لم تهاجمه الأقراش ثانيةً حتّى قبيل غروب الشَّمس، فقد
رأى الشّيخ زعنفتَيْن سمراوَيْن قادمتَيْن في اتّجاه المسار الواسع
الّذي لابدٌ أن السَّمكة تُخلِّفه وراءَها في الماء، ولم يكُن هذان
القرشان يتتبّعان الرّائحة، وإنّما كانا متّجهَيْن نحوَ المركب
مباشرة، وهما يسبحان جنبًا إلى جنب.
ثبّتَ الشّيخ سُكّان المركب، وربط حبل الشِّراع، ومدَ يده
لتناول الهراوة من تحت مؤخَّر القارب، كانت تلك الهراوة
في الأصل مِقبضَ مجدافٍ أُحِذَتْ من محدافٍ مكسور،
ونُشِرَتْ ليكون طولها حوالي قدمَيْن ونصف، ولم يكُن في
وسعه استعمالها بصورةٍ مؤثّرةٍ إلّا إذا مسكها بيدٍ واحدةٍ؛
بسبب مقبضها، فقبضَ عليها جيّدًا بيده اليمنى، وأطبق عليها
يده، فيما كان يراقب القرشَيْن قادمَيْن، وكان كلاهما من نوع
الـ(غالانو).
وفكّرَ: «يجب أن أترك الأوّل يُمسِك بالسّمكة جيِّدًا، ثمّ
أضربه على أرنبةِ الأَنف أو على أُمٌ رأسه».
اقتربَ القرشان معًا، وحينما رأى الأقرب منهما إليه يفتح فكّيه، ويغرزهما في جانب السَّمكة الفضيّ رفعَ الهراوة عالیًا،
وأهوى بها ثقيلةً على أُمِّ رأسِه العريض، وأحسّ بمقاومة
مَطّاطيّة حين أصابته الهراوة، ولكنَّه أحسّ كذلك بصلابة
العظم، فضرب القرشَ مرّةً أُخرى بقوَّةٍ على أرنبةِ الأنف، فيما
كان ينزلق إلى الأسفل بعيدًا عن السَّمكة.
وكان القرش الآخر يختفي مرَّةً، ويظهر مرَّة، والآن اقترب
مرّةً أُخرى فاغِرًا فكّيه، وكان في وسع الشّيخ أن يرى قِطعًا من
لحم السَّمكة وهي تتساقط بيضاءَ من زاوية فكّيه عندما انقضّ
على السَّمكة، وأطبق عليها فكّيه. انهالَ الشّيخ بالهراوة علیه،
فأصاب رأسه فقط، ونظرَ القرشُ إليه، ونهشَ اللَّحم، فهوى
الشّيخ بالهراوة عليه مرَّةً أُخرى، فانسابَ مُبتعِدًا ليبتلع اللَّحم،
ولم يُصِب الشّيخُ سوى الجزء المطّاطيّ الصَّلب من رأسه.
وقال الشّيخ:
- «هيا، أَيُّها الغالانو، اقتربْ مرَّةً أُخرى».
اقترب القرش مُسرِعًا، فضربه الشّيخ، بينما كان يطبق فكيْه
على السَّمكة، لقد رفع الهراوة إلى أعلى ما يستطيع، وضربه
بشدَّة، وفي هذه المرَّة أحسَ الشّيخ بالعظم في قاعدة الدَّماغ،
فضربه مرَّة أُخرى في الموضع نفسه، فيما راح القرش ينهش اللَّحم بخمول ثمّ ينزلق إلى الأسفل بعيدًا عن السَّمكة.
ظلَّ الشّيخ يترقّب عودته، ولكن لم يظهر أِّ من القرشَيْن،
ثمّ رأى أحدهما على سطح الماء وهو يسبح في دوائر، ولم
یرَ زعنفة الآخر.
وفكّرَ: «لم يكُن في وسعي أن أتوقَّع قتلهما، كان في وسعي
أن أتوقَّع ذلك أيام شبابي، ولكنّي أصبتهما كليهما إصابةً
بالغة، ولن تتحسَّن حالةُ أيِّ منهما، ولو كان في استطاعتي أن
أستعمل مضربًا أمسكه بكلتا يديّ، لكان في مقدوري أن أقتل
الأَوَّل بالتّأكيد، حتّى في أيّامي هذه».
لم يُرِد أن ينظر إلى السَّمكة، فهو يعلم أنَّ نصفها قد دُمِّر،
وكانت الشّمس قد غربت فيما كان هو في خضمِ المعركة
مع القرشَیْن.
قال:
- «سرعان ما سيهبط الظَّلام، وحينئذٍ لابُدَّ أن أرى لمعان
أضواء (هافانا)، أمّا إذا كنتُ بعيدًا جدًا في جهة الشَّرق،
فإنَني سأرى أضواءَ أحد الشّواطئ الحديدة».
وفكّرَ: «لا يمكن أن أكون بعيدًا إلى حدّ كبيرِ الآن، آمل ألّا يكون القلق قد انتاب أحدهم بشأني، ليس هنالك سوى
الصّبيّ الّذي سيقلق، طبعًا، ولكنّي مُتأكّدٌ من أنَّه يثق بي،
سوف يقلق العديد من الصَّيّادين الشُّيوخ»، وأضاف قائلًا في
نفسه: «وعَددٌ آخر من غيرهم كذلك، فأنا أعيش في بلدةٍ
طيِّبة».
لم يعُد في استطاعته أن يتحدَّث إلى السَّمكة بعد الآن؛
لأنَّها قد شوِّهت بصورة سيّئة، ثمّ خطر في ذهنه خاطر، فقال:
- «يا نصفَ سَمكة !... أيَّتها السَّمكة الّتي كُنْتِ !.. أنا
آسف لأنّني أوغلتُ بعيدًا في البحر، لقد حطَّمتُكِ
وحطَّمتُ نفسي، ولكنِّنا قَتلْنا العديدَ من الأقراش، أنا
وأنتِ، وأصبنا عددًا آخر، كم قرشًا قتلتِ في حياتكِ،
أيَّتها السَّمكة العجوز؟ فأنتِ لا تمتلكين ذلك الرُّمح في
رأسكِ من دون غایة!
وأحبٌّ أن يفكِّر في السَّمكة، وفيما تستطيع أن تفعله بقرشٍ
من الأقراش لو كانت تسبح طليقةً ... وفكّرَ: «كان ينبغي عليّ
أن أقطع رمحها لأقاتل به الأقراش، ولكن لم يكُن لديّ ثمّة
فأسٌ، ولا سكّين».
«غير أنَّه لو كان لديَّ فأسٌ أو سكّينٌ واستطعتُ أن أربط رمحكِ إلى طرفٍ مجداف، فأيَّ سلاح رائع سيكون! إذن
لكُنّا قاتلنا الأقراش معًا. ما الّذي ستفعلينه الآن إذا أقبلتِ
الأقراشُُ في اللّيل؟ ما الّذي تستطيعين أن تفعليه؟»
أجاب:
- «أقاتلهم .. سأقاتلُهم حتّى الموت».
ولكن الآن في الظُّلمة، ولا وهجّ، ولا أضواءَ في المنظور،
وليس هناك سوى الرّيح، واندفاع الشِّراع المتَّصل، أحس كما
لو أنَّه قد مات، وشَبَكَ یدَیْه معًا، وتحسَّسَ راحتێْه، لم تکونا
ميّتتَيْن، وكان في إمكانه أن يستشعر ألمَ الحياة بمجرَّد فتحهما
وإطباقهما، وأَسندَ ظهره إلى مؤخَّر القارب، فأدرك أنّه ليس
ميِتًا، فقد أَخبرَتْه كتفاه بذلك.
قالَ في نفسه: «سأوفي كلّ مانذرته إذا ما اصطدتُ
السَّمكة، ولكنَّني الآن متعبٌ جدًّا لدرجة أنّي لا أستطيع فعل
شيء، ومن الأفضل لي أن أتناول الكيس، وأضعه على كتفيّ».
اضطحعَ في مؤخّر المركب، وأمسكَ بالدّفة، وراح يترقَّب
قدوم وهج الأضواء في السّماء، وفكّرَ: «لديَّ نصفُ السّمكة،
وربّما يحالفني الحظُّ لإيصال هذا النِّصف إلى الشّاطئ، لابُدَّ أن يحالفني بعض الحظّ»، ثمّ قال: «لا، لقد خنْتَ حظَّكَ
عندما أوغلتَ بعيدًا جدًا في البحر».
وقال بصوتٍ عالٍ:
- «لا تكُن متشائمًا، وابقَ متيقّظًا، وواصلِ القيادة، فربَّما
مازال لديكَ كثير من الحظِّ».
وقال:
- «أودّ لو أشتري شيئًا من الحظّ، إنْ كان هناك أيُّ مکانٍ
يُباع فيه».
وسألَ نفسه: «بماذا أستطيع أن أشتريه؟ هل يمكنني أن
أشتريه بحربَةٍ ضائعةٍ أوْ سكّينٍ مكسورٍ أوْ يَدَيْن مُصابتَيْن؟»
وقال:
- «ربّما، لقد حاولتَ أن تشتريه بأَربعة وثمّانين يومًا
أمضيتَها في البحر، وكانت تلك الأيّام على وشك أن
تبیعه لك کذلك».
وفكّرَ: «يجب ألّا أُفكِّر في هذا الهراء، فالحظُّ هو شيء
قد يأتي في أشكالٍ متعدِّدة، ومَن الّذي يستطيع أن يتعرَّف
عليه؟ كنتُ سآخذ شيئًا منه في أيِّ شكلٍ كان، وسأدفع الثّمن الّذي يطلبون». وفكّرَ: «أتمنّى لو أنّني أستطيع أن أرى وهجَ
الأضواء، إنّني أتمنّى أشياءَ كثيرةً جدًّا، ولكن هذا هو الشَّيء
الّذي أتمناه الآن»، وحاولَ أن يستلقي بوضعٍ مُريجٍ أفضل
ليقود القارب، وأدرك من ألمه أنّه ليس مينًا.
لاحَ له وهجُ أضواءِ المدينة المنعكسة على صفحة الماء في
حوالي السّاعة العاشرة على الأغلب، وقد بدت تلك الأضواء
أوَّل الأمر مثل الضَّوء الّذي يظهر في السّماء قُبيل بزوغ القمر،
ثمّ صارت ثابتةً، ويمكن رؤيتها عبر المحيط الّذي غدا الآن
هائجًا بسبب اشتداد الرّيح، قادَ المرکبَ صوب الوهج، وقدَّر
أنّه سرعان ما يبلغ حافّة المجرى.
وفكّرَ: «الآن انتهى الأمر، من المحتمل أن تهاجمني
الأقراش مرَّةً أُخرى، ولكنْ ما الّذي يستطيع أن يفعله الرَّجل
الأعزل في الظّلام؟»
أمسى الشّيخ الآن مُتصلِّبًا ومُتقرّحًا، وأخذَتْ جراحه
والأجزاء المتوتِّرة في جسمه تؤلمه بسبب برودة اللّيل، وفكّرَ
في نفسه: «آمل ألّا أضطرّ إلى القتال مرَّةً أُخرى، آمل ألّا
أضطرّ إلى القتال مرَّةً أُخرى». ولكن، عند منتصف اللّيل، خاض الشّيخ غمار معركة،
وهذه المرَّة أدركَ أن قتاله بلا جدوى؛ فقد جاء قطيعٌ من
الأقراش، ولم يكُن في إمكانه أن يرى سوى الخطوط الّتي
تخلِّفها زعانفها في الماء، وسوى أَلَقها الفوسفوريّ وهي
تنقضُّ على السَّمكة، فانهال بالهراوة على الرؤوس، وسمع
طقطقة فكوكها، وأحسّ باهتزاز المركب وهي تنهش السّمكة
تحته، وفي يأس، ضربَ بالهراوة ما يستطيع أن يستشعره،
ويسمعه، وأحس بشيءٍ يُمسك بالهراوة، ويأخذها من يده.
انتزعَ مقبض الدفّة، وراح يضرب، ويهشّم به، وهو يُمسكه
بكلتا يديه، ويهوي به عليها المرَّةَ تلو الأُخرى، ولكنَّ الأقراش
وصلتِ الآن إلى مُقدَّم القارب وهي تتقاطر وحدانًا وزُرافاتٍ،
وتنهش قطع اللَّحم الّتي بدَتْ متوهّحة تحت البحر، فيما
راحت الأقراش تتوافد مرَّةً أُخرى.
وأخيرًا، انقضَّ أحد الأقراش على رأس السّمكة نفسه،
فأدركَ الشّيخ أنّ الأمر قد انتهى، فهوى بمقبض الدّفة على
رأس القرش الّذي استعصى على فكّيه تمزيق رأس السَّمكة
لكثافته. ضربه به مرَّةً وثانيةً وأُخرى، وسمع مقبض غالانو
وهو ينكسر، فطعن القرش بالعَقِب المُتشظّي، وأحسَّ بأنَّه ينغرز في القرش، فأدرك أنّه حادٌّ، فطعنه به من جديد، فما
كان من القرش إلّا أن ترك السَّمكة، وترنِّح مُبتعِدًا، وكان هذا
آخر قرش من القطيع الّذي أتى، فلم يعُد ثمّة شيءٌ يؤكَل.
تقطّعت أنفاس الشّيخ، وأحسَّ بمذاقٍ غريبٍ في فمه، إنّه
مذاق نحاسيٍّ وحلو، فخاف منه لحظة، ولكن لم يبقَ منه
الکثیر.
بصقَ الشّيخ في المحيط، وقال:
- «كلوا هذا يا أقراش الغالانو، واحلموا بأنَّكم قتلتم
رجلا».
تأكَّد له أنَّه الآن هُزِمَ هزيمةً نهائيّة، وليس من بلسم لذلك،
فعاد إلى مؤخَّر القارب، ووجد أنَّ طرف المقبض المثلوم
يمكن إدخاله في فتحة الدّفّة بصورة تكفي لقيادة المركب،
ألقى بالكيس حول كتفَيْه، ووضعَ المركب في مساره، وأبحرَ
بخفّة الآن، ولم تُراودْه أيّةُ أفكار، ولم تُخالحْه أيَّةُ مشاعر من
أيِّ نوع، لقد انتهى كلُّ شيءٍ الآن، فأبحرَ بالقارب ليبلغ به
مرفأه بأفضل وبأذكى ما في وسعه. وفي أثناء اللِّيل نهشت
الأقراش هيكلَ السَّمكة العظميّ مثلما يلتقط شخصٌ ما الفُتاتَ
من المائدة، لم يُعرْها الشّيخ انتباهًا، ولم يُبدِ اهتمامًا بأيِّ شيء ماعدا قيادة المركب، فلاحظَ فقط كيف يُبحِر المركب الآن
بخفّة وسرعة جيِّدة بعد أن تخفَّف من حملٍ ثقيل.
وفكّرَ: «إنَّه مركبٌ جيّد، فهو قويٌّ، ولم يتضرَّر بأيِّ شكلٍ
باستثناء مقبض غالانو، وهذا يمکن استبداله بسهولة».
أَحسَّ بأَنَّه داخل الّتيار حاليًا، وكان في مقدوره أن يرى
الأضواء المُنبعثة من التّجمُّعات السُّكّانيّة الشّاطئيّة المُمتدَّة
على طول السّاحل، وعرف أين هو الآن، فلم يبقَ للوصول إلى
المنزل شيءٌ يُذكَر.
وفكّرَ: «الرّيح صديقتنا على أَيَّة حال»، ثمّ أضافَ:
«أحيانًا، والبحر العظيم مع أصدقائنا وأعدائنا». وقال في
نفسه: «والفِراش .. الفِراش صديقي، الفِراش لا غير .. سيكون
الفِراش شيئًا عظيمًا»، وفكَّرَ: «يبدو الأمر سهلا حينما تُهزَم،
لم أُدرِك أبدًا أَنَّه بتلك السّهولة». ثمّ تساءلَ في نفسه: («ما
الّذي هزمَكَ؟»
وأجاب بصوت مرتفع:
- «لا شيء .. إنّي أوغلتُ بعيدًا جدًا».
وعندما دخل بمركبه المرفأ الصّغير، كانت مصابيح (مقهى الشُّرفة) مُطفأة، فأدركَ أنَّ كلَّ فردٍ قد أوى إلى فراشه، وكان
النَّسيم قد تصاعد باطْرادٍ، وصار الآن ريحًا عاتيةً. ورغم
ذلك كان الهدوء يلفُّ المرفأ، فاتّجه بالمركب صوب البقعة
الصَّغيرة المرصوفة بألواح الخشب تحت الصُّخور، ولم يكُن
ثمّةَ مَن يساعده، ولهذا سحبَ القارب إلى أقصى ما يستطيع،
ثمّ خرج منه، وربطه إلى صخرة من الصُّخور.
خلعَ السّارية، وطوى الشِّراع، وربطه، ثمّ حمل السّارية
على كتفه، وأخذ بالصّعود، في تلك اللَّحظة أَدركَ عمقَ عنائه،
فتوقّف لحظةً، وأَلقى نظرةً إلى الوراء، فرأى -في أضواءٍ
الشّارع المُتلألئة- ذيلَ السَّمكة العظيم مُنتصِبًا خلف مؤخَّر
المركب، رأى الخطَّ الأبيض العاري لعمودها الفقريّ، وكتلةً
الرَّأس القاتمة مع الرُّمح البارز، وذلك العري بين الّذيل والرَّأس.
راح يصعد مرَّةً أُخرى، وسقطَ عند القمَّة، فبقي مُستلقيًا
بعض الوقت، والسّارية على كتفه، وحاولَ أن ينهض، ولكنّ
ذلك كان من الصُّعوبة بمكانٍ، فجلسَ هناك والسّارية على
كتفه، وأخذ ينظر إلى الطَّريق، وفي الجانب الآخر من الطَّريق
مَرّتْ قطّةٌ تسعى في مناكبها، فراقبها الشّيخ، ثمّ جعل يراقب
الطّريق فقط. وأخيرًا أَنزلَ السّارية على الأرض، ووقفَ مُنتصبًا، ورفعَ
السّارية، ووضعها على كتفه، ومضى في الطّريق، وكان عليه
أن يجلس خمسَ مرّاتٍ قبل أن يصلَ إلى كوخه.
وفي داخل الكوخ، أسند السّارية إلى الحائط، وفي الظّلام
عثرَ على قنّينةِ ماءٍ، وشربَ منها، ثمّ استلقى على الفراش، وجرّ
البطّانيّة إلى كتفَيْه ثمّ إلى ظهره وساقَيّة، ونام فوق الجرائد،
ووجهه إلى الأسفل، وذراعاه ممدودتان، وراحتا يدَيْه إلى
الأعلى.
كان نائمًا عندما أطلّ الصَّبيُّ من الباب في الصَّباح، وكانت
الرّيح تهبُّ بشدّةٍ بحيث تعذَّرَ على القوارب الخروجُ للصَّيد؛
فنام الصَّبيُّ حتّى وقتٍ متأخِّر، ثمّ جاء إلى كوخ الشّيخ مثلما
كان يفعل كلّ صباح، ولاحظَ الصَّبيُّ أنَّ الشّيخ كان يتنفَّس،
ثمّ لمحَ يدَي الشّيخ، فأخذ يبكي، وخرجَ بهدوءٍ تامٌّ، وذهب
ليجلب شيئًا من القهوة، وطَوالَ الطَّريق كان يبكي.
تجمَّعَ عدَّة صيّادين حول المركب وهم ينظرون إلى ما
كان مربوطًا إلى جانبه، وكان أحدهم في الماء، وسرواله
مطويٍّ إلى الأعلى، وهو يقيس طول هيكل السَّمكة بحبلٍ. لم يهبطِ الصَّبيُّ إلى المركب، فقد كان هناك من قبل،
وكان أحد الصَّيّادين يحافظ على المركب نيابةً عنه.
وصاح أحد الصَّيادين:
- «كيف حاله؟»
فردّ الصَّبيُّ:
ولم يبالِ الصَّبيُّ بأن يروه وهو يبكي.
- «لا تدع أحدًا يزعجه».
وصاح الصَّيّاد الّذي كان يقيس السَّمكة:
- «طولها ثماني عَشْرةَ قدمًا من الأنف إلى الّذيل».
قال الصَّبيّ:
- «أُصدِّق ذلك».
ذهب الصَّبيُّ إلى مقهى الشُّرفة، وطلبَ علبةَ القهوة:
- «ساخنةً مع كثيرٍ من الحليب والسُّكَّر فيها».
- «أيّ شيءٍ آخر»؟
- «لا، سأرى فيما بعد ما الّذي يستطيع أن يأكل». قال صاحب المقهى:
- «یا لها من سمكة! ليس ثمّةَ سمكةٌ مثلها قطّ، والسّمکتان
اللّتان اصطدتَهما يوم أمس طيبتان كذلك».
قال الصّبيّ وقد راح يبكي:
- «واأسفاه على سمكتّيّ».
وسأله صاحب المقهى:
- «أتريد أن تشرب شيئًا من أيِّ نوع»؟
قال الصَّبيّ:
- «لا، قُلْ لهم ألّا يزعجوا (سنتياغو)، سأعود».
- «بلِّغْه شديد أسفي».
قال الصَّبيّ:
حمل الصَّبيُّ علبة القهوة السّاخنة إلى كوخ الشّيخ، وجلس
بالقرب منه حتّى أفاق من نومه، بدا -مرّةً- كما لو أنَّه استيقظ،
غير أتّه عاد يغطُّ في نومٍ عميق، فذهب الصَّبيّ إلى الجانب
الآخر من الطّريق؛ ليستعير بعض الخشب لتسخين القهوة.
وأخيرًا استيقظَ الشّيخ.قال الصَّبيّ:
- «لا تنهضْ، اشربْ هذا».
وصبّ شيئًا من القهوة في كأس.
أخذها الشّيخ وشربها، وقال:
- «لقد هزموني، يا (مانولين) .. لقد هزموني حقًّا».
- «ولكنَّها لم تهزمْكَ، ليست السّمكة».
- «لا. حقًّا، كانت الهزيمة بعد ذلك».
- «إنَّ (بدريكو) يحافظ على المركب والعُدَّة، ما الّذي
تريد أن نفعل بالرَّأس؟»
- «ليقطّعه (بدريكو) إلى أجزاء لتستعمل في مصايد
الشمك».
- «ورمح السّمكة ؟»
- «احتفظُ به، إذا شئتَ».
قال الصّبيُّ:
- «أريده .. والآن يجب أن نضع خططنا للأشياء الأُخرى».
- «هل بحثوا عنّي؟»
- «طبعًا، بخفر السَّواحل وبالطّائرات». قال الشّيخ:
- «المحيط كبير جدًّا، والمركب صغير، وتصعب رؤيته».
ولاحظَ متعة التّحدّث مع شخصٍ ما، بدلا من التِكلّم فقط
إلى نفسه وإلى البحر، وقال:
- «لقد افتقدتُكَ، ما الّذي اصطدتَ؟»
- «سمكة في اليوم الأوّل، وسمكة في اليوم الثاني،
وسمكتيْن في اليوم الثّالث».
- «جیّد جدًّا».
- «من الآن سنذهب للصَّيد معًا».
- «لا، أنا لسْتُ محظوظًا .. لم أعُد محظوظًا».
قال الصّبيّ:
- «ليذهب الحظُّ إلى الححيم، سأحلب الحظّ معي».
- «وماذا سيقول أَهلك؟»
- «لا أبالي، اصطدْتُ سمكتَيْن أمس، ولكنّنا سنصطاد
السمك معًا من الآن، لأنّه مازال هناك الكثير الّذي
يجب أن أتعلّمه».
- «يلزمنا رمحٌ قائِلٌ جيَّدٌ نأخذه معنا في المرکب دائما،
يمكنكَ أن تصنع النَّصل من صفائح التعليق في سيّارة فورد قديمة، ونستطيع شحذه في (غواناباكاوا)، وينبغي
أن يكون حادًّا وألّا يكون رقيقًا لئلا ينكسر، فقد انكسرتْ
سكّيني».
- «سأحصل على سكّينٍ أُخرى، وأجعلهم يشحذون
الصفيحة، كم يومًا ستستمر هذه الرّيح الشّديدة؟»
- «ربّما ثلاثة أيام، وربّما أکثر».
قال الصّبيّ:
- «سأُرتّب كلِّ شيء، لتبرأ يداك، أَيُّها الشّيخ» ....
«أعرف كيف أَعتني بهما، اللَّيلة الماضية بصقتُ شيئًا
غريبًا، وأَحسستُ بأنّ شيئًا ما قد انكسر في صدري».
فقال الصّبيّ:
- «اعتنِ بذاك أيضًا، استرحْ، أَيُّها الشّيخ، وسأجلب لكَ
قميصكَ النّظيف، وشيئًا لتأكل».
قال الشّيخ:
- «اجلبْ معك أيًّا من الصُّحف الّتي صدرتْ في الوقت
الذي تغیّبتُ فیه».
- «يجب أن تتعافى بسرعة، لأنَّ هنالك الكثير الّذي
أستطيع أن أتعلّمه، وأنتَ يمكنكَ أن تعلّمني كلِّ شيء، كم عانيتَ؟»
قال الشّيخ:
- « کثیرًا».
قال الصَّبيّ:
- «سأجلب الطّعام والجرائد، استرِخْ حيّدًا، أيُّها الشّيخ،
سأجلب الدّواء من الصَّيدليّة ليدَیْكَ».
- «لا تنسَ أن تُخبر بدريكو بأنَّ رأس السَّمكة له».
- «لا، سأتذگّر ذلك».
وبعد أن خرج الصَّبيُّ من الباب، وسار في الطّريق الصَّخريّة
المرجانيّة، راح يبكي مرَةً أُخرى.
وعصْر ذلك اليوم، كانت مجموعةٌ من السُّيّاح في مقهى
الشُّرفة يطلّون على الماء من خلال العلب الفارغة والأسماك
الميِّنة؛ رأتْ امرأةٌ منهم عمودًا فقريًّا عظميًّا أبيض وفي آخره
ذيلٌ ضخمٌ، كان يرتفع، ويتأرجح مع المدّ، في حين أخذتِ
الرّيح الشّرقيّة تهبُّ بقوّةٍ وعنادٍ على البحر خارج مدخل
الميناء، فسألتِ المرأة نادلًا وهي تُشير إلى هيكل السَّمكة
العظميّ الّذي صار الآن من النُّفايات الّتي تنتظر أن يجرفها المدُّ: «ما هذا»؟
قال النّادل، وهو یحاول آن یشرح لها ما حدث:
- «القرش!»
- «لم أَكُن أعرف أَنَّ للأقراش أذنابًا وسيمة بهذا الشِّكل
الجمیل».
قال زوجها:
- «ولا أنا».
وفي آخر الطّريق، كان الشّيخ نائمًا في كوخه مرّةً أُخرى،
وكان مازال نائمًا على وجهه عندما جلس الصَّبيُّ بالقرب منه،
وراح ينظر إليه.
كان الشّيخ يحلم بالأُسود.