة أو أفاريز في الخارج، وحتى المنبر الذي اتخذه عمرو قد أزيل حين كتب إليه الخليفة يوبخه :
أما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس عند عقبيك ؟.. وكان من واجب الفاتح أن يؤم الناس في الصلاة ويلقى خطبة الجمعة في ذلك المكان المتواضع الذي لم يلبث أن أصبح صغيرا جدا بالنسبة لأهل الفسطاط الذين أخذ يزداد عددهم ، مما أدى إلى زيادته في سنة ٦٧٣م بأن ضم إليه جزء من دار عمرو. وفي الوقت نفسه أقيمت فيه بضعة أعمدة في الأركان وهذه هي نواة المآذن - ليؤذن المؤذنون من فوقها . وبعد خمس وعشر من سنة هدم أحد أمراء مصر هذا المسجد عن آخره وأعاد بناءه بعد أن وسعه. وكان من أثر الإصلاحات الكثيرة وتجديد المباني، أنه لم ييتي هناك الآن قدم واحدة من البناء الأصلى . أما ما نراه اليوم فهو فى الواقع ذلك المسجد الذي أعاد بناءه عبد الله بن طاهر في سنة ٧٢٧ م ، ثم أصلحه مراد بك في
سنة ۱۷۹۸ م قبل أن يشتبك مع الفرنسيين في معركة الأهرام في إمبابة . وقد أصبحت مساحة الجامع اليوم أربعة أمثال مساحته الأصلية، كما أنه يختلف عنه في كل ناحية من النواحي .
"والجامع العتيق - كما يسميه المقريزى - كان محل احترام المسلمين قديما . ففى هذا الجامع كان القاضى يجلس ليحكم بين الناس، وكان يجتمع في صحنه كثير من العلماء ، كما كان أيضا المكان الذى يجتمع فيه السنيون ، في الوقت الذي انقسم فيه المسلمون على أنفسهم . ولما احترقت مدينة الفسطاط في سنة ١١٦٨ م ، . نجا هذا الجامع برغم الأضرار الكثيرة التي لحقت به ، فجدده صلاح الدين الأيوبي [ سنة ٥٥٦٨ ] ، وأعاد صدر الجامع ، والمحراب الكبير ورخمه ..
غير أن الناس لم يلبثوا أن غيروا نظرتهم إلى هذا الجامع ، حين وجدوا أنه قد أصبح تابعا لبلدة أحرقت ، فأصبحت أطلالا دارسة . كما أنفضت الاجتماعات التي كانت تعقد فيه من قبل . وهكذا حلت بجامع عمرو أيام السوء . وقد وجد ابن سعيد الرحالة المغربي الذي عاش في القرن الثالث عشر هذا البناء العظيم وقد غطاء العنكبوت ، وجدرانه التى علاها عبث العامة والمتعطلين، وقد نثروا على أرضه ما خلفوه من فضلات الطعام. في ذلك الوقت كان هناك عدد قليل من الأتقياء الحقيقيين، على حين كان فيه عدد أكبر من العابثين . قال الجبرتي المؤرخ الذي عاش في القرن الثامن عشر، إنه كان هناك كثير من الموسيقيين وقواد القردة والمشعوذين والحواة والراقصات ممن كانوا يترددون على صحن الجامع . وقد تداعت أبنية الجامع للسقوط، حتى إن هؤلاء الناس قد هجروه. ولولا أن مراد بك كان قلقا على حياته، لأسباب معقولة جدا وأرضى ضميره بإنفاق بعض الأموال التي حصل عليها بطرق غير مشروعة على أعمال البرنحو إعادة بناء هذا الجامع ، لزال و تاج الجوامع، نهائيا.
وفي مستهل القرن التاسع عشر ، كان هذا الجامع لا يزال الجامع الذي يفضله أهالى القاهرة ، لإقامة صلاة الجمعة الأخيرة أو اليتيمة من شهر رمضان. وكانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى يتقبل صلاة من يصلى في هذا الجامع العتيق . فإذا تأخر فيضان النيل ، وخشي الناس هبوط مائه ، وما يعقبه من القحط وندرة الأقوات ، صدرت الأوامر إلى كبار المشايخ والأئمة وأهل الورع والعلم من المسلمين بأن يذهبوا إلى جامع عمرو ويصلوا صلاة الاستسقاء من أجل زيادة ماء النيل . كذلك كان يعقد قساوسة الكنائس المسيحية المختلفة اجتماعات لهذا الغرض، ويشاركهم اليهود في ذلك . وهكذا كان جامع عمرو المكان الذي يقدسه المسلمون والمسيحيون واليهود على سواء التماسا للمطر ، ويقيمون الصلوات العامة في الوقت الذي حل القحط بالبلاد منذ عشرين سنة ( ۱۸۲٥ - ۱۸۲۸ م ) . وكان من أثر ذلك أن نزل المطر في اليوم التالي.
إن الناظر لأقدم هذه المساجد من الخارج لا يتأثر كثيرا . ففي وسط أكوام القمامة التي تميز موقع مدينة الفسطاط، نشاهد جدرانه المرتفعة الرمادية اللون التي لا أثر للنوافذ ولا للزينة فيها . كذلك نميز بوضوح مئذنتيه اللتين هما غاية في البساطة.
أما من الداخل فإنه يختلف كثيرا برغم ما لحقه من التهدم والإهمال . هنا نجد فناء مساحته أربعون ألف قدم مربع تقريبا ، تحيط به البوائك والأعمدة الكثيرة التي تكون دعائم سقف الطرف الشرقى ، وهو المكان المخصص للصلاة . وهنالك
نشاهد منظرا غاية في الروعة والبهاء . ويزدحم المسجد بالمتعبدين الذين يؤدون صلاتهم في انحاء منظم ، فيضفون على المكان جوا من الهيبة والجلال . أما الحنايا فيرجع تاريخها إلى عصور مختلفة ، وأما الأعمدة التي انتزعت من الكنائس فقد وضعت في غير مواضعها في أغلب الأحيان . والأروقة غير متوازية مع الجدران كالصوامع التي تحيط بالكنيسة ، ولكنها مقامة على شكل زوايا قائمة في صحن الجامع .والقطع الخشبية الطويلة تمتد من عمود إلى عمود لتحمل المصابيح التي كان يضاء منها ثمانية عشر ألف مصباح كل ليلة في الأزمان السالفة. ونستطيع أن تتصور ذلك الضوء الساطع الذي كان يترامى أمام المسجد . غير أن ليالى الوقود قد ذهبت منذ أمد بعيد ، وأصبح جامع الفاتح حطاما باليا ، يوحى إلى الخيال بما كان يتردد عليه من طوائف العلماء والصالحين والمتعصبين ورجال الدين والفقهاء والصوفية الذين كانوا ينحنون أمام قبلته التي هجرها الناس فيما بعد.
إن ذلك الجامع الأصلي الذي بناه الفاتح العربى قد اصحى منذ أمد بعيد, غير أن ذلك الجامع الذي يمثله اليوم يقوم على نفس موقعه المبارك . وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نذكر عن مدينة الفسطاط التي شيدها عمرو مثلما ذكرنا عن جامع عمرو . فكل ما تبقى تلك المدينة العظيمة - التي كانت حاضرة مصر ومرفأها من النهرى خمسة قرون ـ قد اختفى تحت تلك الأكداس المتراكمة على غير انتظام من التلال الرملية التي تغطى ما خلفته تلك المدينة التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى . هنالك ، حينما تهب ريح عاصفة تثير الرمال ، تستطيع في أغلب الأحيان أن تلتقط بطريق الصدفة بعض قطع من الزجاج أو الفخار أو المصابيح الرومانية ، والنقود والصور والنقوش التي تدون أسماء ولاة القرن الثامن الميلادي ، وما إلى ذلك من بقايا الأشياء التي كانت في مدينة الفسطاط. أما المنازل وقصور الأمراء والحمامات والمدارس التي كانت فى الفسطاط فلا أثر لها البتة . ومن المؤكد أن مخازن غلال يوسف يرجع تاريخها على الأقل إلى عهد يوسف الأخير وهو صلاح الدين ؛ فقد رأى بنيامين التيوديلي هذه المخازن في سنة ۱۱۷۰ م . ولكن مصر العتيقة ، أو القاهرة القديمة قد بنيت على أرض كان يغطيها النيل في الوقت الذي كانت فيه الفسطاط حاضرة مصر . أما ما تبقى خراب بلقع. وسوف نلقى نظرات سريعة على تاريخ القاهرة القديمة فى الأبواب التالية ، ونقرأ وصفها فيما كتبه الرحالة من الفرس والمغاربة أى من الغرب والشرق الإسلاميين . غير أن مثل هذا الوصف لا يمكننا من أن ندرك إدراكا كاملا المدينة العربية التي ذهبت معالمها الآن .
ومهما يكن من شيء فإنه قد تبقى هناك حتى الآن أثر يرجع تاريخه إلى الفتح العربي ، غير أنه ليس عربيا على أي حال . ذلك هو حصن بابليون الذي يقوم الآن حيث كان يشرف فيما مضى على خيام المسلمين ، ويشرف على الحاضرة العربية وهى تنمو تحت أسواره . ولكي نفهم سبب تسمية حصن بابليون بهذا الاسم - أو كما يسميه بعض باب لى أون أو باب أون ، يجب علينا أن نذهب إلى المطرية على بعد بضعة أميال شمالى القاهرة، حيث تقوم مسلة منعزلة هي كل ما تبقى من مدينة أون On أو مدينة هليو پوليس Heliopolis ( مدينة الشمس ) . وهناك في منبسط المطرية حارب الأتراك أمام هذه المسلة المنعزلة في المعركة الأخيرة التي انتهت باستيلائهم على القاهرة من أيدى المماليك في سنة ١٥١٧ م . وهنا أيضا انتصر كلير على الأتراك في سنة ۱۸۰۰ . هنالك يقوم بعد أون on الذي كان حمو يوسف - يعمل فيه كاهنا . هنالك أيضا كان يوتيفيراه Potipherah پیانشی Pianchi - ملك الكهنة الأثيوبيين priest-king في القرن الثامن قبل الميلاد يستحم في عين شمس، ويقدم الثيران البيض واللبن والعطور والبخور والأخشاب العطرة المختلفة ، وحيث رأى عند دخوله المعبد أباه رع Ra ( إله الشمس ) في المحراب . وكانت هليوبوليس جامعة أقدم حضارات العالم ، والتي سبقت جميع المدارس في أوربا . ويغلب على الظن أن موسى كان يتلقى حكمة المصريين على أيدى كهنة رع . وهنالك عمل فيرودوت على نقض هذه التعاليم نفسها ، وأحرز شيئا من النجاح في هذه السبيل . وهنالك أيضاً أتى أفلاطون لتاق تعاليمه ، كما ذهب العالم الرياضي بودوكس Eudoxus ليدرس الفلك ، كما شهد استرابون Strabo المنازل التي عاش فيها مشاهير اليونان. وفى ذلك المركز العالمى ومصدر النفوذ الديني، لم يبق من آثار سوى تلك المسلة . فلقد تكسرت, صور بيت شمس ، وضاع أثرها ، واحترقت منازل آلهة المصريين ،وبجانب تلك المسلة المنعزلة الآنفة الذكر نشاهد شجرة جميز عتيقة جفت بفعل الزمن، وشوهتها الأسماء التى لا عدلها ، هذه الشجرة هي التي استراحت تحتها العائلة المقدسة حينما هربت إلى مصر ، ومن هنا سميت شجرة العذراء . وعلى
مقربة من هذه الشجرة نبع ماء عذب ، وهو بلا شك منظر غريب في تلك الضاحية المقفرة . ويقال إن ماءه قد أصبح عذبا لأن الطفل قد استحم فيه . ومن هذه البقع حيث تساقطت قطرات الماء من قماطه الذي غسل في ذلك النبع المقدس ، نمت أشجار البلسم التي لم تنم كما يعتقد البعض - في أي مكان آخر . وليس هنالك شاهد من الشواهد يدل على صحة هذه الأوهام التى هى أشبه ما يكون بالخرافات . أما شجرة الجيز فقد خلفت بطبيعة الحال تلك الشجرة المزعومة ، وهي لم تزرع إلا بعد سنة ١٦٧٢ م . غير أن ما يقال من أن أو نياس Onias اليهودي بني معبدا ليتعبد فيه مواطنوه بالقرب من ذلك المكان ، وأنه استحضر بعض المزارعين من اليهود ليتعهدوا نمو شجر البلسم ، يكسب هذه القصة شيئا من الصحة .
لقد اندثرت هليوبوليس ، ولكن حصنها المنبع ، باب أون ، الذي يحرسها ما زال يتحدى الزمن . والواقع أن اسم بابليون مصر الذي يستعمل للدلالة على الخاضرة ( الفسطاط ) وعلى الحصن ، يظهر كثيرا في تاريخ العصور الوسطى و أقاصيصها . مثال ذلك تلك القصة التي تصور لنا كيف انتصر ريتشارد قلب الأسد على صلاح الدين الأيوبي .
وسواء أكان هناك أساس لما رواه كل من استرابون وديودورس، من أن ذلك الحصن بناء أول الأمر بعض المنفيين من بابليون العظيمة في بلاد كلديا ، فإن الحصن الحالى يرجع تاريخه إلى القرن الثالث - ولا يبعد أنه يرجع إلى القرن الثاني من الميلاد . والواقع أن منظر الحصن من الخارج يضفى على النفس كثيرا من العظمة برغم تصدع جدرانه ، وأن الرمال قد غطت قواعدها . غير أن منظره العام لم يطرأ عليه تغيير كبير، إذ تستطيع أن نميز بوضوح طوابيه الخمس وبرجيه المستديرين.
أما الجدران فقد بنيت على الطريقة الرومانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت : خمس طبقات من الأحجار وثلاث من الطوب على التبادل . أما الأساس فلا يبعد أن يكون قد طلى باللونين الأحمر والأصفر كما كان الحال في المساجد والدور الإسلامية.
وحتى مظهر هذا البناء الضخم يجعل الإنسان يدرك في سهولة ما كان لاستيلاء العرب على هذا البناء من أهمية .
ونحن إذ نصل إلى داخل الحصن ، نستطيع أن نلس لأول وهلة الطابع الخاص الذي يطبع به هذا الحصن. ذلك أننا تمر خلال ممرات معتمة أضيق وأظلم وأقذر من الأزقة التي تقع وراء مدينة القاهرة . هنالك يأخذنا السكون الرهيب الذي يخيم
على المكان بأكمله . والمنازل المرتفعة التي تحجب الشارع ليس فيها الكثير من زخارف المشربيات التي تزين شوارع القاهرة . ولولا بعض الأصوات التي تصدر بين الفينة والفينة من داخل تلك المنازل ، وبعض الأبواب التي تترك نصف مغلقة لما خطر لنا على بال أن كان هنالك أي لون من ألوان الحياة في ذلك الحصن . ومما يميز تلك المنازل كذلك صغر حجم نوافذها ذات القضبان الحديدية المتشابكة وليس هناك حقا ما بدل على أن تلك الجدران المنبسطة تحوى بين طياتها ست كنائس فخمة ، لكل منها هيكلها الخاص الحافل بالنقوش والصور والملابس الكهنوتية وغيرها من الأشياء التي ليس لها مثيل . والواقع أن الكنيسة القبطية تشبه الحريم عند المسلمين - فهى من الخارج غيرها من الداخل . فكما أن منظر معظم المنازل في القاهرة لا يدل على أي شيء مما يحويه داخل هذه المنازل من فناء واسع في الداخل، تحيط به غرف فسيحة نقشت على جدرانها أبدع الرسوم وأروعها ، وأسقف ليست بأقل بهجة ولا روعة . هذا فضلا عما تحويه من الطنافس الفاخرة التي تتلألأ من وراء ذلك الضوء القليل الذي ينعكس من وراء النوافذ ذات الزجاج الملون
كذلك الحال في الكنائس القبطية حيث لا يمكنك أن تتكهن وأنت في الخارج بما تحويه هذه الكنائس في الداخل . فإن الأسوار العالية تخفى كل ما تحويه هذه المباني . والواقع أن القبط يخجلون في العادة من الزائرين . وليس أدل على هذا
من تلك الجدران المرتفعة المحيطة بالكنائس من الخارج ، والتي لا تحوى أى نقوش ليتخلصوا بها من تلك الملاحظات التي كانت تثير فيما مضى الشراهة والتعصب الديني .
وبعد أن تمر من الباب المتين ونعبير أحد الدهاليز أو ترتقي بعض الدرجات ، نجد أنفسنا أمام كنيسة فخمة ، لها محراب قد تحسدها عليه أية كنيسة في انجلترا.
وفي ذلك الضوء الضئيل نشاهد صفوفا من تماثيل رائعة للقديسين تطل عليك من فوق المحراب والستائر ، كما نجد بعض العبارات منقوشة بالذهب باللغتين القبطية والعربية مشيدة بتمجيد الله سبحانه وتعالى ، على حين تجد في أعلى المكان حنايا في أحد حافتي الكنيسة، تبين لنا أنه لا يبعد أن تكون ثمة كنوز أخرى فنية سوف يكشف عنها في المستقبل . ولعل أهم ما تصطبغ به الكنيسة القبطية بوجه عام هو أنها من طراز بناء الكنيسة الباسليقية الشهيرة في روما. غير أن هناك بطبيعة الحال بعض أوجه الخلاف التي جعلت الكنيسة القبطية تخرج في بعض الأحيان عن هذا الطراز . والقبة القبطية تتميز بالطابع البيزنطى الذى يكاد يكون شائع الاستعمال في العالم . وفى بعض الأحيان قد نجد الكنيسة مسقوفة بعنقود من القباب يصل إلى اثنتى عشرة قبة . وتكون الكنيسة من صحن وأجنحة جانبية و بعض الأقواس التي تشيه تماما أقواس الكنيسة الإيرلندية القديمة والتي لم تكن لتوجد في غيرها ) . ومن النادر أن يكون لهذه الكنية أجنحة أو أنها تقرب من شكل الصليب . وفي مؤخرة الكنيسة مكان خاص تجلس فيه السيدات اللاتي يرى أهل الرأى من القبط أن يجلسن خلف الرجال ، ويحولون بذلك دون حدوث أي اضطراب في أثناء العبادة والصلوات في حالة جلوس الجنسين بعضهما مع بعض كما يحدث في بعض الكنائس الغربية . ولذلك يفصل قسم النساء عن قسم الرجال حاجز ذو عوارض خشبية يكون عادة أعرض بكثير وأحسن زخرفة وتنميقا . كما يفصل قسم الرجال عن المرتلين فاصل آخر . والكنيسة تحوى ثلاثة هياكل مختلفة ومنفصلة ، كل منها تعلوه قبة ( ليست على شكل نصف دائرة ) خاصة به . وبداخل كل هيكل أخر الستائر محلاة بصليان من العاج والأبنوس والأشكال الهندسية المنقوشة على الطراز العربي على الخشب في براعة ودقة تعلوها صور وعبارات منقوشة بالذهب باللغتين القبطية والعربية.
وفي أثناء إقامة الصلاة تفتح الأبواب الداخلية والستارة الموشاة بالفضة ، فيبدو المذبح المجتمعين المتعبدين في صورة تذكرنا بالاحتفال الذي يثير العواطف كما يقام في كاتدرائية القديس إسحاق بمدينة بطر شرج. فالأبواب المنقوشة والستائر المزركشة والمصابيح المتدلاة هنا وهناك والمشكيات التي تشبه بيض النعام كل هذا يعطينا صورة للذبح أكثر من كونه مكعباً من الطوب أو الجبس ، بغطائه الحريرى، وتلك المشكاة التي لا تقدر بثمن قد وضعت في الجهة الشرقية ، وكان لها دلالة غامضة في غابر الأيام، أما الآن فإنها تستخدم لوضع الصليب فيها وحوله أوراق الورد عند الاحتفال يوم الجمعة الحزينة تمهيداً للاحتفال بعيد القيامة. والمذبح في الكنائس القبطية منعزل عن جدران الهيكل التي تكون في الغالب مغطاة بصفائح الرخام الملون كما نرى في المساجد . وقد تكون الجدران في بعض الأحيان مغطاة
بالزجاج الملون mosaic على الطراز المصرى . أما السقف فقد رسمت عليه صور بارزة على الخشب ، وأخرى بالألوان المسائية تمثل الاثنى عشر رسولا وفي وسطهم السيد المسيح وهو يبارك الناس . ومن فوق المذبح رواق رسمت عليه صور الملائكة رسما رائعا. ويفصل الهيكل الرئيسي والمذبح التابع له عن الهيكلين الجانبيين ستائر مصنوعة من الخشب الرفيع المشبك.
ومن الأشياء الغريبة في الهيكل ، ذلك الصندوق الذي يحمل كأس التناول المصنوع من الفضة الخالصة . وإن تلك المروحة التي تستخدم لطرد الهوام أثناء العشاء الربانى لا تقل مطلقاً عما تقدم في إثارة اهتمام الناظر . وقد نقشت الفضة الخالصة بحيث يبرز النقش على السطح المقابل . وهنالك مراوح
مماثلة في كتاب كيلا Kela الإيرلندى . وليس هناك إطلاقا صليب يظهر عليه المسيح مصلوبا . وقد نجد في بعض الهياكل بقايا عظام أحد القديسين ، ولكن الكنيسة القبطية لا تحرم مثل هذه البقايا ، على الرغم من أن معظم الكنائس تحوى الكثير
منها . وهناك كثير من المؤمنين يعلقون أهمية عظيمة على ما في هذه البقايا من خواص تساعد على الشفاء. وقد يكون أبدع ما نراه في الزخارف المعدنية في الكنيسة القبطية ذلك الصندوق الفضى الذى بداخله نسخة من الإنجيل يظن أنها
خدمت بالشمع ، مع أنه ليس بداخله غير بعض أوراق الشجر . وهو في الغالب مثل جميل للنقوش المعدنية التى تمثل الصيد فيبرز النقش على السطح المقابل . وهذا الصندوق يؤتى به من على المذبح حيث يتسلمه أحد الشمامسة ويضعه على المقرأ ثم
يقرأ من إنجيل آخر هناك . والمقرأ نفسه شيء بديع أعد ليكون أداة من أدوات الزينة . وذلك المقرأ الذي كان في الكنيسة المعلقة و الذي نراه الآن في كنيسة الأقباط الكبرى فى القاهرة - مغطى بنقوش بديمة تشبه تلك النقوش التي نراها على أبواب المساجد و منارها .
ومن بين الكنائس الست التي كان يشتمل عليها حصن بابليون ، نرى ثلاثا في غاية الروعة والبهاء . ذلك أنه على الرغم من أن كنيسة سان جورج الإغريقية التي تقوم على قمة البرج المستدير محلاة بالقرميد السورى والمصابيح المصنوعة من الفضة فإن البرج الروماني نفسه أكثر إمتاعا من الكنيسة المقامة عليه ، وذلك للبر الذي في الوسط ، والدرجات الكثيرة ، والحجرات الغريبة المتلألئة . ومن هذه الكنائس القبطية الأساسية الثلاث ، نجد كنيسة القديس سرجيوس أو « أبى سرجه، وهى التي يتردد عليها الناس أكثر من غيرها ، لأنه قد أثر أن العائلة المقدسة استراحت في ناووسها حينما أتت إلى مصر. ومن المؤكد أن هذا الناووس أقدم من الكنيسة التي تعلوه بقرون كثيرة ، إذ يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي . والكنيسة نفسها تتميز بستارة بديعة الصنع ، وعلى مقربة منها مثل واضح للنقوش القبطية القديمة التي تمثل ولادة المسيح والقديسين المحاربين وقد بدت صورهم بارزة . وثمة مثل آخر لهذه الصور المحفورة نراه فى كنيسة القديسة برباره .
وإلى جانب كنيسة أبى سرجه وكنيسة القديسة برباره ، لا تزال هناك كنيسة قبطية ثالثة جديرة بالذكر لا تقل عن هاتين الكنيستين روعة وبهاء . وهذه الكنيسة معلقة بين برجين رومانيين مرتفعين ، فوق باب من الطراز القديم منقوش عليه نسر . وقد سميت هذه الكنيسة - كما يدل على ذلك موقعها ـ الكنيسة المعلقة . وهذه الكنيسة جديرة بالملاحظة وتثير الانتباه لعدة أسباب، لأنها أقدم كنائس بابليون على الإطلاق ، ولأنها خالية تماما من القباب . ولهذه الكنيسة مزايا أخرى ، فليس لها هيكل كغيرها من الكنائس ، بل هنالك منصة مرتفعة أمام السقف المنخفض فى الجهة الشرقية . وهذه المنصة تؤدي الغرض الذي يؤديه الهيكل، على حين نرى السقف مضاعفاً في الجانب الشمالي، والحاجز المنقوش في الجانب الشمالي مرصع بالزخارف المصنوعة من العاج الرقيق مما يزيد في بهجة المسكان وجماله حينما كانت تضاء المصابيح المعلقة خلفه . أما المنير فقد نقش نقشاً بديعاً رائعا ، وهو مقام على خمسة عشر عمودا دقيقا صنعت على الطراز الإسلامي ، مقسمة إلى سبعة أزواج أقيم أحدها في المقدمة . ولعل من أغرب ما تحويه الكنيسة المعلقة ، حديقتها المعلقة حيث ساعدت الخبرة على غرس النخيل في الفضاء على تأييد تلك
الرواية القائلة بأن السيدة العذراء حينما أنت إلى مصر أفطرت بعد صيامها من تمر ذلك النخيل .
و ليس هذا مجال الكلام عن طقوس الكنيسة القبطية وعقائدها . إن صيام الأقباط الكبير الذي يستغرق خمسة وخمسين يوما ، والذي يمتنع فيه الشخص امتناعا تاما عن الطعام منذ شروق الشمس حتى غروبها في كل من هذه الأيام هذا الصيام لا شك أنه يوحى إلينا بصوم رمضان الأقل شدة عند المسلمين . وسر الزواج المقدس يحمل بين طياته بعض العناصر الغربة. غير أنه مما لاشك فيه أن معظم الاحتفالات التي تتم في الكنيسة القبطية لها وقارها وهيبتها . فما من أحد يستطيع أن
يشهد القداس في كنيسة قبطية دون أن يثير ذلك انتباهه . وكذلك لا يستطيع أحد ألا يتحرك لسماع أصوات الشمامسة وهم يترنمون فى الكنيسة القبطية في صوت واحد مرتفع . ومهما يكن من شيء فلا ينبغي أن تشكر ما تدين به الكنيسة القبطية من إيمان قويم .


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

Ibri Ibri or Wi...

Ibri Ibri or Wilayat Ibri is a big town in the Al-Zahirah region in the northwest part of Sultanate ...

في اليوم الخامس...

في اليوم الخامس من تعارف الطيار والأمير الصغير تستمر الحوارات بينهم، ليحاول الطيار معرفة شيء جديد عن...

المبحث الأو : ل...

المبحث الأو : ل الشخص الطبيعي التاجر أَ ْ ل َ َ ح ت ق )1 )المادة 215. ق ت ْ ال لا يزال ّذِ بالشخص...

(CAF) - La 4e é...

(CAF) - La 4e édition du Cyber Africa Forum (CAF) se tiendra les 15 & 16 avril 2024 à Abidjan, en Cô...

۲) غير أن مدة ع...

۲) غير أن مدة عضوية ثلث الأعضاء المختارين في الانتخاب الأول تنتهي بنهاية الدورة العادية الأولى للمؤ...

صباح الخير، صبا...

صباح الخير، صباح الخير، كان علي أن أحاول، أود أن أشكركم جميعًا وخاصة منظمي هذا الحدث، فهو مثير للإعج...

ويتشعب التفسير ...

ويتشعب التفسير في اكتناه العلاقة بين ترنيم القصيدة وإنشاد اللازمة، فيتناول موضوع اختلاف اللغة بين ال...

Patients’ recru...

Patients’ recruitment and data collection Patients were recruited through the nationwide German SCD ...

التقرير يسلط ال...

التقرير يسلط الضوء على أهمية البنية التحتية والخدمات الاجتماعية في الوسط القروي، مثل الطرق والكهرباء...

ومن بين أهم روا...

ومن بين أهم رواد هذه المدرسة (1989Garter (الذي يقر بعدم كفاية مدخل السمات لتوصيف المقاول، واقترح درا...

خلف المماليك ال...

خلف المماليك الايوبيين في حكم مصر ، ونظرا لاهمية الاردن ضمَ السلطان الظاهر بيبرس الاجزاء الشمالية من...

د. نداء أبو مرا...

د. نداء أبو مراد على نحو مواز للصداقة التي جمعت بين الإمام محمد عبده (١٨٤٩) - (۱۹۰۵)، مفتي الديار ال...